زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي ، ولهم إمام عادل ، استخفافا بها أو جحودا لها ، فلا جمع الله شمله ، ولا بارك في أمره. ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حجّ له ، ألا ولا صوم له ، الا ولا بركة له حتّى يتوب».

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنّة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتاني جبرئيل وفي كفّه مرآة بيضاء ، وقال : هذه الجمعة يعرضها عليك ربّك لتكون لك عيدا ، ولأمّتك من بعدك ، وهو سيّد الأيّام عندنا ، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ لله في كلّ جمعة ستّمائة ألف عتيق من النّار».

وعن كعب : إنّ الله فضّل من البلدان مكّة ، ومن الشهور رمضان ، ومن الأيّام الجمعة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ، ووقي فتنة القبر».

وأيضا في الحديث : «إذا كان يوم الجمعة ، قعدت الملائكة على أبواب المسجد ، بأيديهم صحف من فضّة ، وأقلام من ذهب ، يكتبون الأوّل فالأوّل على مراتبهم».

وكانت الطرقات في أيّام السلف وقت السحر وبعد الفجر مختصّة بالمبكّرين إلى الجمعة ، يمشون بالسرج.

وقيل : أوّل بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة.

وعن ابن مسعود : أنّه بكّر فرأى ثلاثة نفر سبقوه ، فاغتمّ وأخذ يعاتب نفسه ويقول : أراك رابع أربعة ، وما رابع أربعة بسعيد.

واعلم أنّ العلماء أجمعوا على اشتراط العدد في الجمعة ، فقال الشافعي

٦١

وأحمد : أقلّهم أربعون. وأبو حنيفة : أربعة الامام أحدهم. ولم ينقل أصحاب مالك تقديرا. وأمّا أصحابنا فلهم قولان : أحدهما : سبعة ، والآخر خمسة. وهو قول الأكثر. وعليه أكثر الروايات المرويّة عن أهل البيت عليهم‌السلام. وبواقي الشروط الواجبة في صلاة الجمعة وأحكامها مذكورة في كتب الفقه ، فلا نطوّل الكلام بذكرها.

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي : أدّيتم صلاة الجمعة وفرغتم منها ، فإنّ اللام للعهد ، أي : الصلاة الّتي تقدّم ذكرها ، وهي الّتي وجب السعي إليها.

ثمّ أطلق لهم ما حظر عليهم لأجل الصلاة ، من الانتشار وابتغاء الربح بعد قضائها ، فقال :

(فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) فتفرّقوا فيها (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) واطلبوا الرزق في الشراء والبيع وغير ذلك. وهذا الأمر للإباحة. واحتجّ به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. وأقول : لا يبعد أن ينزّل هذا الأمر منزلة أحوال المكلّفين في وجوب الكسب وندبه وإباحته. وفي الحديث : «وابتغوا من فضل الله ليس بطلب الدنيا ، وإنّما هو عيادة مريض ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «الصلاة يوم الجمعة ، والانتشار يوم السبت».

وعن الحسن وسعيد بن جبير ومكحول : المراد بقوله : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) طلب العلم.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) واذكروه في مجامع أحوالكم على إحسانه إليكم بالتوفيق ، ولا تخصّوا ذكره بالصلاة.

وقيل : واذكروه في تجارتكم وأسواقكم ، كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه ، كتب له ألف حسنة ، ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم يخطر على قلب بشر».

٦٢

وقيل : المراد بالذكر هنا الفكر. وفي الحديث : «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة».

وعلى هذا ، فالمعنى : تفكّروا في صنائع الله وبدائعه ، على تقدير المضاف ، لأنّ التفكّر في ذاته تعالى منهيّ عنه ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تفكّروا في آلاء الله ، ولا تتفكّروا في ذات الله». وذلك لعجز العقول البشريّة عن إدراك ذاته تعالى وحقيقته. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بخير الدارين.

روي : أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقاموا إلى اشتراء الزيت بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه ، فما بقي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا يسير. قيل : ثمانية ، وأحد عشر ، واثنا عشر ، وأربعون. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفس محمّد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا». وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، فنزلت :

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) ما ألهى عن ذكر الله (انْفَضُّوا إِلَيْها) انتشروا من عندك متوجّهين إلى التجارة. وإفراد التجارة بردّ الكناية ، لأنّها المقصودة ، فإنّ المراد من اللهو والطبل الّذي كانوا يستقبلون به العير ، ولهذا قدّمها عليه. وقيل : تقديره : إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها ، وإذا رأوا لهوا انفضّوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. والترديد للدلالة على أنّ منهم من انفضّ لمجرّد سماع الطبل ورؤيته. أو للدلالة على أنّ الانفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما ، كان الانفضاض إلى اللهو أولى بذلك.

(وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي : على المنبر ، أو في الصلاة. ويؤيّد الأوّل أنّه سئل عن ابن مسعود : أكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب قائما؟ قال : أو ما تقرأ : (وَتَرَكُوكَ قائِماً)؟.

(قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) للمؤمنين من الثواب (خَيْرٌ) أحمد عاقبة ، وأنفع خاتمة

٦٣

(مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) فإنّ ذلك محقّق مخلّد ، بخلاف ما تتوهّمون من نفعهما.

قدّم التجارة أوّلا للترقّي ، إذ التقدير أوّلا : انفضّوا إلى التجارة مع حاجتهم إليها ، وذلك مذموم ، بل أبلغ من ذلك أنّهم انفضّوا إلى ما لا فائدة لهم فيه. وأخّر ثانيا ، لأنّ تقديره : ما عند الله خير من اللهو ، بل أبلغ من ذلك أنّه خير من التجارة المنتفع بها.

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فتوكّلوا عليه ، واطلبوا الرزق منه ، ولا تنفضّوا عن الرسول لطلب الرزق.

٦٤

(٦٣)

سورة المنافقون

مدنيّة. وهي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة المنافقين برىء من النفاق».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))

ولمّا ختم الله سبحانه سورة الجمعة بما هو من علامات النفاق ، من ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائما في الصلاة أو في الخطبة ، والاشتغال باللهو وطلب الارتفاق ، افتتح هذه السّورة بذكر المنافقين ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ)

٦٥

شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم ، فإنّ الشهادة إخبار عن علم من الشهود ، وهو الحضور والاطّلاع ، ولذلك صدّق الله تعالى المشهود به وكذّبهم في الشهادة بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) على الحقيقة ، وكفى بالله شهيدا (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في قولهم : نشهد ، وادّعائهم فيه المواطاة ، لأنّهم لم يعتقدوا ذلك. أو لأنّ قولهم لمّا خلا عن المواطاة لم يكن شهادة في الحقيقة ، فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو إنّهم لكاذبون عند أنفسهم ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. ولمّا كان الاكتفاء بقوله :

(نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) يوهم أنّ قولهم هذا كذب ، وسّط بينهما قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ليميط هذا الإيهام.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) حلفهم الكاذب ، أو شهادتهم هذه ، فإنّها تجري مجرى الحلف في التوكيد ، كقولك : أشهد بالله وأعزم بالله في موضع : أقسم (جُنَّةً) وقاية من القتل والسبي (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صدّا أو صدودا عن الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من نفاقهم وصدّهم النّاس عن سبيل الله أو صدودهم.

(ذلِكَ) إشارة إلى سوء عملهم ، أي : ذلك القول الشاهد بأنّهم أسوأ الناس أعمالا. أو إلى حالهم المذكورة ، من النفاق والكذب والاستجنان بالإيمان.

(بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) بسبب أنّهم نطقوا بكلمة الشهادة ، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام (ثُمَّ كَفَرُوا) ثمّ ظهر كفرهم بعد ذلك وتبيّن بما اطّلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن حمير. وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات. ونحوه قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) (١) أي : ظهر كفرهم بعد أن أسلموا.

__________________

(١) التوبة : ٧٤.

٦٦

ونحوه قوله : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) (١). والمعنى : نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثمّ كفروا حيثما سمعوا من شياطينهم شبهة. أو نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام ، كقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (٢).

(فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) خذلانا وتخلية ، فمنع اللطف والتوفيق منهم ، لفرط عنادهم وجحودهم ، مع ظهور الحقّ عندهم ، حتّى تمرّنوا على الكفر فاستحكموا فيه ، فجسروا فيه على كلّ عظيمة (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حقيقة الإيمان ، ولا يعرفون صحّته.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

روي : أنّ عبد الله بن أبيّ كان جسيما صبيحا فصيحا ذلق (٣) اللسان ، يحضر مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جمع من المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيستندون فيه ، ولهم جهارة (٤) المناظر وفصاحة الألسن ، فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ، ويسمعون إلى

__________________

(١) التوبة : ٦٦.

(٢) البقرة : ١٤.

(٣) لسان ذلق : طلق ذو حدّة.

(٤) الجهارة : حسن القدّ والمنظر.

٦٧

كلامهم ، فقال سبحانه :

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لضخامتها وصباحتها. والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لكلّ من يخاطب. (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لذلاقتهم وحلاوة كلامهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) حال من الضمير المجرور في «لقولهم» أي : تسمع لما يقولونه مشبّهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط ، في كونهم أشباحا خالية عن العلم والنظر والإيمان وإذاعة الخير.

وقيل : شبّهوا بالخشب. لأنّه إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظانّ الانتفاع ، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبّهوا به في عدم الانتفاع.

ويجوز أن يراد بالخشب المسنّدة : الأصنام المنحوتة من الخشب المسنّدة إلى الحيطان. شبّهوا بها في حسن صورهم وقلّة جدواهم.

وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل عن ابن كثير بسكون الشين على التخفيف ، أو على أنّه كبدن جمع بدنة.

وقيل : الخشب جمع الخشباء ، وهي الخشبة الّتي دعر (١) جوفها. شبّهوا بها في حسن المنظر وفساد الباطن.

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ) من نحو انفلات دابّة ، أو إنشاد ضالّة ، أو نداء مناد في العسكر ، أو صيحة أحدهم بصاحبه (عَلَيْهِمْ) أي : واقعة عليهم وضارّة لهم ، لجبنهم واتّهامهم. وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ، ويبيح دماءهم وأموالهم. فـ «عليهم» ثاني مفعولي «يحسبون». ويجوز أن يكون صلته ، والمفعول (هُمُ الْعَدُوُّ). وعلى هذا يكون الضمير للكلّ. وجمعه بالنظر إلى الخبر. لكن ترتّب قوله : (فَاحْذَرْهُمْ) عليه يدلّ على أنّ الضمير للمنافقين.

__________________

(١) دعر العود : نخر وفسد.

٦٨

(قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم ، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم. أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحقّ؟ تعجّبا من جهلهم وضلالتهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

قال في الكشّاف : «روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع ـ وهو ماء لهم ـ وهزمهم وقتل منهم ، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد ـ أجير لعمر يقود فرسه ـ وسنان الجهني ـ حليف لعبد الله بن أبيّ ـ واقتتلا ، فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين ، وسنان : يا للأنصار. فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ، ولطم سنانا.

فقال عبد الله لجعال : وأنت هناك. وقال : ما صحبنا محمّدا إلّا لنلطم ، والله ما مثلنا ومثلهم إلّا كما قيل : سمّن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. عنى بالأعزّ نفسه ، وبالأذلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦٩

ثم قال لقومه : ما ذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم ، فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد.

فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغّض في قومك ، ومحمّد في عزّ من الرحمان وقوّة من المسلمين.

فقال عبد الله : اسكت فإنّما كنت ألعب.

فأخبر زيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله.

قال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب.

قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجريّ فأمر به أنصاريّا.

فقال : فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه.

وقال عليه‌السلام لعبد الله : أنت صاحب الكلام الّذي بلغني؟

قال : والله الّذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك ، وإنّ زيدا لكاذب.

فقال الحاضرون : يا رسول الله شيخنا وكبيرنا ، لا تصدّق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم.

وروي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لزيد : لعلّك غضبت عليه.

قال : لا.

قال : فلعلّه أخطأ سمعك.

قال : لا.

قال : فلعلّه شبّه عليك.

قال : لا.

ولمّا أراد عبد الله أن يدخل المدينة اعترضه ابنه حباب ـ وهو عبد الله بن

٧٠

عبد الله ، غيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسمه ، وقال : إنّ حبابا اسم شيطان ـ وكان مخلصا ، وقال لأبيه : وراءك والله لا تدخلها حتّى تقول : رسول الله الأعزّ وأنا الأذلّ. فلم يزل حبيسا في يده حتّى أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخليته.

وروي : أنّه قال له : لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعزّ لأضربنّ عنقك.

فقال : ويحك أفاعل أنت؟

قال : نعم.

فلمّا رأى منه الجدّ قال : أشهد أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.

فقال رسول الله لابنه : جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا» (١).

وروي : أنّه لمّا بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك. فلوى رأسه ، ثمّ قال : أمرتموني أن أومن فآمنت ، وأمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت ، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد. فنزلت فيه :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) عطفوها إعراضا واستكبارا عن ذلك. وقرأ نافع بتخفيف الواو. (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون عن الاستغفار (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتذار.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي : يتساوى الاستغفار لهم وعدم الاستغفار. وعن الحسن : أخبره سبحانه أنّهم يموتون على الكفر فلم يستغفر لهم. (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لرسوخهم في كفرهم وإن أظهروا الإسلام (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن مظنّة الاستصلاح ، لانهماكهم في الكفر والنفاق.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) أي : للأنصار (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من المؤمنين المحتاجين (حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرّقوا ، يعنون فقراء المهاجرين (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بيده الأرزاق والقسم ، فهو رازقهم منها وإن أبى أهل

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٤١ ـ ٥٤٣.

٧١

المدينة أن ينفقوا عليهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ) عبد الله وأضرابه (لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بالله ، فيهذّون (١) بما يزيّن لهم الشيطان.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) من غزوة بني المصطلق (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) يعنون أعزّهم بإنفاق الأموال (مِنْهَا الْأَذَلَ) يعنون رسول الله والمؤمنين (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) القوّة والغلبة (وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ولمن أعزّه الله من رسوله والمؤمنين به. وهم الأخصّاء بذلك ، كما أنّ المذلّة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.

وقيل : لله العزّة بالربوبيّة ، ولرسوله بالنبوّة ، وللمؤمنين بالعبوديّة.

وقيل : عزّ الله خمسة : عزّ الملك والبقاء ، وعزّ العظمة والكبرياء ، وعزّ البذل والعطاء ، وعزّ الرفعة والعلاء ، وعزّ الجلال والبهاء.

وعزّ الرسول خمسة : عزّ السبق والابتداء ، وعزّ الأذان والنداء ، وعزّ تقدّمه على الأنبياء ، وعزّ الاجتباء والاصطفاء ، وعزّ الظهور على الأعداء.

وعزّ المؤمنين خمسة : عزّ التأخير. بيانه : نحن الآخرون السابقون. وعزّ التيسير. بيانه : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) (٢). (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (٣). وعزّ التبشير. بيانه : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (٤). وعزّ التوقير. بيانه : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) (٥). وعزّ التكثير. بيانه أنّهم أكثر الأمم.

(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) من فرط جهلهم وغرورهم.

__________________

(١) أي : يلهجون وينطقون.

(٢) القمر : ١٧.

(٣) البقرة : ١٨٥.

(٤) الأحزاب : ٤٧.

(٥) آل عمران : ١٣٩.

٧٢

وعن الحسن بن عليّ عليه‌السلام : «أنّ رجلا قال له : إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها.

قال : ليس بتيه ، ولكنّه عزّة. وتلا هذه الآية».

ولمّا نزلت هذه الآية لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيدا من خلفه فعرك (١) أذنه وقال : «وفت أذنك يا غلام ، إنّ الله صدّقك وكذّب المنافقين».

وروي : أنّ ابن أبيّ بعد نزول هذه الآية لم يلبث إلّا أيّاما قلائل حتّى مرض ومات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

ثمّ أمر سبحانه المؤمنين بإنفاق الأموال في مرضاته ، بعد أن ذمّ المنافقين على ترك الإنفاق ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ) لا يشغلكم التصرّف في أموالكم ، والسعي في تدبير أمرها ، والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال ، ولا ابتغاء النتاج ، والتلذّذ بها ، والاستمتاع بمنافعها. (وَلا أَوْلادُكُمْ) وسروركم بهم ،

__________________

(١) أي : دلكه وحكّه.

٧٣

وشفقتكم عليهم ، والقيام بمؤنهم ، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم ، في حياتكم وبعد مماتكم (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وإيثاره عليها. قيل : هو الصلوات الخمس. وعن الحسن : جميع الفرائض. وقيل : القرآن. وعن الكلبي : الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والأولى : جميع العبادات ، فإنّها تذكرة للمعبود. والمراد نهيهم عن اللهو بها ، وتوجيه النهي إليها للمبالغة. ولذلك قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : اللهو والشغل (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في تجارتهم ، لأنّهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) بعض أموالكم ادّخارا للآخرة. والمراد الإنفاق الواجب منه. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي : يرى دلائله ، ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ، ويضيق به الخناق ، ويتعذّر عليه الإنفاق ، ويفوت وقت القبول ، فيتحسّر على المنع ، ويعضّ أنامله على فقد ما كان متمكّنا منه (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) أمهلتني (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أمد غير بعيد (فَأَصَّدَّقَ) فأتصدّق (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بالتدارك. وجزم «أكن» للعطف على موضع «فأصّدّق». كأنّه قيل : إن أخّرتني أصّدّق وأكن. وقرأ أبو عمرو : وأكون منصوبا ، عطفا على : فأصّدّق.

وعن ابن عبّاس : تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ، ولا ينفع عمل.

وعنه : ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكّي ، وإذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت ، فيسأل ربّه الكرّة فلا يعطاها.

وكذا عن الحسن : ما من أحد لم يزكّ ولم يصم ولم يحجّ إلّا سأل الرجعة.

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) ولن يمهلها (إِذا جاءَ أَجَلُها) آخر عمرها (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجاز عليه. وقرأ أبو بكر بالياء ليوافق ما قبله في الغيبة.

والمعنى : أنّهم إذا علموا أنّ تأخير الموت عن وقته ممّا لا سبيل إليه ، وأنّه هاجم لا محالة ، وأنّ الله عليم بأعمالهم ، فمجاز عليها ، من منع واجب وغيره ، لم تبق إلّا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات ، والاستعداد للقاء الله.

٧٤

(٦٤)

سورة التغابن

مدنيّة. وقال ابن عبّاس : مكّيّة غير ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) إلى آخر السورة. وهي ثماني عشرة آية بالإجماع.

بيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة».

ابن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة ، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها ، ثمّ لا تفارقه حتى يدخل الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ

٧٥

صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))

ولمّا ختم سبحانه سورة المنافقين بذكر الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ، افتتح هذه السورة ببيان حال المطيع والعاصي ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بدلالتهما على كماله واستغنائه (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) قدّم الظرفين للدلالة على اختصاص الأمرين به من حيث الحقيقة ، لأنّ الملك على الحقيقة له ، لأنّه مبدئ كلّ شيء ومبدعه ، والقائم به والمهيمن عليه. وكذلك الحمد ، لأنّ أصول النعم وفروعها منه.

وأمّا ملك غيره فتسليط منه واسترعاء ، وحمده اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يده. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأنّ نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكلّ على سواء.

ثمّ شرع فيما ادّعاه ، فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ) أي : آت بالكفر وفاعل له (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١). والدليل عليه قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي : عالم بكفركم وإيمانكم اللّذين هما من عملكم فيعاملكم بما يناسب أعمالكم.

والمعنى : هو الّذي تفضّل عليكم بأصل النعم الّذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين.

فما فعلتم مع تمكّنكم ، بل تشعّبتم شعبا ، وتفرّقتم أمما ، فمنكم كافر ومنكم مؤمن.

__________________

(١) الحديد : ٢٦.

٧٦

وقدّم الكفر لأنّه الأغلب عليهم والأكثر فيهم.

وقيل : هو الّذي خلقكم ، فمنكم كافر بالخلق وهم الدهريّة ، ومنكم مؤمن به.

ولا يجوز حمل الكلام على أنّ الله سبحانه خلقهم مؤمنين وكافرين كما هو مذهب الأشاعرة ، لأنّه لم يقل كذلك ، بل أضاف الكفر والإيمان إليهم وإلى فعلهم ، ولذلك يصحّ الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وبعثة الأنبياء. على أنّ الله سبحانه لو جاز أن يخلق الكفر والقبائح لجاز أن يبعث رسولا يدعو إلى الكفر والضلال ، ويؤيّده بالمعجزات ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. هذا وقد قال سبحانه : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١). وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة ، وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكاية عن الله سبحانه : «خلقت عبادي كلّهم حنفاء».

ونحو ذلك من الأخبار كثير.

إن قيل : سلّمنا أنّ العباد هم الفاعلون للكفر ، ولكن قد سبق في علم الله الحكيم أنّه إذا خلقهم لم يفعلوا إلّا الكفر ، ولم يختاروا غيره ، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلّا واحد؟ وهل مثله إلّا مثل من وهب سيفا باترا (٢) لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرّمة ، فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذمّ الواهب للسيف وتعنيفه كما يذمّون القاتل؟

بل قصدهم باللوائم على الواهب أشدّ؟

قلنا : قد علمنا أنّ الله حكيم ، عالم بقبح القبيح ، عالم بغناه عنه ، فقد علمنا أنّ أفعاله كلّها حسنة ، وخلق فاعل القبيح فعله ، فوجب أن يكون حسنا ، وأن يكون له وجه حسن. وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه ، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها.

__________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) أي : قاطعا.

٧٧

ويدلّ على حسن أفعاله قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بالحكمة البالغة والغرض الصحيح ، وهو أن جعلها مقارّ المكلّفين ومقابرهم ، ليعلموا ويعملوا فيجازيهم (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فجعلكم أحسن الحيوان كلّه وأبهاه ، بدليل أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى في سائر الصور ، ومن حسن صورته أنّه خلق منتصبا غير منكب ، وزيّنه بصفوة أوصاف الكائنات ، وخصّه بخلاصة خصائص المبدعات ، وجعله أنموذج جميع المخلوقات. ولا ينافيه أنّ في جملتهم من هو مشوّه الصورة سمج الخلقة ، لأنّ الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب ، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بيّنا لا يخرج عن حدّ الحسن لا تستملح. ألا ترى أنّك قد تعجب بصورة وتستملحها ، ثمّ ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن ، فينبو عن الأولى طرفك ، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها. وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال ، والبيان.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) نبّه بعلمه ما في السّماوات والأرض ، ثمّ بعلمه ما يسرّه العباد ويعلنونه ، ثمّ بعلمه ذوات الصدور ، أن لا شيء من الكلّيّات والجزئيّات خاف عليه ولا عازب عنه ، فحقّه أن يتّقى ويحذر ، ولا يجترأ على شيء ممّا يخالف رضاه.

وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد. وكلّ ما ذكره بعد قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) كما ترى في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ، ويجعله من جملته ، والخلق أعظم نعمة من الله على عباده ، والكفر أعظم كفران من العباد لربّهم.

وتقديم تقرير القدرة على العلم ، لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته أوّلا وبالذات ، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.

٧٨

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

ثمّ أخبر سبحانه أنّ الأمم الماضية جوزوا بأعمالهم ترغيبا على الإيمان وأنواع الطاعات ، وترهيبا عن الكفر وسائر المعصيات ، فقال : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيّها الكفّار (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) كقوم نوح وهود وصالح عليهم‌السلام (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) ضرر كفرهم في الدنيا. وأصله الثقل. ومنه : الوبيل لطعام يثقل على المعدة. والوابل : المطر الثقيل الأمطار. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

(ذلِكَ) أي : المذكور من الوبال في الدنيا ، والعذاب في العقبى (بِأَنَّهُ) بسبب أنّ الشأن والحديث (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الواضحات (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أنكروا وتعجّبوا من أن يكون الرسل بشرا ، ولم ينكروا أن يكون المعبود حجرا. والبشر يطلق على الواحد والجمع. (فَكَفَرُوا) بالرسل (وَتَوَلَّوْا) عن التدبّر في البيّنات (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن كلّ شيء ، فضلا عن طاعتهم. فأطلق ليتناول كلّ شيء ، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن عبادتهم وغيرها (حَمِيدٌ) يدلّ على حمده كلّ مخلوق.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا

٧٩

وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

ثمّ حكى سبحانه ما يقوله الكفّار بقوله : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أهل مكّة (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) الزعم ادّعاء العلم ، ولذلك يتعدّى إلى مفعولين تعدّي العلم. قال : ولم أزعمك عن ذاك معزلا. (١) وقد قام مقامهما «أنّ» مع ما في حيّزه. (قُلْ بَلى) إثبات لما بعد «لن» ، وهو البعث ، أي : بلى تبعثون (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) قسم أكّد به الجواب (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) بالمحاسبة والمجازاة (وَذلِكَ) البعث والحشر (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل هيّن لا يصرفه عنه صارف ، لقبول المادّة وحصول القدرة التامّة.

__________________

(١) وصدره :

وإنّ الّذي قد عاش يا أم مالك

يموت ولم أزعمك ...

يعني : أنّ كلّ حيّ وإن طال عمره يموت ، ولم أظنّك يا أمّ مالك بمعزل عن الموت.

٨٠