زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

(٨٥)

سورة البروج

مكّيّة. وهي اثنتان وعشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأها أعطاه الله من الأجر بعدد كلّ يوم جمعة وكلّ يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات».

يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قرأ والسماء ذات البروج في فرائضه ـ فإنّها سورة النبيّين ـ كان محشره وموقفه مع النبيّين والمرسلين».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

٣٨١

ولمّا ختم سبحانه سورة الانشقاق بذكر المؤمنين ، افتتح هذه السورة أيضا بذكر المؤمنين من أصحاب الأخدود ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) البرج بمعنى القصر.

وأصل التركيب للظهور. والمراد : المنازل العالية ، وهي منازل الشمس والقمر والكواكب. وهي اثنا عشر برجا ، يسير القمر في كلّ برج منها يومين وثلاثا ، وتسير الشمس في كلّ برج شهرا. أو منازل القمر ، وهي ثمانية وعشرون ، سمّيت بها على التشبيه بالقصور. أو عظام الكواكب ، سمّيت بروجا لظهورها. أو أبواب السماء ، فإنّ النوازل تخرج منها.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) لمجازاة الخلائق. وهو يوم القيامة باتّفاق جميع المفسّرين. (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي : وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه. والمراد : من يشهد فيه من الخلائق كلّهم ، وما أشهد وأحضر في ذلك اليوم من عجائبه.

وتنكيرهما للإبهام في الوصف ، أي : وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما. أو المبالغة في الكثرة ، كأنّه قيل : ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود.

وقد اضطربت أقاويل المفسّرين فيهما. فعن ابن عبّاس : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة. وروي ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وسمّي يوم الجمعة شاهدا ، لأنّه يشهد على كلّ عامل بما عمل فيه. وفي الحديث : «ما طلعت الشمس على يوم ولا غربت أفضل منه ، وفيه ساعة لا يوافقها من يدعو الله فيها بخير إلّا استجاب الله له ، ولا استعاذ من شرّ إلّا أعاذه منه».

ويوم عرفة مشهود يشهد الناس فيه موسم الحجّ ، وتشهده الملائكة.

وعن بعضهم : الشاهد يوم النحر ، والمشهود يوم عرفة.

وعن سعيد بن المسيّب : الشاهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمشهود يوم القيامة. وهو المرويّ عن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام.

٣٨٢

وروي : أنّ رجلا دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا رجل يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فسألته عن الشاهد والمشهود. فقال : نعم ، الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة. فجزته إلى آخر يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسألته عن ذلك.

فقال : نعم ، الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم النحر. فجزتهما إلى غلام كأنّ وجهه الدينار ، وهو يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود.

فقال : نعم ، أمّا الشاهد فمحمّد ، وأمّا المشهود فيوم القيامة. أما سمعته سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١). وقال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (٢). فسألت عن الأوّل ، فقالوا : ابن عبّاس. وسألت عن الثاني ، فقالوا : ابن عمر. وسألت عن الثالث ، فقالوا : الحسن بن عليّ عليهما‌السلام.

أو الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم القيامة. وعن أبي الدرداء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أكثروا الصّلاة عليّ يوم الجمعة ، فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة ، وإنّ أحدا لا يصلّي عليّ إلّا عرضت عليّ صلاته حتّى يفرغ منها. قال : فقلت : وبعد الموت؟ قال : إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، فنبيّ الله حيّ يرزق».

وعن عكرمة : الشاهد الملك يشهد على ابن آدم ، والمشهود يوم القيامة. ثمّ تلا هاتين الآيتين : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٣). (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (٤).

وعن الجبائي : الشاهد الحفظة الّذين يشهدون على الناس ، والمشهود هم

__________________

(١) الأحزاب : ٤٥.

(٢) هود : ١٠٣.

(٣) ق : ٢١.

(٤) هود : ١٠٣.

٣٨٣

الّذين يشهدون عليهم.

وعن الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمّة ، والمشهود سائر الأمم ، لقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) (١) الآية.

وقيل : الشاهد الحجر الأسود ، والمشهود الحاجّ.

وقيل : الشاهد الأيّام والليالي ، والمشهود بنو آدم. وعن الحسن : ما من يوم إلّا وينادي : إنّي يوم جديد ، وإنّي على ما يعمل فيّ شهيد ، فاغتنمني ، فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة.

وقيل : الشاهد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمشهود سائر الأمم.

وقيل : الشاهد الأنبياء ، والمشهود محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. بيانه : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) إلى قوله : (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٢).

وقيل : الشاهد هو الله ، والمشهود لا إله إلّا الله. بيانه : قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٣).

وقيل : الشاهد الخلق ، والمشهود الحقّ ، كقوله :

ولله في كلّ تحريكة

وفي كلّ تسكينة شاهد

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

وقيل : بالعكس ، لقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٤).

وقيل : عيسى وأمّته ، لقوله تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (٥).

__________________

(١) النور : ٢٤.

(٢) آل عمران : ٨١.

(٣) آل عمران : ١٨.

(٤) آل عمران : ٩٨.

(٥) المائدة : ١١٧.

٣٨٤

وعلى التقادير ؛ قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) جواب القسم على تقدير : لقد قتل. والأظهر أنّه دليل جواب محذوف ، كأنّه قيل : إنّهم ملعونون ـ يعني : كفّار مكّة ـ كما لعن أصحاب الأخدود ، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين ، وتصبيرهم على أذاهم ، وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم ، حتّى يأنسوا بهم ، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا أنّ كفّارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذّبين المحرقين بالنار ، ملعونون أحقّاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش ، كما قيل : قتل أصحاب الأخدود. وهو دعاء عليهم ، كقوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١).

والأخدود ، الخدّ ، وهو الشقّ في الأرض. ونحوه : الخقّ والأخقوق بناء ومعنى. ومنه : فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان (٢).

وروى مسلم في الصحيح عن هدّاب بن خالد ، عن حمّاد بن مسلمة ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر ، فلمّا مرض الساحر قال : إنّي قد حضر أجلي ، فادفع إليّ غلاما أعلّمه السحر ، فدفع إليه غلاما. وكان يختلف إليه ، وبين الساحر والملك راهب ، فمرّ الغلام بالراهب ، فأعجبه كلامه وأمره. وكان يطيل عنده القعود ، فإذا أبطأ عن الساحر ضربه ، وإذا أبطأ عن أهله ضربوه. فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : يا بنيّ إذا استبطأك الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا استبطأك أهلك فقل : حبسني الساحر.

فبينما هو ذات يوم إذا بالناس قد حبستهم دابّة عظيمة فظيعة ، فقال : اليوم أعلم أمر الساحر أفضل أم أمر الراهب. فأخذ حجرا فقال : اللهمّ إن كان أمر الراهب

__________________

(١) عبس : ١٧.

(٢) الجرذ : نوع من الفار. والجمع : الجرذان.

٣٨٥

أحبّ إليك فاقتل هذه الدابّة. فرمى فقتلها ، ومضى الناس. فأخبر بذلك الراهب ، فقال : أي : بنيّ إنّك ستبتلى ، فإذا ابتليت فلا تدلّ عليّ.

قال : وجعل يداوي الناس ، فيبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء.

فبينما هو كذلك إذ عمي جليس للملك ، فأتاه وحمل إليه مالا كثيرا ، فقال : اشفني ولك ما هاهنا.

فقال : إنّي لا أشفي أحدا ، ولكنّ الله يشفي ، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك.

قال : فآمن ، فدعا الله له فشفاه. فذهب فجلس إلى الملك فقال : يا فلان من شفاك؟

قال : ربّي.

قال : أنا.

قال : لا ، ربّي وربّك الله.

قال : ولك ربّ غيري؟

قال : نعم ، ربّي وربّك الله. فأخذه فلم يزل به حتّى دلّه على الغلام. فبعث إلى الغلام فقال : لقد بلغ من أمرك أن تشفي الأكمه والأبرص.

قال : ما أشفي أحدا ، ولكنّ الله ربّي يشفي.

قال : ولك ربّ غيري؟

قال : نعم ، ربّي وربّك الله. فأخذه فلم يزل به حتّى دلّه على الراهب. فوضع المنشار عليه فأنشره حتّى وقع شقّاه. وقال للغلام : ارجع عن دينك. فأبى ، فأرسل معه نفرا وقال : اصعدوا به جبل كذا وكذا ، فإن رجع عن دينه وإلّا فدهدهوه (١) من ذروته.

__________________

(١) دهده الحجر : دحرجه.

٣٨٦

قال : فعلوا به الجبل. فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئت.

قال : فرجف بهم الجبل ، فتدهدهوا أجمعون ، ونجا الغلام وجاء إلى الملك.

فقال : ما صنع أصحابك؟

قال : كفانيهم الله.

فأرسل به مرّة اخرى ، قال : انطلقوا به فلجّجوه (١) في البحر ، فإن رجع وإلّا فغرّقوه. فانطلقوا به في قرقور (٢) ، فلمّا توسّطوا به البحر قال : اللهمّ اكفنيهم بما شئت.

قال : فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، ونجا وجاء حتّى قام بين يدي الملك.

فقال : ما صنع أصحابك؟

قال : كفانيهم الله.

ثمّ قال : إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به ، اجمع الناس ثمّ اصلبني على جذع ، ثمّ خذ سهما من كنانتي ، ثمّ ضعه على كبد (٣) القوس ، ثمّ قل : بسم الله ربّ الغلام ، فإنّك ستقتلني.

قال : فجمع الناس وصلبه ، ثمّ أخذ سهما من كنانته ، فوضعه على كبد القوس وقال : بسم الله ربّ الغلام ورمى ، فوقع السهم في صدغه ومات.

فقال الناس : آمنّا بربّ الغلام.

فقيل له : أرأيت نزل بك ما كنت تخاف من عبادة الله. فأمر بأخاديد فخدّدت على أفواه السكك ، ثمّ أضرمها نارا ، فقال : من رجع عن دينه فدعوه ، ومن أبى

__________________

(١) أي : اذهبوا به إلى لجّة البحر. وهي : معظم الماء.

(٢) القرقور : السفينة الطويلة أو الصغيرة.

(٣) كبد القوس : ما بين طرفي علاقتها.

٣٨٧

فأقحموه فيها. فجعلوا يقتحمونها. وجاءت امرأة معها صبيّ ، فتقاعست (١) أن تقع فيها. فقال لها الصبيّ يا أمّه اصبري ، فإنّك على الحقّ ، فاقتحمت. وقيل : قال لها : قعي ولا تنافقي. وقيل : قال الصبيّ : ما هي إلّا غميضة (٢) ، فصبرت» (٣).

وقال ابن المسيّب : كنّا عند عمر بن الخطّاب إذ ورد عليه أنّهم احتفروا فوجدوا ذلك الغلام وهو واضع يده على صدغه ، فكلّما مدّت يده عادت إلى صدغه ، فكتب عمر : واروه حيث وجدتموه.

وروى سعيد بن جبير قال : لمّا انهزم أهل اسفندهان قال عمر بن الخطّاب : ما هم يهود ولا نصارى ، ولا لهم كتاب ، وكانوا مجوسا. فقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : بلى قد كان لهم كتاب ، ولكنّه رفع. وذلك أنّ ملكا لهم سكر فوقع على ابنته ـ أو قال : على أخته ـ فلمّا أفاق قال لها : كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ قالت له : المخرج أن تجمع أهل مملكتك ، وتخبرهم أنّك ترى نكاح البنات ، وتأمرهم أن يحلّوه. فجمعهم فأخبرهم ، فأبوا أن يتابعوه. فقالت له : ابسط فيهم السوط ، فلم يقبلوا. فقالت له : ابسط فيهم السيف ، فلم يقبلوا. فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران ، وطرح من أبى فيها. فخدّ لهم أخدودا في الأرض ، وأوقد فيه النيران ، وعرّضهم عليها ، فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار ، ومن أجاب خلّى سبيله.

وقال الحسن : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ذكر عنده أصحاب الأخدود تعوّذ بالله من جهد البلاء.

وروى العيّاشي بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أرسل عليّ عليه‌السلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود ، فأخبره بشيء ، فقال عليّ عليه‌السلام :

__________________

(١) تقاعس عن الأمر : تأخّر.

(٢) الغميضة تصغير الغمضة ، أي : انطباق الجفن.

(٣) صحيح مسلم ٤ : ٢٢٩٩ ح ٧٣.

٣٨٨

ليس كما ذكرت ، ولكن سأخبرك عنهم ، إنّ الله بعث رجلا حبشيّا نبيّا ـ وهم حبشة ـ فكذّبوه ، فقاتلهم فقتلوا أصحابه وأسروه وأسروا أصحابه ، ثمّ بنوا له حيرا (١) ، ثمّ ملؤه نارا ، ثمّ جمعوا الناس ، فقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار. فجعل أصحابه يتهافتون في النار.

فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر ، فلمّا هجمت على النار هابت ورقّت على ابنها. فناداها الصبيّ : لا تهابي وارمي بي وبنفسك في النار ، فإنّ هذا في الله قليل.

فرمت بنفسها في النار وصبيّها ، وكان ممّن يكلّم في المهد.

وقال مقاتل : كان أصحاب الأخدود ثلاثة : واحد بنجران ، والآخر بالشام ، والآخر بفارس ، حرّقوا بالنار. أمّا الّذي بالشام فهو أنطياخوس الرومي. وأمّا الّذي بفارس فهو بخت نصّر. وأمّا الّذي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس. فأمّا من كان بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا ، وأنزل في الّذي كان بنجران.

وذلك أنّ رجلين مسلمين ممّن يقرآن الإنجيل ، أحدهما بأرض تهامة ، والآخر بنجران اليمن ، آجر أحدهما نفسه في عمل يعمله ، فجعل يقرأ الإنجيل ، فرأت ابنة المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل ، فذكرت ذلك لأبيها ، فرمق (٢) حتّى رآه ، فسأله فلم يخبره ، فلم يزل به حتّى أخبره بدين الإسلام ، فتابعه مع سبعة وثمانين إنسانا من رجل وامرأة. وهذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء.

فسمع يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبّع الحميري ، فخدّ لهم في الأرض وأوقد فيها ، فعرّضهم على اليهوديّة ، فمن أبى قذفه في النار ، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه فيها. وإنّ امرأة جاءت ومعها ولد صغير لا يتكلّم ، فلمّا قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت. فقال لها : يا أمّاه إنّي أرى

__________________

(١) الحير : الحمى ، أو شبه الحظيرة.

(٢) رمقه : لحظه لحظا خفيفا ، أطال النظر إليه.

٣٨٩

أمامك نارا لا تطفأ. فلمّا سمعت من ابنها ذلك قذفها في النار ، فجعلها الله وابنها في الجنّة.

وروي : أنّه أحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد. وقيل : سبعين ألفا.

وذكر أنّ طول الأخدود أربعون ذراعا ، وعرضه اثنا عشر ذراعا.

(النَّارِ) بدل اشتمال من الأخدود (ذاتِ الْوَقُودِ) وصف لها بأنّها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها ، من الحطب الكثير وأبدان الناس.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي : على ما يدنو منها من حافّات الأخدود قاعدون.

وعن مجاهد : كانوا قعودا على الكراسيّ عند الأخدود. والظرف متعلّق بـ «قتل» أي : لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها.

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنّهم لم يقصروا فيما أمروا به من تعذيب المؤمنين. أو يشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

(وَما نَقَمُوا) وما عابوا وما أنكروا (مِنْهُمْ) من المؤمنين (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) استثناء على طريقة قوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

ثمّ ذكر سبحانه أوصافه الّتي يستحقّ بها أن يؤمن به ويعبد ، وهو قوله : (الْعَزِيزِ) الغالب القادر الّذي يخشى عقابه (الْحَمِيدِ) المنعم.

(الَّذِي) يجب الحمد على نعمته ، ويرجى ثوابه. وقرّر ذلك بقوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له التصرّف فيهما وما بينهما (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وعيد لهم. يعني : أنّه عليم بما فعلوا ، وهو مجازيهم عليه.

__________________

(١) النور : ٢٤.

٣٩٠

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦))

ولمّا كان سبحانه متصرّفا في جميع ما سواه ، وعالم بكلّه ، فكلّ من فيهما يحقّ عليه أن يؤمن به ويعبده ويخشع له. فما نقموا منهم هو الحقّ الّذي لا ينقمه إلّا مبطل منهمك في الغيّ ، مستحقّ لانتقام الله منه بعذاب لا يعدله عذاب ، كما قال :

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بلوهم ، بأن أحرقوهم وعذّبوهم بالنار (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) من فعلهم ذلك ، ومن الشرك الّذي كانوا عليه (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أنواع عذابه ـ كالزقّوم والغسلين والمقامع ـ بكفرهم (وَلَهُمْ) مع ذلك (عَذابُ الْحَرِيقِ) نار اخرى عظيمة زائدة في الإحراق. يعني : أنّ للفاتنين عذابين في الآخرة : لكفرهم ، ولفتنتهم. أو المعنى : لهم عذاب جهنّم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا ، لما روي أنّ النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.

وعن الربيع بن أنس : لمّا ألقوا في النار نجّى الله المؤمنين من النار ، وأخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفّار فأحرقتهم.

ويجوز أن يريد الّذين فتنوا المؤمنين ، أي : بلوهم بالأذى على العموم ، والمؤمنين : المفتونين عموما.

ثمّ بشّر المؤمنين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي

٣٩١

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) النجاة العظيم والنفع الخالص ، إذ الدنيا وما فيها تصغر دونه. وقيل : إنّما وصفه بالكبير لأنّ نعيم العاملين كبير بالإضافة إلى نعيم من لا عمل له من داخلي الجنّة ، لما في ذلك من الإجلال والإكرام والتبجيل والتعظيم.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) مضاعف عنفه ، فإنّ البطش أخذ بعنف ، فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف وتفاقم. وهو بطشه بالجبابرة والظلمة شديدا جدّا ، وأخذهم بالعذاب الأليم انتقاما.

(إِنَّهُ) وعد الكفرة بأنّه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم ، إذ لم يشكروا نعمة الإبداء (هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) يبدئ الخلق ثمّ يعيده. دلّ باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه. وعن ابن عبّاس معناه : يبدئ البطش بالكفرة في الدنيا ، ويعيده في الآخرة. وذلك لأنّ ما قبله يقتضيه.

(وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن تاب ، أو تفضّلا (الْوَدُودُ) المحبّ لمن أطاع ، أي : الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود ، من إعطائهم ما أرادوا.

(ذُو الْعَرْشِ) مالكه ومدبّره (الْمَجِيدُ) العظيم في ذاته وصفاته ، فإنّه واجب الوجود ، تامّ القدرة والحكمة. وقرأ حمزة بالجرّ صفة لـ «ربّك» أو للعرش. ومجده : علوّه وعظمته.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) خبر مبتدأ محذوف. وإيراد صيغة المبالغة للدلالة على أنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

٣٩٢

ثمّ سلّى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التأذّي من قومه بذكر قصّة فرعون وثمود ، فقال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) الّذين تجنّدوا على أنبياء الله (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) أبدلهما من الجنود لأنّ المراد بفرعون هو وقومه ، كما في قوله : (مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) (١) والمعنى : قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل وما حاق بهم ، فتسلّ واصبر على تكذيب قومك ، وحذّرهم مثل ما أصابهم.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك (فِي تَكْذِيبٍ) أي : تكذيب لا يخلصون عنه أصلا. فمعنى الإضراب : أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء ، لأنّهم سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم ، ورأوا آثار هلاكهم ، ولم يعتبروا وكذّبوا أشدّ من تكذيبهم.

(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي : عالم بجميع أحوالهم ، وقادر عليهم ، وهم لا يعجزونه. والإحاطة بهم من ورائهم مثل لعدم فوتهم ، كما لا يفوت المحاط المحيط.

(بَلْ هُوَ) بل هذا الّذي كذّبوا به (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) كتاب شريف ، جليل القدر ، وحيد في النظم والمعنى بين الكتب السماويّة (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) من التحريف ، ومن وصول الشياطين إليه. وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن.

وعن ابن عبّاس ومجاهد : أنّ اللوح المحفوظ من درّة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب.

وعن مقاتل : اللوح عن يمين العرش. وعن أنس : في جبهة إسرافيل.

__________________

(١) يونس : ٨٣.

٣٩٣
٣٩٤

(٨٦)

سورة الطارق

مكّيّة. وهي سبع عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها أعطاه الله بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات».

المعلّى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من كان قراءته في الفريضة بالسماء والطارق ، كان له يوم القيامة عند الله جاه ومنزلة ، وكان من رفقاء النبيّين وأصحابهم في الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

ولمّا ختم سبحانه سورة البروج بالوعيد ، افتتح هذه السورة بمثله ، وأكّد ذلك

٣٩٥

بأنّ أعمال الخلق محفوظة ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) والكوكب البادي بالليل. وهو في الأصل لسالك الطريق. واختصّ عرفا بالآتي ليلا ، ثمّ استعمل للبادي فيه. أو الكوكب الذي يطرق الجنّي ، أي : يصكّه.

روي : أنّ أبا طالب كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانحطّ نجم ، فامتلأ ماثمّ نورا ، فجزع أبو طالب وقال : أيّ شيء هذا؟ فقال عليه‌السلام : «هذا نجم رمي به ، وهو آية من آيات الله». فعجب أبو طالب ، فنزلت : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ).

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ) المضيء ، كأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، كما قيل : درّيّ ، لأنّه يدرأ الظلام ، أي : يدفعه. والمراد جنس النجوم ، أو جنس الشهب الّتي يرجم بها ، أو كوكب معهود بالثقب ، وهو زحل.

واعلم أنّ الله سبحانه أراد أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيما له ، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة ، وأن ينبّه على ذلك ، فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره ، وهو الطارق. ثمّ قال : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ). ثمّ فسّره بقوله :

(النَّجْمُ الثَّاقِبُ). كلّ هذا إظهارا لفخامة شأنه ، كما قال : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (١).

وجواب القسم قوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) «إن» هي المخفّفة ، واللام هي الفاصلة ، و «ما» زائدة. والمعنى : أنّ الشأن كلّ نفس لعليها مهيمن رقيب ، وهو الله تعالى ، كقوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (٢). (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (٣).

__________________

(١) الواقعة : ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) الأحزاب : ٥٢.

(٣) النساء : ٨٥.

٣٩٦

وقيل : ملك يحفظ عملها ، ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ. روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وكلّ بالمؤمن مائة وستّون ملكا يذبّون عنه ، كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب. ولو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».

وقرأ ابن عامر وحمزة : لمّا بالتشديد ، على أنّها بمعنى «إلّا» و «إن» نافية. والمعنى : ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ.

ولمّا ذكر أنّ على كلّ نفس حافظا ، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في مبدئه وأوّل أمره ونشأته ، ليعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته ، فلا يملي على حافظه إلّا ما يسرّه في عاقبته ، فقال :

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) من أيّ شيء خلقه الله. فأجاب بقوله : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) ذي دفق في الرحم ، كاللّابن (١) والتامر. أو الإسناد مجازيّ ، والدفق في الحقيقة لصاحبه ، أي : دافق صاحبه. قال الفرّاء : وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول. وهذا وقع في كثير من كلامهم ، نحو : سرّ كاتم ، وهمّ ناصب. والدفق : صبّ فيه دفع. والمراد : الممتزج من الماءين في الرحم. واتّحادهما حين ابتدئ في خلقه ، ولهذا لم يقل : ماءين. ويدلّ على أنّ المراد ماءان قوله : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) صلب الرجل وترائب المرأة ، وهي عظام صدرها حيث تكون القلادة. وقيل : العظم والعصب من الرجل ، واللحم والدم من المرأة.

ولو صحّ أنّ النطفة تتولّد من فضل الهضم الرابع ، وتنفصل من جميع الأعضاء حتّى تستعدّ لأن يتولّد منها مثل تلك الأعضاء ، ومقرّها عروق ملتفّ بعضها بالبعض عند البيضتين ، فالدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها ، ولذلك تشبهه ، ويسرع

__________________

(١) أي : ذي اللبن والتمر.

٣٩٧

الإفراط في الجماع بالضعف فيه ، وله خليفة ، وهي النخاع ، وهو في الصلب ، وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب ، وهما أقرب إلى أوعية المنيّ ، فلذلك خصّا بالذكر.

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) لبيّن القدرة. وتقديم الجارّ للتخصيص. والضمير للخالق. ويدلّ عليه «خلق».

وعن الضحّاك : إنّه على ردّ الإنسان ماء كما كان قادر.

وقال مقاتل بن حيّان : يقول الله تعالى : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة.

والأصحّ القول الأوّل. ويؤيّده أنّه حكى البعث بعده بقوله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) ظرف للرجع. والمعنى : هو القادر على الرجع في يوم تختبر تلك السرائر. والمراد لازم الاختبار ، فكأنّه قيل : يتعرّف ويتميّز كلّ ما أسرّ في القلوب من العقائد وسائر الضمائر ، وما أخفي من الأعمال ، حتّى يظهر ما طاب منها وما خبث. يعني : خيرها من شرّها ، ومقبولها من مردودها.

روي مرفوعا عن أبي الدرداء : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ضمن الله خلقه أربع خصال : الصلاة ، والزكاة ، وصوم رمضان ، والغسل من الجنابة. وهي السرائر الّتي قال الله تعالى : «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ».

وقيل : يظهر الله أعمال كلّ أحد لأهل القيامة ، حتّى يعلموا على أيّ شيء أثابه ، ويكون فيه زيادة سرور لهم ، وإن يكن من أهل العقوبة يظهر عمله ليعلموا على أيّ شيء عاقبه ، ويكون في ذلك زيادة غمّ له.

وروي عن ابن عمر أنّه قال : يبدئ الله يوم القيامة كلّ سرّ ، ويكون زينا في الوجوه ، وشينا في الوجوه.

(فَما لَهُ) لهذا الإنسان المنكر للبعث (مِنْ قُوَّةٍ) من منعة في نفسه يمتنع بها (وَلا ناصِرٍ) يمنعه.

٣٩٨

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

ثمّ ذكر قسما آخر تأكيدا لوقوع البعث ، فقال : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) ترجع في كلّ دورة إلى الموضع الّذي تتحرّك عنه. وأكثر المفسّرين على أنّ الرجع المطر ، سمّي به كما سمّي أوبا ، لأنّ الله يرجعه وقتا فوقتا ، أو لأنّ العرب يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من البحار ثمّ يرجعه إلى الأرض. وعلى هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب. أو أرادوا التفاؤل ، فسمّوه رجعا وأوبا ، ليرجع ويؤب.

(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) ما تتصدّع عنه الأرض من النبات. أو الشقّ بالنبات والعيون.

(إِنَّهُ) إنّ القرآن ، أو إنّ الوعد بالبعث (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) فاصل بين الحقّ والباطل ، كما قيل له : إنّه الفرقان.

(وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) فإنّه جدّ كلّه ، ومن حقّه أن يكون مهيبا في الصدور ، معظّما في القلوب ، يترفّع به قارئه وسامعه أن يلمّ بهزل أو يتفكّه بمزاح ، وأن يلقى ذهنه إلى أنّ جبّار السماوات يخاطبه فيأمره وينهاه ، ويعده ويوعده ، حتّى إن لم يستفزّه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية ، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل ، فقد نعى الله على المشركين ذلك في قوله : (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (١).

(إِنَّهُمْ) يعني : أهل مكّة (يَكِيدُونَ كَيْداً) يعملون المكايد في إطفاء نوره

__________________

(١) النجم : ٦٠ ـ ٦١.

٣٩٩

وإبطاله (وَأَكِيدُ كَيْداً) وأقابلهم بكيدي ، في استدراجي لهم ، وانتقامي منهم من حيث لا يحتسبون ، وتدبيري ما ينقص مكايدهم وتدابيرهم أمرهم من حيث لا يعلمون.

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) فلا تشتغل بالانتقام منهم ، أو لا تستعجل بإهلاكهم (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) إمهالا يسيرا. والتكرير وتغيير البنية لزيادة التسكين منه والتصبير.

٤٠٠