زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

(٧٨)

سورة النبأ

مكّيّة. وهي إحدى وأربعون آية.

أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ عمّ يتساءلون سقاه الله برد الشراب يوم القيامة».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ عمّ يتساءلون لم يخرج سنته ـ إذا كان يدمنها في كلّ يوم ـ حتّى يزور البيت الحرام».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا

٣٠١

مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

واعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة المرسلات بذكر القيامة ووعيد المكذّبين بها ، افتتح هذه السورة بذكرها وذكر دلائل القدرة على البعث والإعادة ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أصله : عن ما ، على أنّه حرف جرّ دخل على «ما» الاستفهاميّة ، فحذف الألف تخفيفا ، لكثرة استعماله. ومثله : فيم ، وبم ، ولم ، وإلى م ، وعلى م ، ومتى م ، وفي هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه ، كأنّه لفخامته خفي جنسه ، فيسأل عنه. والمعنى : عن أيّ شيء يتساءلون. ونحوه ما في قولك : زيد ما زيد؟ جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنّه شيء خفي عليك جنسه ، فتسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره ، كما تقول : ما العنقاء وما الغول؟ تريد : أيّ شيء هو من الأشياء؟ هذا أصله ، ثمّ جرّد عن التفخيم حتّى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية. والضمير لأهل مكّة ، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ، أو يسألون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين عنه استهزاء ، كقولهم : يتداعونهم ويتراءونهم ، أي : يدعونهم ويرونهم.

وقوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) بيان للشأن المفخّم. أو صلة «يتساءلون» و «عمّ» متعلّق بمضمر مفسّر به ، كشيء يبهم ثمّ يفسّر ، كأنّه قال : عمّ يتساءلون؟ يتساءلون عن النبأ العظيم. ويدلّ عليه قراءة ابن كثير ويعقوب : عمّه ، بهاء السكت للوقف ، ثمّ الابتداء بقوله : (يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ).

(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) بجزم النفي وبالشكّ فيه ، فإنّه كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث ، ومنهم من يشكّ.

وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعا. وكانوا جميعا يسألون عنه ، أمّا

٣٠٢

المسلم فليزداد خشية واستعدادا ، وأمّا الكافر فليزداد استهزاء.

وقيل : المتساءل عنه القرآن. وقيل : نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروي بالأسانيد الصحيحة في تفسير أهل البيت صلوات الله عليهم أنّ النبأ العظيم عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه. وقد روى علقمة : أنّ يوم صفّين لمّا التقى الصفّان برز رجل من عسكر الشام شاكي السلاح ، وكأنّه من قرّاء الشام ، وقرأ عمّ يتساءلون بدل الرجز ، فوددت أن أبارزه. فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : مكانك. فتوجّه بنفسه الشريف نحوه ، فلمّا قرب إليه قال عليه‌السلام : أتعرف النبأ العظيم؟

فقال الشامي : لا. فقال عليه‌السلام : والله العظيم إنّي أنا النبأ العظيم الّذي فيّ اختلفتم ، وعلى ولايتي تنازعتم ، وعن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم ، وببغيكم هلكتم بعد ما بسيفي عن الكفر نجوتم ، ويوم الغدير قد علمتم علمتم علمتم ، ويوم القيامة تعلمون ما عملتم. ثمّ علا بسيفه ورمى برأسه.

(كَلَّا) ردع عن التساؤل إنكارا واستهزاء (سَيَعْلَمُونَ) وعيد لهم بأنّهم سيعلمون أنّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حقّ واقع لا ريب فيه.

(ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) تكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك مبالغة. و «ثمّ» للإشعار بأنّ الوعيد الثاني آكد. وقيل : الأوّل في الدنيا ، والثاني في القيامة. أو الأوّل للبعث ، والثاني للجزاء في جهنّم. وروى ابن عامر : ستعلمون بالتاء ، على تقدير : قل لهم : ستعلمون.

ثمّ ذكّرهم ببعض ما عاينوا من عجائب صنعه الدالّة على كمال قدرته ، ليستدلّوا بذلك على صحّة البعث والجزاء ، وما أخبروا به من أحوال المعاد ، وليعلموا بهذه الأفعال العجيبة الشأن أنّ الحكيم لا يفعل فعلا عبثا ، كما يستلزم من إنكارهم البعث ، أو من إنكارهم نزول القرآن المشتمل على مصالح الدارين ، أو النبوّة المتضمّنة لإرشاد العباد ، أو نصب الإمام المعصوم الحافظ لشريعة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه

٣٠٣

عابث في كلّ ما فعل ، فقال :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) فراشا أو وطاء وقرارا مهيّئا للتصرّف فيه من غير تعب وأذيّة (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي : أرسيناها (١) بالجبال لئلّا تميد بأهلها ، كما يرسى البيت بالأوتاد.

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) ذكرا وأنثى حتّى يصحّ منكم التناسل ، ويتمتّع بعضكم ببعض.

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) قطعا عن الإحساس والحركة ، استراحة للقوى الحيوانيّة ، وإزاحة لكلالها. وقيل : موتا ، لأنّ النوم أحد التوفّيين. ومنه : المسبوت للميّت. وأصله القطع أيضا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء ، وإخفاء ما لا يحبّ الاطّلاع عليه من كثير من الأمور.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) وقت معاش تتقلّبون في حوائجكم لتحصيل ما تعيشون به. وقيل : حياة تنبعثون فيها عن نومكم.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) سبع سماوات محكمة قويّة الخلق ، لا يؤثّر فيها مرور الدهور وكرور الأزمان.

(وَجَعَلْنا) للعالم (سِراجاً وَهَّاجاً) متلألئا وقّادا. يعني : الشمس. من : توهّجت النار إذا أضاءت. أو بالغا في الحرارة. من الوهج ، وهو الحرّ.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) من السحائب إذا أعصرت ، أي : قربت أن تعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد. ومنه : أعصرت الجارية إذا قربت أن تحيض.

وعن مجاهد : من الرياح الّتي حان لها أن تعصر السحاب ، أو من الرياح

__________________

(١) أي : أثبتناها.

٣٠٤

ذوات الأعاصير. وإنّما جعلت مبدأ للإنزال ، لأنّها تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه.

وقد جاء في الحديث : «أنّ الله تعالى يبعث الرياح ، فتحمل الماء من السماء إلى السحاب».

فعلى هذا ؛ الإنزال منها ظاهر.

وعن الحسن وقتادة : هي السماوات. وتأويله : أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب ، فكأنّ السماوات يعصرن ، أي : يحملن على العصر.

(ماءً ثَجَّاجاً) منصبّا بكثرة. يقال : ثجّه وثجّ بنفسه. وفي الحديث : «أفضل الحجّ العجّ والثجّ» أي : رفع الصوت بالتلبية ، وصبّ دماء الهدي.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير (وَنَباتاً) وما يعتلف به من التبن والحشيش ، كما قال : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) (١).

(وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) وبساتين ملتفّة أشجارها بعضها ببعض. قال صاحب الكشّاف : «ولا واحد له ، كالأوزاع والأخياف (٢). وقيل : الواحد لفّ. وقال صاحب الإقليد : أنشدني الحسن بن عليّ الطوسي :

جنّة لفّ وعيش مغدق

وندامى كلّهم بيض زهر

وزعم ابن قتيبة أنّه : لفّاء ، ولفّ ، ثمّ ألفاف. وما أظنّه واجدا له نظيرا من نحو : خضر وأخضار ، وحمر وأحمار. ولو قيل : هو جمع ملتفّة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها» (٣). انتهى كلامه. وأقول : يمكن أن يكون جمع لفيف ، حملا على نحو : أشراف وشريف.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ

__________________

(١) طه : ٥٤.

(٢) الأوزاع : الجماعات. والأخياف : المختلفون. يقال : هم إخوة أخياف ، أي : أمّهم واحدة والآباء شتّى.

(٣) الكشّاف ٤ : ٦٨٧.

٣٠٥

سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

ثمّ ذكر سبحانه الإعادة والبعث تنبيها على أنّ الصنائع العجيبة تدلّ على صحّة البعث ، فقال :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ) في علم الله ، أو في حكمه (مِيقاتاً) حدّا تؤقّت به الدنيا وتنتهي عنده. أو حدّا للخلائق ينتهون إليه.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل ، أو عطف بيان ليوم الفصل (فَتَأْتُونَ) من القبور إلى المحشر (أَفْواجاً) أمما كلّ أمّة مع إمامهم. وقيل : جماعات مختلفة.

وفي الحديث عن البراء بن عازب قال : كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منزل أبي أيّوب الأنصاري ، فقال معاذ : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)؟ فقال : «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ، ثمّ أرسل عينيه وقال : تحشر عشرة أصناف من أمّتي : بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكّسون : أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عميا ، وبعضهم صمّا بكما ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم ، فهي مدلاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم ، يتقذّرهم أهل

٣٠٦

الجمع ، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأمّا الّذين على صورة القردة فالقتّات (١) من الناس. وأمّا الّذين على صورة الخنازير فأهل السحت. وأمّا المنكّسون على وجوههم فآكلة الربا. وأمّا العمي فالّذين يجورون في الحكم. وأمّا الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم. وأمّا الّذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصّاص الّذين خالف قولهم أعمالهم. وأمّا الّذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الّذين يؤذون الجيران. وأمّا المصلّبون على جذوع من النار فالسّعاة بالناس إلى السلطان. وأمّا الّذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالّذين يتّبعون الشهوات واللذّات ، ومنعوا حقّ الله في أموالهم. وأمّا الّذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء».

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) وشقّت شقوقا كثيرة. وقرأ الكوفيّون بالتخفيف. (فَكانَتْ أَبْواباً) أي : كثرة أبوابها المفتّحة لنزول الملائكة ، فصارت من كثرة الشقوق كأنّ الكلّ أبواب مفتّحة ، كقوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) (٢) أي : كأنّ كلّها عيون تنفجر لكثرتها. وعلى قراءة التخفيف معناه : فصارت ذات أبواب. وقيل : الأبواب الطرق والمسالك ، أي : تكشط (٣) فينفتح مكانها ، وتصير طرقا لا يسدّها شيء.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) في الهواء كالهباء (فَكانَتْ سَراباً) مثل سراب ، أي : تصير شيئا كلا شيء ، لتفتّت أجزائها وانبثاث جواهرها ، فإذا ترى على صورة الجبال ولم تبق على حقيقتها.

__________________

(١) القتّات : النمّام. وقيل : هو الّذي يستمع أحاديث الناس من حيث لا يعلمون.

(٢) القمر : ١٢.

(٣) كشط الشيء : رفع عنه شيئا قد غطّاه.

٣٠٧

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفّار ، أو خزنة الجنّة المؤمنين ، ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها. كالمضمار ، فإنّه الموضع الّذي تضمّر (١) فيه الخيل. أو محدّة في ترصّد الكفرة لئلّا يشذّ منها واحد.

وقيل : الطريق المعلم الّذي يرتصدون فيه.

(لِلطَّاغِينَ مَآباً) مرجعا ومأوى (لابِثِينَ فِيها) وقرأ حمزة وروح : لبثين.

وهو أبلغ وأقوى ، لأنّ اللابث من وجد منه اللبث ، ولا يقال : لبث إلّا لمن شأنه اللبث ، كالّذي يجثم (٢) بالمكان لا يكاد ينفكّ منه. (أَحْقاباً) حقب بعد حقب ، كلّما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية. ولا يكاد يستعمل الحقب والحقبة إلّا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها. والاشتقاق يشهد لذلك. ألا ترى إلى حقيبة الراكب والحقب الّذي وراء التصدير ، فإنّ الحقيبة حبل يشدّ به الرحل إلى بطن البعير ، والتصدير : الحزام ، وهو في صدر البعير.

وما قيل عن قتادة : أنّ الحقب ثمانون سنة من سنيّ الآخرة. وعن الحسن : سبعون ألف سنة ، كلّ يوم من تلك السنين ألف سنة ممّا تعدّون. وعن مجاهد : أنّ الحقب ثلاثة وأربعون حقبا ، كلّ حقب سبعون خريفا ، كلّ خريف سبعمائة سنة ، كلّ سنة ثلاثمائة وستّون يوما ، وكلّ يوم ألف سنة. وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا ، والحقب بضع وستّون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستّون يوما ، كلّ يوم ألف سنة ممّا تعدّون».

لا يدلّ (٣) على تناهي تلك الأحقاب ، لجواز أن يكون المراد أحقابا مترادفة

__________________

(١) ضمّر الفرس : صيّره ضامرا ، وذلك بأن يربطه ويكثر ماءه وعلفه حتّى يسمن ، ثمّ يقلّل ماءه وعلفه مدّة ويركضه في الميدان حتّى يهزل.

(٢) جثم الرجل : تلبّد بالأرض ، أي : لزمها ولزق بها وأقام فيها.

(٣) خبر لقوله : وما قيل ... في بداية الفقرة السابقة.

٣٠٨

كلّما مضى حقب لحقه آخر. وإن دلّ فمن قبيل المفهوم ، فلا يعارض المنطوق الدالّ على خلود الكفّار.

وعن حمران قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الآية ، فقال : هذه في الّذين يخرجون من النار». وروي عن الأحول مثله.

ولو جعل قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) حالا من المستكن في «لابثين» ، أو نصب «أحقابا» بـ «لا يذوقون» ، احتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلّا حميما وغسّاقا ، ثمّ يبدّلون بعد الأحقاب جنسا آخر من العذاب.

ويجوز أن يكون من : حقب عامنا ، إذا قلّ مطره وخيره. وحقب فلان إذا أخطأه الرزق ، فهو حقب ، وجمعه أحقاب. فينتصب حالا عنهم. يعني : لابثين فيها حقبين. وقوله : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) تفسير له ، والاستثناء منقطع. يعني : لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفّس عنهم حرّ النار ، ولا شرابا يسكّن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها حميما وغسّاقا.

وقيل : البرد النوم. والمراد بالغسّاق ما يغسق ، أي : يسيل من صديدهم.

وقيل : الزمهرير. وهو مستثنى من البرد ، إلّا أنّه أخّر ليتوافق رؤوس الآي. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين.

(جَزاءً وِفاقاً) أي : جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم ، أو موافقا لها. وصف بالمصدر. أو وافقها وفاقا.

ثمّ بيّن ما وافقه هذا الجزاء ، فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي : فعلنا ذلك بهؤلاء الكفّار لأنّهم كانوا لا يخافون أن يحاسبوا. والمعنى : كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنّهم محاسبون.

(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) بما جاءت به الأنبياء. وقيل : بالقرآن. (كِذَّاباً) تكذيبا. وفعّال بمعنى التفعيل مطّرد شائع في كلام الفصحاء.

٣٠٩

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) مصدر لـ «أحصيناه» فإنّ الإحصاء والكتبة يتشاركان في معنى الضبط والتحصيل. أو لفعل مقدّر. أو حال بمعنى : مكتوبا في اللوح ، أو في صحف الحفظة. والمعنى : إحصاء معاصيهم ، كقوله : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (١). والجملة اعتراض.

وقوله : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) مسبّب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات. وزيادته باعتبار أنّ كلّ عذاب يأتي بعد الوقت الأوّل فهو زائد عليه. وناهيك بـ «لن نزيدكم» ، وبدلالته على أنّ ترك الزيادة كالمحال الّذي لا يدخل تحت الصحّة ، وبمجيئها على طريقة الالتفات ، شاهدا على أنّ الغضب قد بلغ غاية البلوغ. وفي الحديث : «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار».

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

__________________

(١) المجادلة : ٦.

٣١٠

ثمّ عقّب سبحانه وعيد الكفّار بالوعد للمتّقين ، فقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الّذين يتّقون باجتناب الشرك والمعاصي (مَفازاً) فوزا وظفرا بالبغية. أو موضع فوز.

وقيل : نجاة ممّا فيه أولئك. أو موضع نجاة منه. ويؤيّد الأوّل تفسير المفاز بالبدليّة اشتمالا أو بعضا.

(حَدائِقَ) بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة (وَأَعْناباً) تخصيص بعد تعميم ، لمزيّتها على سائر الفواكه.

(وَكَواعِبَ) نساء فلكت (١) وتكعّبت ثديهنّ. وهنّ النواهد. (أَتْراباً) لدات ، أي : مستويات في السنّ والخلقة والصورة حتّى يكنّ متشاكلات. وعن الجبائي : أترابا على مقدار أزواجهنّ في الحسن والصورة والسنّ.

(وَكَأْساً دِهاقاً) مترعة مملوءة. من : أدهق الحوض إذا ملأه. وعن سعيد بن جبير معناه : متتابعة على شاربيها.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنّة (لَغْواً) ما لا فائدة فيه (وَلا كِذَّاباً) ولا تكذيب بعضهم لبعض. وقرأ الكسائي بالتخفيف ، أي : كذبا أو مكاذبة.

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) بمقتضى وعده. مصدر مؤكّد منصوب بمعنى قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً). كأنّه قال : جازى المتّقين بمفاز. (عَطاءً) بدل من «جزاء». وقيل : منتصب به نصب المفعول به ، أي : جزاهم عطاء (حِساباً) صفة بمعنى : كافيا. من : أحسبه الشيء إذا كفاه حتّى قال : حسبي. وقيل : على حسب أعمالهم.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) بدل من «ربّك». وقد رفعه الحجازيّان وأبو عمرو على الابتداء.

(الرَّحْمنِ) صفة له ، أي : من ربّهما المنعم على خلقه مؤمنهم وكافرهم. إلّا

__________________

(١) فلك ثدي الجارية : استدار. وتكعّبت الجارية : نهد ثديها ، أي : ارتفع مكانه وانتبر وأشرف.

٣١١

في قراءة ابن عامر وعاصم ويعقوب برفع «الرحمن» وحده ، على أنّه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الرّحمن ، أو مبتدأ خبره (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً). وعلى قراءة الحجازيّين «لا يملكون» خبر «ربّ السموات». أو خبره «الرحمن» و «لا يملكون» خبر بعد خبر.

وضمير الجمع لأهل السماوات والأرض ، أي : لا يملكون خطابه والاعتراض عليه في أمر الثواب والعقاب ، لأنّهم مملوكون له على الإطلاق ، فلا يستحقّون عليه اعتراضا في الزيادة والنقص. أو لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلّا أن يأذن لهم فيه ، كما قال تقريرا وتوكيدا لذلك :

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) ظرف لـ «لا يملكون» أو لـ «يتكلّمون».

والروح : ملك موكّل على الأرواح ، أو جنسها ، أو جبرئيل. وعن ابن عبّاس : ملك أعظم من الملائكة وأشرف منهم ، وأقرب من ربّ العالمين ، ما خلق الله بعد العرش خلقا أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفّا ، وقامت الملائكة كلّهم صفّا ، فيكون عظم خلقه مثل صفّهم.

وعن وهب : أنّ جبرئيل واقف بين يدي الله عزوجل ترتعد فرائصه ، يخلق الله عزوجل من كلّ رعدة مائة ألف ملك ، فالملائكة صفوف بين يدي الله عزوجل منكّسوا رؤوسهم ساكتين ، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا إله إلّا أنت.

وذلك معنى قوله : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في الكلام (وَقالَ صَواباً) أي : شهد بالتوحيد. أو إلّا لمن أذن له في الشفاعة ، فيشفع لمن ارتضى لا لغيره ، لقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١).

وملخّص المعنى : أنّ هؤلاء الّذين هم أفضل الخلائق وأشرفهم وأقربهم من الله ، إذا لم يقدروا أن يتكلّموا بين يديه بما يكون صوابا ـ كالشفاعة لمن ارتضى ـ إلّا

__________________

(١) الأنبياء : ٢٨.

٣١٢

بإذنه ، فكيف يملكه غيرهم بغير إذنه؟ وهذا ردّ لزعم المشركين أنّ آلهتهم شفعاؤهم ، كما حكاه سبحانه عنهم أنّ : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١).

وروى معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سئل عن هذه الآية فقال : نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون بالصواب. قال : جعلت فداك ؛ ما تقولون؟ قال : نمجّد ربّنا ، ونصلّي على نبيّنا ، ونشفع لشيعتنا ، فلا يردّنا ربّنا». رواه العيّاشي مرفوعا.

وعلى هذا ؛ المراد بالروح أرواح الأنبياء والأوصياء. ويؤيّده ما ورد في الحديث : «أنّ الروح خلق من خلق الله ليسوا بالملائكة ، بل على صورة بني آدم ، وهم يأكلون».

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الكائن لا محالة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ) إلى ثوابه وقرب منزلته لديه (مَآباً) مرجعا بالإيمان والطاعة ، فقد أزيحت العلل ، وأوضحت السبل ، وبلّغت الرسل.

ثمّ هدّد سبحانه كفّار مكّة بقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) يعني : عذاب الآخرة. وقربه لتحقّقه ، فإنّ كلّ ما هو آت قريب ، ولأنّ مبدأه الموت (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) يرى ما قدّمه من خير أو شرّ.

وقيل : ينتظر جزاء ما قدّمه ، فإن قدّم الطاعة انتظر الثواب ، وإن قدّم المعصية انتظر العذاب. والمرء عام.

وقيل : هو الكافر ، لقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ). فمعنى (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) هو الشرّ ، كقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢). (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) (٣).

__________________

(١) يونس : ١٨.

(٢) الأنفال : ٥٠ ـ ٥١.

(٣) الأنفال : ٥٠ ـ ٥١.

٣١٣

(وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) (١). (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٢). (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٣).

و «ما» موصولة منصوبة بـ «ينظر». يقال : نظرته بمعنى : نظرت إليه. والراجع من الصلة محذوف. أو استفهاميّة منصوبة بـ «قدّمت» أي : ينظر أيّ شيء قدّمت يداه؟

وعلى القول بأنّ المراد بالمرء هو الكافر يكون قوله : (وَيَقُولُ الْكافِرُ) وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة الذمّ. والمعنى : إنّا أنذرناكم عذابا في يوم ينظر الكافر عقوبة عقيدته الفاسدة وأعماله القبيحة ، ويقول تحسّرا في ذلك اليوم : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) في الدنيا ، فلم أخلق ، ولم أكلّف ، فلا أعاد ، ولا أحاسب ، ولا أعاقب. أو في هذا اليوم ، فلم أبعث. وقيل : يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثمّ تردّ ترابا ، فيودّ الكافر حالها.

وعن ابن عمر : إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم ، وحشر الدوابّ والبهائم والوحوش ، ثمّ يجعل القصاص بين الدّوابّ ، حتّى يقتصّ للشاة الجمّاء (٤) من الشاة القرناء الّتي نطحتها.

وقال مجاهد : يقاد يوم القيامة للمنطوحة من الناطحة.

وقال المقاتلان : إنّ الله يجمع الوحوش والهوامّ والطير وكلّ شيء غير الثقلين ، فيقول : من ربّكم؟ فيقولون : الرحمن الرحيم. فيقول لهم الربّ بعد ما يقضي بينهم حتّى يقتصّ للجمّاء من القرناء : إنّا خلقناكم وسخّرناكم لبني آدم ، وكنتم مطيعين أيّام حياتكم ، فارجعوا إلى الّذي كنتم فكونوا ترابا ، فتكون ترابا. فإذا التفت

__________________

(١) الحجّ : ٩ ـ ١٠.

(٢) الحجّ : ٩ ـ ١٠.

(٣) الجمعة : ٧.

(٤) أي : الّتي لا قرن لها.

٣١٤

الكافر إلى شيء صار ترابا يتمنّى ، فيقول : يا ليتني كنت في الدنيا على صورة الخنزير أرزق كرزقه ، وكنت اليوم ـ أي : في الآخرة ـ ترابا.

وقيل : المراد بالكافر إبليس ، لمّا يرى آدم وولده وثوابهم يتمنّى أن يكون الشيء الّذي احتقره حين قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١).

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

٣١٥
٣١٦

(٧٩)

سورة النازعات

مكّيّة. وهي ستّ وأربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة والنازعات لم يكن حبسه وحسابه يوم القيامة إلّا كقدر صلاة مكتوبة حتّى يدخل الجنّة».

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من قرأها لم يمت إلّا ريّان ، ولم يبعثه الله إلّا ريّان».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

٣١٧

ولمّا ختم الله سبحانه سورة النبأ بذكر أحوال القيامة وأهوالها ، افتتح هذه السورة بمثله ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالنَّازِعاتِ) أقسم سبحانه بملائكة الموت حين ينزعون أرواح الكفّار من أبدانهم (غَرْقاً) أي : إغراقا في النزع ، فإنّهم ينزعونها من أقاصي الأبدان ، من أناملها وأظفارها وجلودها. أو نفوسا غرقة في الأجساد.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) ينشطون ، أي : يخرجون أرواح المؤمنين برفق ، كما ينشط العقال من يد البعير. من : نشط الدلو من البئر إذا أخرجها.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) يسبحون في إخراجها سبح الغوّاص الّذي يخرج الشيء من أعماق البحر.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) فيسبقون بأرواح الكفّار إلى النار ، وبأرواح المؤمنين إلى الجنّة.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) فيدبّرون أمر عقابهم وثوابهم ، بأن يهيّؤها لإدراك ما أعدّ لها من الآلام واللذّات.

وقيل : النزع والنشط لملائكة الموت ، والبواقي لطوائف من الملائكة يسبحون في مضيّها ، أي : يسرعون فيه ، فيسبقون إلى ما أمروا به ، فيدبّرون أمرا من أمور العباد ممّا يصلحهم في دنياهم أو دينهم كما رسم لهم.

وقد ورد أنّ جبرئيل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل يدبّرون أمور الدنيا.

أمّا جبرئيل فموكّل بالرياح والجنود. وأمّا ميكائيل فموكّل بالقطر والنبات. وأمّا ملك الموت فموكّل بقبض الأنفس. وأمّا إسرافيل فهو يتنزّل بالأمر.

أو الكلّ صفات أنفس الغزاة أو أيديهم ، تنزع القسيّ بإغراق السهام ، وينشطون بالسهم للرمي ، ويسبحون في البرّ والبحر ، فيسبقون إلى حرب العدوّ بالعدو التمام ، فيدبّرون أمرها.

٣١٨

أو صفات خيلهم ، فإنّها تنزع في أعنّتها نزعا ، بأن تجذب العنان عن يد فارسها ، وتغرق في نزع الأعنّة لطول أعناقها ، لأنّها عراب. والّتي تخرج في دار الإسلام إلى دار الكفر ، من قولك : ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد ، وتسبح في جريها فتسبق إلى العدوّ ، فتدبّر أمر الظفر. وإسناد التدبير إليها لأنّها من أسبابه.

أو صفات النفوس الفاضلة حال المفارقة ، فإنّها تنزع أنفسها عن الأبدان غرقا ، أي : نزعا شديدا لتشوّق المفارقة ، فتنشط إلى عالم الملكوت وتسبح فيه ، فتسبق إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوّتها من المدبّرات. أو حال سلوكها ، فإنّها تنزع عن الشهوات ، فتنشط إلى عالم القدس ، فتسبح في مراتب الارتقاء ، فتسبق إلى الكمالات حتّى تصير من المكمّلات.

وعن ابن عبّاس : أنّ نفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج. وذلك أنّه ما من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت ، فيرى موضعه فيها وأزواجه من الحور العين ، فنفسه تنشط أن تخرج.

أو صفات النجوم ، فإنّها تنزع من المشرق إلى المغرب. وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كلّه حتّى تنحطّ في أقصى المغرب ، وتنشط من برج إلى برج ـ أي : تخرج ـ ويسجن في الفلك ، فيسبق بعضها في السير ، لكونه أسرع حركة ، فتدبّر أمرا نيط بها ، كاختلاف الفصول ، وتقدير الأزمنة ، وظهور مواقيت العبادات ، وعلم الحساب. ولمّا كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسريّة ـ أي : لغيرها ـ وحركاتها من برج إلى برج ملائمة ـ أي : لنفسها ـ سمّى الأولى نزعا والثانية نشطا.

والقول الأوّل منقول عن عليّ عليه‌السلام ومقاتل وسعيد بن جبير.

وعلى التقادير ؛ المقسم عليه محذوف ، وهو : لتبعثنّ أو لتقومنّ الساعة. وإنّما حذف ليدلّ عليه قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) وهو منصوب بجواب القسم. والمراد بالراجفة الأجرام الساكنة الّتي تشتدّ حركتها حينئذ ، كالأرض والجبال ، لقوله

٣١٩

تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) (١). أو الواقعة الّتي ترجف الأجرام ويشتدّ اضطرابها عندها.

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) الواقعة التابعة للأولى. وهي انشقاق السماء وانتثار الكواكب ، فإنّهما أثر الراجفة. ويجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٢) أي : القيامة الّتي يستعجلها الكفرة استبعادا لها ، فهي الرادفة لهم لاقترابها. والجملة في موضع الحال ، أي : ترجف تابعتها الرادفة.

وإنّما جعل «يوم ترجف» ظرفا للمضمر الّذي هو «لتبعثنّ» ، ولا يبعثون عند النفخة الأولى ، لأنّ المعنى : لتبعثنّ في الوقت الواسع الّذي يقع فيه النفختان ، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع ، وهو وقت النفخة الاخرى. ودلّ على أنّ اليوم هو الوقت الواسع ، أنّ اليوم زمان الرجفة المقيّدة بكونها متبوعة بالرادفة ، فيكون الزمان واسعا للأمرين. فهي لا تنافي قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣).

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) شديدة الاضطراب. من الوجيف ، بمعنى شديد السرعة. وصفت بما يحدث بحدوثها ، وهي النفخة الأولى.

(أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي : أبصار أصحابها ذليلة من الخوف ، ولذلك أضافها إلى القلوب ، فإنّها قلقة غير هادئة وساكنة ، لما عاينت من أهوال يوم القيامة. ورفع «قلوب» بالابتداء ، و «واجفة» صفتها ، وخبرها قوله : (أَبْصارُها خاشِعَةٌ). فهو

__________________

(١) المزّمّل : ١٤.

(٢) النمل : ٧٢.

(٣) الزمر : ٦٨.

٣٢٠