التنبيه بالمعلوم

محمد بن الحسن الحرّ العاملي [ العلامة الشيخ حرّ العاملي ]

التنبيه بالمعلوم

المؤلف:

محمد بن الحسن الحرّ العاملي [ العلامة الشيخ حرّ العاملي ]


المحقق: محمود البدري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-252-1
الصفحات: ٢١٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الغلو ، بل القول بجوازه من التقصير في الاعتقاد (١).

وقال العلاّمة في المنتهى في مسألة التكبير في سجدتي السهو بعدما روى حديثاً في سهو النبي صلّى الله عليه وآله : والجواب : هذا الحديث عندنا باطل لاستحالة السهو على النبي صلّى الله عليه وآله (٢).

وقال في مسألة اُخرى : قال الشيخ : وقول مالك باطل لاستحالة السهو على النبي صلّى الله عليه وآله (٣).

وقال في المختلف بعدما ذكر حديث السهو : انّه مشتمل على ما هو متروك بالاجماع وهو سهو النبي صلّى الله عليه وآله ـ ثم قال ـ : وأمّا اشتماله على السهو فانّه يحمل على الترك لتعريف العباد أحكام السهو لما علم أنّ الصحابة كانوا يصيرون إلى أقواله إذا اقترنت بأقواله غالباً (٤).

ولهذا شكى إلى اُمّ سلمة ذلك فأراد تعريفهم أحكام الصلاة بالقول والفعل ويكون قد صلّى بهم ركعتين واجبتين (٥) غير الرباعية لهذه الفائدة على انّ ابن بابويه قال قولاً ضعيفاً لا يصار إليه ثم ذكر عبارته الآتية ـ ثم قال : ـ هذا آخر كلام ابن بابويه وهو خارج عن سنن الصواب ، والحق رفع منصب النبي صلّى الله عليه وآله عن السهو وقد بيّناه في كتبنا الكلامية إذ هو الموضع

__________________

(١) شرح اعتقادات الصدوق : ١٣٥ ، والمطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٤١٨ ، ط الحجرية.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٤١٩ ، ط الحجرية.

(٤) في « ب ، ج » : غائباً.

(٥) في د : واختير.

٦١

المختص به. (١) انتهى.

[ ويحكي عن الشيخ بهاء الدين رحمه الله : إنّ سائلاً سأله عن قول ابن بابويه : إنّ النبيّ قد سهى ، فقال : بل ابن بابويه قد سهى ، فانّه أولى بالسهو من النبي صلّى الله عليه وآله.

وهذا جواب حسن في غاية الجودة.

ويمكن أن يجاب بمثله عن قول ذي اليدين ورواية من روى السهو فانّهما أحقّ بالغلط والسهو. ويأتي تحقيق المقام إن شاء الله تعالى ] (٢).

وقد صرّح علمائنا في كتب الاُصوليين (٣) بما يقتضي نفي السهو.

أمّا في كتب اُصول الدين ففي مقام اثبات العصمة ، ونفي الخطأ والسهو والنسيان عن النبيّ صلّى الله عليه وآله والإمام عليه السلام بقول مطلق قبل النبوّة والإمامة وبعدهما ، أعمّ من أن يكون في العبادة أو غيرها ، والاستدلال على ذلك بأدلّة واضحة في شمول العبادة كما يأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا في كتب اُصول الفقه ، فحيث يذكرون انّ السنّة التي يجب اتّباعها والعمل بها ، والتعويل عليها هي قول النبيّ والإمام ، أو فعلهما ، أو تقريرهما.

ثمّ يبحثون عن الفعل ، ويقسّمونه إلى أقسام ، ويحضرونه في شقوق حاصلها الوجوب والندب والإباحة ، ولا يذكرون الكراهة فضلاً عن التحريم

__________________

(١) مختلف الشيعة ٢ : ٣٥٩.

(٢) من ج فقط.

(٣) في هامش ج : الاُصولين ؛ أي اُصول الدين واُصول الفقه. « منه رحمه الله ».

٦٢

أو السهو ، ثمّ يحكمون بان فعله صلّى الله عليه وآله دالّ على الجواز صريحاً ، وعلى الاستحباب والوجوب مع القرينة الدالّة على وجهه ، وأنّ تركه صلّى الله عليه وآله دالّ على نفي الوجوب صريحاً ، وعلى الكراهة والتحريم مع القرينة ، وكلّ ذلك يقتضي أن يكون فعله صلّى الله عليه وآله حجّة عندهم مطلقاً ، وانّه نوع من التبليغ لوجوب اتّباعه والاقتداء به بنصّ القرآن ، وغيره من الأدلّة.

وبالجملة فعبادته صلّى الله عليه وآله تبليغ قطعاً ، وتبليغه عبادة ، فبطل الفرق بينهما كما يأتي نقله ، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وآله : « صلّوا كما رأيتموني اُصلّي » (١) ، و« خذوا عنّي مناسككم » (٢) إلى غير ذلك.

وهذه الإشارة كافية عن نقل عبارات الأصحاب في كتب الاُصوليين فارجع إليها فانّها دالّة على ما قلناه.

وقد صرّح ابن طاووس في الطرائف (٣) وغيره بمثل ما تقدّم من عبارات

__________________

(١) انظر : شرح الموطأ ١ : ١٤٢ ، المغني لابن قدامة ١ : ٤٦٠ ، كنز العمّال ٧ : ٢٠١ ، صحيح البخاري ٢ : ٥٢ ، سن الدرامي ١ : ٢٣٠ ، مسند أحمد ٥ : ٥٣ ، وفيه « تروني » بدلاً من « رأيتموني ».

وأخرجه العلاّمة الحلّي في الرسالة السعدية : ٩٦.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ٥ : ١٢٥ ، التمهيد لابن عبد البر ٢ : ٦٩ و٩١ و٩٨ ، فتح الباري ١ : ٢١٧ و ٤٩٩ ، اتحاف السادة المتّقين للزبيدي ٤ : ٤٣٧ ، البداية والنهاية ٥ : ١٨٤ و ٢١٥ ، إرواء الغليل للألباني ٤ : ٢٧١.

(٣) قال ابن طاووس في الطرائف : ومن ذلك ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي في الحديث الخامس والأربعين بعد المائتين من المتّفق عليه من مسند أبي هريرة في حديث يزيد بن إبراهيم عن محمد بن أبي هريرة قال : صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وآله إحدى صلاتي العشي ـ قال محمد ـ يعني إبن سيرين ـ وأكثر ظنّي العصر ـ ، فسلّم في ركعتين ، ثمّ قام إلى خشبة في مقدّم المسجد فوضع يده عليها مغضباً ، وفيهم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلّماه ، وخرج سرعان الناس فقالوا : أقصرت في الصلاة ؟ وهناك رجل يدعوه النبي صلّى الله عليه وآله ذا اليدين ، فقال : يا

٦٣

الأصحاب.

وقد صنّفوا في ذلك كتباً ورسائل ، منها رسالة الشيخ المفيد التي نقلنا بعضها وننقل باقيها إن شاء الله تعالى

ومنها ما ذكره النجاشي في كتاب الرجال حيث قال :

إسحاق بن الحسين بن بكران أبو الحسين الغفري (١) التمّار كثير السماع ،

__________________

نبي الله أنسيت أم قصرت الصلاة ؟

فقال : لم انس ولم تقصر الصلاة.

قال : بلى ، قد نسيت.

قال : صدق ذو اليدين ، فقام فصلّى ركعتين ، ثمّ سلّم ، ثمّ كبّر ، فسجد مثل سجوده وأطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر.

( قال عبد المحمود : ) يا بشرى لمن فارق هؤلاء الأربعة مذاهب القائلين عن نبيّهم مثل هذه المقالات ، المصدّقين عنه لهده الروايات.

ومن طريف هذا الحديث أنّ أبا بكر وعمر كانا ذاكرين انّه غلط وسهى ، ليت شعري من عرف من الرواة باطنهما حتى شهد لهما بذلك ، أو من شهد لهما بالعصمة حتى يصدّقهما أنّهما كانا أكمل من نبيّهم وأحضر فكراً وأشدّ بصيرة ، وليت شعري من أين لهما أنّه غلط وسهى ، وهلا جوّزوا أن يكون قد قصرت الصلاة وصارت ركعتين ونسخت منها ركعتان ؟! وكيف استجازا سوء الظن به بما قالا فيه انّه سهى وغلط قبل أن يعترف به كما زعموا ؟!

وليت شعري كيف استحسن رواة هذا الحديث ومصحّحوه أن يذكروا عن نبيّهم أنّه غلط وسهى ، ثمّ يذكرون أنّ أبا بكر وعمر من دون الصحابة ودون بني هاشم وعترة نبيّهم على وجه التنزيه لهما وانّهما هابا أن يكلّماه ، يعني أنّهما كانا منزّهين في هذه عن السهو.

وليت شعري من يروي عنهما ما تقدّم وما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى من الإقدام على الإنكار على نبيّهم في عدّة مقالات ومقامات ، وكيف يستحسن أن يكذّبوا انفسهم ويناقضوا ويباهتوا ويتولّوا في هذه الرواية انّهما هاباه ... « انظر : الطرائف : ٣٦٥ ـ ٣٦٧ ».

(١) كذا ورد اسمه في سائر النسخ ، وفي د : « أبو الحسن » بدل « أبو الحسين » ، وفي رجال النجاشي : اسحاق بن الحسن بن بكران أبو الحسين العَقرائيّ.

٦٤

[ ضعيف في مذهبه ، ] (١) رأيته بالكوفة وهو مجاور بها ، وكان يروي كتاب الكليني عنه [ وكان في هذا الوقت (٢) غلوّاً ] (٣) ، ولم أسمع منه شيئاً ، له كتاب الرد على الغلاة ، وكتاب نفي السهو عن النبي ، وكتاب عدد الأئمّة (٤). وغير ذلك مما لا يحضرني ذكره والله الموفق.

__________________

(١ و ٢) من المصدر.

(٣) قال السيّد الخوئي قدّس سرّه : الظاهر انّ جملة ( هذا الوقت ) في كلامه إشارة إلى زمان رواية إسحاق كتاب الكليني ، والمراد انّ روايته لهذا الكتاب كان في عنفوان شبابه ولم يكن النجاشي في ذلك الزمان موجوداً ، ولأجله لم يسمع منه شيئاً وانّما أدركه في زمان شيبه وهو مجاور الكوفة. راجع المعجم رجال الحديث ٣ : ٤٥.

(٤) رجال النجاشي : ٧٤ رقم « ١٧٨ ».

٦٥
٦٦

الفصل الثاني

في ذكر عبارة من جوّز السهو على النبي والإمام في العبادة الخاصّة

وهو ابن بابويه وحده كما وقع التصريح به سابقاً ، وان نسبه إلى بعض مشايخه كما يأتي ، فانّه لم يوجد لمن نسبه إليه تصريح به غير نقل ابن بابويه عنه ، وهو محتمل للسهو والغلط والاشتباه.

قال أبو جعفر بن بابويه في كتاب من لا يحضرن الفقيه : وروى الحسن بن محبوب ، عن الرباطي ، عن سعيد الأعرج ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إنّ الله تبارك وتعالى أنام رسول الله صلّى الله عليه وآله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ، ثمّ قام فبدأ فصلّى الركعتين اللتين قبل الفجر ، [ ثمّ صلّى الفجر ] (١) ، وأسهاه في صلاته ، فسلّم في الركعتين ـ ثمّ وصف ما قاله ذو الشمالين ـ وانّما فعل ذلك به ، رحمة لهذه الاُمّة لئلاّ يعيّر الرجل المسلم إذا هو نام عن صلاته أو سها فيها ، فيقال : قد أصاب ذلك رسول الله صلّى الله

__________________

(١) من المصدر.

٦٧

عليه وآله (١).

ثم قال ابن بابويه بعد ذكر هذا الحديث :

قال مصنّف هذا الكتاب :

إنّ الغلاوة والمفوّضة ـ لعنهم الله ـ ينكرون سهو النبي صلّى الله عليه وآله ويقولون : لو جاز أن يسهو عليه السلام في الصلاة جاز أن يسهو في التبليغ ، لأنّ الصلاة عليه فريضة كما أن التبليغ عليه فريضة.

وهذا لا يلزمنا ؛ وذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبيّ صلّى الله عليه وآله فيها ما يقع على غيره ، وهو متعبّد بالصلاة كغيره ممّن ليس بنبيٍّ (٢) ، وليس كلّ من سواه بنبيٍّ [ كهو ] (٣) ، فالحالة التي اختصّ بها هي النبوّة والتبليغ من شرائطها ، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع [ عليه ] (٤) في الصلاة ، لأنّها عبادة مخصوصة ، والصلاة عبادة مشتركة ، وبها تثبت له العبوديّة ، وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجلّ من غير إرادة له وقصد منه إليه نفي الربوبيّة عنه ، لأنّ الّذي لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ هو الله الحيّ القيّوم ، وليس سهو النبي صلّى الله عليه وآله كسهونا ، لأنّ سهوه من الله عزّ وجلّ ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يُتّخذ معبوداً (٥) دونه ، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا ، وسهونا من

__________________

(١) من لا يحضر الفقيه ١ : ٣٥٨ ، ومن قوله : « وانّما فعل ذلك ... الخ » يمكن أن يكون من تتمّة الخبر ، ويمكن أن يكون من كلام المصنّف.

(٢) في ب : مبني.

(٣و ٤) من المصدر.

(٥) كذا في النسخ ، وفي المصدر : يُأخذ ربّاً معبوداً.

٦٨

الشيطان وليس للشيطان (١) على النبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام سلطانٌ ، ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) (٢) وعلى من تبعه من الغاوين.

ويقول الدافعون لسهو النبيّ صلّى الله عليه وآله : إنّه لم يكن في الصحابة من يقال له : ذو اليدين ، وإنّه لا أصل للرجل ولا للخبر ، وكذبوا ! لأنّ الرجل معروف وهو أبو محمد عمير بن عبد عمرو المعروف بذي اليدين فقد نقل عنه المخالف والمؤالف ، وقد أخرجت عنه أخباراً في كتاب وصف [ قتال ] (٣) القاسطين بصفّين.

وكان شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد يقول : أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبيّ صلّى الله عليه وآله.

فلو جاز أن تردّ الأخبار الواردة في هذا المعنى ، لجاز أن تردّ جميع الأخبار ! وفي ردّها إبطال الدِّين والشريعة ، وأنا أحتسب الأجر في تأليف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلّى الله عليه وآله والردّ على منكريه إن شاء الله تعالى. (٤) « انتهى كلام ابن بابويه ».

__________________

(١) في د : الشيطان.

(٢) سورة النحل : ١٠٠ ، وذكر الآية هنا لا يناسب المقام لأنّها قي شأن الفسّاق أو الكفّار الذين يتولّونه ، ويفهم من كلام المصّف في ذكر الآية انّ السهو الشيطاني لا يكون إلاّ ممّن يتّخذ الشيطان له وليّاً مع انّ العلماء من المؤمنين يعرض لهم الشكّ في الصلاة ولم يتّخذوا الشيطان لهم وليّاً.

(٣) من المصدر.

(٤) راجع من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٥٨ ـ ٣٦٠.

أقول : خلاصة كلام الصدوق قدّس سرّه أن ما يجوز السهو عليه إسهاه الله إيّاه لمصلحة كنفي الربوبيّة عنه حتى لا يُتّخذ ربّاً ، وإثبات انّه بشر مخلوق ، وإعلام الناس حكم سهوهم في العبادات

٦٩

وهو كما ترى ضعيف جداً لما يأتي بيانه ان شاء الله.

ونقله الشيخ المفيد رحمه الله في أوّل رسالته ، ثمّ ذكر بعده الكلام الذي نقلناه سابقاً.

واعلم إنّ الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان ، عند قوله تعالى : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ـ إلى قوله ـ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ ) (١) نقل عن الجبائي أنّه قال : في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء.

ثمّ قال الطبرسي : وهذا [ القول ] (٢) غير صحيح ، لأنّ الإمامية لا يجوّزون السهو عليهم فيما يؤدّونه عن الله ، فأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل. (٣) « انتهى ».

وأقول : نقل الجبائي عن الإمامية صحيح كما عرفت ، ولم يعتبر قول من شذّ منهم ، واعتراض الطبرسي عليه حاصله :

إنّ الإمامية غير مجمعين على ذلك ، بل جوّز بعضهم السهو والنسيان فيجب حمل قوله : جوّزوا ، على معنى جوّز بعضهم ، وإلاّ كان الكلام غير

__________________

وأمثاله ، وأما السهو الذي يعترينا فإنّه من الشيطان ، والرسول صلّى الله عليه وآله منزّه عن ذلك ، وليس للشيطان عليه سلطان ولا سبيل ، فالسهو عند الصدوق نوعين نوع من الشيطان وهو مختص ببني البشر باستثناء المعصومين ، وسهو من الله والذي يشمل المعصومين وغيرهم لمصلحة يقدّرها الله سبحانه وتعالى.

(١) سورة الأنعام : ٦٨.

(٢) ليس في د.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٣١٧.

٧٠

صحيح كما لا يخفى.

ثمّ أنّه لم يصرّح الطبرسي بجواز ذلك في هذا الكلام كما ترى ، مع انّ الآية محتملة لكون الخطاب عاماً كما في ( وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا ) (١) أو الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله ، والمراد غيره كما في قوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (٢).

ويحتمل كون النسيان بمعنى الترك (٣) ، وابن بابويه أيضاً لابدّ من تأويله للآية كما يأتي إن شاء الله.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٧ و ٣٠.

(٢) سورة الزمر : ٦٥.

(٣) وهو إحتمال بعيد لا يوافق سياق الآية ومعناها.

٧١
٧٢

الفصل الثالث

في ذكر جملة ممّا يدلّ على نفي السهو والشك والنسيان عن النبي والائمة عليهم السلام

وبطريق العموم والإطلاق الشامل للعبادة وغيرها ، من الآيات القرآنيّة ، وحجّيتها على العصمة وغيرها معلومة. وذلك ممكن من آيات كثيرة ، بعضها دالّ مع ضميمة مقدّمة اُخرى ثابتة ، أو رواية اُخرى معتمدة ، ولنقتصر من ذلك على اثني عشر آية :

الاُولى : قوله تعالى :

( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (١).

قال رئيس المفسّرين أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي قدّس سرّه في كتاب مجمع البيان :

الاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر ، وهو افتعال من الصفوة ، وهذا من

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٣.

٧٣

أحسن (١) البيان الّذي يمثّل به المعلوم بالمولى (٢) ، وذلك أنّ الصافي هو الخالص (٣) من شوائب الكدر فيما يشاهد ، فمثّل الله خلوص هؤلاء القوم من الفساد ظاهراً وباطناً بخلوص الصافي من شوائب الأدناس ـ إلى أن قال ـ وآل عمران ؛ قيل : هم آل إبراهيم وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام وآل محمد. وقالوا أيضاً : آل إبراهيم : آل محمد ، ويجب ان يكونوا معظّمين ، معصومين ، منزّهين عن القبائح والنقص ، لأنّ الله لا يختار الأمر يكون كذلك (٤) ، ويكون ظاهره مثل باطنه في الطهارة والعصمة.

وفي الآية دلالة على تفضيل الأنبياء على الملائكة ، لأنّ العالمين يعمّ الملائكة وغيرهم من المخلوقات ، والله سميع لما تقوله الذرّيّة ، عليم بما يضمرونه ، فلذلك فضّلهم على غيرهم لما في معلومه من استقامتهم في أفعالهم وأقوالهم. (٥) « انتهى ».

أقول : والاستدلال بالآية من وجوه.

أحدها : دلالتها على العصمة التي يلزمها وجوب اتّباعهم في أقوالهم وأفعالهم.

وثانيها : استلزامها لاستحالة الخطأ عليهم مطلقاً.

وثالثها : دلالتها على طهارة ظاهرهم وباطنهم ، كما ذكر ، وصفائهم

__________________

(١) في د : من حسن.

(٢) في د : بالمرئي.

(٣) كذا في النسخ ، وفي المصدر : النقي.

(٤) كذا في النسخ : وفي المصدر : ولا يصطفي إلاّ من كان كذلك.

(٥) مجمع البيان ٣ : ٤٣٣.

٧٤

عن [جميع ] (١) شوائب الكدر ، فلا يتطرّق إليهم سهو ولا نسيان ، لعدم سببه وموجبه.

ورابعها : أنّ الاستقامة في الأقوال والأفعال الذي يستفاد من الآية ينافيه تجويز السهو ، لأنّه يستلزم عدم استقامة الأفعال والأقوال ، إذ صلّى الصلاة ركعتين على قولهم ، وسلّم وتكلّم وترك ركعتين واجبتين ، وأين هذا من الاستقامة ؟

الثانية : قوله تعالى :

( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (٢).

دلّت على وجوب متابعته عليه السلام في أفعاله وأوامره وأقواله ، فلو جاز عليه السهو لوجبت متابعته فيه ، وهو باطل قطعاً وأقلّه أنّه يلزم جواز المتابعة ، وبطلانه أيضاً واضح على أنّه لو جاز السهو لاحتمل كلّ من أفعاله وأقواله ذلك ، فلا يكون حجّة أصلاً ، وهو ظاهر الفساد اتّفاقاً وخلاف مدلول الآية قطعاً ومناف لوجوب العصمة في النبي والإمام.

الثالثة : قوله تعالى :

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) (٣).

استدلّ بعض علمائنا بها على وجوب الاقتداء بالنبيّ صلّى الله عليه وآله ،

__________________

(١) ليس في ج.

(٢) سورة آل عمران : ٣١.

(٣) سورة الأحزاب : ٢١.

٧٥

ومطلبنا حاصل وإن لم تثبت تلك المقدّمات لصراحتها في حسن الاقتداء به وترجيحه ، ولو احتمل فعله السهو لما جاز الاقتداء به عموماً ، بل مطلقاً ولا كان فعله حجّة على الجواز ، ولا تركه حجّة على نفي الوجوب مع انّ فعله كلّه نوع من التبليغ ، فانّ عبادته لا يتميّز منها ما هو تبلغ عن غيره ، بل ينبغي الجزم بأنّ جميعها تبليغ ، وإلاّ لما علم دوام التكليف.

الرابعة : قوله تعالى :

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١).

وهي دالّة على عصمتهم بالوجوه المقرّرة في الاُصول والتفاسير والروايات الكثيرة من العامّة والخاصّة باختصاصها بأهلها (٢) ، وهي شاملة للتطهير من كلّ عيب ونقص وكذب وخطأ وغلط ، ومنافية لحديث ذي الشمالين كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الخامسة : قوله تعالى :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٣).

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٢.

(٢) من الكتب التي ذكرت اختصاص الآية بأهل البيت عليهم السلام راجع على سبيل المثال : مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ و٣ : ٢٨٥، تفسير الطبري ٢٢ : ٦، اسد الغابة ٥ : ٥٢١ وج ٥ : ١٧٦ ، الدر المنثور ٥ : ١٩٩ ، كنز العمّال ٥ : ٩٦، مشكل الآثار ١ : ٣٣٢ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٧٢ ، كفاية الطالب : ٩٣ ، مقاتل الطالبيين : ٥١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ١١ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٤٦ ، الجامع الصحيح ٥ : ٣٦٠ ، تفسير ابن كثير ٣ : ٤٨٣ ، سنن البيهقي ٢ : ١٥٢ ، المناقب لابن المغازلي : ٣٠١ ، أسباب النزول : ٢٣٩ ، ذخائر العقبى : ٢١ ، شواهد التنزيل ٢ : ١٠ ـ ٩٢ ، فضائل الخمسة ١ : ٢٢٤ ، الصواعق المحرقة : ١٤٣ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٢٩٧ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٢٧٨ ، الرياض النضرة ٢ : ١٨٨ ، الاستيعاب ٢ : ٥٩٨ ، مسند أبي داود ٨ : ٢٧٤ ، رشفة الصادي : ١٢.

(٣) سورة النجم : ٣ و ٤.

٧٦

دلّت على إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله لا ينطق إلاّ عن وحي ، فيستحيل أن يسلّم في الصلاة في غير محلّه ، ثمّ يتكلّم قبل تمام صلاته ، ثمّ يكذّب ذا الشمالين وهو صادق على قولكم ، ثمّ يعترف بخطأه ، وكلّ ذلك ينافي مدلول الآية.

السادسة : قوله تعالى :

( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١).

دلّت على وجوب التسليم والانقياد لأقواله وأفعاله وجه العموم والإطلاق ، فلو جاز السهو لاحتمل كلّ فعل وقول ذلك ، ومنافاته لمدلول الآية واضح ، ومنافاة حديث ذي الشمالين له أوضح.

السابعة : قوله تعالى :

( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (٢).

روى الطبرسي وغيره من طرق العامّة والخاصّة أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنّه قال : « ما سمعت شيئاً من رسول الله صلّى الله عليه وآله فنسيته » (٣).

وهذا عام مطلق في التبليغ وغيره ، فيستحيل النسيان على النبي صلّى الله عليه وآله بطريق الأولويّة مع الوجوه السابقة والآتية.

الثامنة : قوله تعالى :

__________________

(١) سورة الحشر : ٧.

(٢) سورة الحاقة : ١٢.

(٣) مجمع البيان ٢٩ : ٣٤٥ ، عنه بحار الأنوار ٧ : ٨٢ ـ ٨٥.

٧٧

( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ) (١).

وهي عامّة ، فإنّ المفعول لا يتعيّن تقديره بالقراءة ، ولا قائل بالفرق بين ما قبل نزول الآية وقبل القراءة وما بعدها ، فالفارق خارق للاجماع.

التاسعة : قوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٢).

روي في عدّة أحاديث إنّ المراد التسليم له صلّى الله عليه وآله والانقياد لأقواله وأفعاله ودلالته ، ذلك على المراد ظاهرة ممّا مرّ وأدلّـة التسليم من القرآن الحديث كثيرة ولو جاز السهو لنا في وجوب التسليم.

العاشرة : قوله تعالى :

( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) (٣) الآية.

ودلالتها ظاهرة ممّا مرّ.

الحادية عشرة : قوله تعالى :

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (٤).

ودلالتها أوضح ممّا تقدّم.

__________________

(١) سورة الأعلى : ٦.

(٢) سورة الأحزاب : ٥٦.

(٣) سورة الأعراف : ١٥٦ و ١٥٧.

(٤) سورة الأعراف : ١٥٨.

٧٨

الثانية عشرة : قوله تعالى :

( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) (١).

ولو كان الرسول صلّى الله عليه وآله سهى في صلاته لدخل في هذا التهديد والذمّ ، وهو محال.

وأمّا مثل قوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (٢) ، فقد نقل الطبرسي رحمه الله ، عن ابن عبّاس ، إنّ معناه : فترك (٣).

وروى الكليني رحمه الله هذا المعنى في حديث طويل عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « إنّما هو : فترك » ، وذلك في باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية (٤) ، وفي غيره من المواضع أيضاً (٥).

فتأويلهم عليهم السلام للنسيان هنا بالترك ، مع أنّه لا تعلّق له بالتبليغ دالّ على ما قلناه ، ومناف لجواز النسيان على المعصوم ، مضافاً إلى ما مضى ويأتي مع عدم ما يدلّ على الاثبات صريحاً.

ومثلها قوله تعالى حكاية عن موسى : ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (٦).

وقوله تعالى حكاية عن فتاة : ( فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ

__________________

(١) سورة الماعون : ٤ و ٥.

(٢) سورة طه : ١١٥.

(٣) مجمع البيان ١٦ : ٣٢.

(٤) الكافي ١ : ٤١٦ ـ ٤٣٦.

(٥) الكافي ٢ : ٨ ح ١.

(٦) سورة الكهف : ٧٣.

٧٩

الشَّيْطَانُ ) (١).

فقد روى المفسّرون المحدّثون إنّ المراد في الآيتين بالنسيان : الترك (٢) ، وهو دالّ على ما قلناه ، ولا شكّ أنّه أحد معانيه اللغوية ، فيجب الحمل عليه هنا لما مضى ، ويأتي.

والعجب ممّن يتأوّل جميع الآيات والروايات المنافية بظاهرها للعصمة ، ثمّ يتوقّف في مثل هذا مع وضوحه وظهورها وقرب تأويله جداً ، والآية الأخيرة لابدّ من تأويلها على قول ابن بابويه أيضاً ؛ أمّا بأن يقول : فتاه غير معصوم ، وأمّا بأن يقول : المراد ما ألزمني بتركه عمداً اشتغالي بمجاهدة الشيطان ، وأنّما كان التأويل لازماً لابن بابويه أيضاً ، لأنّه لا يجوزعليهم السهو والنسيان الحاصلين من الشيطان ، بل يقول : إنّ سهوهم من الله كما مرّ.

__________________

(١) سورة الكهف : ٦٣.

(٢) انظر : مفاتيح الغيب ٤ : ٩٢ ، أنوار التنزيل ٢ : ٥٩٨.

٨٠