زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

وجعل طاعته طاعته في قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١). (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (٢). وصلّى عليه في ملائكته ، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه ، وخاطبه بالألقاب ، كرسول الله ونبيّ الله. ومنه : ذكره في كتب الأوّلين ، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به.

وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية قال : «قال لي جبرئيل : قال الله تعالى : إذا ذكرت ذكرت معي».

وفي هذا يقول حسّان بن ثابت يمدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أغرّ عليه للنبوّة خاتم

من الله مشهور يلوح ويشهد

وضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمّد

وإنّما زاد ذلك ليكون إبهاما قبل إيضاح ، فيفيد المبالغة ، فإنّه لمّا قيل : «ألم نشرح لك» فهم أنّ ثم مشروحا ، ثمّ قيل : «صدرك» فأوضح ما علم مبهما. وكذلك «لك ذكرك» و «عنك وزرك».

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) كضيق الصدر ، والوزر المنقض للظهر ، وضلال القوم وإيذائهم (يُسْراً) كالشرح ، والوضع ، والتوفيق للاهتداء والطاعة. فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يغمّك. وتنكيره للتعظيم ، كأنّه قيل : إنّ مع العسر يسرا عظيما وأيّ يسر. ومعنى المصاحبة المفهومة من «مع» المبالغة في معاقبة اليسر للعسر.

والمعنى : إنّ الله يصيبهم بيسر بعد العسر الّذي كانوا فيه بزمان قريب جدّا. فقرّب اليسر المترقّب حتّى جعله كالمقارن للعسر ، زيادة في التسلية ، وتقوية للقلوب. فاتّصاله به اتّصال المتقاربين.

__________________

(١) النساء : ١٣.

(٢) المائدة : ٩٢.

٤٦١

(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تكرير للتأكيد ، لتقرير معناه في النفوس ، وتمكينه في القلوب. أو استئناف وعدة بأنّ العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة ، كقوله عليه‌السلام : «إنّ للصائم فرحتين : فرحة عند الإفطار ، وفرحة عند لقاء الربّ».

وعليه قوله عليه‌السلام : «لن يغلب عسر يسرين».

وقوله عليه‌السلام : «والّذي نفسي بيده ، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر».

وما رواه عطاء عن ابن عبّاس : قال الله تعالى : خلقت عسرا واحدا ، وخلقت يسرين ، فإنّ مع العسر يسرا وإنّ مع العسر يسرا. فإنّ العسر معرّف فلا يتعدّد ، سواء كان للعهد ـ وهو العسر الّذي كانوا فيه ـ فهو هو ، أو للجنس الّذي يعلمه كلّ أحد فهو هو أيضا. و «يسرا» منكر ، فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأوّل.

ولمّا عدّد سبحانه عليه نعمه السالفة ، ووعده الآنفة ، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها ، وأن يواصل بين بعضها وبعض ، ويتابع ويحرص على أن لا يخلّي وقتا من أوقاته منها ، فقال :

(فَإِذا فَرَغْتَ) من التبليغ (فَانْصَبْ) في العبادة شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة ، ووعدناك من النعم الآتية. وعن الحسن : فإذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة. وعن ابن عبّاس : فإذا فرغت من الصلاة فاجتهد بالدعاء في دبرها. وهذا مرويّ عن الصادق عليه‌السلام. وعن مجاهد : فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) بالسؤال ، ولا تسأل غيره ، فإنّه القادر وحده على الإعانة والإغاثة.

٤٦٢

(٩٥)

سورة التين

مختلف فيها. وهي ثماني آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطاه الله خصلتين : العافية واليقين ، ما دام في دار الدنيا ، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم».

وعن البراء بن عازب قال : «سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في المغرب التين والزيتون ، فما رأيت إنسانا أحسن قراءة منه». رواه مسلم في الصحيح (١).

وروى شعيب العقرقوفي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قرأ والتين في فرائضه ونوافله أعطي من الجنّة حيث يرضى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٣٣٩ ح ١٧٧. وفيه : أحسن صوتا منه.

٤٦٣

ولمّا أمر الله سبحانه بالرغبة إليه في خاتمة سورة الانشراح ، افتتح هذه السورة بذكر أنّه الخالق المستحقّ للعبادة ، بعد أن أقسم عليه ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) خصّهما من بين الثمار بالقسم ، لأنّ التين فاكهة طيّبة لا فضل له إلّا القليل جدّا ، وغذاء لطيف سريع الهضم ، ودواء كثير النفع ، فإنّه يليّن الطبع ، ويحلّل البلغم ، ويطهّر الكليتين ، ويزيل رمل المثانة ، ويفتح سدد الكبد والطحال ، ويسمّن البدن. وروي : أنّه أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طبق من تين ، فأكل منه وقال لأصحابه : «كلوه ، فلو قلت : إنّ فاكهة نزلت من الجنّة لقلت : هذه ، لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم ، فكلوها ، فإنّها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس».

والزيتون فاكهة وإدام ودواء ، وله دهن لطيف كثير المنافع ، مع أنّه قد ينبت حيث لا دهنيّة فيه ، كالجبال. ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون ، فأخذ منها قضيبا واستاك به وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة ، يطيب الفم ، ويذهب بالحفرة». وسمعته يقول : «هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي».

وقيل : المراد بهما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانيّة : طور تينا وطور زيتا ، لأنّهما منبتا التين والزيتون.

وقيل : التين الجبل الّذي عليه دمشق ، والزيتون الجبل الّذي عليه بيت المقدس.

وقيل : التين مسجد دمشق ، والزيتون بيت المقدس.

وعن ابن عبّاس : التين مسجد نوح الّذي بني على الجوديّ ، والزيتون بيت المقدس.

وقيل : التين المسجد الحرام ، والزيتون المسجد الأقصى.

وقيل : التين جبال ما بين حلوان وهمدان ، والزيتون جبال الشام ، لأنّها

٤٦٤

منابتهما ، كأنّه قيل : ومنابت التين والزيتون.

(وَطُورِ سِينِينَ) يعني : الجبل الّذي ناجى عليه موسى عليه‌السلام ربّه. وسينين وسيناء اسمان للموضع الّذي هو فيه. وأضيف الطور ـ وهو الجبل ـ إلى سينين ، وهي البقعة. وهو سينون أيضا. ومثله : يبرون ، في جواز الإعراب بالواو والياء ، والإقرار على الياء ، وتحريك النون بحركات الإعراب.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أي : الآمن. من : أمن الرجل أمانة فهو أمين. وأمانته أن يحفظ من دخله ، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، من : أمنه ، لأنّه مأمون الغوائل ، كما وصف بالأمين في قوله : (حَرَماً آمِناً) (١) بمعنى : ذي أمن.

ولمّا كان منبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشأه ، والطور المكان الّذي نودي منه موسى ، ومكّة مكان البيت الّذي هو هدى للعالمين ، ومولد رسول الله ومبعثه ، وكلّها مواضع خير وبركة وسكنى الأنبياء ، أقسم الله تعالى بها على أنّه (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يريد به الجنس (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) تعديل ، بأن خصّ بانتصاب القامة ، وحسن الصورة ، وتسوية الأعضاء ، واستجماع خواصّ الكائنات وسائر الممكنات.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي : ثمّ كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويّة السويّة ، أن رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا ، يعني : أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أصحاب النار. أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثمّ رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل ، حيث نكسناه في خلقه ، فقوّس ظهره بعد اعتداله ، وابيضّ شعره بعد

__________________

(١) القصص : ٥٧.

٤٦٥

سواده ، وتشنّن (١) جلده ، وكلّ سمعه وبصره ، وتغيّر كلّ شيء منه. فمشيه دليف (٢) ، وصوته خفات ، وقوّته ضعف ، وشهامته خرف ، وهو أرذل العمر. وعلى هذا ؛ السافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال والشيخ الكبير ، وهو أسفل هؤلاء جميعا.

وعلى التفسير الأوّل (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء متّصل ظاهر الاتّصال. وعلى الثاني منقطع. يعني : ولكنّ الّذين كانوا صالحين من الهرمى.

(فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم في هذه الحالة ، وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاقّ ، والقيام بالعبادة ، على تخاذل نهوضهم. وروي : «أنّ المؤمن لا يردّ إلى الخرافة وإن عمّر عمرا طويلا».

وعن عكرمة : إذا ردّ من المؤمنين إلى أرذل العمر ، كتب له كصالح ما كان يعمل في شبابه ، وذلك أجر غير ممنون.

وعن ابن عبّاس : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. وذلك قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). قال : إلّا الّذين قرءوا القرآن.

وفي الحديث عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المولود حتّى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه ، فإن عمل سيّئة لم يكتب عليه ، ولا على والديه.

فإذا بلغ الحنث ، وجرى عليه القلم ، أمر الله الملكين اللّذين معه يحفظانه ويسدّدانه.

فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله من البلايا الثلاث : الجنون ، والجذام ، والبرص. وإذا بلغ خمسين سنة خفّف الله حسابه. فإذا بلغ ستّين رزقه الله الإنابة إليه فيما يجب. فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السماء. فإذا بلغ ثمانين كتب الله حسناته ،

__________________

(١) تشنّن الجلد : يبس وتشنّج.

(٢) أي : متقارب الخطوة في المشي.

٤٦٦

وتجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وشفّعه في أهل بيته ، وكان اسمه أسير الله في الأرض. فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا ، كتب الله له بمثل ما كان يعمل في صحّته من الخير ، وإن عمل سيّئة لم تكتب عليه».

وأقول : إنّما لا تكتب عليه السيّئة لزوال عقله ، ونقصان تمييزه في ذلك الوقت.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ) فأيّ شيء يكذّبك يا محمّد دلالة أو نطقا بعد ظهور هذه الدلائل (بِالدِّينِ) بالجزاء. وقيل : «ما» بمعنى «من». وقيل : الخطاب للإنسان على الالتفات. والمعنى : أنّ خلق الإنسان من نطفة ، وتقويمه بشرا سويّا ، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ، ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر ، لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق ، وأنّ من قدر من الإنسان على هذا كلّه لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك أيّها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع؟ ثمّ حقّق ما سبق بقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أليس الّذي فعل ذلك من الخلق والردّ بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا؟ ومن كان كذلك كان قادرا على الإعادة والجزاء ، على ما مرّ مرارا. وهذا وعيد للكفّار بأنّه يحكم عليهم بما هم أهله.

٤٦٧
٤٦٨

(٩٦)

سورة العلق

مكّيّة. وهي تسع عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها فكأنّما قرأ المفصّل كلّه».

محمد بن حسّان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قرأ في يومه أو ليلته «اقرأ باسم ربّك» ثمّ مات في يومه أو في ليلته مات شهيدا ، وبعثه الله شهيدا وأحياه ، وكان كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨))

ولمّا ختم سبحانه سورة التين بذكر اسمه ، افتتح هذه السورة بذكر اسمه أيضا ، فقال :

٤٦٩

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي : اقرأ القرآن مفتتحا باسمه تعالى ، أو مستعينا به (الَّذِي خَلَقَ) أي : الّذي منه الخلق ، لا خالق سواه. وعلى هذا لا يقدّر للخلق مفعول. ويجوز أن يقدّر ويراد : الّذي خلق كلّ شيء ، فيتناول كلّ مخلوق ، لأنّه مطلق ، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.

ثمّ أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعا وتدبيرا ، وأدلّ على وجوب العبادة المقصودة من القراءة ، فقال :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : الّذي خلق الإنسان. فأبهم أوّلا ، ثمّ فسّر تفخيما لخلقه ، ودلالة على عجيب فطرته. (مِنْ عَلَقٍ) جمعه لأنّ الإنسان في معنى الجمع ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (١). ولمّا كان أوّل الواجبات معرفة الله تعالى نزّل أوّلا ما يدلّ على وجوده وكمال قدرته وحكمته.

(اقْرَأْ) تكرير للمبالغة. أو الأوّل مطلق ، والثاني للتبليغ ، أو في الصّلاة.

ولعلّه لمّا قيل له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ). فقال : ما أنا بقارئ.

فقيل له : اقرأ. فإنّ أكثر المفسّرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن ، في أوّل يوم نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قائم على حراء ، علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة. وقيل : أوّل سورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتحة الكتاب.

(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الزائد الكرم على كلّ كريم ، فإنّه ينعم على عباده النعم الّتي لا تحصى ، ويحلم عنهم ، فلا يعاجلهم بالعقوبة ، مع كفرهم وجحودهم لنعمه ، وركوبهم المناهي ، واطّراحهم الأوامر. ويقبل توبتهم ، ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم. فما لكرمه غاية ولا أمد ، فكأنّه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلميّة تكرّم حيث قال : الأكرم.

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي : علّم الخطّ بالقلم (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) من نصب الدلائل ، وإنزال الآيات ، وسائر أمور الدين والشرائع والأحكام. فدلّ على

__________________

(١) العصر : ٢.

٤٧٠

كمال كرمه بأنّه علّم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة ، لما فيه من المنافع العظيمة الّتي لا يحيط بها إلّا هو ، فإنّه ما دوّنت العلوم ، ولا قيّدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلّا بالكتابة ، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا. ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلّا أمر القلم والخطّ لكفى به. فعدّد سبحانه في هذه الآيات الشريفة مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه ، إظهارا لما أنعم عليه ، من أن نقله من أخسّ المراتب إلى أعلاها ، تقريرا لربوبيّته ، وتحقيقا لأكرميّته.

(كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر ، لدلالة الكلام عليه (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) بكثرة عشيرته وأمواله وقوّته. وهذا مفعوله الثاني ، لأنّه بمعنى : علم ، أي : علم نفسه مستغنيا. ومن خصائص أفعال القلوب أن يكون فاعله ومفعوله الأوّل ضميرين لواحد. ولو كان الرؤية بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين لواحد.

ثمّ خاطب الإنسان على الالتفات تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان ، فقال : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي : إلى حكمه وجزائه الرجوع ، فإنّه مصدر كالبشرى.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

٤٧١

روي : أنّ أبا جهل لفرط جهله وعتوّه قال : هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم. قال : فبالّذي يحلف به لو رأيت محمّدا ساجدا لأطأنّ على رقبته. فقيل له : ها هو ذلك يصلّي. فانطلق ليطأ على رقبته ، فنكص على عقبيه.

فقيل له : مالك يا أبا الحكم؟ فقال : إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة ، وهي أجنحة الملائكة. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا». فأنزل الله سبحانه :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً) يعني : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِذا صَلَّى) لفظ العبد والتنكير للمبالغة في تقبيح النهي ، والدلالة على كمال عبوديّة المنهيّ. ومعنى «أرأيت» هاهنا تعجيب للمخاطب.

ثمّ كرّر هذه اللفظة مرّتين للتأكيد في التعجيب ، فقال : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ) العبد المنهيّ (عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) بالإخلاص والتوحيد والاتّقاء عن الشرك.

والشرطيّة المفعول الثاني لـ «رأيت» الأوّل. والثاني تكرير للمبالغة ، وليس له عمل.

وجواب الشرط محذوف ، تقديره : إن كان على الهدى ، أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأنّ الله يرى؟ وإنّما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني ، وهو قوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) أبو جهل (وَتَوَلَّى) عن الإيمان (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) يراه ويطّلع على هداه وضلاله ، فيجازيه على حسب ذلك. وهذا وعيد له.

وقيل : المعنى : أخبرني عمّن ينهى عبدا من عبادنا عن الصلاة ، إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله ، أو كان آمرا بالتقوى كما يعتقده ، وكذلك إن كان على التكذيب للحقّ ، والتولّي عن الدين الصحيح كما نحن نقول ، ألم يعلم بأنّ الله يرى أحواله فيجازيه؟

وقيل : الخطاب في الثانية مع الكافر ، فإنّه تعالى كالحاكم الّذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرّة والآخر اخرى. وكأنّه قال : يا كافر أخبرني إن كان

٤٧٢

صلاته هدى ، ودعاؤه إلى الله أمرا بالتقوى ، أتنهاه؟ ولعلّه ذكر الأمر بالتقوى في التعجيب والتوبيخ ، ولم يتعرّض له في النهي ، لأنّ النهي كان عن الصّلاة والأمر بالتقوى ، فاقتصر على ذكر الصّلاة ، لأنّه دعوة بالفعل. أو لأنّ نهي العبد إذا صلّى يحتمل أن يكون لها ولغيرها ، وعامّة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة وغيره بالدعوة.

(كَلَّا) ردع للناهي (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عمّا هو فيه (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذنّ بناصيته ، ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفح : القبض على الشيء وجذبه بشدّة. وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف ، والاكتفاء باللام عن الإضافة ، للعلم بأنّ المراد بالناصية ناصية المذكور. وفي الأخذ بالناصية إهانة واستخفاف كما لا يخفى.

(ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) بدل من الناصية. وإنّما جاز وصفها بالكذب والخطأ ، وهما لصاحبها ، على الإسناد المجازي للمبالغة.

روي : أنّ أبا جهل مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يصلّي فقال : ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ، فنزلت :

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي : أهل ناديه ليعينوه. وهو المجلس الّذي ينتدي فيه القوم ، أي : يجتمعون.

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) ليجرّوه إلى النار. وهو في كلام العرب : الشرط. واحدها : زبنية ، كعفرية. من الزبن ، وهو الدفع. يقال : زبنت الناقة إذا ضربت بثفنات (١) رجلها عند الحلب. فالزبن بالثفنات ، والركض بالرجل ، والخبط باليد. وناقة زبون : تضرب حالبها وتدفعه. وحرب زبون : تزبن الناس ، أي : تصدمهم وتدفعهم.

__________________

(١) الثفنة من البعير : ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ ، كالركبتين. وجمعها : ثفنات.

٤٧٣

وقيل : زبنيّ على النسب ، كأنّه نسب إلى الزبن ، ثمّ غيّر للنسب ، كقولهم : أمسيّ. وأصلها : زبانيّ ، فقيل : زبانية على تعويض التاء عن الياء. والمراد : ملائكة العذاب ، سمّوا بذلك لدفعهم أهل النار إليها. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو دعا أبا جهل ناديه لأخذته الزبانية».

(كَلَّا) ردع لأبي جهل (لا تُطِعْهُ) واثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (١) (وَاسْجُدْ) ودم على سجودك. يريد : الصلاة.

(وَاقْتَرِبْ) وتقرّب إلى ربّك. وفي الحديث : «أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد».

والسجود هنا فرض ، وهو من العزائم.

روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «العزائم : ألم تنزيل ، وحم السجدة ، والنجم إذا هوى ، واقرأ باسم ربّك. وما عداها في جميع القرآن مسنون ، وليس بمفروض».

__________________

(١) القلم : ٨.

٤٧٤

(٩٧)

سورة القدر

مختلف فيها. وهي خمس آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان ، وأحيا ليلة القدر».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من قرأ «إنّا أنزلناه» في فريضة من الفرائض نادى مناد : يا عبد الله قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل».

سيف بن عميرة عن رجل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من قرأ «إنّا أنزلناه» يجهر بها كان كشاهر سيفه في سبيل الله ، ومن قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل الله ، ومن قرأها عشر مرّات مرّت على محو ألف ذنب من ذنوبه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

ولمّا أمر سبحانه بالسجود والتقرّب إليه في خاتمة سورة العلق ، افتتح هذه

٤٧٥

السورة بذكر ليلة القدر ، وأنّ التقرّب فيها إلى الله يزيد على التقرّب إليه في سائر الليالي والأيّام ، فكأنّه قال : اقترب إليه في سائر الأوقات ، خصوصا في ليلة القدر.

وقال أبو مسلم : لمّا أمره بقراءة القرآن في سورة العلق ، بيّن في هذه السورة أنّ إنزاله في ليلة القدر ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الضمير للقرآن. فخّمه من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن أسند إنزاله إليه ، وجعله مختصّا به دون غيره ، كجبرئيل.

والثاني : إضماره من غير ذكر اسمه الظاهر ، شهادة له بالنباهة المغنية عن التصريح.

والثالث : إنزاله في أشرف الزمان وأفضل الأوان ، وهو ليلة القدر.

ثمّ فخّم شأن هذه الليلة ، ونبّه على عظيم قدرها وشرف محلّها بقوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي : لم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علوّ قدرها. وهذا حثّ على العبادة فيها.

ثمّ فسّر تعظيمها بقوله : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي : قيام ليلة القدر والعمل فيها خير من قيام ألف شهر. ولمّا جعل الخير الكثير في ليلة القدر ، كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما يكون في هذه الليلة. وإنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها. أو أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة ، ثمّ كان جبرئيل ينزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة.

وقيل : معناه : أنزلناه في فضل ليلة القدر. وتسميتها بذلك لشرف قدرها ، أو لتقدير الأمور فيها ، لقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (١). وعن أبي بكر الورّاق : لأنّ من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر. وقال بعضهم : لأنّ للطاعات

__________________

(١) الدخان : ٤.

٤٧٦

فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقيل : لأنّه أنزل فيها ملك ذو قدر ، كتابا ذا قدر ، من عند ملك ذي قدر ، إلى رسول ذي قدر ، لأجل أمّة ذات قدر.

وذكر «ألف» إمّا للتكثير ، أو لما روي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر إسرائيليّا لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك ، وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة القدر ، هي خير من مدّة غزوة هذا الغازي.

وقيل : إنّ الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتّى يعبد الله ألف شهر ، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحقّ بأن يسمّوا عابدين من أولئك العبّاد.

واختلفوا في أنّها أيّة ليلة؟ فذهب قوم إلى أنّها إنّما كانت على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رفعت. وجاءت الرواية عن أبي ذرّ أنّه قال : «قلت : يا رسول الله ليلة القدر هي شيء يكون على عهد الأنبياء ، ينزّل الله فيها الملائكة ، فإذا قبضوا رفعت؟ قال : لا بل هي إلى يوم القيامة».

وقيل : إنّها في ليالي السنة كلّها. ومن علّق طلاق امرأته على ليلة القدر لم يقع إلى مضيّ السنة. وهو مذهب أبي حنيفة. وفي بعض الروايات عن ابن مسعود : أنّه قال : من يقم الحول كلّه يصبها. فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال : رحم الله أبا عبد الرحمن ، أما إنّه علم أنّها في شهر رمضان ، ولكنّه أراد أن لا يتّكل الناس.

وجمهور العلماء على أنّها في شهر رمضان في كلّ سنة. ثم اختلفوا في أيّ ليلة هي منه؟ فقيل : هي أوّل ليلة منه. عن ابن زيد العقيلي. وقيل : هي ليلة سبع عشرة منه. عن الحسن. وروي : أنّها ليلة الفرقان ، وفي صبيحتها التقى الجمعان.

والصحيح أنّها في العشر الأواخر من شهر رمضان. وهو مذهب الشافعي. ةوروي مرفوعا : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان». وعن عليّ عليه‌السلام : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان».

٤٧٧

قال : «وكان إذا دخل العشر الأواخر دأب (١) وأدأب أهله».

وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر ، واجتنب النساء ، وأحيا الليل ، وتفرّغ للعبادة».

ثمّ اختلفوا في أنّها أيّة ليلة منه؟ فقيل : إنّها ليلة إحدى وعشرين. وهو مذهب أبي سعيد الخدري ، واختيار الشافعي.

قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأيت هذه الليلة ثمّ أنسيتها ، ورأيتني أسجد في ماء وطين ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كلّ وتر». قال : فأبصرت عيناي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. أورده البخاري في الصحيح (٢).

وقيل : هي ليلة ثلاث وعشرين منه.

عن عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّي رأيت في النوم كأنّ ليلة القدر هي ليلة سابعة تبقى. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين ، فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين».

قال معمّر : وكان أيّوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ، ويمسّ طيبا.

وسأل عمر بن الخطّاب أصحاب رسول الله فقال : قد علمتم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في ليلة القدر : «اطلبوها في العشر الأواخر وترا».

ففي أيّ الوتر ترون؟ فأكثر القوم في الوتر.

قال ابن عبّاس : فقال لي : ما لك لا تتكلّم يا بن عبّاس؟! فقلت : رأيت الله أكثر ذكر السبع في القرآن ، فذكر السماوات سبعا ، والأرضين سبعا ، والطواف سبعا ، والجمار سبعا ، وما شاء الله من ذلك ، خلق الإنسان من سبعة ، وجعل رزقه في سبعة.

__________________

(١) أي : جدّ وتعب.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٦٠ و٦٢.

٤٧٨

فقال : كلّ ما ذكرت عرفت ، فما قولك : خلق الإنسان من سبعة ، وجعل رزقه في سبعة؟

فقلت : خلق : (الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إلى قوله : (خَلْقاً آخَرَ) (١). ثمّ قرأت : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) إلى قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (٢). فما أراها إلّا ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين.

فقال عمر : عجزتم أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الّذي لم يجتمع شؤون (٣) رأسه.

قال : وقال عمر : وافق رأيي رأيك. ثمّ ضرب منكبي فقال : ما أنت بأقلّ القوم علما.

وروى العيّاشي بإسناده عن زرارة ، وعن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن ليلة القدر. قال : في ليلتين : ليلة ثلاث وعشرين ، وإحدى وعشرين. فقلت : أفرد لي إحداهما. فقال : وما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما.

وعن شهاب بن عبد ربّه قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني بليلة القدر.

قال : ليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين».

وعن حمّاد بن عثمان ، عن حسّان بن أبي علي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ليلة القدر. قال : اطلبها في تسع عشرة ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين».

وفي كتاب من لا يحضره الفقيه عن عليّ بن أبي حمزة قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له أبو بصير : جعلت فداك الليلة الّتي يرجى فيها ما يرجى

__________________

(١) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

(٢) عبس : ٢٥ ـ ٣١.

(٣) شؤون الرأس : موصل أو ملتقى قبائل الرأس. وقبائل الرأس : قطعه المشعوب بعضها إلى بعض.

٤٧٩

أيّ ليلة هي؟

فقال : هي ليلة إحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين.

قال : فإن لم أقو على كلتيهما؟

فقال : ما أيسر ليلتين فيما تطلب.

قال : فقلت : فربما رأينا الهلال عندنا ، وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك في أرض اخرى.

فقال : ما أيسر أربع ليال فيما تطلب فيها.

قلت : جعلت فداك ؛ ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني (١)؟

قال : إنّ ذلك ليقال.

قلت : جعلت فداك ؛ إنّ سليمان بن خالد روى أنّ في تسع عشرة يكتب وفد الحاجّ.

فقال : يا أبا محمّد يكتب وفد الحاجّ في ليلة القدر ، والمنايا والبلايا والأرزاق وما يكون إلى مثلها في قابل ، فاطلبها في إحدى وثلاث ، وصلّ في كلّ واحدة منهما مائة ركعة ، وأحيهما إلى النور ـ أي : الصبح ـ واغتسل فيهما.

قال : قلت : فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟

قال : فصلّ وأنت جالس.

قلت : فإن لم أستطع.

قال : فعلى فراشك.

قلت : فإن لم أستطع.

فقال : لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشيء من النوم ، إنّ أبواب السماء تفتح في شهر رمضان ، وتصفد (٢) الشياطين ، وتقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر شهر

__________________

(١) يأتي في الصفحة التالية توضيحه نقلا عن الشيخ الصدوق رحمه‌الله.

(٢) صفد الأسير : أوثقه وقيّده بالحديد وغيره.

٤٨٠