موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

الكلام في الظّن

وتحقيق القول فيه يستدعي التكلم في جهات :

الجهة الاولى : لا ينبغي الشك في أنّ الظن ليس كالقطع في كون الحجّية من لوازمه ومقتضياته ، لا بنحو العلّية التامّة بأن لا تكون قابلةً للمنع عن العمل به ، ولا بنحو الاقتضاء بأن تكون قابلةً للمنع ، إذ ليس فيه انكشاف الواقع كما في القطع ، لوجود احتمال الخلاف. ومجرّد الرجحان الموجود فيه لايقتضي الحجّية ، فهو بنفسه غير حجّة لا يجوز العمل به عقلاً ، بلا حاجة إلى تعلّق المنع الشرعي عن العمل به ، فتكون الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن إرشاداً إلى حكم العقل لا نهياً مولوياً عن العمل به.

نعم ، حجّيته تحتاج إلى الجعل الشرعي ، لعدم كونه حجّةً في نفسه كالقطع ، بل حجّيته منحصرة بتعلّق الجعل الشرعي بها ، غاية الأمر أنّ الكاشف عن حجيتها الشرعية قد يكون دليلاً لفظياً كظواهر الآيات ، وقد يكون لبياً كالاجماع ، وقد يكون العقل ببركة مقدمات الانسداد ، فانّ العقل يدرك ـ بعد تمامية تلك المقدمات ـ أنّ الشارع جعل الظن حجّةً ، لا أنّ العقل يحكم بحجّية الظن بعد تمامية المقدّمات ، لما ذكرناه مراراً من أنّ حكم العقل عبارة عن إدراكه ، وليس له حكم سوى الادراك ، لعدم كونه مشرّعاً ليحكم بشيء.

١٠١

وبما ذكرناه ظهر فساد ما في الكفاية : من أنّ ثبوت مقدّمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلاً (١) إذ على تقدير الكشف كان العقل كاشفاً عن حجيته الشرعية لا حاكماً بحجيته. وأمّا على تقدير الحكومة فلا يحكم العقل بحجية الظن أصلاً ، وإنّما يحكم بتضييق دائرة الاحتياط في مقام الامتثال في المظنونات ورفع اليد عنه في المشكوكات والموهومات.

فتحصّل : أنّ حجية الظن منحصرة بالجعل الشرعي. وأمّا مع عدم تعلّق الجعل بها ، فلا يكون الظن بنفسه حجّة ، بلا فرق في ذلك بين الثبوت والسقوط ، فكما لا حجية للظن في ثبوت التكليف وتجري معه البراءة ، كذلك لا حجية له في سقوط التكليف بعد ثبوته ، وتجري معه قاعدة الاشتغال.

هذا ، ونسب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى بعض المحققين القول بكفاية الظن في سقوط التكليف ، ثمّ وجّهه بقوله : ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل (٢).

أقول : كيف يمكن الالتزام بكفاية الظن في سقوط التكليف مع عدم كونه حجةً من قبل المولى. وكيف يكون العبد معذوراً في ترك الامتثال بعد ثبوت التكليف على تقدير مخالفة ظنّه للواقع ، ولم يلتزم بها أحد من العلماء فيما نعلم ، بل لا نظن أن يلتزم بها عالم.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية من التوجيه فهو أجنبي عن المقام ، إذ الخلاف في لزوم دفع الضرر المحتمل وعدمه إنّما هو في الضرر الدنيوي لا في الضرر الاخروي ، فانّه لم يخالف أحد في لزوم دفع الضرر المحتمل الاخروي مع تنجز

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٥

(٢) كفاية الاصول : ٢٧٥

١٠٢

التكليف. ألا ترى أنّه ليس في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي وفي الشبهة الحكمية قبل الفحص إلاّاحتمال الضرر ، ومع ذلك أوجبوا الاحتياط في الأوّل والفحص في الثاني ، وليس ذلك إلاّلوجوب دفع الضرر المحتمل.

هذا ، مضافاً إلى أنّ الالتزام بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل ـ ولو كان اخروياً ـ يستلزم الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضاً ، وهو واضح الفساد بل ضروري البطلان.

فتحصّل : أنّ الظن ليس حجّة في نفسه ، بلا فرق بين مقام الثبوت ومقام السقوط ، وأنّ حجيته منحصرة بالجعل الشرعي.

الجهة الثانية : في إمكان التعبد بالظن. وليعلم أنّه ليس المراد بالامكان في المقام هو الاحتمال ، كما هو المراد في قولهم : كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الامكان ما لم يذدك عنه ساطع البرهان ، لوضوح أنّ الاحتمال أمر تكويني غير قابل للنزاع ، كما أنّه ليس المراد منه الامكان الذاتي في مقابل الاستحالة الذاتية ، لوضوح أنّ التعبد بالظن ليس ممّا يحكم العقل باستحالته بمجرد لحاظه وتصوّره ، كاجتماع الضدّين ، بل المراد منه الامكان الوقوعي في قبال الاستحالة الوقوعية ، بمعنى أنّه هل يلزم من وقوع التعبّد بالظن محال مطلقاً كاجتماع الضدّين أو المثلين ، أو بالنسبة إلى الحكيم كتحليل الحرام وتحريم الحلال أم لا؟

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ شيخنا الأنصاري (١) قدس‌سره اختار إمكان التعبد بالظن ، بدعوى أنّ بناء العقلاء على الحكم بالامكان ما لم تثبت الاستحالة.

واستشكل عليه صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره بوجوه :

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٨٧

(٢) كفاية الاصول : ٢٧٦

١٠٣

أحدها : أنّه لم يثبت بناء من العقلاء على ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه.

ثانيها : أنّه على تقدير تسليم ذلك نمنع ححية بنائهم شرعاً ، لعدم قيام دليل قطعي عليها. والظن بها لو كان موجوداً لايفيد ، إذ الكلام فعلاً في إمكان العمل بالظن ، فلا يمكن إثباته بنفس الظن.

ثالثها : أنّه على تقدير تسليم ذلك أيضاً ، لا فائدة في هذا البحث أصلاً ، إذ مع قيام الدليل على الوقوع لا نحتاج إلى البحث عن الامكان ، لأنّ الوقوع أخص من الامكان ، فثبوت الوقوع كافٍ في ثبوت الامكان أيضاً ، إذ المحال ليس بواقع بالضرورة ، ومع عدم الدليل على الوقوع لا فائدة في البحث عن الامكان ، إذ البحث اصولي لا بدّ فيه من ترتب ثمرة عليه ، وليس البحث بحثاً فلسفياً يبحث فيه عن الامكان والاستحالة بلا لحاظ ترتب ثمرة عليه ، انتهى ملخّصاً.

وزاد المحقق النائيني (١) قدس‌سره إشكالاً رابعاً ، وهو أنّ بناء العقلاء على الامكان ـ عند الشك فيه على تقدير التسليم ـ إنّما هو في الامكان التكويني دون الامكان التشريعي الذي هو محل الكلام.

هذا ، والانصاف تمامية ما ذكره الشيخ قدس‌سره ولا يرد عليه شيء من هذه الاشكالات ، وذلك لأنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره مبني على أن يكون مراد الشيخ قدس‌سره هو البناء على الامكان مطلقاً ، ولكن الظاهر أنّ مراده هو البناء على الامكان عند قيام دليل (٢) معتبر على الوقوع ، كما إذا

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٠٩ ، فوائد الاصول ٣ : ٨٨

(٢) نسأل سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) عن شأن هذا الدليل ونقول : إن كان ظنّياً فالكلام في إمكان العمل به ، وإن كان قطعياً فلم يبق مجال للبحث عن الامكان بعد وجود الدليل القطعي على الوقوع كما هو واضح. والانصاف أنّ مراد الشيخ (طاب ثراه) كما يظهر من مراجعة كلامه هو البناء على الامكان مع قطع النظر عن وجود الدليل على الوقوع. وحينئذ يرد عليه ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من الاشكالات الثلاثة المذكورة

١٠٤

دلّ ظاهر كلام المولى على حجية الظن ، ولا أقل من احتمال ذلك في كلام الشيخ قدس‌سره. وحينئذ تترتب الثمرة على البحث عن الامكان والاستحالة ، إذ على تقدير ثبوت الامكان لا بدّ من الأخذ بظاهر كلام المولى والعمل بالظن.

وعلى تقدير ثبوت الاستحالة لا مناص من رفع اليد عن الظهور ، للقرينة القطعية العقلية ، ولا ينبغي الشك في أنّ بناء العقلاء في مثل ذلك على الامكان والعمل بالظاهر ما لم تثبت الاستحالة ، فلو أمر المولى عبده بشيء وشكّ العبد في إمكان وجوبه واستحالته لاحتمال أن يكون ذا مفسدة ، واستحال أن يأمر المولى العالم الحكيم بما فيه المفسدة ، فاحتمل أن لا يكون ظاهر الكلام مراده ، ويكون أمره للامتحان أو غيره ممّا ليس فيه طلب جدّي ، فهل يشك أحد في بناء العقلاء على الأخذ بظاهر كلام المولى وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة ، وهل يشك أحد في إمضاء الشارع لهذا البناء من العقلاء. فاندفع جميع ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من الوجوه الثلاثة.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ففيه : أنّ الامكان والاستحالة من الامور الواقعية التي يدركها العقل ، وليس للامكان قسمان تكويني وتشريعي ، بل الامكان دائماً تكويني ، غاية الأمر أنّ متعلقه قد يكون من الامور التكوينية كما إذا قيل : إنّ نزول المطر في يوم كذا ممكن ، وقد يكون من الامور التشريعية كما إذا قيل : إنّ الحكم الكذائي ممكن أو التعبد بالظن ممكن.

١٠٥

فتحصّل : أنّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره متين ولا يرد عليه شيء من الاشكالات المذكورة.

ثمّ إنّ القائل بالاستحالة استند إلى وجهين : أحدهما راجع إلى الملاك ، والآخر إلى التكليف.

أمّا ما يرجع إلى الملاك ، فهو أنّ الأمارة ربّما تقوم على وجوب ما هو مباح واقعاً ، أو على حرمة ما هو مباح كذلك ، ولازم حجّية الأمارة هو الالزام بشيء من الفعل أو الترك ، من دون أن تكون فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة ، مع أنّا نقول بتبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، وهذا هو المراد من تحريم الحلال في قولهم ، وربّما تقوم على إباحة شيء والترخيص فيه مع أنّ حكمه الواقعي هو الالزام بالفعل أو الترك ، فيلزم من حجّية الأمارة تفويت المصلحة الملزمة أو الالقاء في المفسدة الملزمة ، وهذا هو المراد من تحليل الحرام في قولهم ، وكل ذلك صدوره محال عن الحكيم تعالى.

وأمّا ما يرجع إلى التكليف ، فهو أنّ الأمارة التي يتعبد بها إن كانت موافقة للحكم الواقعي لزم من حجيتها اجتماع المثلين ، وهما الحكم الواقعي المفروض وجوده والحكم الظاهري المجعول بمقتضى حجّية الأمارة ، وإن كانت مخالفة له لزم اجتماع الضدّين ، وكلاهما محال. هذا ملخص ما هو المنسوب إلى ابن قبة بتوضيح من المتأخرين.

والجواب : أمّا عن إشكال الملاك ، فهو أنّ صور الاشكال من ناحية الملاك ثلاث :

الصورة الاولى : ما إذا دلّت الأمارة على وجوب ما هو مباح واقعاً أو على حرمته.

١٠٦

الصورة الثانية : ما إذا دلّت الأمارة على إباحة ما هو واجب واقعاً أو حرام كذلك.

الصورة الثالثة : ما إذا دلّت الأمارة على وجوب ما هو حرام واقعاً ، أو على حرمة ما هو واجب واقعاً.

أمّا الصورة الاولى : فليس فيها إشكال ، إذ العقل لا يرى مانعاً من إلزام المولى عبده بفعل ما هو مباح واقعاً أو بتركه تحفظاً على غرضه المهم ـ أي المصلحة الملزمة الموجودة في بعض الأفراد ـ فانّ الأحكام وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها على ما هو المعروف من مذهب العدلية ، إلاّ أنّه تكفي المصلحة النوعية ولا تعتبر وجود المصلحة الشخصية دائماً ، إذ قد تكون المصلحة الملزمة في بعض الأفراد ، ولكن المولى يجعل الحكم بنحو العموم فيما لم يتميز واجد المصلحة عن غيره ، تحفظاً على تلك المصلحة الموجودة في البعض.

وقد وقع نظير هذا الحكم في الشرع المقدس ويقع في العرف كثيراً.

أمّا في الشرع ، فكتشريع العدّة ، فانّ المصلحة فيه ـ وهي حفظ الانساب وعدم اختلاط المياه ـ وإن لم تكن مطردة في جميع موارد وجوبها ، إلاّأنّ الشارع قد شرّعها بنحو العموم ، تحفظاً على تلك المصلحة الموجودة في بعض الموارد ، فاكتفى في تشريع العدّة بوجود المصلحة النوعية ، وليس دائراً مدار المصلحة الشخصية.

وأمّا في العرف ، فكثيراً ما يتّفق ذلك ، كما إذا علم المولى بأنّ أحداً يريد قتله في يوم معيّن ، فيأمر عبده بأن لا يأذن لأحد في الدخول عليه في ذلك اليوم تحفظاً على عدم دخول من يريد قتله ، فانّ المصلحة وإن كانت تقتضي المنع عن دخول البعض دون جميع الناس ، إلاّ أنّه لعدم معرفة العبد بذلك الشخص يأمره المولى بعدم الاذن في الدخول لأحد من الناس ، تحفّظاً على تلك المصلحة الملزمة.

١٠٧

فتحصّل : أنّه لا محذور في أمر المولى بالعمل بالأمارة الدالة على الوجوب أو الحرمة تحفظاً على فعل الواجب وترك الحرام ، وإن كان مؤدى الأمارة مباحاً أحياناً.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا دلّت الأمارة على إباحة ما هو حرام واقعاً ، أو واجب كذلك ، فمع انسداد باب العلم لا إشكال في جعل المولى حجّية الأمارة أصلاً ، إذ على تقدير عدم كون الأمارة حجّةً من قبل المولى كان المكلف مرخصاً في الفعل والترك ، لاستقلال عقله بقبح العقاب بلا بيان ، وكان له أيضاً أن يحتاط بترك ما هو محتمل الحرمة ، والاتيان بما هو محتمل الوجوب ، فكذا الأمر بعد حجّية الأمارة ، فان مفادها الترخيص على الفرض ، فله أن يفعل وأن يترك بمقتضى حجّية الأمارة ، وله أن يحتاط إذ حسن الاحتياط ممّا لا مجال لانكاره ولو مع قيام الأمارة على الترخيص ، فانّ موضوع الاحتياط هو احتمال التكليف ، وهو موجود بالوجدان.

وبالجملة : بعد فرض عدم تمكن المكلف من الوصول إلى الواقع يدور الأمر بين أن يتركه المولى وعقله المستقل في الترخيص ، أو يجعل له طريقاً يوصله إلى الواقع غالباً. لا ينبغي الشك في أنّ الثاني هو المتعين ، ومخالفة الأمارة للواقع أحياناً ممّا لا محذور فيه بعد عدم تنجّز الواقع على المكلف وكونه مرخصاً في الفعل والترك بمقتضى حكم العقل ، فلا يستند فوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة إلى التعبد بالأمارة.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما إذا دلّت الأمارة على وجوب ما كان حراماً في الواقع ، أو على حرمة ما كان واجباً في الواقع ، فالتعبد بالأمارة فيها وإن كان مستلزماً لتفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة في بعض الموارد ، إلاّ أنّه لا قبح فيه لو يرى المولى العالم كونها غالبة المطابقة للواقع.

وبعبارة اخرى : الأمر دائر بين عدم جعل الأمارة حجّةً فيختار المكلف ما

١٠٨

يشاء من الفعل والترك والمفروض عدم إمكان الاحتياط ، وبين جعل الأمارة حجّةً فيفعل المكلف ما دلّت الأمارة على وجوبه ، ويترك ما دلّت على حرمته ، ولو يرى المولى العالم بالحقائق أنّ تفويت الملاك الواقعي في الصورة الاولى أكثر من الصورة الثانية تعيّن عليه جعل الأمارة حجّةً وإن استلزم العمل بها فوت الملاك الواقعي أحياناً. والطريقة العقلائية أيضاً كذلك ، كما نرى أنّ سيرة العقلاء جرت على الرجوع إلى الأطبّاء مع ما يرون من الخطأ الصادر منهم الموجب للهلاك أحياناً ، وليس الرجوع إليهم إلاّلغلبة مصادفة معالجتهم للواقع.

هذا كلّه على تقدير انسداد باب العلم ، وأمّا مع الانفتاح ، فإن كان المراد من العلم هو القطع ـ ولو كان مخالفاً للواقع ـ فلا إشكال في التعبد بالأمارة في هذا الفرض أيضاً ، بل التحقيق أنّ هذا الفرض داخل في صورة الانسداد موضوعاً ، إذ المراد من الانسداد هو انسداد باب الوصول إلى الواقع ، لا انسداد باب القطع ولو كان جهلاً مركباً ، إذ الجهل المركب كالجهل البسيط لا يؤثر في حسن التعبد بالأمارة شيئاً. وأمّا إن كان المراد من العلم هو العلم المطابق للواقع ، بأن يكون المراد من الانفتاح هو انفتاح باب الوصول إلى الواقع ، فلا إشكال في التعبد بالأمارة أيضاً على القول بالسببية ، وتوضيح ذلك :

أنّ السببية تتصوّر على أقسام ثلاثة :

الأوّل : ما هو المنسوب إلى الأشاعرة من أنّه ليس في الواقع حكم مع قطع النظر عن قيام الأمارة ، بل يكون قيامها سبباً لحدوث مصلحة موجبة لجعل الحكم على طبق الأمارة ، وعلى القول بالسببية بهذا المعنى يرتفع الاشكال من أصله ، إذ عليه لا يكون في الواقع حكم حتّى يكون التعبد بالأمارة موجباً لفواته على المكلف (١).

__________________

(١) ولا يتصوّر فيه كشف خلاف كما هو واضح

١٠٩

ولكن السببية بهذا المعنى غير معقول في نفسه على ما ذكرناه في بحث الإجزاء (١) ، لاستلزامه الدور ، فانّ قيام الأمارة على الحكم فرع ثبوته واقعاً ، فكيف يتوقف ثبوته على قيامها. هذا مضافاً إلى كونه مخالفاً للاجماع والروايات الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

الثاني : السببية المنسوبة إلى المعتزلة ، وهي أنّ الحكم الواقعي وإن كان متحققاً مع قطع النظر عن قيام الأمارة ، إلاّأنّ قيامها ـ من قبيل طروء العناوين الثانوية كالحرج والضرر ـ موجب لحدوث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع ، وإذا انكشف الخلاف كان ذلك من قبيل تبدل الموضوع.

وعلى هذا القول لا مجال للاشكال المذكور أيضاً ، إذ مع قيام الأمارة على خلاف الحكم الواقعي يكون الحكم الواقعي الأهم هو مؤداها ، فلا يلزم تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة.

إلاّأنّ السببية بهذا المعنى وإن كانت أمراً معقولاً في نفسه ، وليست كالسببية بالمعنى الأوّل ، ولكنها أيضاً باطلة بمقتضى الاجماع والروايات (٢) الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وأنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليه بقيام الأمارة.

الثالث : السببية بمعنى المصلحة السلوكية ، والمراد بها أنّ في تطبيق العمل على الأمارة والسلوك على طبقها مصلحةً يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها له ، وحيث إنّ المصلحة السلوكية تابعة للسلوك على طبق الأمارة ، فهي تتفاوت بتفاوت مقدار السلوك قلّةً وكثرةً ، فإذا فرض

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٨٥

(٢) [ذكر قدس‌سره في محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٨٧ أنّ الروايات الدالة على الاشتراك هي الدالة على ثبوت الأحكام مطلقاً ، وروايات الاحتياط والبراءة ...]

١١٠

قيامها على وجوب صلاة الجمعة مثلاً ، وعمل بها المكلف ، فانكشف خلافها قبل خروج الوقت وأنّ الواجب في يوم الجمعة هو صلاة الظهر ، فلا يتدارك بالأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة إلاّالمصلحة الفائتة بالعمل بها ، وهي مصلحة وقت الفضيلة ، وأمّا مصلحة أصل صلاة الظهر أو مصلحة إتيانها في الوقت فلا يتدارك بها ، لعدم فواتهما بسبب السلوك على طبق الأمارة ، لتمكن المكلف من إتيانها في الوقت بعد انكشاف خلاف الأمارة. ولو فرض انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت ، فيتدارك بها مصلحة الصلاة في الوقت ، دون مصلحة أصل الصلاة ، لتمكّن المكلف من تداركها بعد خروج الوقت بالقضاء.

نعم ، لو لم ينكشف الخلاف أصلاً لا في الوقت ولا في خارجه ، يتدارك بها مصلحة أصل الصلاة أيضاً الفائتة بسبب العمل بالأمارة.

هذا ، إذا كان الترك مستنداً إلى العمل بالأمارة ، وأمّا إذا لم يكن الترك مستنداً إليه ، كما إذا ترك صلاة الظهر في مفروض المثال بعد انكشاف الخلاف ، فلم يتدارك المصلحة الفائتة حينئذ ، إذ طغيانه كان مفوّتاً لمصلحة الواقع لا السلوك على طبق الأمارة ليتدارك به ما فات من مصلحة الواقع ، والمفروض أنّ المصلحة إنّما هي في السلوك فتدور مداره.

والسببية بهذا المعنى قد اختارها شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) ، وتبعه المحقق النائيني قدس‌سره (٢). وعليه يندفع الاشكال المذكور أيضاً ، إذ عليه يتدارك ما فات من مصلحة الواقع على ما عرفت ، فلا يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة.

إلاّأنّ السببية بهذا المعنى أيضاً ممّا لا يمكن الالتزام به ، لكونه مستلزماً

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٩٠ ـ ٩٤

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١١٧ ، فوائد الاصول ٣ : ٩٥ ـ ٩٧

١١١

لتبدل الحكم الواقعي بنوع من التصويب ، إذ لو فرض كون سلوك الأمارة مشتملاً على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة ، لا يعقل تعلّق الايجاب بالواقع تعييناً ، لكونه ترجيحاً بلا مرجح ، بل لا بدّ من تعلّق الايجاب بالواقع وسلوك الأمارة تخييراً. مثلاً لو فرض أنّ مصلحة صلاة الظهر تقوم بأمرين : أحدهما نفس صلاة الظهر ، والآخر سلوك الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة لمن لم ينكشف له الخلاف ، فامتنع من الشارع الحكيم تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر ، لقبح الترجيح بلا مرجح.

وبعبارة اخرى : بعد كون الوجوب تابعاً للمصلحة على ما هو مذهب المشهور من العدلية ، وكون كلٍّ من الأمرين مشتملاً عليها ، تعيّن على الشارع الحكم بوجوبهما تخييراً ، فيكون الواجب الواقعي ـ في حق من قامت عنده الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة ـ أحد أمرين على سبيل التخيير : إمّا صلاة الظهر أو سلوك الأمارة المزبورة ، فلا يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم والجاهل بنحو واحد ، بل في حقّ العالم تعييني وفي حقّ الجاهل تخييري. وهذا نوع من التصويب ، ويدل على بطلانه الاجماع والروايات الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وقد تعرّضنا لتفصيل ذلك كلّه في بحث الإجزاء ، فراجع (١).

ومجمل الكلام في المقام : أنّ الاشكال المنسوب إلى ابن قبة مندفع من أصله على القول بحجية الأمارات من باب السببية بأيّ معنىً من المعاني.

وأمّا على القول بالطريقية وأ نّه ليس في حجّية الأمارات إلاّمصلحة الايصال إلى الواقع ، فالصحيح في الجواب عن الاشكال المذكور أن يقال : إنّ إلزام المكلّفين بتحصيل العلم وإن فرض انفتاح بابه حرج على نوع المكلفين ، ومنافٍ لكون

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٨٧ ـ ٨٩

١١٢

الشريعة المقدسة سهلةً سمحةً ، فلو قدّم الشارع الحكيم مصلحة التسهيل على النوع على مصلحة الواقع الفائتة عند مخالفة الأمارة للواقع لا يتصور فيه قبح ، وكم للشارع أحكام مجعولة لغرض التسهيل على النوع مع اقتضاء المصلحة الواقعية خلافها ، كالحكم بطهارة الحديد ، ومقتضى الروايات الدالة على أنّ في الحديد بأساً شديداً هو الحكم بنجاسته ، إلاّأنّ الله سبحانه وتعالى حكم بطهارته تسهيلاً على العباد (١) ، لتوقف كثير من امور معاشهم على استعمال الحديد ، فكان الحكم بنجاسته موجباً للعسر والحرج على المكلفين.

فتحصّل : أنّ تفويت المصلحة الواقعية أو الالقاء في المفسدة أحياناً لا يوجب امتناع التعبد بالأمارة إذا كان فيه مصلحة نوعية.

هذا ، مضافاً إلى أنّ غالب الأمارات بل جميعها طرق عقلائية لا تأسيسية من قبل الشارع ، ومن الواضح أنّ ردع العقلاء عمّا استقرّ بناؤهم عليه في امور معاشهم يحتاج إلى مصلحة ملزمة ، كما إذا كان الطريق غالب المخالفة للواقع كالقياس ، ولذا ورد النهي عن العمل به. وأمّا لو لم تكن مصلحة ملزمة في الردع كما إذا كانت مخالفة الأمارة للواقع قليلةً في جنب مصلحة التسهيل ، فلا وجه للردع أصلاً.

على أنّ الالتزام بامتناع التعبد بالأمارة في فرض انفتاح باب العلم ممّا لا يترتب عليه أثر عملي ، إذ الانفتاح مجرد فرض لا واقع له ، حتّى في زمان حضور المعصوم عليه‌السلام فانّ العلم بالواقع في جميع الأحكام ـ ولا سيّما في الشبهات الموضوعية ـ ممتنع عادةً حتّى لأصحاب الإمام عليه‌السلام ، إذ لايمكن الرجوع إلى نفس المعصوم في كل مسألة وكل شبهة حكمية وموضوعية في كل وقت وساعة كما هو واضح.

__________________

(١) [لم نعثر عليه]

١١٣

فتحصّل : أنّه لا مانع من التعبد بالأمارة من ناحية الملاك.

وأمّا الاشكال عليه من ناحية التكليف وأ نّه موجب لاجتماع المثلين أو الضدّين ـ على ما تقدّم بيانه (١) ـ فتحقيق الحال في جوابه يحتاج إلى التكلم في مقامين :

المقام الأوّل : في البحث عمّا إذا كانت الأمارة مطابقةً للواقع ، ودفع توهم اجتماع المثلين.

المقام الثاني : في البحث عمّا إذا كانت مخالفةً له ، ودفع توهم اجتماع الضدّين.

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فهو أنّه لا مجال لتوهم اجتماع المثلين على القول بالطريقية أصلاً ، إذ عليه لا يكون هناك إلاّحكم واحد ، إنّما التعدد في مجرد الانشاء لغرض الوصول إلى المكلف ، نظير ما إذا قال المولى لعبده : أكرم زيداً ، فلم يصل إليه أو لم يعرفه ، فأشار بيده إليه ، وقال : أكرم هذا الرجل ومن الواضح أنّ الحكم في مثل ذلك واحد ، إنّما التعدد في إبرازه وإنشائه.

والمقام من هذا القبيل ، فانّ الحكم واحد ينشئه المولى تارةً بعنوانه ، ويقول شرب الخمر حرام مثلاً ، واخرى بعنوان حجّية الأمارة ، ويقول : صدّق العادل مثلاً.

وأمّا على القول بالسببية فلا محالة يكون هناك حكمان ، إلاّ أنّه لا يلزم منه اجتماع المثلين ، بل يوجب التأكد ، إذ النسبة بينهما هي العموم من وجه ، باعتبار أنّ الأمارة قد تكون مخالفةً للواقع ، وقد يكون الحكم الواقعي متحققاً بلا قيام أمارة عليه ، وقد تكون الأمارة مطابقةً للواقع ، وهذا مورد الاجتماع ، ويكون الحكم فيه متأكداً ، كما هو الحال في سائر موارد اجتماع العنوانين ، كما إذا قال

__________________

(١) في ص ١٠٦

١١٤

المولى : أكرم كل عالم ، ثمّ قال : أكرم كل هاشمي ، فانّ ملاك الحكم في مورد الاجتماع ـ وهو عالم هاشمي ـ أقوى منه في مورد الافتراق ، فيكون الحكم فيه آكد ، فلا يلزم اجتماع المثلين أصلاً.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا كانت الأمارة مخالفةً للواقع ، فقد اجيب عن توهم اجتماع الضدّين بوجوه :

منها : ما ذكره شيخنا الأنصاري (١) قدس‌سره وملخص ما أفاده : أنّه يعتبر في التضاد ما يعتبر في التناقض من الوحدات الثمان ، لأنّ استحالة التضاد إنّما هي لرجوعه إلى التناقض ، باعتبار أنّ وجود كل من الضدّين يلازم عدم الآخر ، فبانتفاء إحدى الوحدات ينتفي التضاد. ومن الوحدات المعتبرة في التناقض هي وحدة الموضوع ، إذ لا مضادة بين القيام والقعود مثلاً لو كانا في موضوعين ، وعليه فلا مضادة بين الحكم الواقعي والظاهري ، لتعدّد موضوعيهما ، فانّ موضوع الأحكام الواقعية هي الأشياء بعناوينها الأوّلية ، وموضوع الأحكام الظاهرية هي الأشياء بعناوينها الثانوية ، أي بعنوان أنّها مشكوك فيها ، فلا تضاد بين الحكم الواقعي والظاهري بعد اختلاف الموضوع فيهما. هذا ملخّص كلامه قدس‌سره.

وفيه : أنّ الاهمال في مقام الثبوت غير معقول كما ذكرناه غير مرّة (٢) ، إذ لا يتصور الاهمال في مقام الثبوت من نفس الحاكم الجاعل للأحكام ، بأن يجعل الحكم لموضوع لا يدري أنّه مطلق أو مقيد ، فالحكم الواقعي بالنسبة إلى حال العلم والشك إمّا أن يكون مطلقاً ، فيلزم اجتماع الضدّين ، إذ الحكم الظاهري وإن

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٥٣

(٢) راجع محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٣٤

١١٥

لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي ، إلاّأنّ إطلاق الحكم الواقعي يشمل مرتبة الحكم الظاهري.

وإمّا أن يكون مقيداً بحال العلم ، فيلزم التصويب الباطل ، للاجماع والروايات (١) الدالة على كون الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل. مثلاً إذا جعلت الاباحة حكماً للمائع المشكوك في كونه خمراً ، وكان هناك خمر شكّ في خمريته ، فإن كانت الحرمة الواقعية للخمر مطلقة بالنسبة إلى حال العلم بكونه خمراً والجهل به ، لزم اجتماع الضدّين ، إذ الخمر الواقعي المشكوك في كونه خمراً مباح بمقتضى الحكم الظاهري ، وحرام بمقتضى إطلاق الحكم الواقعي ، وإن كانت الحرمة مقيدةً بحال العلم ، لزم اختصاص الحكم الواقعي بالعالمين ، وهو التصويب الباطل.

ومنها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في حاشيته على الرسائل وفي الكفاية (٢) ، وحاصل ما أفاده : أنّه إن قلنا بأنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الحجية التي هي عبارة عن المنجّزية مع المطابقة ، والمعذّرية مع المخالفة ، ولا تستتبع حكماً تكليفياً ، فلا يلزم اجتماع حكمين أصلاً ، لا المثلين ولا الضدّين ، إذ ليس المجعول إلاّالحكم الواقعي فقط.

وإن قلنا بأنّ الحجية المجعولة للطرق والأمارات تستتبع حكماً تكليفياً ، أو أنّ المجعول حقيقةً هو الحكم التكليفي والحجية منتزعة منه ، فاجتماع الحكمين وإن كان يلزم ، إلاّ أنّه لا يلزم منه اجتماع المثلين أو الضدّين. ثمّ ذكر في وجه ذلك تعبيرات مختلفة : فذكر تارةً أنّ الحكم الواقعي شأني والحكم الظاهري فعلي ،

__________________

(١) مرّ ذكر المصدر في ص ١١٠

(٢) كفاية الاصول : ٢٧٧ و ٢٨٧ ، دُرر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٧٠ ـ ٧٣

١١٦

واخرى أنّ الحكم الواقعي إنشائي والحكم الظاهري فعلي ، وثالثةً أنّ الحكم الواقعي فعلي من بعض الجهات ، والحكم الظاهري فعلي من جميع الجهات ، والمضادة بين الحكمين إنّما هي فيما إذا كان الحكمان كلاهما فعليين من جميع الجهات. هذا ملخص كلامه ، ولا يخلو من إجمال.

ولا بدّ لنا من التعرّض لكل واحد من محتملاته والجواب عنه ، فنقول :

أمّا ما ذكره من أنّ الحكم الواقعي شأني ، فإن كان مراده من الشأنية مجرد ثبوت المقتضي للحكم الواقعي من دون أن يكون مؤثراً في إنشاء الحكم الواقعي مع فرض قيام الأمارة على خلافه ، ففيه : أنّه لا يكون حينئذ للجاهل حكم واقعي غير مؤدى الأمارة ، وهذا هو التصويب المنسوب إلى الأشاعرة ، وقد دلّ الاجماع والروايات (١) على بطلانه. مضافاً إلى كونه غير معقول في نفسه لاستلزامه الدور ، لأنّ قيام الأمارة على حكمٍ فرع ثبوته واقعاً ، فلو توقف ثبوته واقعاً على قيام الأمارة عليه لزم الدور.

وإن كان مراده أنّ الحكم الواقعي وإن كان ثابتاً للشيء بعنوانه الأوّلي وبطبعه ، إلاّ أنّه لا يمنع من طروء عنوان عرضي يوجب تبدّله ـ وهو قيام الأمارة على خلافه ـ إذ لا منافاة بين حكمين أحدهما مجعول للشيء بطبعه ، والآخر مجعول له بعنوان عرضي طارئ عليه ، كما يقال إنّ لحم الغنم حلال بطبعه وإن كان قد يعرضه ما يوجب حرمته كعنوان الضرر ، ولحم الأسد حرام بطبعه وإن كان قد يطرأ عليه ما يوجب حلّيته كعنوان الاضطرار ، فكما لا منافاة بين الحلية الطبعية والحرمة العرضية أو العكس في هذه الموارد ، كذلك لا منافاة بين الحكم الواقعي المجعول للشيء بطبعه ، والحكم الظاهري المجعول له بعنوان عرضي ،

__________________

(١) تقدّم ما يرتبط بالمقام في ص ١١٠

١١٧

وهو قيام الأمارة على الخلاف ، ففيه : أنّ هذا تصويب منسوب إلى المعتزلة ، وهو وإن لم يكن كسابقه في الشناعة ، إلاّ أنّه أيضاً فاسد بالاجماع والروايات ، كما تقدّم مراراً (١).

وإن كان مراده أنّ الحكم الواقعي ثابت مع قطع النظر عن قيام الأمارة على نحو الاهمال ـ فلا يكون مطلقاً حتّى يلزم التضاد ، ولا مقيداً بالعلم كي يلزم التصويب ـ ففيه : ما ذكرناه مراراً من أنّ الاهمال في مقام الثبوت غير معقول (٢) ، فلا مناص من أن يكون مطلقاً ، فيلزم محذور اجتماع الضدّين ، أو مقيداً فيلزم التصويب.

وأمّا ما ذكره من أنّ الحكم الواقعي إنشائي ، فإن أراد منه الانشاء المجرد عن داعي البعث والزجر ، كما إذا كان بداعي الامتحان أو الاستهزاء أو غيرهما ، ففيه : أنّ الالتزام بذلك نفي للحكم الواقعي حقيقةً ، إذ الانشاء بلا داعي البعث والزجر لا يكون حكماً ، وإنّما يكون مصداقاً لما كان داعياً إلى الانشاء ، من الامتحان والاستهزاء ونحوهما ، وعليه فالتصويب باقٍ بحاله. مضافاً إلى أنّه إذا لم يكن الانشاء بداعي البعث والزجر ، ولم يكن الحكم الواقعي حكماً حقيقياً ، لاتجب موافقته ولا تحرم مخالفته ، فلا يبقى مجال لوجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص ، ولا لاستحبابه بعده فيها وفي الشبهات الموضوعية مطلقاً ، بل لا يبقى مورد للفحص ، إذ ليس هناك حكم يجب الفحص عنه. وكل ذلك خلاف المتسالم عليه بين الفقهاء ، ومنهم صاحب الكفاية قدس‌سره نفسه.

وإن أراد منه الانشاء بداعي البعث والزجر ، فهذا هو الحكم الفعلي من قبل

__________________

(١) راجع محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٨٦ ـ ٨٧

(٢) راجع محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٣٤

١١٨

المولى ، وإن لم يكن محرّكاً للعبد نحو العمل إلاّبعد تحقق الموضوع بجميع قيوده خارجاً ، وتحققه في الخارج ممّا لا ربط له بالمولى الجاعل للحكم ، فإذا قال المولى يجب الحج على المستطيع ، فقد تمّ الحكم من ناحية المولى وصار فعلياً من قبله ، وتحقق الاستطاعة خارجاً ممّا لا ربط له بتمامية الحكم من قبل المولى.

وبعبارة اخرى واضحة : إذا قال المولى : يجب الحج على المستطيع ، فقد تمّ الحكم من قبل المولى وصار فعلياً بالنسبة إلى المستطيع. وأمّا غير المستطيع فليس عليه الحكم بوجوب الحج أصلاً. وعليه فإن كان الحكم الواقعي مطلقاً لزم اجتماع الضدّين ، وإن كان مقيداً بالعلم لزم التصويب على ما تقدّم بيانه.

ولعلّه لأجل هذه الاشكالات عدل عن التعبيرين المذكورين أخيراً ، والتزم بأنّ الحكم الواقعي فعلي من بعض الجهات ، والحكم الظاهري فعلى من جميع الجهات ، فلا مضادة بينهما.

وهو أيضاً غير تام ، إذ لو أراد منه أنّ الحكم الواقعي قد اخذ في موضوعه العلم ، سواء كان العلم وجدانياً أو تعبدياً كما يظهر من قوله قدس‌سره : إن علم به المكلف يكون فعلياً (١) ، ففيه : أنّ هذا تصويب يدل على فساده الاجماع والروايات الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

وإن أراد أنّ العلم لم يؤخذ في موضوع الحكم ، ومع ذلك لا يكون فعلياً قبل العلم به ، ففيه : أنّه لا معنى لعدم فعلية الحكم بعد تمامية الجعل من قبل المولى وهو الانشاء بداعي البعث ، وتحقق موضوعه خارجاً ، فانّه شبيه بتخلّف المعلول عن العلّة التامّة.

__________________

(١) [لعلّه قدس‌سره يشير إلى عبارة الكفاية في ص ٢٧٨ : لو علم به المكلف لتنجّز عليه]

١١٩

هذا كلّه على القول بأنّ الحجية المجعولة للأمارات مستتبعة للحكم التكليفي ، أو أنّ المجعول حقيقةً هو الحكم التكليفي ، والحجية منتزعة منه.

أمّا ما ذكره على القول بأنّ المجعول نفس الحجية من دون أن تكون مستتبعةً للحكم التكليفي ، من أنّه لا يلزم حينئذ اجتماع حكمين أصلاً ، ففيه : أنّ محذور اجتماع الضدّين وإن كان مندفعاً على هذا المبنى ، إلاّأنّ المبنى المذكور غير صحيح ، لما أشرنا إليه سابقاً ويأتي التعرض له قريباً (١) إن شاء الله تعالى.

ومنها : ما ذكره المحقق النائيني (٢) قدس‌سره وملخص ما أفاده : أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو مجرد الطريقية والكاشفية بالغاء احتمال الخلاف ، فلا يكون هناك حكم تكليفي حتّى يلزم اجتماع الضدّين ، بل حال الأمارة هي حال القطع ، لأنّ الشارع اعتبرها علماً في عالم التشريع ، فكما يكون العلم الوجداني منجّزاً مع المطابقة ومعذّراً مع المخالفة ، فكذلك العلم التعبدي يكون منجّزاً ومعذّراً ، فكما لا مجال لتوهم التضاد عند مخالفة القطع للواقع ، فكذلك في المقام. وبالجملة : ليس في مورد الطرق والأمارات حكم تكليفي مجعول كي يلزم اجتماع الضدّين.

وليعلم أنّ مجرد إمكان أن يكون المجعول فيها ذلك كافٍ في دفع الشبهة ، بلا حاجة إلى إثبات وقوعه ، إذ الكلام في إمكان التعبد بالظن ، مع أنّ لنا دليلاً على وقوعه أيضاً ، وهو أنّ الأمارات المعتبرة شرعاً طرق عقلائية يعملون بها في امور معاشهم ، وقد أمضاها الشارع ، وعليه يكون المجعول الشرعي في باب الأمارات ما تعلّق به واستقرّ عليه بناء العقلاء ، ومن الواضح أنّه لم يتعلق

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٩ و ٤٠ ويأتي بعد أسطر

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٢٨ ـ ١٤٠ ، فوائد الاصول ٣ : ١٠٥ ـ ١١٩

١٢٠