موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

بناؤهم على جعل حكم تكليفي في موارد الطرق ، وإنّما استقرّ بناؤهم على المعاملة معها معاملة العلم الوجداني ، وقد أمضى الشارع هذا البناء منهم ، فليس المجعول إلاّالطريقية والمحرزية.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ المجعول في باب الأمارات هي الحجية ، بمعنى التنجيز عند المصادفة والتعذير عند المخالفة (١) ، إذ التنجيز والتعذير بمعنى حسن العقاب على مخالفة التكليف مع قيام الحجّة عليه وعدمه مع عدمه من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص ، فالتصرف من الشارع لا بدّ وأن يكون في الموضوع ، بأن يجعل شيئاً طريقاً ويعتبره علماً تعبداً ، وبعد قيام ما اعتبره الشارع علماً على التكليف ، يترتب عليه التنجيز والتعذير عقلاً لا محالة.

وكذا الحال في الاصول المحرزة الناظرة إلى الواقع بالغاء جهة الشك ، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز ونحوها ، إذ المجعول فيها أيضاً هي الطريقية والكاشفية ، لكن لا من جميع الجهات ، بل من حيث الجري العملي في موردها فقط ، فهي علم تعبدي من هذه الجهة فقط ، ولذا تقوم مقام القطع الطريقي والقطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية على ما تقدّم بيانه (٢). فليس في موردها حكم مجعول حتّى يلزم اجتماع الضدّين.

وأمّا الاصول غير المحرزة التي ليست ناظرةً إلى الواقع ، بل هي متكفلة لبيان الوظائف العملية عند الشك في الواقع ، إمّا تنجيزاً كالاحتياط ، أو تأميناً كالبراءة ، فالجواب عن الاشكال فيها يحتاج إلى التنبيه على أمر ، وهو أنّ الأحكام

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٧

(٢) راجع ص ٤٠ و ٤١ من هذا الكتاب ، وأجود التقريرات ٣ : ١٩

١٢١

بوجوداتها الواقعية لا تكون محرّكةً للعبد نحو العمل وإن بلغت ما بلغت من التأكد ، بل لا بدّ في ذلك من الوصول إلى المكلف ، كما هو ظاهر. وأمّا إذا لم يصل الحكم إلى المكلف وشكّ فيه ، فإن كان ملاك الحكم الواقعي بمرتبة خاصّة من الأهمّية بحيث لا يرضى الشارع بفواته حتّى في ظرف الشك ، كما في الدماء والفروج والأموال الخطيرة ، فيوجب عليه الاحتياط ، ويكون الحكم الواقعي حينئذ واصلاً إلى المكلف بطريقه. وإن لم يكن الملاك بتلك المرتبة من الأهمّية ، فيرخّصه في الترك أو الفعل ، كما في موارد جريان البراءة عند الشك في الوجوب أو الحرمة.

والمتحصّل من ذلك : أنّ الحكم الظاهري مجعول في طول الحكم الواقعي وفي فرض الشك فيه ، لا في مرتبته ، فلا مضادة بينهما. هذا مضافاً إلى أنّ وجوب الاحتياط طريقي ، بمعنى أنّ وجوبه إنّما هو للتحفظ على ملاك الحكم الواقعي ، فإن صادف الواقع فلا محذور فيه أصلاً ، إذ لاتعدّد في الحكم ليلزم اجتماع المثلين ، بل الحكم واحد ناشئ من ملاك واحد ، إنّما التعدد في الانشاء والابراز ، فقد أبرزه المولى تارةً بعنوان وجوب الصلاة مثلاً ، واخرى بعنوان وجوب الاحتياط.

وإن لم يصادف الواقع فلا وجوب للاحتياط حقيقةً ليلزم التضاد بينه وبين الترخيص الواقعي ، إذ وجوب الاحتياط إنّما هو للتحفّظ على ملاك الحكم الواقعي ، ففي فرض مخالفته للواقع لا وجوب له حقيقةً ، بل وجوب الاحتياط حينئذ تخيّلي ، بمعنى أنّ المكلف يتخيّل وجوبه ولا وجوب له حقيقةً. وأمّا البراءة فمع مصادفتها للترخيص الواقعي فلا محذور فيها أصلاً ، كما تقدّم في الاحتياط ، ومع مخالفتها للواقع لا يلزم التضاد ، لعدم كونهما في مرتبة واحدة كما تقدّم.

ثمّ إنّه قدس‌سره أكّد كلامه بأنّ الشك له اعتباران :

١٢٢

أحدهما : كونه صفة نفسانية.

ثانيهما : كونه موجباً لتحيّر المكلف ، والمأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية هو الاعتبار الثاني. ويمكن أن لا يكون للأحكام الواقعية إطلاق بالنسبة إلى حال الحيرة ، فلا يكون هناك حكم واقعي حتّى يقع التضاد بينه وبين الحكم الظاهري. هذا ملخص كلامه زيد في علوّ مقامه.

أقول : أمّا ما ذكره في الأمارات ـ من أنّه ليس المجعول فيها إلاّالطريقية والكاشفية ، فلا يكون هناك حكم تكليفي حتّى يلزم اجتماع الضدّين ـ فمتين جداً ، وكذا ما ذكره في الاصول المحرزة : من أنّ المجعول فيها الطريقية من حيث الجري العملي فقط ، بل نقول : الاصول المحرزة أمارات عند التحقيق على ما ذكرناه في محلّه (١) ولا ينافي ذلك تقدّم الأمارات عليها ، إذ الأمارات أيضاً يتقدّم بعضها على بعض ، فانّ البيّنة تتقدّم على اليد ، وحكم الحاكم مقدّم على البيّنة ، والاقرار مقدّم على حكم الحاكم ، فاشكال اجتماع الضدّين في مورد الأمارات والاصول المحرزة مندفع من أساسه.

وأمّا ما ذكره في الاصول غير المحرزة فغير مفيد في دفع الاشكال ، لأنّ اختلاف المرتبة لا يرفع التضاد بين الحكمين ، ولذا يستحيل أن يحكم المولى بوجوب شيء ثمّ يرخّص في تركه إذا علم بوجوبه ، مع أنّ الترخيص متأخر عن الوجوب بمرتبتين ، والسرّ فيه : أنّ المضادة إنّما هي في فعلية حكمين في زمان واحد ، سواء كانا من حيث الجعل في مرتبة واحدة أو في مرتبتين.

وأمّا ما ذكره في الاحتياط من أنّ وجوبه طريقي ، وإنّما هو للتحفظ على الملاك الواقعي ، فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّأنّ تخصيصه وجوب الاحتياط

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ١٨٥ و ٣١٥

١٢٣

بصورة مصادفة الواقع غير تام ، لأنّ وجوب الاحتياط ليس تابعاً للملاك الشخصي كي يكون مختصاً بصورة مصادفة الواقع ، بل تابع للملاك النوعي ، بمعنى أنّه حيث لايتميّز في الشبهات مورد وجود الملاك الواقعي عن مورد عدم وجوده ، فأوجب الشارع الاحتياط كليةً ، تحفظاً على الملاك في مورد وجوده ، إذ مع ترك الاحتياط قد يفوت الملاك ، ولذا كان لسان أدلة الاحتياط مطلقاً غير مقيد بموافقة الواقع ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قفوا عند الشبهة ... فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١).

هذا مضافاً إلى أنّ تقييد الاحتياط بصورة مصادفة الواقع غير معقول ، لعدم قابليته للوصول إلى المكلف ، لعدم إحرازه الواقع على الفرض ، وإلاّ كان الاحتياط منتفياً بانتفاء موضوعه ، وهو عدم وصول الواقع إلى المكلف ، فيكون إيجاب الاحتياط لغواً محضاً لا يترتب عليه أثر ، إذ مع عدم إحراز مصادفته للواقع لا يحرز وجوب الاحتياط ، لاحتمال كونه غير مطابق للواقع ، فتجري البراءة عنه ، ومع إحراز الواقع ينتفي الاحتياط بانتفاء موضوعه ، وهو عدم إحراز الواقع.

وأمّا ما ذكره أخيراً من إمكان أن لا يكون للحكم الواقعي إطلاق بالنسبة إلى حال تحير المكلف ، ففيه ما ذكرناه مراراً من أنّ الاهمال في مقام الثبوت غير متصور ، فلا محالة يكون الحكم الواقعي إمّا مطلقاً بالنسبة إلى حال تحيّر المكلف وكونه شاكاً ، وإمّا مقيداً بعدمه ، واعترف هو قدس‌سره أيضاً بذلك ، غاية الأمر أنّ الاطلاق أو التقييد يكون على مسلكنا لحاظياً ، وعلى مسلكه يكون بنتيجة الاطلاق أو بنتيجة التقييد بمتمم الجعل ، على ما تقدّم بيانه في

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٢٥٩ / أبواب مقدّمات النكاح ب ١٥٧ ح ٢

١٢٤

بحث التعبدي والتوصلي (١) وفي بحث المطلق والمقيد (٢) ، فإن كان الحكم الواقعي مطلقاً بالنسبة إلى حال الشك لزم التضاد ، وإن كان مقيداً بعدمه لزم التصويب ، من غير فرق بين أن يكون المأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية هو الشك بما أنّه صفة خاصّة ، أو بما أنّه موجب للتحيّر.

هذا ، والتحقيق في دفع الاشكال أن يقال : إنّ الأحكام الشرعية لا مضادة بينها في أنفسها ، إذ الحكم ليس إلاّالاعتبار ، أي اعتبار شيء في ذمّة المكلف من الفعل أو الترك ، كاعتبار الدين في ذمّة المديون عرفاً وشرعاً ، ولذا عبّر في بعض الأخبار عن وجوب قضاء الصلوات الفائتة بالدين ، كما في قوله عليه‌السلام : «إنّ دين الله أحق أن يقضى» (٣) ومن الواضح عدم التنافي بين الامور الاعتبارية ، وكذا لا تنافي بين إبرازها بالألفاظ ، بأن يقول المولى : افعل كذا أو لا تفعل كذا كما هو ظاهر ، إنّما التنافي بينها في موردين : المبدأ والمنتهى. والمراد بالمبدأ ما يعبّر عنه بعلّة الحكم مسامحةً من المصلحة والمفسدة ، كما عليه الإمامية والمعتزلة ، أو الشوق والكراهة كما عليه الأشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، والمراد من المنتهى مقام الامتثال.

أمّا التنافي من حيث المبدأ ، فلأ نّه يلزم من اجتماع الحكمين ـ كالوجوب والحرمة مثلاً ـ اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلق بلا كسر وانكسار ، وهو من اجتماع الضدّين ، ولا إشكال في استحالته ، وكذا الحال في اجتماع الترخيص مع الوجوب أو الحرمة ، فانّه يلزم وجود المصلحة الملزمة وعدم وجودها في

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٣٣

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٥٣١

(٣) سنن النسائي ٥ : ١١٨ (باختلاف يسير)

١٢٥

شيء واحد ، أو وجود المفسدة الملزمة وعدم وجودها وهو من اجتماع النقيضين المحال.

وأمّا التنافي من حيث المنتهى ، فلعدم تمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين كما هو ظاهر ، فيقع التنافي والتضاد في حكم العقل بلزوم الامتثال ، ويلزم أن يحكم العقل بالفعل امتثالاً للوجوب ، وبالترك امتثالاً للحرمة ، أو يلزم أن يحكم العقل بالفعل امتثالاً للوجوب ، وأن لا يحكم به للاباحة ، وكذا يلزم أن يحكم بالترك امتثالاً للحرمة وأن لا يحكم به للاباحة. وكل ذلك بديهي الاستحالة.

وإن شئت قلت : إنّه مع وصول كلا الحكمين إلى المكلف ، إن كان كلاهما إلزامياً ـ كما في اجتماع الوجوب والحرمة ـ لزم حكم العقل باستحقاق العقاب على الفعل والترك وعدم الاستحقاق على الفعل والترك. أمّا الاستحقاق على الفعل ، فلكونه ارتكاب حرام ، وأمّا على الترك فلكونه ترك واجب ، وأمّا عدم الاستحقاق على الفعل فلكونه فعل واجب ، وأمّا على الترك فلكونه ترك حرام.

وإن كان أحدهما إلزامياً ، لزم حكم العقل باستحقاق العقاب على الفعل أو على الترك ، وعدم الاستحقاق عليه. والوجه في جميع ذلك ظاهر كظهور استحالته.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري أصلاً ، لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى ، وأنّ هذا التضاد العرضي بين الأحكام يختص بما إذا كان الحكمان من سنخ واحد ، بأن كان كلاهما واقعياً أو كلاهما ظاهرياً ، بخلاف ما إذا كان أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً ، فانّه لا مضادة بينهما من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى.

أمّا من ناحية المبدأ ، فلأنّ المصلحة في الحكم الظاهري إنّما تكون في نفس جعل الحكم لا في متعلقه ، كما في الحكم الواقعي ، فلا يلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة والمفسدة ، أو وجود المصلحة وعدمه ، أو وجود المفسدة وعدمه في

١٢٦

شيء واحد ، إذ الأحكام الواقعية ناشئة من المصالح والمفاسد في متعلقاتها ، والأحكام الظاهرية ليست تابعةً لما في متعلقاتها من المصالح بل تابعة للمصالح في أنفسها ، فانّها مجعولة في ظرف الشك في وجود المصلحة الواقعية ، وقد لاتكون مصلحة في المتعلق واقعاً ، فكيف يمكن أن تكون تابعةً للمصالح الواقعية في المتعلقات. ففي موارد الاحتياط ـ كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص ـ جعل وجوب الاحتياط لمصلحةٍ في نفس الاحتياط ـ وهي التحفظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها ، والتحذر عن الوقوع في المفسدة الواقعية أحياناً ، وفي موارد الترخيص ـ كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص ، أو في الشبهة الموضوعية مطلقاً ـ جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة ، وهي التسهيل على المكلفين.

وأمّا عدم التنافي من ناحية المنتهى ، فلأنّ الحكم الظاهري موضوعه الشك في الحكم الواقعي وعدم تنجزه ، لعدم وصوله إلى المكلف ، فما لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله ولا باستحقاق العقاب على مخالفته ، فلا مانع من امتثال الحكم الظاهري ، وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وحكم العقل بلزوم امتثاله وباستحقاق العقاب على مخالفته ، لا يبقى مجال للحكم الظاهري لارتفاع موضوعه بوصول الواقع.

وبعبارة اخرى : حكم العقل بلزوم الامتثال إنّما هو بعد وصول الحكم إلى المكلف ، بلا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري ، ووصول كلا الحكمين إلى المكلف في عرض واحد محال ، لكون الحكم الظاهري دائماً في طول الحكم الواقعي ، فمع وصول الحكم الواقعي ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه ، فلا يحكم العقل إلاّبلزوم امتثال الحكم الواقعي ، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا يحكم العقل إلاّبلزوم امتثال الحكم الظاهري ، فلا تنافي بين الحكمين

١٢٧

في مقام الامتثال أبداً.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام : أنّ الحكم الظاهري في موارد الاصول غير المحرزة وإن كان متحققاً ، إلاّ أنّه لا مضادة بينه وبين الحكم الواقعي أصلاً ، لا بالذات باعتبار لحاظهما بأنفسهما ، ولا بالعرض بلحاظ المبدأ والمنتهى.

وأمّا في موارد الأمارات والاصول المحرزة ، فليس المجعول حكماً تكليفياً ليلزم اجتماع الضدّين في مورد المخالفة للواقع ، وعلى تقدير الالتزام بأنّ المجعول فيها أيضاً حكم تكليفي ، فالجواب عن محذور اجتماع الضدّين هو ما ذكرناه في الاصول غير المحرزة. هذا تمام الكلام في إمكان التعبد بالظن.

الجهة الثالثة : في وقوع التعبد بالظن. وقبل الشروع فيه لا بدّ لنا من البحث عن مقتضى الأصل عند الشك في الحجية ، ليكون هو المرجع على تقدير عدم الدليل على الحجية ، وليس المراد من الأصل في المقام هو خصوص الأصل العملي ، بل المراد منه القاعدة الأوّلية المستفادة من حكم العقل أو عمومات النقل. فنقول :

لا ينبغي الشك في أنّ الأصل عدم الحجية عند الشك فيها ، إذ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها ، لا بمعنى أنّ الشك في إنشاء الحجية مساوق للقطع بعدم إنشائها ، إذ الشيء لا يكون مساوقاً لضدّه أو لنقيضه ، والشك في الوجود ضدّ للقطع بالعدم ، فلا يجتمعان ، بل نقيض له باعتبار ، وهو أنّه مع الشك في الحجية يحتمل الحجية ، ومع القطع بعدم الحجية لا يحتمل الحجية ، واحتمال الحجية وعدمها نقيضان لا يجتمعان ، بل بمعنى أنّ الشك في إنشاء الحجية ملازم للقطع بعدم الحجية الفعلية ، بمعنى عدم ترتب آثار الحجية ، لأنّ الحجة لها أثران :

١٢٨

أحدهما : صحّة الاستناد إليها في مقام العمل.

والآخر : صحّة اسناد مؤداها إلى الشارع ، وهذان الأثران لا يترتبان مع الشك في الحجية ، لأنّ الاستناد إلى مشكوك الحجية في مقام العمل ، وإسناد مؤداه إلى الشارع تشريع عملي وقولي دلّت على حرمته الأدلة الأربعة. وأمّا تنجيز الواقع فلا يتوقف على الحجية ، لأنّه ثابت بالعلم الاجمالي الكبير ـ أي العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية ـ أو بالعلم الاجمالي الصغير كما في دوران الأمر بين وجوب الظهر والجمعة أو دوران الأمر بين وجوب القصر والتمام ، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، بل قد يكون التنجيز ثابتاً بمجرد الاحتمال كما في الشبهات قبل الفحص. ففي جميع هذه الموارد كان التنجيز ثابتاً قبل قيام الأمارة على التكليف ، ومع قيامها عليه لا يجيء تنجيز آخر.

نعم ، كان قيام الأمارة المعتبرة على أحد طرفي العلم الاجمالي مسقطاً لوجوب الاحتياط ، وكان معذّراً على تقدير مخالفة الواقع كما إذا دلّت الأمارة على وجوب صلاة الظهر وعمل بها المكلف ، وكان الواجب في الواقع هو صلاة الجمعة ، فكان المكلف حينئذ معذوراً غير مستحق للعقاب لا محالة.

هذا خلاصة ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره في مقام تأسيس الأصل عند الشك في الحجية (١).

واستشكل عليه صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره بما حاصله : أنّ إسناد مؤدى الأمارة إلى المولى ، والاستناد إليها في مقام العمل ليسا من الآثار المترتبة على الحجية ، بل بينهما وبين الحجية عموم من وجه ، إذ يمكن أن لا يكون

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٩٦ ـ ٩٩

(٢) كفاية الاصول : ٢٧٩ و ٢٨٠

١٢٩

الشيء حجة ، وصحّ إسناد مؤداه إلى الشارع لو دلّ دليل على صحّة الاسناد حينئذ ، كما يمكن أن يكون الشيء حجة ولا يصح إسناد مؤداه إلى الشارع ، كالظن على الحكومة ، فالأثر المترتب على الحجية إنّما هو التنجيز عند المطابقة ، والتعذير عند المخالفة ، انتهى كلامه ملخّصاً.

والصحيح ما ذكره الشيخ قدس‌سره من أنّ صحّة إسناد المؤدى إلى الشارع والاستناد في مقام العمل من آثار الحجية ، وما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّه يمكن أن لا يكون الشيء حجةً وصحّ إسناد مؤداه إلى الشارع لا يتصور له وجه معقول ، إلاّمع الالتزام بجواز التشريع ، وكذا ما ذكره من أنّه يمكن أن يكون الشيء حجةً ولا يصح إسناد مؤداه إلى الشارع ، فانّه أيضاً مجرد تخيل لا يتعقل له وجه صحيح.

وأمّا ما ذكره من أنّ الظن على تقرير الحكومة حجة ولا يصح إسناد المظنون إلى الشارع ، ففيه : أنّ مقدمات الانسداد على تقرير الحكومة لا تنتج حجية الظن ، بل نتيجتها التبعيض في الاحتياط بالأخذ بالمظنونات دون المشكوكات والموهومات ، على ما يجيء الكلام فيها (١) إن شاء الله تعالى. وأمّا ما ذكره من أنّ أثر الحجية هو التنجيز والتعذير ، فقد تقدّم ما فيه (٢) ولا نعيد.

فتحصّل : أنّ الصحيح ما ذكره الشيخ قدس‌سره من أنّ الحجية ملازمة لصحّة الاستناد والاسناد ، وحيث إنّهما ليسا من آثار الحجية بوجودها الواقعي ، بل من آثار وجودها الذهني ، بمعنى الوصول إلى المكلف صغرىً وكبرىً ، لا يترتبان مع الشك في الحجية صغرىً أو كبرىً ، بمعنى الشك في وجود الحجة

__________________

(١) في ص ٢٥٧

(٢) عند تقرير كلام الشيخ (قدس‌سره)

١٣٠

أو في حجية الموجود ، وهذا هو المراد من قولنا : إنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها على ما تقدّم.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره بعد ما أسّسه من الأصل تمسك لاثبات حرمة العمل بالظن بالعمومات والآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، كقوله تعالى : «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» (١) ونحوه ، وذكر أنّ مقتضى هذه الآيات هو حرمة العمل بالظن إلاّما خرج بالدليل ، ونسبة أدلة الحجية إلى تلك العمومات هي نسبة المخصص إلى العام ، فالشك في حجية شيء يكون شكّاً في التخصيص والمرجع فيه عموم العام (٢).

وأورد عليه المحقق النائيني (٣) قدس‌سره بأنّ أدلة حجية الأمارات حاكمة على الأدلة المانعة ، لأنّ دليل حجية الأمارة يخرجها عن الأدلة المانعة موضوعاً ، إذ موضوعها غير العلم ، ومفاد دليل الحجية كون الأمارة علماً بالتعبد ، فهو ناف للحكم بلسان نفي الموضوع ، وتخصيص بلسان الحكومة ، فعند الشك في حجية شيء لا يصحّ التمسك بالعمومات المانعة ، لكون الشبهة مصداقية ، باعتبار أنّه يحتمل أن يكون هذا الشيء علماً بالتعبد ، هذا ملخّص كلامه قدس‌سره.

ولا بدّ لنا من التكلم في مقامين :

المقام الأوّل : في بيان أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم واردة لبيان حكم مولوي ، وهو حرمة العمل بالظن أو لا ، بل مفادها إرشاد إلى حكم

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٣٦

(٢) لاحظ فرائد الاصول ١ : ١٠٠

(٣) أجود التقريرات ٣ : ١٤٨

١٣١

العقل بعدم صحّة الاعتماد على الظن ، وأ نّه لا بدّ من العمل بما يحصل معه الأمن من العقاب ، والعمل بالظن ممّا لا يحصل معه الأمن من العقاب ، لاحتمال مخالفته للواقع؟

المقام الثاني : في بيان أنّه مع تسليم كونها واردةً لبيان حكم مولوي ، وفي مقام تشريع حرمة العمل بالظن ، هل يصح التمسك بها عند الشك في حجية شيء على ما ذكره الشيخ قدس‌سره أم لا على ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره؟

أمّا المقام الأوّل : فملخّص الكلام فيه : أنّ الآيات الشريفة الناهية عن العمل بغير العلم إرشاد إلى حكم العقل بعدم صحّة الاعتماد على الظن ، وأنّ العمل به ممّا لا يحصل معه الأمن من العقاب ، لاحتمال مخالفته للواقع ، والعبد لا بدّ له من العمل بما يحصل معه الأمن من العقاب ، ولا يحصل الأمن إلاّبالعلم أو بما ينتهي إليه كالعلم بأمارة دلّ على حجيتها دليل علمي. وقد اشير إلى ذلك في عدّة من الآيات : منها : قوله تعالى : «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (١) وقوله تعالى : «فَأْتُونا بِسُلْطانٍ ...» (٢) وبعد كون الآيات الناهية إرشاداً إلى حكم العقل لاتكون قابلةً للتخصيص ، وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله تعالى : «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (٣) بأن يقال إلاّالظن الفلاني فانّه يغني من الحق ، فلم يرد عليها تخصيص ولن يرد ، فانّ لسانها آبٍ عن التخصيص.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١١١

(٢) إبراهيم ١٤ : ١٠

(٣) يونس ١٠ : ٣٦

١٣٢

وأمّا الظن الذي قام على حجيته في مورد دليل علمي ، فليس فيه الاعتماد على الظن بل الاعتماد على الدليل العلمي القائم على حجية الظن ، فهو المؤمّن من العقاب لا الظن ، كما أنّه في موارد جريان أصالة البراءة ليس الاعتماد في ترك ما يحتمل الوجوب أو فعل ما يحتمل الحرمة على مجرد احتمال عدم الوجوب واحتمال عدم الحرمة ، بل الاعتماد إنّما هو على دليل علمي دلّ على عدم لزوم الاعتناء باحتمال الوجوب أو الحرمة.

فتحصّل : أنّ الآيات الشريفة ليست واردةً لبيان حكم مولوي ليصحّ التمسك بها عند الشك في الحجية.

وأمّا المقام الثاني : فملخّص الكلام فيه : أنّ ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ـ من أنّ تقديم أدلة حجية الأمارات على الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم إنّما هو من باب الحكومة لا التخصيص ـ وإن كان صحيحاً ، إذ معنى حجية الأمارة هو اعتبارها علماً في عالم التشريع ، فتخرج عن الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم موضوعاً ، إلاّأنّ ذلك لا يوجب عدم صحّة التمسك بالعمومات المانعة عند الشك في الحجية ولا يكون الشك فيها من الشبهة المصداقية ، إذ الحجية الواقعية ممّا لا يترتب عليه أثر ما لم تصل إلى المكلف ، فالحكومة إنّما هي بعد الوصول ، فالعمل بما لم تصل حجيته إلى المكلف عمل بغير علم وإن كان حجةً في الواقع ، إذ كونه حجة في الواقع ـ مع عدم علم المكلف بالحجية ـ لا يجعل العمل به عملاً بالعلم كما هو ظاهر.

والذي يوضّح لنا بل يدلّنا على أنّ الحكومة إنّما هي في فرض الوصول لا مطلقاً ـ وأ نّه لا مانع من التمسك بالعمومات عند الشك في الحجية ـ أنّه لو كانت الحجة بوجودها الواقعي مانعة عن التمسك بالعمومات ، لما صحّ التمسك بالاصول العملية في شيء من الموارد ، لاحتمال وجود الحجة فيها ، فيكون

١٣٣

التمسك بأدلة الاصول معه من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، وبلا فرق بين الشك في وجود الحجة أو في حجية الموجود ، مع أنّ الرجوع إلى الاصول العملية في الشبهات الحكمية والموضوعية ممّا لا إشكال فيه ، وتسالم عليه الفقهاء ، ومنهم المحقق النائيني قدس‌سره نفسه.

والمتحصّل ممّا ذكرناه : أنّه على تقدير الالتزام بأنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم واردة لبيان حكم مولوي ، لا مانع من التمسك بها عند الشك في حجية شيء.

بقي شيء : وهو أنّه هل يصح التمسك باستصحاب عدم الحجية عند الشك فيها أم لا؟ التزم المحقق النائيني (١) قدس‌سره بعدم جريان هذا الاستصحاب لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّه يشترط في جريان الاستصحاب أن يكون للمتيقن السابق أثر عملي يتعبد ببقائه باعتبار ذلك الأثر ، فلو فرض عدم ترتب أثر على خصوص الواقع ، بأن يكون الأثر مترتباً على خصوص الجهل بالواقع ، أو مشترك بين الواقع والجهل به ، فلا مجال لجريان الاستصحاب ، إذ بمجرد الشك في الواقع يترتب الأثر على الفرض ، فالتعبد بالاستصحاب ـ لترتب الأثر المذكور ـ يكون من أرادأ أنحاء تحصيل الحاصل ، وهو التحصيل التعبدي لما هو حاصل بالوجدان.

والمقام من هذا القبيل بعينه ، إذ الأثر المترتب على عدم الحجية هو عدم صحّة الاستناد في مقام العمل وعدم صحّة إسناد المؤدى إلى الشارع. وهذان

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٤٨ ـ ١٥١ ، فوائد الاصول ٣ : ١٢٨ ـ ١٣١

١٣٤

الأثران كلاهما يترتبان على مجرد الشك في الحجية ، لأنّ الاستناد والاسناد مع الشك في الحجية تشريع محرّم ، سواء فسّرناه بادخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين ، ليكون الأثران لخصوص الجهل بالواقع ، أو فسّرناه بالأعم منه ومن إدخال ما علم أنّه ليس من الدين في الدين ، ليكون الأثران مشتركين بينه وبين الواقع ، فيحصل لنا العلم بعدم صحّة الاستناد وعدم صحّة الاسناد بمجرد الشك في الحجية ، فيكون التعبد بهما ـ لاستصحاب عدم الحجية ـ من أرادأ أنحاء تحصيل الحاصل.

الوجه الثاني : أنّ التمسك بالاستصحاب المذكور لغو محض ، إذ الأثر مترتب على نفس الجهل بالواقع والشك في الحجية ، فاحراز عدم الحجية بالتعبد الاستصحابي ممّا لا تترتب عليه فائدة ، فيكون لغواً (١) ، انتهى كلامه ملخّصاً.

نقول : أمّا الوجه الأوّل فيردّه : أنّ ما يحكم به العقل بمجرد الشك هو عدم الحجية الفعلية (٢) وما هو مورد للتعبد الاستصحابي هو عدم إنشاء الحجية

__________________

(١) الذي يخطر بالبال القاصر عدم صحّة هذا الوجه وجهاً ثانياً لاثبات عدم جريان الاستصحاب ، بل الصحيح هو جعله متمّماً للوجه الأوّل بأن يقال : إنّ الأثر ـ وهو عدم صحّة الاستناد والاسناد ـ إن ترتّب على الاستصحاب فهذا تحصيل للحاصل. وإن لم يترتب عليه فالتمسك به لغو. فظهر بما ذكرناه عدم تمامية أحد الوجهين بدون الآخر

(٢) نعم الأمر كذلك ، إلاّأنّ الأثر شيء واحد وهو عدم صحّة الاستناد والاسناد ، وحيث إنّ هذا الأثر حاصل بمجرد الشك فالتعبد الاستصحابي بلحاظ هذا الأثر تحصيل للحاصل. والحق ما أجاب به سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) عن الوجه الثاني نقضاً وحلاًّ فانّه يكفي عن الوجه الأوّل أيضاً ، فانّا ذكرنا أنّهما وجه واحد ، فلنكتف في الجواب أيضاً بوجه واحد وهو ما ذكره سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) في المتن

١٣٥

وعدم جعلها ، فما هو حاصل بالوجدان غير ما يحصل بالتعبد ، فلا يكون التمسك بالاستصحاب في المقام من تحصيل الحاصل.

وأمّا الوجه الثاني : فنجيب عنه :

أوّلاً : بالنقض بالروايات الدالة على المنع عن العمل بالقياس (١) ، ونقول أيّ فائدة في هذا المنع ، مع كون العقل مستقلاً بعدم صحّة الاستناد والاسناد بمجرد الشك وعدم إحراز الحجية ، وبما دلّ على البراءة شرعاً في موارد الشك في التكليف ، كحديث الرفع (٢) مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وثانياً : بالحل وهو أنّ حكم العقل في جميع هذه الموارد منوط بعدم وصول التعبد والبيان من الشارع ، فإذا ثبت التعبد الشرعي يترتب الأثر عليه ، وينتفي حكم العقل بانتفاء موضوعه ، فلا يكون التعبد لغواً.

وبعبارة اخرى : ليس حكم العقل في هذه الموارد في عرض الحكم الشرعي حتّى يلزم كونه لغواً ، بل الحكم العقلي إنّما هو في طول الحكم الشرعي ، فصحّ للشارع أن يتصرف في موضوع حكم العقل ببيان الحجية أو عدمها ، ولايكون ذلك لغواً ، إذ الأثر الذي كان مترتباً عليه بما هو مشكوك الحجية ، يترتب بعد التعبد على ما هو مقطوع عدم حجيته واقعاً بالتعبد الشرعي ، فلا يكون لغواً.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل ولنشرع في بيان ما وقع التعبد به من الأمارات ، ويقع فيه الكلام في مباحث :

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٣٥ / أبواب صفات القاضي ب ٦

(٢) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١

١٣٦

المبحث الأوّل

في حجّية الظواهر

ولا يخفى أنّ حجية الظواهر ممّا تسالم عليه العقلاء في محاوراتهم ، واستقرّ بناؤهم على العمل بها في جميع امورهم ، وحيث إنّ الشارع لم يخترع في محاوراته طريقاً خاصاً ، بل كان يتكلم بلسان قومه فهي ممضاة عنده أيضاً ، وهذا واضح ولم نعثر على مخالف فيه ، ولذا ذكرنا في فهرس مسائل علم الاصول (١) أنّ بحث حجية الظواهر ليس من مسائل علم الاصول ، لأنّها من الاصول المسلّمة بلا حاجة إلى البحث عنها. وإنّما وقع الكلام في امور ثلاثة :

الأمر الأوّل : في أنّ حجية الظواهر هل هي مشروطة بالظن بالوفاق أم بعدم الظن بالخلاف ، أم غير مشروطة بشيء منهما؟

الأمر الثاني : في أنّ حجية الظواهر مختصة بمن قصد إفهامه أو تعمّ غيره أيضاً؟

الأمر الثالث : في حجية خصوص ظواهر الكتاب.

أمّا الأمر الأوّل : فلا ينبغي الشك في أنّ الظن بالخلاف غير قادح في حجية الظواهر ، فضلاً عن عدم الظن بالوفاق ، لأنّ المرجع في حجية الظواهر هو بناء العقلاء على ما تقدّمت الاشارة إليه ، ونرى أنّ العقلاء لا يعذرون العبد المخالف لظاهر كلام المولى إذا اعتذر عن المخالفة بعدم الظن بالوفاق ، أو بحصول الظن بالخلاف ، وهذا ظاهر. نعم ، فيما إذا كان المطلوب تحصيل الواقع لا يعملون

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ١

١٣٧

بمجرد الظهور ما لم يحصل لهم الاطمئنان بالواقع ، كما إذا احتمل إرادة خلاف الظاهر في كلام الطبيب فانّهم لا يعملون به ، إلاّأنّ ذلك خارج عن محل الكلام ، إذ الكلام فيما إذا كان المطلوب هو الخروج من عهدة التكليف ، وتحصيل الأمن من العقاب ، وفي مثله تحقق بناء العقلاء على العمل بالظواهر مطلقاً ، ولو مع الظن بالخلاف فضلاً عن عدم الظن بالوفاق.

وأمّا الأمر الثاني : فذهب المحقق القمي قدس‌سره إلى اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، وعليه رتّب انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام ، باعتبار أنّ الأخبار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام لم يقصد منها إلاّ إفهام خصوص المشافهين ، فتختص حجية ظواهرها بهم (١).

وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا القول وجهان ذكرهما شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢).

الوجه الأوّل راجع إلى منع الكبرى ، وأ نّه لا حجّية للظواهر بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام.

الوجه الثاني راجع إلى منع الصغرى ، وأ نّه لا ينعقد ظهور للأخبار بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام.

أمّا الوجه الأوّل : فهو أنّ منشأ حجّية الظواهر هي أصالة عدم الغفلة ، إذ بعد كون المتكلم في مقام البيان كان احتمال إرادة خلاف الظاهر مستنداً إلى احتمال غفلة المتكلم عن نصب القرينة ، أو غفلة السامع عن الالتفات إليها ، والأصل عدم الغفلة في كل منهما. وأمّا احتمال تعمّد المتكلم في عدم نصب

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٣٩٨ و ٤٠٣ ، ٤٥١ و ٤٥٢

(٢) فرائد الاصول ١ : ١١٥ و ١١٦

١٣٨

القرينة فهو مدفوع بأ نّه خلاف الفرض ، إذ المفروض كونه في مقام البيان ، فلا منشأ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر إلاّاحتمال الغفلة من المتكلم أو من السامع ، وهو مدفوع بالأصل المتحقق عليه بناء العقلاء. وهذا الأصل لا يجري بالنسبة إلى من لم يكن مقصوداً بالافهام ، لعدم انحصار الوجه لاحتمال إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إليه في احتمال الغفلة ليدفع بأصالة عدم الغفلة ، إذ يحتمل اتكال المتكلم في ذلك على قرينة منفصلة ، أو قرينة حالية كانت معهودة بينهما وقد خفيت على من لم يكن مقصوداً بالافهام ، فلا تجديه أصالة عدم الغفلة ، ولا يجوز له التمسك بالظواهر.

ثمّ إنّه على تقدير تسليم جريان أصالة الظهور ـ ولو لم يكن احتمال إرادة خلاف الظاهر مستنداً إلى احتمال الغفلة ـ إنّما تجري أصالة الظهور فيما إذا لم يعلم أنّ ديدن المتكلم قد جرى على الاتكال على القرائن المنفصلة ، وأمّا مع العلم بذلك فلا تجري أصالة الظهور ، ولا يجوز الأخذ بظاهر كلامه لغير المقصود بالافهام ، ومن الواضح أنّ الأئمة عليهم‌السلام كثيراً ما كانوا يعتمدون على القرائن المنفصلة ، وربّما كانوا يؤخّرون البيان عن وقت الخطاب ، بل عن وقت الحاجة لمصلحة مقتضية لذلك ، فكيف يمكن الأخذ بظاهر كلامهم عليهم‌السلام لغير المشافهين المقصودين بالافهام.

أمّا الوجه الثاني : فهو أنّ الأخبار المرويّة عن الأئمة عليهم‌السلام لم تصل إلينا كما صدرت عنهم عليهم‌السلام بل وصلت إلينا مقطّعةً ، ونحتمل وجود قرينة على خلاف ما نفهمه من الكلام ، وقد خفيت علينا من جهة التقطيع ، فلم ينعقد للكلام ظهور مع هذا الاحتمال ، وليس المقام من باب احتمال وجود القرينة ليدفع بأصالة عدم القرينة ، بل من باب احتمال قرينية الموجود ، وفي مثله لا تجري أصالة عدم القرينة ، فلا ظهور للكلام بالنسبة إلى من لم يكن

١٣٩

مقصوداً بالافهام. هذا ملخّص ما ذكره الشيخ قدس‌سره من الوجهين بتوضيح منّا ، ولا يتمّ شيء منهما.

أمّا ما ذكره في منع الكبرى ، من أنّ منشأ أصالة الظهور هي أصالة عدم الغفلة ، وهي غير جارية بالنسبة إلى من لم يقصد بالافهام ، ففيه : أنّ أصالة عدم الغفلة وإن لم تكن جاريةً بالنسبة إلى غير المقصود بالافهام (١) ، إلاّ أنّها ليست أصلاً لأصالة الظهور ، بل كل من أصالة عدم الغفلة وأصالة الظهور أصل برأسه وناشئ من منشأ لايرتبط أحدهما بالآخر ، وإن كان كل واحد منهما من الاصول العقلائية الثابتة حجّيتها ببناء العقلاء. أمّا أصالة عدم الغفلة ، فمنشؤها أنّ الغفلة والسهو في الفعل والقول خلاف طبيعة الانسان ، إذ الانسان بطبعه يفعل ما يفعل عن الالتفات ، ويقول ما يقول عن الالتفات ، ولذا استقرّ البناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة ، وأمّا أصالة الظهور فمنشؤها كون الألفاظ كاشفةً عن المرادات الواقعية بحسب الوضع ، أو بحسب قرينة عامّة ، كالاطلاق الكاشف عن المراد الجدي بضميمة مقدّمات الحكمة.

فتحصّل : أنّ المنشأ لأصالة الظهور هو الوضع أو القرينة العامّة ، والمنشأ لأصالة عدم الغفلة هو كون الغفلة خلاف طبع الانسان في الفعل والقول ، فلا يرتبط أحدهما بالآخر ، والنسبة بينهما من حيث المورد هي العموم من وجه ، لأ نّه تفترق أصالة عدم الغفلة عن أصالة الظهور في فعل صادر عن البالغ العاقل إذا احتمل صدوره منه غفلةً ، وتفترق أصالة الظهور عن أصالة عدم الغفلة في كلام صادر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام ، إذ

__________________

(١) والتحقيق أنّها جارية في غيره كما سيذكر سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) في أصالة الظهور بعد أسطر ، وفي الصفحة ١٥٠

١٤٠