زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

يوصف بصفة أهله من الأشقياء ، كقولهم : نهارك صائم ، فكأنّه قيل : يعبس فيه وجوه الأشقياء. وروي : أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. وأن يشبّه في شدّته وضرره بالأسد العبوس ، أو بالشجاع الباسل.

(قَمْطَرِيراً) شديد العبوس ، كالّذي يجمع ما بين عينيه. من : اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها ، وجمعت قطريها (١). مشتقّ من القطر ، والميم مزيدة.

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) بسبب خوفهم وتحفّظهم عنه (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي : أعطاهم بدل عبوس الفجّار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب. وهذا يدلّ على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله.

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) بصبرهم على أداء الواجبات ، واجتناب المحرّمات ، وإيثار الأموال ، وما يؤدّي إليه من الجوع والعري (جَنَّةً) بستانا يأكلون منه هنيئا (وَحَرِيراً) يلبسونه بهيّا.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) حال من ضمير «جزاهم» ، أو صفة لـ «جنّة».

والأرائك جمع الأريكة ، وهي السرير. (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) يحتملهما ، وأن يكون حالا من المستكن في «متّكئين». والمعنى : أنّه يمرّ عليهم فيها هواء معتدل ، لا حرّ شمس يحمي ، ولا شدّة برد تؤذي. وفي الحديث : «هواء الجنّة سجسج (٢) ، لا حرّ ولا قرّ».

وعن ثعلب : الزمهرير : القمر في لغة طيء.

وأنشد :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر (٣)

__________________

(١) القطر : الناحية والجانب.

(٢) يوم سجسج : إذا لم يكن فيه حرّ مؤذ ولا برد شديد.

(٣) أي : وربّ ليلة قد تراكم ظلامها واختلط ، قطعتها بالسير ، والحال أنّ الزمهرير ما ظهر وما أضاء.

٢٨١

والمعنى : أنّ الجنّة ضياء ، فلا يحتاج فيها إلى شمس ولا قمر.

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) حال أيضا من ضمير «جزاهم». ودخلت الواو للدلالة على أنّ الأمرين مجتمعان لهم ، كأنّه قيل : وجزاهم جنّة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ، ودنوّ الضلال عليهم. أو صفة اخرى لـ «جنّة» معطوفة على ما قبلها. أو عطف على «جنّة» أي : وجنّة اخرى دانية ، على أنّهم وعدوا جنّتين ، كقوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (١) لأنّهم وصفوا بالخوف في قولهم : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) (٢). والمعنى : أفياء أشجار الجنّة قريبة منهم.

(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) معطوفة على «دانية». والمعنى : ودانية عليهم ظلالها ، ومذلّلة قطوفها. أو حال من «دانية» أي : تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم ، بأن تجعل ذللا سهل التناول لا يمتنع على قطّافها كيف شاؤا. أو تجعل خاضعة متقاصرة ، من قولهم : حائط ذليل إذا كان قصيرا.

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) وأباريق بلا عروة. جمع كوب.

(كانَتْ قَوارِيرَا * قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) هو من «يكون» في قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) (٣) أي : تكوّنت قوارير بتكوين الله ، تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين ، وهما : صفاء الزجاجة وشفيفها ، وبياض الفضّة ولينها.

والمعنى : أنّ أصلها مخلوق من فضّة ، وهي مع بياض الفضّة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها ، فاجتمع لها بياض الفضّة وصفاء القارورة ، فيرى من خارجها ما في داخلها.

وقيل : معنى (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) مع أنّها من زجاج : أنّ الشيء إذا قاربه شيء

__________________

(١) الرحمن : ٤٦.

(٢) الإنسان : ١٠.

(٣) البقرة : ١١٧.

٢٨٢

واشتدّت ملابسته له قيل : إنّه من كذا ، وإن لم يكن منه في الحقيقة.

و «قوارير» الثانية بدل من الأولى. وقد نوّن «قوارير» من نوّن «سلاسلا».

وابن كثير الأولى ، لأنّها رأس الآية.

(قَدَّرُوها تَقْدِيراً) صفة لـ «قوارير» أي : قدّروها في أنفسهم ، فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنّوه. أو قدّروها بأعمالهم الصالحة ، فجاءت على حسبها.

أو قدّر الطائفون بها ـ المدلول عليهم بقوله : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) ـ شرابها على قدر اشتهائهم. وهو ألذّ للشارب ، لكونه على قدر حاجته ، لا يفضل عنها ولا ينقص.

وعن مجاهد : لا تفيض ولا تغيض.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) ما يشبه الزنجبيل في الطعم.

وكانت العرب يستلذّون ويستطيبون الشراب الممزوج به.

(عَيْناً فِيها) نصبه إمّا على البدل من «زنجبيلا» ، أو «كأسا» بتقدير المضاف ، كأنّه قيل : ويسقون فيها كأسا كأس عين في الجنّة. أو على الاختصاص.

(تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) لسلاسة انحدارها في الحلق ، وسهولة مساغها. يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل. ولذلك حكم بزيادة الباء حتّى صارت الكلمة خماسيّة.

ودلّت على غاية السلاسة ، كما قال الزجّاج : السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة. والمعنى : أنّها في طعم الزنجبيل ، وليس فيه لذعه (١) ، ولكن نقيض اللذع ، وهو السلاسة.

وقيل : أصله : سل سبيلا ، فسمّيت به ، كتأبّط شرّا ، لأنّه لا يشرب منها إلّا من سأل الله إليها سبيلا بالعمل الصالح.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) دائمون (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) من صفاء ألوانهم ، وانبثاثهم في مجالسهم للخدمة ، وانعكاس شعاع بعضهم

__________________

(١) أي : حدّته.

٢٨٣

إلى بعض. وقيل : شبّهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه ، لأنّه أحسن وأكثر ماء.

(وَإِذا رَأَيْتَ) ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدّر ، لأنّه عامّ. والمعنى : وإذا أوجدت الرؤية ، وإذا رميت ببصرك أينما وقع. (ثَمَ) أي : في الجنّة (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) واسعا. وفي الحديث : «أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه».

وعن الصادق عليه‌السلام : «معناه : رأيت نعيما لا يزول ولا يفنى».

وقيل : الملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم وتحيّتهم بالسلام. وقيل : هو أنّهم لا يريدون شيئا إلّا قدروا عليه. هذا ، وللعارف أكبر من ذلك ، وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت ، فيستضيء بأنوار قدس الجبروت.

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) أي : يعلوهم ثياب الحرير الخضر مارقّ منها وما غلظ. وإستبرق معرّب ، وأصله : استبره. ونصب «عاليهم» على الحال من «هم» في «عليهم» أو في «حسبتهم» أي : يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. أو من «ملكا كبيرا» على تقدير مضاف ، أي : وأهل ملك كبير ، أي : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب.

وقرأ حمزة ونافع : عاليهم بالرفع على أنّه خبر و «ثياب» مبتدأ ، أي : ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو برفع «خضر» وجرّ «إستبرق». وقرأ ابن كثير وحفص بالعكس. وقرأ حمزة والكسائي : خضر وإستبرق بالجرّ.

(وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) عطف على (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ). ولا يخالفه قوله : (أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (١) لإمكان أنّهم يسوّرون بالجنسين ، إمّا على المعاقبة ، وإمّا على الجمع ، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحليّ وتجمع بينها. وما أحسن بالمعصم أن

__________________

(١) الكهف : ٣١.

٢٨٤

يكون فيه سواران : سوار من ذهب ، وسوار من فضّة. ويجوز أن يكون بالتبعيض ، فإنّ حليّ أهل الجنّة تختلف باختلاف أعمالهم ، فلعلّه تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حليّا وأنوارا تتفاوت تفاوت الذهب والفضّة. ويمكن أن تكون الجملة حالا من الضمير في «عاليهم» بإضمار «قد». وعلى هذا يجوز أن يكون هذا للخدم ، وذلك للمخدومين.

(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) نوعا آخر من الشراب يفوق على النوعين المتقدّمين ، ولذلك أسند سقيه إلى الله عزوجل. ووصفه بالطهور مبالغة ، ليدلّ على أنّه ليس برجس كخمر الدنيا ، لأنّ كونها رجسا بالشرع لا بالعقل ، وليست الدار دار تكليف. أو لأنّه لم يعصر فتمسّه الأيدي الوضرة (١) ، وتدوسه الأقدام الدنسة ، ولم يجعل في الدنان والأباريق الّتي لم يعن بتنظيفها. أو لأنّه لا يئول إلى النجاسة ، لأنّه يرشّح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك.

وقيل : طهوريّته من حيث إنّه يطهّر شاربه عن الرذائل الخسيسة ، والميل إلى اللذّات الحسيّة ، والركون إلى ما سواه ، فيتجرّد شاربه بالتوجّه التامّ إليه ، ملتذّا به فارغا عن غيره. وهذا منتهى درجات الصدّيقين ، ولأجل أنّ هذا أعظم نعم الجنّة ختم به ثواب الأبرار.

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) على إضمار القول ، أي : يقال لأهل الجنّة : إنّ هذا.

وهذا إشارة إلى ما عدّ من ثوابهم. (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي : مجازى عليه غير مضيّع ، فإنّ الشكر هاهنا مجاز عن الإثابة التامّة.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ

__________________

(١) أي : الوسخة. من : وضر وضرا ، كان وسخا ، فهو : وضر.

٢٨٥

اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالصبر عن التأذّي من أقوال الكفّار وأفعال الأشرار ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) مفرّقا منجّما لحكمة اقتضته. وتكرير الضمير مع «أنّ» فيه تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ، ليتقرّر في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه إذا كان هو المنزّل لم يكن تنزيله على أيّ وجه إلّا حكمة وصوابا. كأنّه قيل : ما نزّل عليك القرآن تنزيلا مفرّقا منجّما إلّا أنا لا غيري ، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكلّ ما أفعله بدواعي الحكمة. ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافّة والمصابرة ، وسأنزل عليك الأمر بالانتقام والقتال بعد حين.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الصادر عن الحكمة الّتي من جملتها تعليقه الأمور بالمصالح ، وتأخير نصرك على كفّار مكّة وغيرهم (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي : كلّ واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه ، ومن الغالي في الكفر الداعي لك إليه ، فإنّهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، فنهي أن لا يساعدهم على الاثنين دون الثالث.

٢٨٦

وروي : أنّهم مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه ، يدعونه إلى أنّه يرجع عن أمره ، ويبذلون له أموالهم ، وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر على الإيذاء ، ونهي عن إطاعة الكفرة فيما يرتكبون من المآثم ويدعونه إليه.

وقيل : الآثم : عتبة ، والكفور : الوليد ، لأنّ عتبة كان ركّابا للمآثم ، متعاطيا لأنواع الفسوق. وكان الوليد غاليا في الكفر ، شديد الشكيمة في العتوّ. وإنّما قال : «أو» ولم يقل بالواو العاطفة ، ليكون نهيا عن إطاعتهما جميعا ، لأنّه لو قال : ولا تطعهما ، لجاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل : ولا تطع أحدهما ، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما عن طاعتهما جميعا أنهى ، كما إذا نهي أن يقول لأبويه : أفّ ، علم أنّه منهيّ عن ضربهما على طريق الأولى.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً) أوّل النهار (وَأَصِيلاً) وعشيّا ، وهو أصل الليل.

والمعنى : أقبل على شأنك من ذكر الله والدعاء إليه وتبليغ الرسالة صباحا ومساء ، أي : دائما ، فإنّ الله ناصرك ومؤيّدك ومعينك. أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر ، فإنّ الأصيل يتناول وقتيهما.

(وَمِنَ اللَّيْلِ) للتبعيض ، لأنّه لم يأمره بقيام الليل كلّه. والمعنى : وبعض الليل (فَاسْجُدْ لَهُ) فصلّ له. يعني : صلاة المغرب والعشاء. وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص.

(وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) وتهجّد له طائفة طويلة من الليل : ثلثيه ، ونصفه ، وثلثه. وقيل : يريد التطوّع بعد المكتوبة. ويؤيّد الأوّل ما روي عن الرضا عليه‌السلام أنّه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال : «ما ذلك التسبيح؟ قال : صلاة الليل».

(إِنَّ هؤُلاءِ) الكفرة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يؤثرون اللذّات والمنافع العاجلة في دار الدنيا ، كقوله : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (١) (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) أمامهم ، أو

__________________

(١) الأعلى : ١٦.

٢٨٧

خلف ظهورهم ، لا يعبئون به (يَوْماً ثَقِيلاً) عسيرا ، وشديدا هوله. مستعار من الشيء الثقيل الشاقّ الباهظ لحامله. ونحوه : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١). وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه. والمعنى : أنّهم لا يؤمنون به ولا يعملون له.

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) وأحكمنا ربط مفاصلهم وعظامهم بالأعصاب الّتي توصل بعضها ببعض ، فإنّ الأسر الربط والتوثيق. ومنه : أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ (٢) ، وهو الإسار. وفرس مأسور الخلق ، وترس مأسور بالعقب ، أي : مربوط. ولو لا إحكامه إيّاها على هذا النظام لما أمكن العمل بها والانتفاع منها.

وقيل : معناه : كلّفناهم وشددناهم بالأمر والنهي كيلا يجاوزوا حدود الله ، كما يشدّ الأسير بالقيد لئلّا يهرب.

(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) وإذا أردنا أهلكناهم وبدّلنا أمثالهم في الخلقة وشدّة الأسر. يعني : النشأة الثانية ، ولذلك جيء بـ «إذا». أو بدّلنا غيرهم ممّن يطيع ، ولكن نبقيهم إتماما للحجّة. وعلى هذا ؛ حقّه أن يجيء بـ «إن» لا بـ «إذا» لأنّه غير محقّق ، كقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (٣) (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) (٤) ، لكن جيء بـ «إذا» لتحقّق القدرة والقوّة الداعية.

(إِنَّ هذِهِ) إشارة إلى السورة أو الآيات القريبة (تَذْكِرَةٌ) تذكير يتذكّر به أمر الآخرة (فَمَنْ شاءَ) فمن اختار الخير لنفسه (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ) إلى رضا ربّه (سَبِيلاً) تقرّب إليه بالطاعة والتوسّل إليه بالعبادة.

(وَما تَشاؤُنَ) أيّها المعاندون المكذّبون اتّخاذ الطريق إلى مرضاة الله

__________________

(١) الأعراف : ١٨٧.

(٢) القدّ : السير يقدّ من جلد.

(٣) محمد : ٣٦.

(٤) إبراهيم : ١٩.

٢٨٨

اختيارا (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إلّا وقت مشيئة الله أن يقسركم ويجبركم ، ولا ينفعكم ذلك حينئذ ، لزوال التكليف الاختياري المنوط به الثواب والعقاب. وقرأ ابن كثير وابن عامر : يشاؤن بالياء. وليس المعنى : أنّه سبحانه يشاء كلّ ما يشاء العباد من المعاصي والمباحات وغيرها ، لأنّ الدلائل الواضحة قد دلّت على أنّه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح ، ويتعالى عن ذلك ، وقد قال سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (١).

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بأحوالهم وما يكون منهم (حَكِيماً) حيث خلقهم مع علمه بهم.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) من الطالبين سبيل الخير (فِي رَحْمَتِهِ) في جنّته بالهداية والتوفيق للطاعة (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) نصب «الظالمين» بفعل يفسّره «أعدّ لهم» مثل : أوعد وكافأ ، فيطابق الجملة المعطوف عليها. وهذه القراءة المتواترة أولى من قراءة ابن مسعود : وللظّالمين ، وقراءة ابن الزبير : والظّالمون بالابتداء ، لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها ، مع مخالفتها للمصحف.

__________________

(١) غافر : ٣١.

٢٨٩
٢٩٠

(٧٧)

سورة المرسلات

مكّيّة. وهي خمسون آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن قرأ سورة والمرسلات كتب أنّه ليس من المشركين».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قرأها عرّف الله بينه وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥))

٢٩١

ولمّا ختم سبحانه سورة هل أتى بذكر القيامة وما أعدّ فيها للظالمين ، افتتح هذه السورة بمثل ذلك ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْمُرْسَلاتِ) أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهنّ (عُرْفاً) نصب على العلّة ، أي : للأمر بالمعروف الحسن عقلا وشرعا. أو على الحال ، بمعنى المتتابعة ، من عرف الدابّة والضبع. يقال : جاؤا عرفا واحدا. وهم عليه كعرف الضبع ، إذا تألّبوا عليه ، أي : اجتمعوا عليه. (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) فعصفن في امتثال أمره عصف الرياح في الهبوب.

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) وبطوائف منهنّ نشرن أجنحتهنّ في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي. أو نشرن الشرائع في الأرض. أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين من العلم. (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) ففرقن بين الحقّ والباطل.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) فألقين إلى الأنبياء ذكر الأحكام الشرعيّة.

أو أقسم بآيات القرآن المرسلة بكلّ معروف إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعصفن سائر الكتب والأديان بالنسخ ، ونشرن آثار الهدى والحكم في المشرق والمغرب ، ففرقن بين الحقّ والباطل ، فألقين ذكر الحقّ فيما بين العالمين.

أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها ، فعصفن ما سوى الحقّ ، ونشرن أثر ذلك الاستكمال في جميع الأعضاء ، ففرقن بين الحقّ بذاته والباطل في نفسه ، فيرون كلّ شيء هالكا إلّا وجهه ، فألقين ذكرا بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلّا ذكر الله.

أو برياح عذاب أرسلن متتابعة فعصفن ، ورياح رحمة نشرن السحاب في الجوّ ففرقن بينه ، كقوله : (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) (١). أو بسحائب أو أمطارها نشرن الموات ، ففرقن بين من يشكر لله وبين من يكفر ، كقوله :

__________________

(١) الروم : ٤٨.

٢٩٢

(لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) (١). فألقين ذكرا ، أي : تسبّبن له ، فإنّ العاقل إذا شاهد هبوب الرياح ومنافعها ، أو السحائب وآثارها ، ذكر الله تعالى وتذكّر كمال قدرته.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) مصدران لـ : عذر إذا محا الإساءة ، وأنذر إذا خوّف ، كالكفر والشكر. أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة ، ونذير بمعنى الإنذار. أو بمعنى العاذر والمنذر. ونصبهما على الأوّلين بالعلّيّة ، أي : عذرا للمحقّين الّذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم ، أو نذرا للمبطلين الّذين يغفلون عن شكر منعهم ويجحدونه.

أو بالبدل من «ذكرا» على أنّ المراد به الوحي ، أو ما يعمّ التوحيد والشرك والإيمان والكفر. وعلى الأخير بالحاليّة ، بمعنى : عاذرين أو منذرين. وقرأهما حمزة وأبو عمرو والكسائي وحفص بالتخفيف.

وجواب القسم (إِنَّما تُوعَدُونَ) أي : إنّ الّذي توعدونه من مجيء القيامة (لَواقِعٌ) كائن لا محالة.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) محيت ومحقت ذواتها ، أي : ذهب بنورها ، ثمّ تنشر ممحوقة النور.

(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) صدعت وفتحت فكانت أبوابا.

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) قلعت من أماكنها ، كالحبّ ينسف بالمنسف. ونحوه قوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٢) (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (٣). وقيل : أخذت بسرعة من أماكنها. من : انتسفت الشيء إذا اختطفته.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) عيّن وقت حضورهم فيه للشهادة على الأمم. أو بلغوا ميقاتهم الّذي كانوا ينتظرونه ، وهو يوم القيامة. وقرأ أبو عمرو : وقّتت على الأصل.

__________________

(١) الجنّ : ١٦ ـ ١٧.

(٢) الواقعة : ٥.

(٣) المزّمّل : ١٤.

٢٩٣

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي : يقال : لأيّ يوم أخّرت الرسل ، وضرب الأجل لجمعهم؟ وفيه تعظيم لليوم ، وتعجيب من هوله. ويجوز أن يكون ثاني مفعولي «أقّتت» على أنّه بمعنى : أعلمت.

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيان ليوم التأجيل ، أي : اليوم الّذي يفصل فيه بين الخلائق (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله؟

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بذلك اليوم. و «ويل» في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله ، عدل به إلى الرفع للدلالة على إثبات الهلاك ودوامه للمدعوّ عليه. ونحوه : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (١). و «يومئذ» ظرفه أو صفته. وإنّما خصّ الوعيد بمن جحد يوم القيامة وكذّب به ، لأنّ التكذيب به يتبعه خصال المعاصي كلّها وإن لم تذكر معه.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ

__________________

(١) الأنعام : ٥٤.

٢٩٤

تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠))

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بالمكذّبين الأوّلين تهديدا لمشركي مكّة ، فقال : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) بالعذاب في الدنيا ، كقوم نوح وعاد وثمود حين كذّبوا رسلهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي : ثمّ نحن نتبعهم نظراءهم ، ككفّار مكّة (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل الشنيع (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) بكلّ من أجرم. يعني : نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأوّلين ، ونسلك بهم سبيلهم ، لأنّهم كذّبوا مثل تكذيبهم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بآيات الله وأنبيائه ، فليس بتكرير. وكذا إن أطلق التكذيب ، لأنّ الويل الأول لعذاب الآخرة ، وهذا للإهلاك في الدنيا. مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب ، كما مرّ في سورة الرحمن.

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) نطفة قذرة ذليلة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) هو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى مقدار معلوم من الوقت قدّره الله للولادة وحكم به ، وهو تسعة أشهر أو ما دونها أو ما فوقها (فَقَدَرْنا) على خلقته كيف يكون ، قصيرا أم طويلا ، ذكرا أم أنثى. أو فقدّرناه. ويدلّ عليه قراءة نافع والكسائي بالتشديد ،

٢٩٥

وقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (١). (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) نحن عليه. ولا يخفى أنّ في خلق الإنسان على هذا الكمال من الحواسّ الصحيحة والعقل الشريف والتمييز والنطق من ماء ضعيف ، أعظم الاعتبار وأبين الحجّة على أنّ له صانعا قادرا مدبّرا حكيما ، والجاحد لذلك كالمكابر لبداهة العقول. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بقدرتنا على ذلك ، أو على الإعادة.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) كافتة. اسم لما يكفت ، أي : يضمّ ويجمع ، كالضمام والجماع لما يضمّ ويجمع. يقال : هذا الباب جماع الأبواب. أو مصدر نعت به. أو جمع كافت ، كصائم وصيام. أو جمع كفت ، وهو الوعاء.

(أَحْياءً وَأَمْواتاً) منتصبان على المفعوليّة ، كأنّه قيل : كافتة أحياء وأمواتا ، أي : جامعة إيّاهما. أو بفعل مضمر يدلّ عليه «كفاتا» ، وهو : تكفت. والمعنى : تكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها. وتنكيرهما للتفخيم ، كأنّه قيل : تكفت أحياء لا يعدّون ، وأمواتا لا يحصرون. أو لإفادة التبعيض ، لأنّ أحياء الإنس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات. أو على الحاليّة من مفعول «كفاتا» المحذوف ، وهو الإنس ، لأنّه قد علم أنّها كفات الإنس. أو منتصبان بـ «نجعل» على المفعوليّة ، و «كفاتا» حال. والمعنى : نجعلها ما ينبت وما لا ينبت حال كونها كافتة لهما.

(وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا ثوابت طوالا (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) بخلق الأنهار والمنابع فيها. وتنكير الثلاثة للتفخيم ، وإشعارا بأنّ فيها ما لم يعرف ولم ير ، لأنّ في السماء جبالا ، قال الله تعالى : (مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) (٢). وفيها ماء فرات أيضا ، بل هي معدنه ومصبّه. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأمثال هذه النعم.

__________________

(١) عبس : ١٩.

(٢) النور : ٤٣.

٢٩٦

(انْطَلِقُوا) أي : يقال لهم : انطلقوا (إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من العذاب (انْطَلِقُوا) خصوصا. وعن يعقوب : انطلقوا ، على الإخبار من امتثالهم للأمر ، لأنّهم مضطرّون إليه لا يستطيعون امتناعا منه. (إِلى ظِلٍ) أي : ظلّ دخان جهنّم ، كقوله :

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (١). (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) يتشعّب لعظمه ، كما ترى الدخان العظيم يتفرّق تفرّق الذوائب.

وقيل : يخرج لسان من النار فيحيط بالكفّار كالسّرادق ، ويتشعّب من دخانها ثلاث شعب ، فتظلّهم حتّى يفرغ من حسابهم ، والمؤمنون في ظلّ العرش.

وخصوصيّة الثلاث إمّا لأنّ حجاب النفس عن أنوار القدس : الحسّ ، والخيال ، والوهم. أو لأنّ المؤدّي إلى العذاب هو القوّة الواهمة الحالّة في الدماغ ، والغضبيّة الّتي في يمين القلب ، والشهويّة الّتي في يساره. ولذلك قيل : شعبة تقف فوق الكافر ، وشعبة عن يمينه ، وشعبة عن يساره.

(لا ظَلِيلٍ) أي : غير مانع من الأذى بستره عنه. ومثله : الكنين. فالظليل من الظلّة ، وهي السترة ، والكنين من الكنّ (٢). وفيه تهكّم بهم وتعريض بأن ظلّهم غير ظلّ المؤمنين ، وردّ لما أوهم لفظ الظلّ. (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) في محلّ الجوّ ، أي : غير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا. وهو ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر. يعني : أنّهم إذا استظلّوا بذلك الظلّ لم يدفع عنهم حرّ اللهب.

ثمّ وصف النار بقوله : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) وهو ما يتطاير من النار في الجهات ، أي : كلّ شرارة كالقصر من القصور في عظمها. وقيل : هو جمع قصرة ، وهي الشجرة العظيمة الغليظة ، نحو : جمرة وجمر. (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) جمع

__________________

(١) الواقعة : ٤٣.

(٢) الكنّ : البيت ، وقاء كلّ شيء وستره.

٢٩٧

جمال. أو جمالة جمع جمل ، فإنّ الشرار بما فيه من الناريّة يكون أصفر. وقيل : سود ، لأنّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة. والأوّل تشبيه في العظم ، وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص : جمالة. وعن يعقوب : جمالات بالضمّ ، جمع جمالة ، وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة ، شبّهه بها في امتداده والتفافه.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأمثال هذه العقوبات.

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) أي : بما يستحقّ ، فإنّ النطق بما لا ينفع كلا نطق. أو بشيء أصلا من فرط الدهشة والحيرة. وهذا في بعض المواقف ، فإنّ يوم القيامة طويل ذو مواطن ومواقيت ، ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت ، ولذلك ورد الأمران في القرآن.

وعن قتادة قال : جاء رجل إلى عكرمة فقال : أرأيت قول الله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) وقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (١). فقال : إنّها مواقف ، فأمّا موقف منها فتكلّموا واختصموا ، ثمّ ختم على أفواههم وتكلّمت أيديهم وأرجلهم ، فحينئذ لا ينطقون.

(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) عطف على «يؤذن» منخرط في سلك النفي.

والمعنى : ولا يكون لهم إذن واعتذار عقيبه. ولو نصب لكان مسبّبا عنه لا محالة.

ويدلّ هذا على أنّ عدم اعتذارهم لعدم الإذن. وأوهم ذلك أنّ لهم عذرا لكن لا يؤذن لهم فيه. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الخبر.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين المحقّ والمبطل (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) تقرير وبيان للفصل ، لأنّه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم ، فلا بدّ

__________________

(١) الزمر : ٣١.

٢٩٨

من جمع الأوّلين والآخرين حتّى يقع ذلك الفصل بينهم.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) إن كانت لكم حيلة. وهذا تقريع على كيدهم لدين الله وللمؤمنين في الدنيا ، وتسجيل عليهم بعجزهم واستكانتهم. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) إذ لا حيلة لهم في التخلّص من العذاب.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥))

ثمّ ذكر سبحانه أحوال المؤمنين ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) عن الشرك ، لأنّهم في مقابلة المكذّبين (فِي ظِلالٍ) من أشجار الجنّة (وَعُيُونٍ) جارية بين أيديهم في غير أخدود (١) ، لأنّ ذلك أمتع لهم (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) يتمنّون. يعني : مستقرّون في أنواع الترفّه.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) خالصا من التكدّر والأذى (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والأمر في موضع الحال من ضمير المتّقين ، في الظرف الّذي هو «في ظلال» أي : هم مستقرّون في ظلال ، مقولا لهم ذلك. وهذا الأمر للإباحة.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في العقيدة. هذا ابتداء إخبار من الله تعالى. أو يقال لهم ذلك أيضا.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأنّه يمحّض لهم العذاب المخلّد ، ولخصومهم الثواب المؤبّد.

__________________

(١) الأخدود : الحفرة المستطيلة.

٢٩٩

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المكذّبين ، فقال : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) في الدنيا (قَلِيلاً) أي : تمتّعا قليلا ، أو زمانا قليلا ، فإنّ الموت كائن لا محالة (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) حال من المكذّبين ، أي : الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك في الآخرة ، إيذانا بأنّهم كانوا في الدنيا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك ، تذكيرا لهم بحالهم السمجة ، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم. ويجوز أن يكون ذلك كلاما مستأنفا خطابا للمكذّبين في الدنيا ، دلالة على أنّ كلّ مجرم ما له إلّا الأكل والتمتّع أيّاما قلائل ، ثمّ البقاء في الهلاك أبدا. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما ذكر.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) اخشعوا لله وتواضعوا له واخضعوا ، بقبول وحيه واتّباع دينه ، واطرحوا هذا الاستكبار والنخوة (لا يَرْكَعُونَ) لا يمتثلون ذلك ، ويصرّون على استكبارهم.

وقيل : المراد الأمر بالصلاة أو بالركوع فيها ، إذ روي أنّها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلاة ، فقالوا : لا ننحني ، أي : لا نركع ، فإنّها مسبّة علينا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. واستدلّ به على أنّ الأمر للوجوب ، وأنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

وقيل : هو يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بذلك.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به. يعني : أنّ القرآن من بين الكتب المنزلة آية مبصرة ومعجزة باهرة ، مشتملة على الحجج الواضحة والمعاني الشريفة ، فحين لم يؤمنوا به فبأيّ كتاب بعده يؤمنون؟!

٣٠٠