زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

(٦١)

سورة الصفّ

وتسمّى سورة الحواريّين ، وسورة عيسى عليه‌السلام. مدنيّة. وهي أربع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة عيسى عليه‌السلام مصلّيا عليه ، مستغفرا له ما دام في الدنيا ، وهو يوم القيامة رفيقه».

أبو بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة الصفّ ، وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله ، صفّه الله تعالى مع ملائكته وأنبيائه المرسلين».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))

ولمّا ختم الله سبحانه السورة بقطع موالاة الكفّار ، افتتح هذه السورة بإيجاب

٤١

ذلك ظاهرا وباطنا ، ثمّ بالأمر بالجهاد ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مضى تفسيره.

روي : أنّ المسلمين قالوا : لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لبذلنا أموالنا وأنفسنا ، فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) (١).

فولّوا يوم أحد ، فنزلت تعييرا لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) «لم» مركّبة من لام الجرّ و «ما» الاستفهاميّة. والأكثر حذف ألفها مع حروف الجرّ ، في قولك : بم ، وفيم ، وممّ ، وعمّ ، وإلام ، وعلام ، لكثرة استعمالهما في الكلام المستفهم عنه. وقد جاء استعمال الأصل قليلا. والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف. وفيه معنى التعجّب.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) إيثار المقت الّذي هو أشدّ البغض ، ونصبه على التمييز ، للدلالة على أنّ قولهم هذا مقت خالص كبير عند الله ، بحيث يحقّر دونه كلّ عظيم ، مبالغة في المنع عنه ، لأنّه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تمّ كبره وشدّته.

قيل : لمّا أخبر الله بثواب شهداء بدر ، قالوا : لئن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا ، ففرّوا يوم أحد ولم يفوا ، فنزلت.

وقيل : كان الرجل يقول : قتلت ولم يقتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، وصبرت ولم يصبر.

وقيل : قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم ، فقتله صهيب ، وانتحل قتله آخر.

فقال عمر لصهيب : أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّك قتلته. فقال : إنّما قتلته لله ولرسوله.

فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب. قال : كذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم. فنزلت

__________________

(١) الصفّ : ٤.

٤٢

في المنتحل.

وعن الحسن : نزلت في المنافقين. ونداؤهم بالإيمان على حسب ظاهر حالهم.

والّذي يدلّ على أنّ المقت قد تعلّق بقول الّذين وعدوا الثبات في قتال الكفّار ، فلم يفوا ، قوله بعد ذلك : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) مصطفّين ، أو صافّين أنفسهم. مصدر وصف به. (كَأَنَّهُمْ) في تراصّهم وتلاصقهم من غير فرجة ولا خلل (بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) رصّ بعضه إلى بعض. وهذا الكلام حال من المستكن في الحال الأولى. والرصّ اتّصال بعض البناء بالبعض واستحكامه.

وقيل : يجوز أن يريد استواء نيّاتهم في الثبات حتّى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص.

وعن بعضهم : فيه دليل على فضل القتال راجلا ، لأنّ الفرسان لا يصطفّون على هذه الصفة. ومعنى محبّة الله إيّاهم أنّه يريد ثوابهم ومنافعهم.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥))

ثمّ ذكر سبحانه حديث موسى عليه‌السلام في صدق نيّته وثبات عزيمته على الصبر في أذى قومه ، تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تكذيبهم إيّاه ، فقال :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) مقدّر بـ : اذكر (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) كانوا يؤذونه بأنواع الأذى ، من انتقاصه وعيبه في نفسه بالرمي بالأدرة (١) ، وجحود آياته ،

__________________

(١) الادرة : انتفاخ الخصية.

٤٣

وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه ، وعبادتهم البقر ، وطلبهم رؤية الله جهرة ، وقولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (١). (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢).

ونسبة قتل هارون إليه ، والتكذيب الّذي هو تضييع حقّ الله وحقّه.

(وَقَدْ تَعْلَمُونَ) في موضع الحال تقريرا للإنكار. و «قد» لتحقيق العلم ، أي : تؤذونني عالمين علما يقينا. (أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) بما جئتكم من المعجزات.

وقضيّة علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري ، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي ، لأنّ من عرف الله وعظمته عظّم رسوله ، علما بأنّ تعظيمه في تعظيم رسوله.

(فَلَمَّا زاغُوا) عن الحقّ (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) بأن منع ألطافه عنهم ، وخلّاهم وسوء اختيارهم ، فصرفت قلوبهم عن قبول الحقّ والميل إلى الصواب تخلية وخذلانا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لا يلطف بهم ليهتدوا ، لأنّهم ليسوا من أهل اللطف ، فلم يقبلوا الحقّ.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

__________________

(١) الأعراف : ١٣٨.

(٢) المائدة : ٢٤.

٤٤

ثمّ عطف سبحانه قصّة عيسى على قصّة موسى ، فقال : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) لم يقل : يا قوم كما قال موسى ، لأنّه لا نسب له فيهم (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) في حال تصديقي لما تقدّمني (مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً) وفي حال تبشيري (بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) والعامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإرسال ، لا الجارّ ، لأنّه لغو ، إذ هو صلة للرسول ، فلا يجوز أن يعمل شيئا ، لأنّ حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل ، فإذا وقعت صلات لم تتضمّن معنى فعل ، فمن أين تعمل؟

(اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والمعنى : أنّ ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه. فذكر أوّل الكتب المشهورة الّذي حكم به النبيّون والنبيّ الّذي هو خاتم النبيّين.

ولاسم أحمد معنيان :

أحدهما : أن يجعل مبالغة من الفاعل ، أي : هو أكثر حمدا لله من غيره.

والآخر : أن يجعل مبالغة من المفعول ، أي : يحمد بما فيه من الأخلاق والمحاسن أكثر ممّا يحمد غيره.

وصحّت الرواية عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لي أسماء : أنا أحمد ، وأنا محمد ، وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الّذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الّذي ليس

٤٥

بعدي نبيّ». أورده البخاري في الصحيح (١).

وفي هذه البشرى معجزة لعيسى عليه‌السلام عند ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمر لأمّته أن يؤمنوا به عند مجيئه.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الإشارة إلى ما جاء به أو إليه.

وتسميته سحرا للمبالغة. ويؤيّده قراءة حمزة والكسائي : هذا ساحر ، على أنّ الإشارة إلى عيسى عليه‌السلام.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) وأيّ الناس أشدّ ظلما؟ بمعنى : لا أحد أظلم ممّن يدعوه ربّه على لسان نبيّه إلى الإسلام الّذي له فيه سعادة الدارين ، فيضع موضع إجابته إليه افتراء الكذب على الله ، بقوله لكلامه الّذي هو دعاء عباده إلى الحقّ : هذا سحر مبين ، لأنّ السحر كذب وتمويه.

والاستفهام للإنكار. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الّذين ظلموا أنفسهم بفعل الكفر والمعاصي.

قال ابن جريج : هم الكفّار والمنافقون. ويدلّ عليه قوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) أي : يريدون أن يطفؤا كما جاء في سورة البراءة (٢). واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا لها ، كما زيدت في قولك : لا أبالك ، تأكيدا لمعنى الإضافة في : لا أباك. أو يريدون الافتراء ليطفؤا (نُورَ اللهِ) يعني دينه : أو كتابه أو حجّته (بِأَفْواهِهِمْ) بأن طعنوا فيه بأنّه سحر مبين. مثّلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس ليطفئه. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) مبلغ غايته بنشره وإعلائه. وقرأ ابن كثير وحفص بالإضافة. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) إرغاما لهم.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) بالقرآن أو المعجزة (وَدِينِ الْحَقِ) والملّة

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٢٢٥.

(٢) البراءة : ٣٢.

٤٦

الحنيفيّة ، وهي دين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) ليعليه ويغلبه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على جميع الأديان المخالفة له. والدين اسم الجنس. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك. وفي هذه دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه سبحانه قد أظهر دينه على جميع الأديان بالاستعلاء والقهر وإعلاء الشأن ، بحيث ما بقي من الأديان إلّا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام ، كما وعده ذلك في حال الضعف وقلّة الأعوان.

وروى العيّاشي بالإسناد عن عمران بن ميثم ، عن عباية أنّه سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول حين تلاوة هذه الآية : «والّذي نفسي بيده حتّى لا تبقى قرية إلّا ينادى فيها بشهادة أن لا إله إلّا الله بكرة وعشيّا».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))

ولمّا قدّم ذكر الرسول عقّبه بذكر دعاء العباد إلى قبول قوله ونصرة دينه والعمل بشريعته ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قرأ ابن عامر : تنجّيكم بالتشديد.

٤٧

ثمّ استأنف كلاما لبيان التجارة ، كأنّهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) يعني : التجارة المنجية من عذاب أليم هو الجمع بين الإيمان والجهاد المؤدّي إلى كمال عزّهم. والمراد به الأمر ، وإنّما جيء بلفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال ، فكأنّه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين. ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ، ويغفر الله لك. جعلت المغفرة لقوّة الرجاء ، كأنّها كانت ووجدت. وأيضا إيراد الأمر على صورة الخبر تلطّف في الاستدعاء إلى الإخلاص في الطاعة ، فإنّ المعنى : هل ترغبون في تجارة منجية من العذاب؟

عن ابن عبّاس : أنّهم قالوا : لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملناه. فنزلت هذه الآية ، فمكثوا ما شاء الله يقولون : ليتنا نعلم ما هي؟ فدلّهم الله تعالى على التجارة المذكورة بقوله : «تؤمنون». وهذا دليل على أنّ «تؤمنون» كلام مستأنف ، وعلى أنّ الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف وتطلّع منها إليه ، أوقع فيها وأقرب من قبولها له ممّا فوجئت به.

(ذلِكُمْ) أي : ما ذكر من الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) من أموالكم وأنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم ، إذ الجاهل لا يعتدّ بفعله. أو إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ ، لأنّه إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبّون أنفسكم وأموالكم.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر ، أو لشرط أو استفهام دلّ عليه الكلام ، تقديره : إن تؤمنوا وتجاهدوا ، أو هل تقبلون أن أدلّكم يغفر لكم؟ ويبعد جعله جوابا لـ «هل أدلّكم» كما قال الفرّاء ، لأنّ مجرّد الدلالة لا توجب المغفرة. (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) مستطابة مستلذّة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) جنّات إقامة لا تبغون عنها حولا (ذلِكَ) أي : ما ذكر من

٤٨

المغفرة وإدخال الجنّة (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لا ما يعدّه الناس فوزا ، من طول البقاء وولاية الدنيا.

روي : أنّه سأل الحسن عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير قوله : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً). فقالا : سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فقال : «قصر من لؤلؤ في الجنّة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوت حمراء ، في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء ، في كلّ بيت سبعون سريرا ، على كلّ سرير سبعون فراشا من كلّ لون ، على كلّ فراش امرأة من الحور العين ، في كلّ بيت سبعون مائدة ، على كلّ مائدة سبعون لونا من الطعام ، في كلّ بيت سبعون وصيفا ووصيفة. فقال : يعطي الله المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه».

ثمّ بشّرهم بنعمة عاجلة مزيدا على الآجلة ، فقال : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي : ولكم إلى هذه النعمة المذكورة ـ أعني : المغفرة والثواب في الآجلة ـ نعمة اخرى عاجلة محبوبة إليكم. وفي «تحبّونها» تعريض بأنّهم يؤثرون العاجل على الآجل.

وقيل : «اخرى» منصوبة بإضمار : يعطيكم أو تحبّون. أو مبتدأ خبره (نَصْرٌ مِنَ اللهِ). وهو على الأوّل بدل أو بيان. وعلى قول النصب خبر محذوف. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) عاجل. وهو فتح مكّة. وقال الحسن : فارس والروم. وقيل : جميع فتوح الإسلام. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على محذوف مثل : قل يا أيّها الّذين آمنوا وبشّر. أو على «تؤمنون» فإنّه في معنى الأمر ، كأنّه قال : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم أيّها المؤمنون ، وبشّرهم يا رسول الله بما وعدتهم على الايمان والجهاد آجلا وعاجلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

٤٩

ثمّ حضّ المؤمنين على نصرة دينه ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) وقرأ الحجازيّان وأبو عمرو بالتنوين واللام ، لأنّ المعنى : كونوا بعض أنصار الله (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) التشبيه محمول على المعنى. والمراد : كونوا أنصار الله ، كما كان الحواريّون أنصار عيسى حين قال لهم. أو المراد : قل لهم كما قال عيسى للحواريّين : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي : من جندي متوجّها إلى نصرة الله؟ ليطابق قوله : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ).

والإضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر ، لما بينهما من الاختصاص. والثانية إضافة الفاعل إلى المفعول. فمعنى «من أنصاري» : من الأنصار الّذين يختصّون بي ، ويكونون معي في نصرة الله؟ ومعنى (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) : نحن الّذين ينصرون الله. ولا يجوز أن يكون معنى الأوّل : من ينصرني مع الله ، لأنّه لا يطابق الجواب.

والحواريّون : أصفياء عيسى ، فإنّ حواريّ الرجل صفيّه وخلصانه.

من الحور ، وهو البياض الخالص. وقيل : كانوا قصّارين يحوّرون الثياب ، أي : يبيّضونها. ونظير الحواريّ في زنته : الحواليّ ، بمعنى : الكثير الحيل.

وقيل : كانوا يلبسون الثياب البيض. وهم أوّل من آمن به ، وكانوا اثني عشر رجلا.

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) به. وذلك أنّه

٥٠

لمّا رفع تفرّق قومه ثلاث فرق : فرقة قالت : كان الله ، فارتفع. وفرقة قالت : كان ابن الله ، فرفعه إليه. وفرقة قالت : كان عبد الله ورسوله ، فرفعه إليه ، وهم المؤمنون. واتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين ، حتّى بعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرين. وذلك قوله : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) بالحجّة أو بالحرب (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) فصاروا غالبين. وعن مجاهد : بل أيّدوا في زمانهم على من كفر.

٥١
٥٢

(٦٢)

سورة الجمعة

مدنيّة. وهي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة الجمعة اعطي عشر حسنات ، بعدد من أتى الجمعة وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين».

منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى ، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين ، فإذا فعل فكأنّما يعمل عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان جزاؤه وثوابه على الله الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ

٥٣

مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥))

ولمّا ختم سبحانه سورة الصفّ بالترغيب في عبادته والدعاء إليها ، وذكر تأييد المؤمنين بالنصر والظهور على الأعداء ، افتتح هذه السورة ببيان قدرته على ذلك وعلى جميع الأشياء ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ينزّهه عن جميع النواقص كلّ شيء من العلويّات والسفليّات (الْمَلِكِ) القادر على تصريف الأشياء بأيّ وجه أراد (الْقُدُّوسِ) كثير النظافة والنزاهة عن كلّ نقص (الْعَزِيزِ) الغالب الّذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمِ) العالم الّذي يضع الأشياء موضعها.

وبعد إثبات الألوهيّة وصفاتها اللازمة قال في بيان الرسالة وما يتبعها : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي : في العرب ، فإنّ الأمّي منسوب إلى أمّة العرب ، لأنّهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤن من بين الأمم. وقيل : بدئت الكتابة بالطائف ، أخذوها من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة من أهل الأنبار. والمعنى : بعث منهم رجلا أمّيّا في قوم أمّيّين.

ووجه النعمة في أنّه جعل النبوّة في أمّيّ : موافقته لما تقدّمت البشارة به في كتب الأنبياء السالفة ، ولأنّه أبعد من توهّم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم الّتي تلاها والكتب الّتي قرأها ، فبذلك يعلم علما ضروريّا بأنّ ما يخبرهم به من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية على وفق ما في كتبهم

٥٤

ليس ذلك إلّا بالوحي.

وقيل : منسوب إلى أمّ القرى ، وهي مكّة.

(رَسُولاً مِنْهُمْ) من جملتهم ، كقوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (١). فيعلمون نسبه وأحواله (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) آيات القرآن المشتملة على الحلال والحرام والحجّ والأحكام ، مع كونه أمّيّا مثلهم لم تعهد منه قراءة ، ولم يعرف بتعلّم (وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهّرهم من خبائث الشرك وأعمال الجاهليّة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) القرآن والشريعة ، أو معالم الدين من المنقول والمعقول ، ولو لم يكن سواه معجزة لكفاه (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه ، من الشرك وخبث الجاهليّة. و «إن» هي المخفّفة ، واللام تدلّ عليها. وهذا بيان لشدّة احتياجهم إلى نبيّ يرشدهم ، وإزاحة لما يتوهّم أنّ الرسول تعلّم ذلك من معلّم.

وقال في المجمع : «وإنّما قال : «منهم» لأنّهم إذا أسلموا صاروا منهم ، فإنّ المسلمين كلّهم يد واحدة على من سواهم ، وأمّة واحدة وإن اختلفت أجناسهم ، كما قال سبحانه : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢). ومن لم يؤمن بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّهم ليسوا ممّن عناهم الله بقوله : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ)» (٣).

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) عطف على «الأميّين» ، أو المنصوب في «يعلّمهم» أي : يعلّم آخرين. وهم الّذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين ، فإنّ دعوته وتعليمه يعمّ الجميع من أبناء عصره وأبناء العصور الغوابر ، لأنّ التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كلّه مستندا إلى أوّله ، فكأنّه هو الّذي تولّى كلّ ما وجد فيه من الأوّلين والآخرين. (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون ، من العجم والعرب.

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) التوبة : ٧١.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٢٨٤.

٥٥

وقيل : لمّا نزلت قيل : من هم يا رسول الله؟ فوضع يده على سلمان ، ثمّ قال : «لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء».

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) في تمكينه من هذا الأمر الخارق للعادة (الْحَكِيمُ) في اختياره وتعليمه من بين كافّة البشر.

(ذلِكَ) أي : ذلك الفضل الّذي أعطاه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبه امتاز عن أقرانه ، وهو أن يكون نبيّ جميع العباد إلى آخر الدهر (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إعطاءه ، وتقتضيه حكمته.

روى محمّد بن أبي عمير عن هشام بن سالم يرفعه قال : «جاء الفقراء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إنّ للأغنياء ما يتصدّقون ، وليس لنا ما نتصدّق.

ولهم ما يحجّون ، وليس لنا ما نحجّ. ولهم ما يعتقون ، وليس لنا ما نعتق.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كبّر الله مائة مرّة كان أفضل من عتق مائة رقبة. ومن سبّح الله مائة مرّة كان أفضل من سياق مائة بدنة. ومن حمد الله مائة مرّة كان أفضل من حملان (١) مائة فرس في سبيل الله يسرجها ويلجمها. ومن هلّل الله مائة مرّة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلّا من زاد.

فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه ، فرجع الفقراء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه. فقال رسول الله : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الّذي يستحقر دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.

ثمّ ضرب سبحانه مثلا لليهود الّذين تركوا العمل بالتوراة الّتي فيها الوعد ببعثة رسول الله ونعوته ، فقال :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) علّموها وكلّفوا العمل بها. (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي : لم يعملوا ولم ينتفعوا بها ، فكأنّهم لم يحملوها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)

__________________

(١) الحملان : ما يحمل عليه من الدوابّ في الهبة خاصّة.

٥٦

كتبا من العلم يتعب في حملها ، ولا ينتفع بها. يعني : صفة اليهود ـ في أنّهم حملة التوراة وقرّاؤها ، وحفّاظ ما فيها ، ثمّ إنّهم غير عالمين بها ، ولا منتفعين بآياتها ، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبشارة به ، ولم يؤمنوا به ـ كصفة الحمار ، حمل كتبا من كتب العلم ، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلّا ما يمرّ بجنبيه وظهره من الكدّ والتعب.

و «يحمل» حال ، والعامل فيه معنى المثل. أو صفة ، إذ ليس المراد من الحمار معيّنا ، كقوله : ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني.

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) أي : مثل الّذين كذّبوا (بِآياتِ اللهِ) الدالّة على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ويجوز أن يكون «الّذين» صفة للقوم ، والمخصوص بالذمّ محذوفا ، وهو : مثلهم. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : لا يفعل بهم من الألطاف الّتي يفعلها بالمؤمنين الّذين بها يهتدون. وقيل : لا يثيبهم ولا يهديهم إلى الجنّة.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

وبعد تبيين إنكار اليهود ما في التوراة ، سكّتهم بما كانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (١) ، وألزمهم بقوله :

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) تهوّدوا. من : هاد يهود إذا تهوّد.

__________________

(١) المائدة : ١٨.

٥٧

(إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي : إن كان قولكم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) حقّا ، وكنتم على ثقة منه (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فتمنّوا من الله أن يميتكم وينقلكم سريعا من دار البليّة إلى محلّ دار الكرامة الّتي أعدّها لأوليائه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم.

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم في كذبهم ، وأنّهم غير واثقين بما يقولون ، فقال : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما قدّموا من الكفر والمعاصي (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فيجازيهم على أعمالهم. وقد قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفسي بيده لا يقولها أحد منهم إلّا غصّ بريقه».

فلولا أنّهم كانوا مؤمنين بصدق رسول الله لتمنّوا ، ولكنّهم علموا أنّهم لو تمنّوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد ، فما تمالك أحد أن يتمنّى. وبرواية اخرى عنه : «لو تمنّوا لماتوا عن آخرهم». وهي إحدى المعجزات.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) ولا تجسرون أن تتمنّوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لاحق بكم لا تفوتونه. والفاء لتضمّن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. ويجوز أن يكون الموصول خبرا ، ثمّ استؤنف : إنّه ملاقيكم. والفاء للعطف ، للدلالة على أنّ الفرار لا ينفع منه الموت ، بل بمنزلة السبب في ملاقاته ، فلا معنى للتعرّض للفرار ، فكأنّه سبب الملاقاة ، لأنّه لا يباعد منه. وإلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : «كلّ امرئ لاق ما يفرّ منه ، والأجل مساق النفس ، والهرب منه موافاته».

(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعلم سرّكم وعلانيتكم يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن يجازيكم عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ

٥٨

فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

اعلم أنّ الله سبحانه أبطل قول اليهود في ثلاث : أحدها : افتخروا بأنّهم أولياء الله وأحبّاؤه ، فكذّبهم في قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وثانيها : افتخروا بأنّهم أهل الكتاب ، والعرب لا كتاب لهم ، فشبّههم بالحمار يحمل أسفارا. وثالثها : افتخروا بالسّبت ، وأنّه ليس للمسلمين مثله ، فشرع الله لهم الجمعة ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) أي : أذّن لها. ووقت الأذان عند قعود الامام. وقد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤذّن واحد ، فكان إذا جلس على المنبر أذّن على باب المسجد ، فإذا نزل أقام الصلاة. ثمّ كان أبو بكر وعمر على ذلك إلى زمن عثمان ، وكثر الناس وتباعدت المنازل ، فزاد مؤذّنا آخر ، فأمر بالتأذين الأوّل على داره الّتي تسمّى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذّن المؤذّن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة ، ولم يعب ذلك عليه. وعند الإماميّة : الأذان الثاني حرام من جملة بدع عثمان.

وقوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيان لـ «إذا» وتفسير له. وإنّما سمّاه جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة. وكانت العرب قبل الإسلام تسمّيه العروبة. وقيل : سمّاه كعب بن لؤي ، لاجتماع الناس فيه إليه.

وروي عن ابن سيرين : أنّ أهل المدينة جمّعوا قبل أن يقدم إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبل أن تنزل سورة الجمعة ، وقالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كلّ سبعة أيّام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه ، فنذكر الله فيه ونصلّي.

٥٩

فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة ، فصلّى بهم يومئذ ركعتين ، وذكّرهم ووعّظهم ، فسمّوه يوم الجمعة ، لاجتماعهم فيه. فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أوّل جمعة كانت في الإسلام.

وأمّا أوّل جمعة جمّعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي أنّه لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسّس مسجدهم ، ثمّ خرج يوم الجمعة عامدا المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فخطب وصلّى الجمعة في دارهم.

(فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) فامضوا إليه مسرعين قصدا غير متثاقلين ، فإنّ السعي دون العدو. والذكر الخطبة. وقيل : الصلاة. والأمر بالسعي إليها يدلّ على وجوبها.

(وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي : اتركوا المعاملة وجميع ما يذهل عن ذكر الله ، من شواغل الدنيا.

وإنّما خصّ البيع من بينها لأنّ يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم ، وينصبّون (١) إلى المصر من كلّ أوب ، ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا تعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة ، وحينئذ يتكاثر البيع والشراء. فلمّا كان ذلك الوقت مظنّة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضيّ إلى المسجد ، قيل لهم : بادروا إلى تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله الّذي لا شيء أنفع منه وأربح. وقيل : سمّي جنس المعاملة بيعا تسمية للشيء باسم أكثر أنواعها وقوعا.

(ذلِكُمْ) أي : السعي إلى ذكر الله (خَيْرٌ لَكُمْ) من المعاملة ، فإنّ نفع الآخرة خير وأبقى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير والشرّ الحقيقيّين ، أو كنتم من أهل العلم.

وفي الحديث : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اعلموا أنّ الله تعالى قد افترض

__________________

(١) أي : ينحدرون.

٦٠