زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

واعلم أنّ واو القسم مطّرح معها إبراز الفعل إطّراحا كلّيّا ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر. فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادّة مسدّهما معا ، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو. فهنّ عوامل عمل الفعل والجارّ جميعا ، كما تقول : ضرب زيد عمرا وبكر خالدا ، فترفع بالواو وتنصب ، لقيامها مقام «ضرب» الّذي هو عاملهما ، من غير لزوم عطف على عاملين مختلفين ، وهما : واو القسم وفعله ، كما في قولك : مررت أمس بزيد ، واليوم عمرو. وإمّا أن تجعلهنّ للقسم ، فتقع فيما اتّفق الخليل وسيبويه على استكراهه ، لأنّه محتاج إلى حرف العطف.

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي : من رفعها على وجه الاتّساق والانتظام. وإنّما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفيّة. كأنّه قيل : والسماء ، والقادر العظيم القدرة الّذي بناها. ولذلك أفرد ذكره. وكذا الكلام في قوله : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي : والحكيم الباهر الحكمة الّذي بسط الأرض ، وسوّى أعضاء النفس على أعدل وجه.

وجعل الماءات مصدريّة يجرّد الفعل عن الفاعل ، ويخلّ بنظم قوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها).

وتنكير «نفس» للتكثير ، كما في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) (١). أو للتعظيم.

والمراد : نفس آدم. والإلهام بالفجور والتقوى إفهامهما ، وتعريف حالهما بأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح ، ليفعل الطاعة ويذر المعصية. أو التمكين من اختيار ما شاء منهما ، بدليل قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أنماها بالعلم بالمعارف الإلهيّة والأعمال الصالحة ، فإنّ التزكية الإنماء والإعلاء بالتقوى. وهو جواب القسم.

وحذف اللام للطول. ولعلّه لمّا أراد به الحثّ على تكميل النفس والمبالغة فيه ، أقسم

__________________

(١) التكوير : ١٤.

٤٤١

عليه بما يدلّهم على العلم بوجود الصانع ، ووجوب ذاته ، وكمال صفاته ، الّذي هو أقصى درجات القوّة النظريّة ، ويذكّرهم عظائم آلائه ، ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه ، الّذي هو منتهى كمالات القوّة العمليّة.

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) نقصها وأخفاها بالجهالة والفسوق. من التدسية ، وهي النقص والإخفاء بالفجور. وأصل دسّى : دسّس ، كتقضّى وتقضّض. وسئل ابن عبّاس عنه فقال : أتقرأ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١) (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (٢).

وجاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها). وقف ثمّ قال : اللهمّ آت نفسي تقواها ، أنت وليّها ومولاها ، وزكّها أنت خير من زكّاها».

وروى زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في قوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال : «بيّن لها ما تأتي وما تترك». وفي قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) قال : «قد أفلح من أطاع ، وقد خاب من عصى».

وأمّا قول من زعم أنّ الضمير في «زكّى» و «دسّى» لله تعالى ، وضمير التأنيث راجع إلى «من» لأنّه في معنى النفس ، فمن تعكيس القدريّة الّذين يورّكون (٣) على الله قدرا هو بريء منه ومتعال عنه ، ويحيون لياليهم في تمحّل (٤) فاحشة ينسبونها إليه.

وقيل : قوله : «قد أفلح» استطراد بذكر أحوال النفس.

وجواب القسم محذوف ، تقديره : ليدمدمنّ الله على كفّار مكّة لتكذيبهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه‌السلام ، حيث قال :

__________________

(١) الأعلى : ١٤.

(٢) طه : ١١١.

(٣) ورّك الذنب عليه : حمله عليه ، واتّهمه به.

(٤) تمحّل الشيء : احتال في طلبه.

٤٤٢

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) بسبب طغيانها ، كما تقول : ظلمني بجرأته على الله.

أو بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى ، كقوله : (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (١). وأصله : طغيا ، من الطغيان. فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء ، بأن قلبوا الياء واوا في الاسم ، وتركوا القلب في الصفة ، فقالوا : امرأة خزيي.

(إِذِ انْبَعَثَ) حين قام. ظرف لـ «كذّبت» أو طغوى. (أَشْقاها) أشقى ثمود.

وهو قدار بن سالف. أو هو ومن عاونه على قتل الناقة ، فإن أفعل التفضيل إذا أضفته صلح للواحد والجمع. وفضل شقاوتهم لتولّيهم العقر وقد صحّت الرواية بالإسناد عن عثمان بن صهيب ، عن أبيه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : من أشقى الأوّلين؟ قال : عاقر الناقة. قال : صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قال : قلت : لا أعلم يا رسول الله. قال : الّذي يضربك على هذه ، وأشار إلى يافوخه» (٢).

وعن عمّار بن ياسر قال : «كنت أنا وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في غزوة العسرة نائمين في صور (٣) من النخل ، ودقعاء (٤) من التراب ، فو الله ما أنبهنا إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرّكنا برجله ، وقد تترّبنا من تلك الدقعاء. فقال : ألا أحدّثكما بأشقى الناس؟ قلنا : بلى يا رسول الله. قال : أحيمر ثمود الّذي عقر الناقة ، والّذي يضربك بالسيف يا عليّ على هذه ـ ووضع يده على قرنه (٥) ـ حتّى تبلّ منها هذه ، وأخذ بلحيته».

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ) أي : ذروا ناقة الله ، واحذروا عقرها

__________________

(١) الحاقّة : ٥.

(٢) اليافوخ : فراغ بين عظام الجمجمة في مقدّمتها وأعلاها ، لا يلبث أن تلتقي فيه العظام.

(٣) الصور : النخل الصغير.

(٤) الدقعاء : التراب ، الأرض لانبات بها.

(٥) أي : رأسه.

٤٤٣

(وَسُقْياها) فلا تزووها (١) عنها. وهي شربها من الماء. فنصب على التحذير ، كقوله : الأسد الأسد ، والصبيّ الصبيّ.

(فَكَذَّبُوهُ) فيما حذّرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا (فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) فأطبق عليهم العذاب. وهو من تكرير قولهم : ناقة مدمومة ، إذا ألبسها الشحم. (بِذَنْبِهِمْ) بسببه. وفيه إنذار عظيم بعاقبة الذنب ، فعلى كلّ مذنب أن يعتبر ويحذر. (فَسَوَّاها) فسوّى الدمدمة بينهم أو عليهم ، فلم يفلت منهم صغير ولا كبير. أو سوّى ثمود بالأرض ، أو في الإهلاك.

(وَلا يَخافُ عُقْباها) الواو للحال. والمعنى : فسوّى الله الدمدمة بينهم حال كونه لا يخاف عاقبة الدمدمة ، أي : عاقبة ما فعله بهم من إطباق العذاب عليهم. أو عاقبة إهلاك ثمود وتبعتها ، فيبقي بعض الإبقاء ، لأنّ أحدا لا يقدر على معارضته والانتقام منه. وهذا كقوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢).

وقرأ نافع وابن عامر : فلا يخاف ، على العاطفة التعقيبيّة.

__________________

(١) زوى الشيء : نحّاه ومنعه.

(٢) الأنبياء : ٢٣.

٤٤٤

(٩٢)

سورة الليل

مكّيّة. وهي إحدى وعشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها أعطاه الله حتّى يرضى ، وعافاه من العسر ، ويسّر له اليسر».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى

٤٤٥

(١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

ولمّا قدّم في سورة الشمس بيان حال المؤمن والكافر ، أتبعه سبحانه بمثل ذلك في هذه السورة ، فاتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي : يغشى الشمس ، كقوله :

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (١). أو النهار ، كقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) (٢). أو كلّ ما يواريه بظلامه ، كقوله : (إِذا وَقَبَ) (٣).

(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) ظهر بزوال ظلمة الليل ، أو تبيّن وانكشف بطلوع الشمس. وهما أعظم النعم ، إذ لو كان الدهر كلّه ظلاما لما أمكن الخلق طلب معايشهم ، ولو كان كلّه ضياء لما انتفعوا بسكونهم وراحتهم ، فلذلك كرّر سبحانه ذكر الليل والنهار في السورتين.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) والقادر العظيم القدرة الّذي خلق من ماء واحد صنفي الذكر والأنثى ، من كلّ نوع له توالد. أو آدم وحوّاء. وقيل : «ما» مصدريّة ، أي : وخلقهما. وجاز إضمار اسم الله ، لأنّه معلوم لانفراده بالخلق ، إذ لا خالق سواه.

قيل : إنّ الله لم يخلق خلقا من ذوي الأرواح ليس بذكر ولا أنثى. والخنثى وإن أشكل أمره عندنا ، فهو عند الله غير مشكل ، بل معلوم بالذكورة أو الأنوثة.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة. جمع شتيت. يعني : أعمالكم مختلفة ، فعمل للجنّة ، وعمل للنار.

__________________

(١) الشمس : ٤.

(٢) الأعراف : ٥٤.

(٣) الفلق : ٣.

٤٤٦

روى الواحدي بالإسناد المتّصل المرفوع عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : أنّ رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال ، وكان الرجل إذا جاء فيدخل الدار فيصعد النخلة ليأخذ منها التمر ، فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير ، فينزل الرجل من النخلة حتّى يأخذ التمرة من أيديهم ، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه حتّى يخرج التمرة من فيه.

فشكا ذلك الرجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهب. ولقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب النخلة. فقال : تعطيني نخلتك المائلة الّتي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنّة؟ فقال له الرجل : لي نخل كثير ، وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها.

قال : ثمّ ذهب الرجل ، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله : يا رسول الله أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنّة إن أنا أخذتها؟

قال : نعم.

فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه. فقال له : أشعرت أنّ محمدا أعطاني بها نخلة في الجنّة ، فقلت له : يعجبني تمرتها ، وإنّ لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها؟

فقال له الآخر : أتريد بيعها؟

قال : لا إلّا أن أعطى بها ما لا أظنّه أعطى.

قال : فما مناك؟

قال : أربعون نخلة.

فقال الرجل : جئت بعظيم ، تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة. ثمّ سكت عنه. فقال له : أنا أعطيك أربعين نخلة.

فقال له : أشهد إن كنت صادقا. فمرّ إلى أناس فدعاهم ، فأشهد له بأربعين

٤٤٧

نخلة. ثمّ ذهب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ النخلة قد صارت في ملكي ، فهي لك. فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى صاحب الدار ، فقال له : النخلة لك ولعيالك» (١).

وعن عطاء قال : اسم الرجل أبو الدحداح. فأنزل الله تعالى هذه السورة في شأنه ، وأقسم بعظم نعمه (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى).

ثمّ فصّل تشتّت المساعي بقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) أي : أعطى ماله لله تعالى. يعني : أبا الدحداح. (وَاتَّقى) الله ولم يعصه (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) بالكلمة الحسنى ، وهي ما دلّت على حقّ ، ككلمة التوحيد. أو بالملّة الحسنى ، وهي ملّة الإسلام. أو بالمثوبة الحسنى ، وهي الجنّة. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) فسنهيّئه للخلّة الّتي تؤدّي إلى يسر وراحة ، كدخول الجنّة. من : يسّر الفرس إذا هيّأه للركوب بالسرج واللجام. ومنه قوله عليه‌السلام : «كلّ ميسّر لما خلق له».

والمعنى : فسنلطف به ونوفّقه ، حتّى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها. من قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٢).

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بما أمر به. يعني : صاحب النخلة. (وَاسْتَغْنى) وزهد فيما عند الله ، حتّى كأنّه مستغن عنه فلم يتّقه. أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى. فهو في مقابلة «واتّقى». (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) بإنكار مدلولها (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) للخلّة المؤدّية إلى العسر والشدّة ، كدخول النار. يعني : فسنخذله ونمنعه الألطاف ، حتّى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشدّه. من قوله : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٣).

وقيل : سمّي طريقة الخير باليسرى ، لأنّ عاقبتها اليسر ، وطريقة الشرّ بالعسرى ، لأنّ عاقبتها العسر. والمعنى : فسنهديهما للطريقين في الآخرة.

__________________

(١) الوسيط ٤ : ٥٠٢.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

(٣) الأنعام : ١٢٥.

٤٤٨

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) نفي ، أو استفهام إنكار (إِذا تَرَدَّى) هلك. تفعّل من الردى. أو تردّى في حفرة القبر ، أو قعر جهنّم.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) إنّ الإرشاد إلى الحقّ واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع ، كقوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) (١). فأمّا الاهتداء فإليكم.

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء. أو ثواب الاهتداء للمهتدين في الدارين ، كقوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢). أو نستغني عن اهتدائكم ، لأنّ لنا الآخرة والأولى ، فلا يضرّنا ترككم الاهتداء.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) تتلهّب (لا يَصْلاها) لا يلزمها مقاسيا شدّتها (إِلَّا الْأَشْقَى) إلّا الكافر ، وهو صاحب النخلة ، فإنّ الفاسق وإن دخلها لا يلزمها ، بل يخرج عنها بالآخرة لإيمانه. ولذلك سمّاه أشقى ، فكأنّ النار لم تخلق إلّا له ، ووصفه بقوله :

(الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي : كذّب الحقّ ، وأعرض عن الطاعة. وقيل : المراد بـ (ناراً تَلَظَّى) طبقة مخصوصة بعينها للأشقى ، لا كلّ طبقات النار. ويدلّ عليه التنكير الّذي يدلّ على عظمها وانفرادها من بين طبقاتها.

إن قلت : هذا لا يناسب قوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) لأنّه قد علم أنّ أفسق المسلمين يجنّب تلك النار المخصوصة ، لا الأتقى منهم خاصّة.

قلت : هذا المعنى من حيث المفهوم ، والمفهوم عندنا ليس بحجّة.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الّذي اتّقى الشرك والمعاصي. وهو أبو الدحداح ، فإنّه لا يدخلها ، فضلا عن أن يدخلها ويصلاها.

__________________

(١) النحل : ٩.

(٢) العنكبوت : ٢٧.

٤٤٩

(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) يصرفه في مصارف الخير ، لقوله : (يَتَزَكَّى) فإنّه بدل من «يؤتي» أو حال من فاعله. من الزكاء ، أي : يطلب أن يكون عند الله زاكيا ، لا يريد به رياء ولا سمعة.

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) فيقصد بإيتائه مجازاتها (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) استثناء منقطع ، لأنّه مستثنى من غير جنسه ، وهو النعمة ، أي : ما لأحد عنده نعمة لكن ابتغاء وجه ربّه. أو متّصل عن محذوف ، مثل : لا يؤتي ماله إلّا ابتغاء وجه ربّه ، لا لمكافأة نعمة. ونصبه بالعلّيّة.

(وَلَسَوْفَ يَرْضى) وعد بالثواب الّذي يرضيه ويقرّ عينه.

روى العيّاشي عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : الآيات محمولة على عمومها في كلّ من يعطي حقّ الله من ماله ، وكلّ من يمنع حقّه.

٤٥٠

(٩٣)

سورة الضحى

مكّيّة. وهي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها كان ممّن يرضاه الله ، ولمحمّد أن يشفع له ، وله عشر حسنات بعدد كلّ يتيم وسائل».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

ولمّا ختم سبحانه سورة الليل بأنّ الأتقى يعطيه من الثواب ما به يرضى ، افتتح هذه السورة بأنّه يرضي نبيّه بما يؤتيه يوم القيامة من الكرامة والزلفى ، فقال :

٤٥١

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالضُّحى) ووقت ارتفاع الشمس. وتخصيصه لأنّ النهار يقوى فيه. أو لأنّ فيه كلّم موسى ربّه ، والقي السحرة سجّدا ، لقوله : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (١). أو النهار كلّه. ويؤيّده قوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) (٢) في مقابلة (بَياتاً) (٣).

(وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) سكن أهله فيه ، وسكتوا عن أصواتهم. أو ركد واستقرّ ظلامه. من : سجا البحر إذا سكنت أمواجه. وتقديم الليل في السورة المتقدّمة باعتبار الأصل ، وتقديم النهار هاهنا باعتبار الشرف.

وجواب القسم (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) ما قطعك قطع المودّع. والتوديع مبالغة في الودع ، لأنّ من ودّعك مفارقا فقد بالغ في تركك. (وَما قَلى) وما أبغضك. وحذف المفعول استغناء بذكره من قبل ، ومراعاة للفواصل.

وعن ابن عبّاس : أنّ الوحي تأخّر عنه خمسة عشر يوما. وعن ابن جريج : اثني عشر. وعن مقاتل : أربعين ، لتركه الاستثناء كما مرّ في سورة الكهف (٤) ، من أنّ اليهود سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذي القرنين وأصحاب الكهف ، فقال : سأخبركم غدا ، ولم يقل : إن شاء الله ، فقال المشركون : إنّ محمّدا ودّعه ربّه وقلاه.

وقيل : إنّ أمّ جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمّد إنّ شيطانك قد تركك.

فقال سبحانه ردّا عليهم ـ بعد أن أقسم بأعظم آياته على ذاته ـ : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى).

ولمّا بيّن أنّه تعالى لا يزال يواصله بالوحي والكرامة في الدنيا ، وعدّ له ما هو أعلى وأجلّ من ذلك في الآخرة ، فقال :

__________________

(١) طه : ٥٩.

(٢) الأعراف : ٩٧ ـ ٩٨.

(٣) الأعراف : ٩٧ ـ ٩٨.

(٤) راجع ج ٤ ص ١٠٠ ، ذيل الآية ٢٤ من سورة الكهف.

٤٥٢

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) فإنّها باقية خالصة عن الشوائب ، وهذه فانية مشوبة بالمضارّ. وقيل : المعنى : ولنهاية أمرك خير من بدايته ، فإنّك لا تزال تتصاعد في الرفعة والكمال ، من الفتوح والنصرة والعزّة.

ثمّ وعد وعدا شاملا لما أعطاه في الدارين ، من كمال النفس ، وظهور الأمر ، وإعلاء الدين ، ولما ادّخر له ممّا لا يعرف كنهه سواه ، فقال :

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) هذا موعد شامل لما أعطاه الله في الدنيا ، من الظفر والنصرة على أعدائه يوم بدر ، ويوم فتح مكّة ، ودخول الناس في الدين أفواجا ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم ، وبثّ عساكره وسراياه في بلاد العرب ، واستيلاء المسلمين على بلاد الشرك ، وإظهار دينه على جميع الأديان ، ورفعة صيته في المشرق والمغرب ، وقذف الرعب في قلوب أهل الشرق والغرب ، وفشوّ الدعوة. وفي الآخرة ؛ من السبق والتقدّم على جميع أنبياء الله ورسله ، وشهادة أمّته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين من أمّته ، وإعلاء مراتبهم بشفاعته ، وغير ذلك من الكرامات السنيّة الّتي لا يعلمها إلّا الله.

قال ابن عبّاس : له في الجنّة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك ، في كلّ قصر ما ينبغي من الأزواج والخدم ، وما يشتهي على أتمّ الوصف.

وروى حرث بن شريح ، عن محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة أنّه قال : يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب الله عزوجل : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (١) الآية ، وإنّا أهل البيت نقول : إنّ أرجى آية في كتاب الله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى). وهي والله الشفاعة ليعطينّها في أهل لا إله إلّا الله حتّى يقول : ربّ رضيت.

وعن الصادق عليه‌السلام قال : «دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عليّ وفاطمة وعليهما

__________________

(١) الزمر : ٥٣.

٤٥٣

كساء من ثلّة (١) الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أبصرها ، فقال : يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة ، فقد أنزل الله عليّ : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)».

وعن زيد بن عليّ : إنّ من رضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدخل أهل بيته الجنّة.

وعن الصادق عليه‌السلام : «رضا جدّي أن لا يبقى في النار موحّد».

واعلم أنّ اللام للابتداء ، دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ. والتقدير : ولأنت سوف يعطيك. لا للقسم ، فإنّها لا تدخل على المضارع إلّا مع النون المؤكّدة.

والجمع بين حرفي التوكيد والتأخير ، للدلالة على أنّ العطاء كائن لا محالة وإن تأخّر لحكمة.

ثمّ عدّد ما أنعم عليه في الماضي ، تنبيها على أنّه كما أحسن إليه فيما مضى يحسن إليه فيما يستقبل ، فقال :

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) من الوجود الّذي بمعنى العلم ، و «يتيما» مفعوله الثاني ، أي : ألم يعلمك يتيما؟ وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستّة أشهر ، وماتت أمّه وهو ابن ثماني سنين. (فَآوى) بأن كفلك عمّك أبو طالب ، وعطفه الله عليك ، فأحسن تربيتك. وسئل الصادق عليه‌السلام : لم أوتم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبويه؟ فقال : «لئلّا يكون لمخلوق عليه حقّ».

وقيل : معناه : ألم يجدك واحدا لا مثل لك في شرفك وفضلك ، فآواك إلى نفسه ، واختصّك برسالته؟ من قولهم : درّة يتيمة ، إذا لم يكن لها مثل.

وقال الماوردي : «فآواك أي : جعلك مأوى للأيتام بعد أن كنت يتيما ، وكفيل الأنام بعد أن كنت مكفولا» (٢).

__________________

(١) الثلّة : الصوف والشعر والوبر.

(٢) النكت والعيون ٦ : ٢٩٤.

٤٥٤

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا) غير مهتد إلى علم الحكم والأحكام ، كقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (١) (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٢) (فَهَدى) فعلّمك بالوحي والإلهام ، والتوفيق للنظر.

وقيل : وجدك ضالّا في الطريق فهدى ، فأزال ضلالك عن جدّك أو عمّك ، لما روي : أنّه ضلّ في صباه في بعض شعاب مكّة ، فردّه أبو جهل إلى عبد المطّلب.

وقيل : حين فطمته حليمة بنت أبي ذؤيب ، لمّا أرضعته وفطمته ثمّ أرادت ردّه على جدّه جاءت به حتّى قربت من مكّة ، فضلّ في الطريق ، فطلبته جزعة ، وكانت تقول : إن لم أره لأرمينّ نفسي من شاهق ، وجعلت تصيح : وا محمّداه.

قالت : فدخلت مكّة على تلك الحال فرأيت شيخا متوكّئا على عصاه ، فسألني عن حالي ، فأخبرته. فقال : لا تبكينّ فأنا أدلّك على من يردّه عليك. وأشار إلى هبل صنمهم الأعظم ، ودخل البيت ، وطاف بهبل ، وقبّل رأسه ، وقال : يا سيّداه لم تزل منّتك جسيمة ، ردّ محمّدا على هذه السعديّة.

قالت : فتساقطت الأصنام لمّا تفوّه باسم محمّد ، وسمع صوت : إنّ هلاكنا على يدي محمّد ، فخرج وأسنانه تصطكّ. وخرجت إلى عبد المطّلب وأخبرته بالحال ، فخرج وطاف بالبيت ودعا الله سبحانه ، فنودي وأشعر بمكانه. فأقبل عبد المطّلب وتلقّاه ورقة بن نوفل في الطريق ، فبينما هما يسيران إذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويلعب بالورق ، فقال عبد المطّلب : فداك نفسي ، وحمله وردّه إلى مكّة. وهذه الرواية مرويّة عن كعب.

وروي عن سعيد بن المسيّب : أنّه خرج مع عمّه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة ، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل

__________________

(١) الشورى : ٥٢.

(٢) يوسف : ٣.

٤٥٥

به عن الطريق ، فجاء جبرئيل فنفخ إبليس نفخة رفع بها إلى الحبشة ، وردّه إلى القافلة ، فمنّ الله عليه بذلك.

(وَوَجَدَكَ عائِلاً) فقيرا ذا عيال (فَأَغْنى) بما حصل لك من الربح في التجارة بمال خديجة ، أو بما أفاء عليك من الغنائم.

قال عليه الصلاة والسّلام : «جعل رزقي تحت ظلّ رمحي».

وقيل : قنّعك وأغنى قلبك.

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) قال : «فردا لا مثل لك في المخلوقين ، فآوى الناس إليك. ووجدك ضالّا ، أي : ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. ووجدك عائلا تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك».

وتعداد هذه النعم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتذكيره لشكر منعمه ، وترغيبه فيه ، ليستحقّ الشاكر المزيد.

ثمّ أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء ، فقال : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) فلا تغلبه على ماله وحقّه لضعفه ، كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى. وعن مجاهد : لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما.

وعن عبد الله بن مسعود قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مسح على رأس يتيم كان له بكلّ شعر يمرّ على يده نور».

وفي الحديث : «لا يلي أحد منكم يتيما فيحسن ولايته ، ويضع يده على رأسه ، إلّا كتب الله له بكلّ شعرة حسنة ، ومحا عنه بكلّ شعرة سيّئة ، ورفع له بكلّ شعرة درجة».

وقال عليه‌السلام : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة ، إذا اتّقى الله عزوجل». وأشار بالسبابة والوسطى.

وعنه عليه‌السلام قال : «إنّ اليتيم إذا بكى اهتزّ لبكائه عرش الرحمن ، فيقول الله

٤٥٦

لملائكة : يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الّذي غيّب أبوه في التراب؟ فتقول الملائكة : أنت أعلم. فيقول الله تعالى : يا ملائكتي فإنّي أشهدكم أنّ لمن أسكنه وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة».

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فلا تزجره ولا تردّه. وفي الحديث عن أنس بن مالك قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أتاك سائل على فرس باسط كفّيه فقد أوجب الحقّ ولو بشقّ تمرة».

وقيل : المراد بالسائل طالب العلم. والمعنى : علّم من يسألك كما علّمك الله الشرائع ، وكنت غير عالم بها. والأصحّ الأعمّ.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فإنّ التحدّث بها شكرها. وقيل : المراد بالنعمة النبوّة ، والتحدّث بها تبليغها. وعن الصادق عليه‌السلام : «فحدّث بما أعطاك الله وفضّلك ورزقك ؛ وأحسن إليك ، وقرّبك إليه».

٤٥٧
٤٥٨

(٩٤)

سورة الشرح

مكّيّة. وهي ثمان آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها أعطي من الأجر كمن لقي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغتمّا ففرّج عنه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

وروى أصحابنا عن أئمّتنا صلوات الله عليهم أنّ «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة ، لتعلّق إحداهما بالأخرى ، وجمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة.

وكذلك القول في سورة «ألم تر كيف» و «لإيلاف قريش». والسياق يدلّ على ذلك ، لأنّه قال : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) إلى آخرها ، ثمّ قال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ألم نفسحه حتّى وسع مناجاة الحقّ ، وأعباء النبوّة ، وتبليغ الرسالة ، ودعوة الثقلين جميعا ، وحفظ القرآن

٤٥٩

وشرائع الإسلام. أو حتّى احتمل المكاره الّتي يتعرّض لك بها كفّار قومك وغيرهم.

أو فسحناه بما أودعنا فيه من العلوم والحكم ، وأزلنا عنه ضيق الجهل. أو بما يسّرنا لك تلقّي الوحي بعد ما كان يشقّ عليك.

وعن ابن عبّاس قال : «سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل : يا رسول الله أينشرح الصدر؟ قال : نعم. فقالوا : يا رسول الله وهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال : نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإعداد للموت قبل نزول الموت».

ومعنى الاستفهام إنكار نفي الشرح ، فأفاد إثبات الشرح. فكأنّه قيل : شرحنا لك صدرك. ولذلك عطف عليه (وَوَضَعْنا) وحططنا (عَنْكَ وِزْرَكَ) عبأك الثقيل.

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) الّذي حمله على النقيض ، وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله. وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويغمّه ، من ترك الأولى قبل النبوّة ، أو من جهله بالأحكام والشرائع ، أو من تهالكه على إسلام أولي العناد من قومه ، أو العجز عن إرشادهم ، أو من إصرارهم وتعدّيهم في إيذائه حين دعاهم إلى الإسلام ، أو ثقله على أعباء النبوّة. ومعنى وضعه عنه : أن أعطي الثواب على الندم على ترك الأولى ، أو علّم الشرائع ، أو مهّد عذره بعد ما بلغ وبلغ ، أو خفّف عنه أعباء النبوّة.

إن قيل : إنّ السورة مكّيّة نزلت قبل أن يعلي الله كلمة أهل الإسلام.

قلنا : إنّه سبحانه لمّا بشّره بأن يعلي دينه على الدين كلّه ويظهره على أعدائه ، كان بذلك واضعا عنه ثقل غمّه بما كان يلحقه من أذى قومه ، ومبدّلا عسره يسرا ، فإنّه يثق بأنّ وعد الله حقّ.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) بالنبوّة وغيرها ، وأيّ رفع! مثل أن قرن اسمه باسمه تعالى في كلمتي الشهادة ، خصوصا في الأذان والإقامة والتشهّد وعلى المنابر ،

٤٦٠