زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

(٨٣)

سورة المطفّفين

وتسمّى سورة التطفيف. مكّيّة. وقال ابن عبّاس وقتادة : مدنيّة إلّا ثماني آيات منها ، وهي : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلى آخر السورة. وهي ستّ وثلاثون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن قرأها سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة».

وروى صفوان الجمّال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من كانت قراءته في الفريضة ويل للمطفّفين ، أعطاه الله الأمن يوم القيامة من النار ، ولا تراه ولا يراها ، ولا يمرّ على جسر جهنّم ، ولا يحاسب يوم القيامة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

ولمّا ختم سبحانه سورة الانفطار بذكر القيامة وما أعدّ فيها للأبرار والفجّار ،

٣٦١

بيّن في هذه السورة أيضا ذكر أحوال الناس في القيامة ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) التطفيف البخس في الكيل والوزن ، لأنّ ما يبخس شيء طفيف ، أي : حقير.

روي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قدم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فنزلت ، فأحسنوه.

وقيل : قدمها وبها رجل يعرف بأبي جهينة ، ومعه صاعان : يكيل بأحدهما لغيره ، ويكتال بالآخر لنفسه.

وقيل : كان أهل المدينة تجّارا يطفّفون ، وكانت بياعاتهم المنابذة (١) والملامسة (٢) والمخاطرة (٣) ، فنزلت فيهم. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأها عليهم ، وقال : «خمس بخمس. قيل : يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال : ما نقض العهد قوم إلّا سلّط الله عليهم أعداءهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت ، وما طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر».

وعن عليّ عليه‌السلام أنّه مرّ برجل يزن الزعفران وقد أرجح ، فقال له : «أقم الوزن بالقسط ، ثمّ أرجح بعد ذلك ما شئت».

كأنّه أمره بالتسوية أوّلا ليعتادها ، ويفصل الواجب من النفل.

وعن ابن عبّاس : إنّكم معشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم : المكيال ، والميزان. وخصّ الأعاجم لأنّهم يجمعون الكيل والوزن جميعا. وقيل : كان أهل مكّة يزنون ، وأهل المدينة يكيلون.

__________________

(١) كان في الجاهليّة يحضر الرجل قطيع الغنم ، فينبذ الحصاة ويقول لصاحب الغنم : إنّ ما أصاب الحجر فهو لي بكذا ، وكانوا يدعون هذا البيع : بيع المنابذة.

(٢) الملامسة في البيع أن تقول : إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي فقد وجب البيع بكذا.

(٣) خاطره على كذا : راهنه.

٣٦٢

وعن ابن عمر : أنّه كان يمرّ بالبائع فيقول له : اتّق الله وأوف الكيل ، فإنّ المطفّفين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن ، حتّى إنّ العرق ليلجمهم.

وعن عكرمة : أشهد أنّ كلّ كيّال ووزّان في النار. فقيل له : إنّ ابنك كيّال أو وزّان. فقال : أشهد أنّه في النار.

وعن أبيّ : لا تلتمس الحوائج ممّن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن (١) الموازين.

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) أي : اكتالوا لأنفسهم من الناس حقوقهم (يَسْتَوْفُونَ) يأخذونها وافية. ولمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرّهم ويتحامل فيه عليهم ، أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلّق «على» بـ «يستوفون» ، ويقدّم المفعول على الفعل لإفادة التخصيص ، أي : يستوفون على الناس خاصّة ، فأمّا أنفسهم فيستوفون لها. وإنّما لم يذكر : اتّزنوا ، كما قال : (أَوْ وَزَنُوهُمْ) لأنّ المطفّفين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلّا بالمكاييل دون الموازين ، لتمكّنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة ، لأنّهم يدعدعون (٢) ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا ووزنوا ، لتمكّنهم من البخس في النوعين جميعا.

(وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي : إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم (يُخْسِرُونَ) ينقصون. يقال : خسر الميزان وأخسره. فحذف الجارّ وأوصل الفعل ، كقوله : ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا (٣). بمعنى : جنيت لك. أو كالوا مكيلهم وموزونهم ، فحذف

__________________

(١) لسان الميزان : شيء في قائمة الميزان ـ وهي الّتي تعلّق بها كفّتاه ـ يشبه اللسان.

(٢) دعدع المكيال : هزّه ليسع الشيء.

(٣) أكمو جمع كمء : جنس فطر من فصيلة الكمئيّات ، يعيش تحت الأرض ، لونه يميل إلى الغبرة ، يهيّأ منه طعام لذيذ. والعسقل : جزء من ساق نباتيّة أو من جذر نباتي ، يحتوي على موادّ غذائيّة مكتنزة. والجمع : العساقل.

٣٦٣

المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

ولا يحسن جعل الضمير المنفصل تأكيدا للمتّصل ، وهو واو الضمير ، لأنّه يخرج الكلام عن مقابلة ما قبله ، إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والدفع ، لا في المباشرة وعدمها ، فإنّ معناه حينئذ : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولّوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا. وهو كلام متنافر غير ملائم لما قبله.

والمعنى الأوّل وإن كان يستدعي إثبات الألف بعد الواو ، لكن رسم المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم الخطّ. ويمكن أن يقال : إنّ الواو وحدها هاهنا معطية معنى الجمع ، وإنّما تكتب هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك : هم لم يدعوا ، وهو يدعو. ولمّا كان المعنى هاهنا كافيا في التفرقة بينهما ، لم يحتج إلى إثبات الألف.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فإنّ من ظنّ ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح ، فكيف بمن تيقّنه! وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف ، كأنّهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمّنون تخمينا أنّهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة والخردلة. (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) عظمه لعظم ما يكون فيه.

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) من قبورهم. نصب بـ «مبعوثون» ، أو بدل من الجارّ والمجرور. (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لحكمه. ولا شبهة أنّ في هذا الإنكار والتعجيب ، وذكر الظنّ ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس فيه لله خاضعين ، ووصف ذاته بربّ العالمين ، مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه.

وعن قتادة : أوف يا ابن آدم كما تحبّ أن يوفى لك ، واعدل كما تحبّ أن يعدل لك.

وعن الفضيل : بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.

وعن ابن عمر : أنّه قرأ هذه السورة ، فلمّا بلغ قوله تعالى : «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ

٣٦٤

لِرَبِّ الْعالَمِينَ» بكى نحيبا ، وامتنع من قراءة ما بعده.

وروي : أنّ أعرابيّا قال لعبد الملك بن مروان : لقد سمعت ما قال الله تعالى في المطفّفين. أراد بذلك : أنّ المطفّف قد توجّه عليه الوعيد العظيم الّذي سمعت به ، فما ظنّك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن!!

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

(كَلَّا) ردعهم عمّا كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب ، ونبّههم على أنّه ممّا يجب أن يتاب عنه ويندم عليه. ثمّ أتبعه وعيد الفجّار على العموم ، فقال : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) ما يكتب من أعمالهم ، أو كتابة أعمالهم (لَفِي سِجِّينٍ) علم لديوان الشرّ الّذي دوّن الله فيه جميع أعمال الفجرة من الشياطين والثقلين ، كما قال :

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) أي : ليس ذلك ممّا كنت تعلمه أنت ولا قومك (كِتابٌ مَرْقُومٌ) مسطور بيّن الكتابة. أو معلم يعلم من رآه أنّه لا خير فيه. والمعنى :

٣٦٥

أنّ ما كتب من أعمال الفجّار مثبت في ذلك الديوان. فعّيل من السجن ، وهو الحبس والتضييق. نقل من هذا الوصف ولقّب به الكتاب ، لأنّه سبب الحبس في جهنّم ، فهو من قبيل تسمية السبب باسم المسبّب. أو لأنّه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش (١) مظلم ، وهو مسكن إبليس وذرّيّته ، استهانة به ، وليشهده الشياطين المدحورون ، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. تسمية للحالّ باسم المحلّ.

وقيل : اسم مكان على تقدير مضاف ، تقديره : ما كتاب السجّين ، أو محلّ كتاب مرقوم ، فحذف المضاف.

وعلى التقديرين ؛ فلا منافاة بين الآية وبين ما روي عن شمر بن عطيّة أنّه جاء ابن عبّاس إلى كعب الأحبار فقال : أخبرني عن قول الله تعالى : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ). قال : إنّ روح الفاجر يصعد بها إلى السماء ، فتأبى السماء أن تقبلها ، ثمّ يهبط بها إلى الأرض ، فتأبى الأرض أن تقبلها ، فتدخل تحت سبع أرضين ، حتّى ينتهى بها إلى سجّين ، وهو موضع جند إبليس. وما روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ سجّين جبّ في جهنّم مفتوح ، والفلق جبّ في جهنّم مغطّى».

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لمن كذّب بالجزاء والبعث ولم يصدّقه (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) صفة مخصّصة ، أو موضحة ، أو ذامّة ، كقولك : فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث.

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) متجاوز عن النظر ، غال في التقليد ، حتّى استقصر قدرة الله وعلمه ، فاستحال منه الإعادة (أَثِيمٍ) كثير الإثم ، منهمك في الشهوات الرديّة المردية ، بحيث أشغلته عمّا وراءها ، وحملته على الإنكار.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أباطيلهم الّتي كتبوها ولا أصل لها. وذلك من فرط جهله وإعراضه عن الحقّ ، فلا تنفعه شواهد النقل ، كما لا تنفعه

__________________

(١) مكان وحش : أي : قفر.

٣٦٦

دلائل العقل.

(كَلَّا) ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول. ثمّ بيّن ما أدّى بهم إلى هذا القول ، فقال : (بَلْ رانَ) من الرين ، وهو ركوب الصدأ على شيء. وقرأ حفص : بل ران ، بإظهار اللام. والإدغام أجود. والمعنى : بل ركب وغلب كما يركب الصدأ (عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : حبّ ما كانوا يعملون من المعاصي والانهماك فيها ، فعمي عليهم معرفة الحقّ والباطل ، فإنّ كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات ، فإذا كان العبد يصرّ على الكبائر ، ويسوّف التوبة حتّى يطبع على قلبه ، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه ، كما قال عليه‌السلام : «إنّ العبد كلّما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتّى يسودّ قلبه».

وعن الحسن : الذنب بعد الذنب حتّى يسودّ القلب.

وعن عبد الله بن مسعود قال : إنّ الرجل ليذنب الذنب فتنكت على قلبه نكتة سوداء ، ثمّ يذنب الذنب فتنكت نكتة اخرى ، حتّى يصير قلبه على لون الشاة السوداء.

وروى العيّاشي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء ، فإذا تاب ذهب ذلك السواد ، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض ، فإذا غطّى البياض لم يرجع إلى الخير أبدا ، وهو قوله تعالى : «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ».

(كَلَّا) ردع عن كسب العمل الرائن على قلوبهم (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنّه لا يؤذن على الملوك إلّا للوجهاء المكرّمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلّا الأدنياء المهانون عندهم. وعن عليّ عليه‌السلام : «محرومون عن ثوابه وكرامته». وعن ابن عبّاس وقتادة : محجوبون عن

٣٦٧

رحمته وإحسانه.

(ثُمَّ إِنَّهُمْ) بعد أن منعوا من الثواب والكرامة (لَصالُوا الْجَحِيمِ) يصلونها ويلزمونها أبدا ، ولا يغيبون عنها أصلا.

(ثُمَّ يُقالُ) يقول لهم الزبانية توبيخا وتقريعا (هذَا الَّذِي) فعل بكم من العذاب الأليم والعقاب العظيم ما (كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) في دار التكليف.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

(كَلَّا) ردع عن التكذيب. أو تكرير للأوّل ، ليعقّب بوعد الأبرار كما عقّب الأوّل بوعد الفجّار ، إشعارا بأنّ التطفيف فجور والإيفاء برّ. وقيل : معناه : حقّا. (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) ما كتب من أعمالهم. (لَفِي عِلِّيِّينَ) علم لديوان الخير الّذي دوّن فيه كلّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين. منقول من جمع علّيّ ، فعّيل من العلوّ ، كسجّين من السجن. سمّي به إمّا لأنّه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنّة. وإمّا لأنّه مرفوع في السماء السابعة تحت العرش حيث يسكن الكرّوبيّون ، تكريما

٣٦٨

له وتعظيما.

(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) تعظيم لشأن هذا الكتاب. ثمّ قال : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) مكتوب فيه طاعاتهم وما تقرّ به أعينهم ويوجب سرورهم ، بضدّ كتاب الفجّار (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يحضرونه فيحفظونه ، أو يشهدون على ما فيه يوم القيامة.

وعن ابن عبّاس : هو لوح من زبرجدة خضراء ، معلّق تحت العرش ، أعمالهم مكتوبة فيه.

وروي : أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلّونه ، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم : إنّكم الحفظة على عبدي ، وأنا الرقيب على ما في قلبه ، وإنّه أخلص عمله ، فاجعلوه في علّيّين ، فقد غفرت له. وإنّها لتصعد بعمل العبد فيزكّونه ، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم : أنتم الحفظة على عبدي ، وأنا الرقيب على ما في قلبه ، وإنّه لم يخلص لي عمله ، فاجعلوه في سجّين.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) يحصلون في ملاذّ وأنواع نعم الجنّة (عَلَى الْأَرائِكِ) على الأسرّة (١) في الحجال. جمع الأريكة ، وهي السرير. (يَنْظُرُونَ) إلى ما يسرّهم من مناظر الجنّة ، وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة ، وإلى أعدائهم يعذّبون في النار.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجة التنعّم وبريقه ، كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الثروة. قال عطاء : وذلك لأنّ الله قد زاد في جمالهم وألوانهم مالا يصفه واصف. وقرأ يعقوب : تعرف على بناء المفعول ، ونضرة بالرفع.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) شراب خالص لا غشّ فيه (مَخْتُومٍ * خِتامُهُ مِسْكٌ)

__________________

(١) الأسرّة جمع : السرير. والحجال جمع الحجلة. وهي : بيت يزيّن بالثياب والأسرّة والستور.

٣٦٩

أي : يختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة في الدنيا. وقيل : مختوم أي : ممنوع من أن يمسّه يد حتّى يفكّ ختمه للأبرار. وقرأ الكسائي : خاتمه بفتح التاء ، أي : ما يختم به ويقطع.

وعن ابن عبّاس والحسن وقتادة : معناه : مقطعه رائحة المسك إذا شرب.

يعني : إذا رفع الشارب فاه عن آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. وقيل : يمزج بالكافور ، ويختم مزاجه بالمسك.

وعن أبي الدرداء قال : هو شراب أبيض مثل الفضّة يختمون به شرابهم. ولو أنّ رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثمّ أخرجها لم يبق ذو روح إلّا وجد طيبها.

ثمّ أمر سبحانه بالترغيب فيه بوسيلة الأعمال الصالحة ، فقال : (وَفِي ذلِكَ) يعني : الرحيق ، أو النعيم (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليرتغب المرتغبون ، أي : يرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله. وعن مقاتل : فليتنازع المتنازعون. وفي الحديث : «من صام لله في يوم صائف سقاه الله على الظّمأ من الرحيق المختوم».

وفي وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا عليّ من ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم».

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) علم لعين بعينها. سمّيت تسنيما ـ الّذي هو مصدر : سنّمه إذا رفعه ـ إمّا لأنّها أرفع شراب في الجنّة ، وإمّا لأنّها تأتيهم من فوق ، على ما روي : أنّها تجري في الهواء متسنّمة فتنصبّ في أوانيهم. وهو أشرف شراب الجنّة.

(عَيْناً) نصب على المدح. وعند الزجّاج على الحال من «تسنيم». (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فإنّهم يشربونها صرفا ، لأنّهم لا يشتغلون بغير الله. وتمزج لسائر أهل الجنّة. والكلام في الباء كما في (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (١).

__________________

(١) الإنسان : ٦.

٣٧٠

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

ولمّا ذكر الوعد للأبرار بيّن الوعيد للفجّار ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) يعني : رؤساء قريش ومترفيهم ، كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) استهزاء بفقراء المؤمنين ، من عمّار وصهيب وخبّاب وبلال ونظرائهم.

وعن مقاتل والكلبي وأبي صالح عن ابن عبّاس : أنّه جاء عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام في نفر من المسلمين ، فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع ـ أرادوا به عليّا عليه‌السلام ـ فضحكوا منه ، فنزلت قبل أن يصل عليّ عليه‌السلام إلى رسول الله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ).

(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) مرّ المؤمنون بهؤلاء الفجّار (يَتَغامَزُونَ) يغمز بعضهم بعضا ، ويشيرون بأعينهم وحواجبهم.

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) متلذّذين بالسخريّة منهم. وقر حفص : فكهين (١) مبالغة.

__________________

(١) والقراءة الاخرى : فاكهين.

٣٧١

(وَإِذا رَأَوْهُمْ) وإذا رأوا المؤمنين (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي : نسبوهم إلى الضلال.

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ) على المؤمنين (حافِظِينَ) يحفظون عليهم أعمالهم ، ويشهدون برشدهم وضلالهم ، فكيف يطغون عليهم؟! وهذا تهكّم بهم ، أو هو من جملة قول الكفّار. يعني : أنّهم إذا رأوا المسلمين قالوا : (إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) ، وإنّهم لم يرسلوا عليهم حافظين ، إنكارا لصدّهم إيّاهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام ، أو عن النفاق ، وجدّهم في ذلك.

(فَالْيَوْمَ) أي : يوم القيامة الّذي يجازي الله فيه كلّ أحد وفق عمله (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) حين يرونهم أذلّاء مغلوبين في النار ، كما ضحك الكفّار منهم في الدنيا.

وقيل : يفتح لهم باب إلى الجنّة فيقال لهم : أخرجوا إليها ، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا ، فيضحك المؤمنون منهم.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) حال من «يضحكون» أي : يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزّة والكبر ، ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفّه ، وهم على الأرائك آمنون.

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) هل أثيبوا؟ والاستفهام للتقرير. (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) من السخريّة بالمؤمنين في الدنيا. يقال : ثوّبه وأثابه إذا جازاه. فاستعمل لفظ الثواب في العقوبة ، لأنّ الثواب في أصل اللغة الجزاء الّذي يرجع إلى العامل بعمله ، وإن كان في العرف اختصّ بالجزاء بالنعيم على الأعمال الصالحة ، فاستعمل هنا على أصله. وقيل : لأنّه جاء في مقابلة ما فعل بالمؤمنين ، أي : هل ثوّب الكفّار كما ثوّب المؤمنون؟

وهذا القول يكون من قبل الله تعالى ، أو تقوله الملائكة للمؤمنين ، تنبيها لهم على أنّ الكفّار جوزوا على كفرهم واستهزائهم بالمؤمنين ما استحقّوه من العذاب ، ليزدادوا بذلك سرورا إلى سرورهم.

٣٧٢

(٨٤)

سورة انشقّت

وتسمّى سورة الانشقاق. مكّيّة. وهي خمس وعشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة انشقّت أعاذه الله تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

٣٧٣

ولمّا ختم الله سورة المطفّفين بذكر أحوال القيامة ، افتتح هذه السورة بمثل ذلك ، فاتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) تصدّعت وانفرجت بالغمام ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) (١). وعن عليّ عليه‌السلام : «تنشقّ من المجرّة». وهي طريق ممتدّ في السماء. وانشقاقها من آيات القيامة.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) واستمعت له ، أي : انقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها ، انقياد المطواع الّذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع ، كقوله : (أَتَيْنا طائِعِينَ) (٢). (وَحُقَّتْ) وجعلت حقيقة بالاستماع والانقياد. يقال : حقّ بكذا ، فهو محقوق وحقيق به. يعني : هي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع. ومعناه : الإيذان بأنّ القادر بالذات يجب أن يتأتّى له كلّ مقدور ، ويحقّ ذلك.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) بسطت. من : مدّ الشيء فامتدّ. وهو أن تزال جبالها وآكامها وكلّ أمت (٣) فيها ، حتّى تمتدّ وتنبسط ويستوي ظهرها ، كما قال تعالى :

(قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (٤). وعن ابن عبّاس : مدّت مدّ الأديم العكاظي ، لأنّ الأديم إذا مدّ زال كلّ انثناء فيه وأمت واستوى. أو من : مدّه بمعنى : أمدّه ، أي : زيدت سعة وبسطة.

(وَأَلْقَتْ) ورمت (ما فِيها) ما في جوفها ممّا دفن فيها من الأموات والكنوز ، كقوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٥) (وَتَخَلَّتْ) وخلت غاية الخلوّ ،

__________________

(١) الفرقان : ٢٥.

(٢) فصّلت : ١١.

(٣) الأمت : المكان المرتفع.

(٤) طه : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٥) الزلزلة : ٢.

٣٧٤

حتّى كأنّها تكلّفت في الخلوّ أقصى جهدها ، فلم يبق شيء في باطنها ، كما يقال : تكرّم الكريم وترحّم الرحيم ، إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة ، وتكلّفا فوق ما في طبعهما.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في إلقاء ما في بطنها وتخلّيها (وَحُقَّتْ) للإذن. وليس هذا بتكرير ، لأنّ الأوّل في صفة السماء ، والثاني في صفة الأرض. وهذا كلّه من أشراط الساعة وجلائل الأمور الّتي تكون فيها. وتكرير «إذا» لاستقلال كلّ من الجملتين بنوع من القدرة. وجوابه محذوف ، للتهويل بالإبهام ، أو الاكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار.

وقيل : الجواب : لاقى الإنسان كدحه ، فإنّه مدلول قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) خطاب لجميع المكلّفين (إِنَّكَ كادِحٌ) جاهد في أعمال الخير والشرّ ، وكادّ وساع فيها بالمشقّة العظيمة (إِلى رَبِّكَ) وهو الموت وما بعده من الأحوال الممثّلة باللقاء (كَدْحاً) جهدا يؤثّر فيك. من : كدح جلده إذا خدشه. (فَمُلاقِيهِ) فملاق له لا محالة ، ولا مفرّ لك منه. وقيل : الضمير للكدح.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) سهلا هيّنا ، ولا يعترض بما يسوءه ويشقّ عليه ، ولا يناقش فيه كما يناقش أصحاب الشمال.

وعن عائشة : هو أن يعرّف ذنوبه ثمّ يتجاوز عنه. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من يحاسب يعذّب. فقيل : يا رسول الله فسوف يحاسب حسابا يسيرا. قال : ذلكم العرض ، من نوقش في الحساب عذّب».

(وَيَنْقَلِبُ) بعد الفراغ من الحساب (إِلى أَهْلِهِ) إلى عشيرته المؤمنين ، أو فريق المؤمنين ، أو أهله في الجنّة من الحور العين (مَسْرُوراً) ناعما لا يهمّه أمر الآخرة أصلا.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) أي : يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.

٣٧٥

قيل : تغلّ يمناه إلى عنقه ، وتجعل يسراه وراء ظهره ، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. وقيل : تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) يتمنّى الثبور ويقول : يا ثبوراه ، وهو الهلاك.

(وَيَصْلى سَعِيراً) ويدخل النار ويعذّب بها. وقرأ الحجازيّان والشامي والكسائي : ويصلّى ، كقوله : (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (١).

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) فيما بين ظهرانيّهم ، أو معهم ، على أنّهم كانوا جميعا مسرورين. يعني : أنّه كان في الدنيا (مَسْرُوراً) مترفا ، بطرا ، مستبشرا بالمال والجاه ، فارغا عن الآخرة ، كعادة الفجّار الّذين لا يهمّهم أمر الآخرة ، ولا يفكّرون في العواقب ، ولم يكن كئيبا حزينا متفكّرا ، كعادة الصلحاء والمتّقين ، وحكاية الله عنهم : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) (٢).

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا بالمعاد ، فارتكب المآثم ، وانهمك فيها. يقال : لا يحور ولا يحول ، أي : لا يرجع ولا يتغيّر. قال لبيد : يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (٣) ، أي : يرجع. عن ابن عبّاس : ما كنت أدري ما معنى «يحور» حتّى سمعت أعرابيّة تقول لبنيّة لها : حوري ، أي : ارجعي.

(بَلى) إيجاب لما بعد «لن» أي : بلى ليحورنّ (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) عالما بأعماله ، فلا يهمله ، بل يرجعه ويجازيه عليها. قيل : نزلت الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأشدّ وأخيه الأسود بن عبد الأشدّ.

__________________

(١) الواقعة : ٩٤.

(٢) الطور : ٢٦.

(٣) وصدره : وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه.

أي : ليس حال المرء وحياته وموته بعد ذلك ، إلّا كحال الشهاب وضوئه ، يصير رمادا بعد إضاءته.

٣٧٦

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

(فَلا أُقْسِمُ) سبق بيانه غير مرّة (بِالشَّفَقِ) بالحمرة الّتي ترى في أفق المغرب بعد غروب الشمس ، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة. وسمّيت به لرقّتها. ومنه : الشفقة على الإنسان ، أي : رقّة القلب عليه.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) وما جمعه وستره وأوى إليه ، من الدوابّ وغيرها. وذلك أنّ الليل إذا أقبل أوى كلّ شيء إلى مأواه. يقال : وسقه فاتّسق واستوسق. ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين : اتّسع واستوسع ، فإنّهما مطاوعان لـ «وسع». أو طرده إلى أماكنه. من الوسيقة ، وهي من الإبل كالرفقة من النّاس.

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) اجتمع وتمّ بدرا في أربع عشرة.

وجواب القسم (لَتَرْكَبُنَ) الخطاب لجنس الإنسان (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال مطابقة لأختها في الشدّة والهول. وروي مرفوعا : شدّة بعد شدّة : حياة ، ثمّ موتا ، ثمّ بعثا ، ثمّ جزاء.

و «عن طبق» صفة لـ «طبقا» أي : طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في «لتركبنّ» أي : لتركبنّ مجاوزين لطبق.

٣٧٧

وأصل الطبق ما طابق غيره. يقال : ما هذا بطبق كذا ، أي : لا يطابقه. ومنه قيل للغطاء : الطبق. وأطباق الثرى : ما تطابق منه. ثمّ قيل للحال المطابقة لغيرها : طبق ، كما في الآية.

ويجوز أن يكون جمع طبقة ، وهي المرتبة ، من قولهم : هو على طبقات.

ومنه : طبق الظهر لفقاره ، الواحدة : طبقة. فالمعنى : لتركبنّ أحوالا بعد أحوال ، هي طبقات في الشدّة ، بعضها فوق بعض. وهي : الموت ، ومواطن القيامة وأهوالها. أو هي وما قبلها من الدواهي.

وقيل : أمرا بعد أمر ، ورخاء بعد شدّة ، وفقرا بعد غنى ، وغنى بعد فقر ، وصحّة بعد سقم ، وسقما بعد صحّة.

وقيل : نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظما ، ثمّ خلقا آخر ، ثمّ جنينا ، ثمّ وليدا ، ثمّ رضيعا ، ثمّ فطيما (١) ، ثمّ يافعا ، ثمّ ناشئا ، ثمّ مترعرعا ، ثمّ حزوّرا (٢) ، ثمّ مراهقا ، ثمّ محتلما ، ثمّ بالغا ، ثمّ أمرد ، ثمّ طارا ، ثمّ باقلا (٣) ، ثمّ مسيطرا ، ثمّ مطرخما ، ثمّ مختطّا (٤) ، ثمّ صملّا (٥) ، ثمّ ملتحيا ، ثمّ مستويا ، ثمّ مصعدا ، ثمّ مجتمعا.

والشابّ يجمع ذلك كلّه. ثمّ ملهوزا (٦) ، ثمّ كهلا ، ثمّ أشمط (٧) ، ثمّ شيخا ، ثمّ أشيب ، ثمّ حوقلا (٨) ، ثمّ صفتانا (٩) ، ثمّ همّا ، ثمّ هرما ، ثمّ ميّتا. فيشتمل الإنسان من كونه

__________________

(١) الفطيم : الولد إذا فصل عن الرضاع.

(٢) الحزور والحزوّر : الغلام إذا اشتدّ وقوي.

(٣) بقل وجه الغلام : خرج شعره. فهو : باقل.

(٤) اختطّ الغلام : نبت عذاره.

(٥) الصملّ : الشديد الخلق.

(٦) لهزه الشيب : خالطه. فهو : ملهوز.

(٧) شمط شمطا : خالط بياض رأسه سواد. فهو : أشمط.

(٨) الحوقل : الشيخ المسنّ.

(٩) الصفتّان : الجسيم الشديد.

٣٧٨

نطفة إلى أن يموت على سبعة وثلاثين حالا.

وقيل : معناه : لتركبنّ منزلة عن منزلة ، وطبقة عن طبقة. وذلك أنّ من كان على صلاح دعاه ذلك إلى صلاح فوقه ، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه ، لأنّ كلّ شيء يجرّ إلى شكله.

وقيل : لتركبنّ سنن من قبلكم من الأوّلين وأحوالهم. وروي ذلك عن الصادق عليه‌السلام. والمعنى : أنّه يكون فيكم ما كان فيهم ، ويجري عليكم ما جرى عليهم ، حذو القذّة بالقذّة.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : لتركبنّ بالفتح ، على أنّه خطاب الإنسان باعتبار اللفظ.

وعن مجاهد والكلبي : الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على معنى : لتركبنّ حالا شريفة ومرتبة عالية بعد حال ومرتبة ، في القرب من الله ورفعة المنزلة عنده. أو طبقا من أطباق السماء بعد طبق في ليلة المعراج. والمعنى : طبقا مجاوزا لطبق.

وروى البخاريّ (١) في الصحيح عن مجاهد ، عن ابن عبّاس ، أنّه كان يقرأ : لتركبنّ بالياء. قال : يعني نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حالا بعد حال.

(فَما لَهُمْ) لكفّار قريش (لا يُؤْمِنُونَ) بيوم القيامة (وَإِذا قُرِئَ) عطف على «لا يؤمنون» أي : فما لهم إذا قرئ (عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) لا يخضعون ولا يستكينون ، أي : ما الّذي يصرفهم عن الخضوع والاستكانة عند تلاوة القرآن ، أو عن أن يسجدوا لتلاوة القرآن ، لما روي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (٢)

فسجد هو ومن معه من المؤمنين ، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر ، فنزلت. وعن أبي هريرة : أنّه سجد فيها وقال : والله ما سجدت فيها إلّا بعد أن رأيت رسول

__________________

(١) صحيح البخاري ٦ : ٢٠٨.

(٢) العلق : ١٩.

٣٧٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسجد فيها.

وباتّفاق أصحابنا السجدة هنا مستحبّة.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي : بالقرآن (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والعداوة. أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ، ويدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب. وأصل الإيعاء : جعل الشيء في وعاء. والقلوب أوعية لما يحصل فيها من علم أو جهل. وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها».

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) استهزاء بهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء منقطع أو متّصل. والمراد : من تاب وآمن منهم. (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) مقطوع عليهم ، لأنّ نعيم الآخرة غير منقطع. أو ممنون به عليهم.

واعلم أنّ في قوله : «لا يؤمنون» و «لا يسجدون» دلالة على أنّ الإيمان والسجود فعلهم ، لأنّ الحكيم لا يقول : مالك لا تؤمن ولا تسجد لمن يعلم أنّه لا يقدر على الإيمان والسجود ، ولو وجد ذلك لما كان من فعله. ويدلّ قوله : «لا يسجدون» على أنّ الكفّار مخاطبون بالعبادات.

٣٨٠