زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

وعن عائشة : أنّها سئلت ما كان تزميله؟ قالت : كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا ، نصفه عليّ وأنا نائمة ، ونصفه عليه وهو يصلّي. فسئلت : ما كان؟ قالت : والله ما كان خزّا ، ولا قزّا (١) ، ولا مرعزّى ، ولا إبريسما ، ولا صوفا ، كان سداه (٢) شعرا ، ولحمته وبرا.

أو تشبيها (٣) له في تثاقله بالمتزمّل ، لأنّه لم يتمرّن بعد في قيام الليل. أو من : تزمّل الزمل إذا تحمّل الحمل ، أي : الّذي تحمّل أعباء النبوّة.

(قُمِ اللَّيْلَ) أي : قم إلى الصلاة في الليل ، أو داوم عليها (إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) والاستثناء من الليل. و «نصفه» بدل من «قليلا».

وقلّته بالنسبة إلى الكلّ. والتخيير بين ثلاث : قيام النصف بتمامه ، والناقص منه كالثلث ، والزائد عليه كالثلثين.

أو «نصفه» بدل من «الليل» ، والاستثناء منه. كأنّه قال : قم أقلّ من نصف الليل. والضمير في «منه» و «عليه» للأقلّ من النصف كالثلث. فيكون التخيير بينه وبين الأقلّ منه كالربع ، والأكثر منه كالنصف. فكأنّه قيل : قم أقلّ من نصف الليل ، أو قم أنقص من ذلك الأقلّ أو أزيد منه قليلا. فيكون التخيير فيما وراء النصف ، لأنّ الأقلّ من نصف الليل والناقص منه قليلا والزائد عليه قليلا كلّه وراء النصف ، وما وراء النصف لا يصل إلى النصف ، فإمّا أن يكون بين النصف والثلث ، كالثلثين ونصف السدس مثلا ، أو أقرب إلى الثلث ، أو أقرب إلى النصف ، أو للنصف.

__________________

(١) القزّ : ما يسوّى منه الإبريسم أو الحرير. والمرعزّى : الزغب الّذي تحت شعر العنز ، الليّن من الصوف.

(٢) السدى من الثوب : ما مدّ من خيوطه ، واللحمة : ما سدّي به بين سدى الثوب ، أي : ما نسج عرضا ، وهو خلاف سداة.

(٣) عطف على قوله : تهجينا ، قبل عشرة أسطر.

٢٢١

والمعنى : التخيير بين أمرين : بين أن يقوم أقلّ من نصف الليل على البتّ ، وبين أن يختار أحد الأمرين ، وهما : النقصان من النصف ، والزيادة عليه. أو الاستثناء من أعداد الليل ، فإنّه عامّ ، والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه.

وقال في المجمع : «وقيل : معناه : قم نصف الليل إلّا قليلا من الليالي ، وهي ليالي العذر ، كالمرض وغلبة النوم وعلّة العين ونحوها» (١).

واعلم أنّ للأصحاب خلافا في أنّ القيام في الليل عليه وعلى أمّته في بدو الإسلام فرض أو نفل؟ وعن عائشة : أنّ الله جعله تطوّعا بعد أن كان فرضا.

وقيل : كان فرضا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ، ثمّ نسخ بهنّ إلّا ما تطوّعوا به بنذر وشبهه.

وعن الحسن : كان قيام ثلث الليل فريضة على الناس ، وكانوا على ذلك سنة.

وقيل : كان واجبا ، وإنّما وقع التخيير في المقدار ثمّ نسخ بعد عشرة سنين.

وعن الكلبي : كان يقوم الرجل حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين. ومنهم من قال : كان نفلا ، بدليل التخيير في المقدار ، ولقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) (٢).

والأصحّ أنّ التهجّد واجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينسخ أبدا. والنافلة في الآية بمعنى فريضة زائدة على الفرائض اليوميّة. وأمّا على أمّته فنسخ وجوبه وبقي استحبابه. والروايات المأثورة عن أئمّتنا صلوات عليهم مصرّحة بذلك.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) اقرأه على تؤدة ، بتبيين الحروف وإشباع الحركات ،

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٣٧٧.

(٢) الإسراء : ٧٩.

٢٢٢

بحيث يتمكّن السامع من عدّها. من قولهم : ثغر رتل إذا كان مفلّجا (١).

وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : الترتيل : حفظ الوقوف ، وأداء الحروف.

وسئلت عائشة عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقالت : لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها. و «ترتيلا» تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنّه ما لا بدّ منه للقارىء.

وعن أبي حمزة قال : قلت لابن عبّاس : إنّي رجل في قراءتي وفي كلامي عجلة. فقال ابن عبّاس : لأن أقرأ البقرة أرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن كلّه.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «معناه : بيّنه بيانا ، ولا تهذّه (٢) هذّ الشعر ، ولا تنثره نثر الرمل ، ولكن اقرع به القلوب القاسية ، ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة».

وروي عن أمّ سلمة أنّها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع قراءته آية آية.

وعن قطرب : المراد به تحزين القرآن ، أي : اقرأه بصوت حزين. ويعضده ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في هذا قال : «هو أن تتمكّث فيه ، وتحسّن به صوتك».

وعن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا ، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها».

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) سنوحي عليك قولا يثقل عليك وعلى أمّتك. يعني : القرآن ، فإنّه لما فيه من التكاليف الشاقّة ثقيل على المكلّفين ، سيّما على الرسول ، إذ كان عليه أن يتحمّلها ويحمّلها أمّته. وعن ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، وكما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة. والجملة اعتراض يسهّل

__________________

(١) المفلّجة من الأسنان : المنفرجة.

(٢) هذّ الشيء : قطعه سريعا. وهذّ الحديث : سرده.

٢٢٣

مشقّة التكليف عليه بالتهجّد ، فإنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء ، فلا بدّ لمن أحياه من مضادّة لطبعه ومجاهدة لنفسه.

وقيل : معناه : رصين ، لرزانة لفظه ومتانة معناه. أو ثقيل على المتأمّل فيه ، لافتقاره إلى مزيد تصفية للسرّ وتجريد للنظر. أو ثقيل في الميزان ، أو على الكفّار والفجّار. أو ثقيل تلقّيه ، لقول عائشة : رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم (١) عنه ، وإنّ جبينه ليرفضّ (٢) عرقا.

وعن ابن عبّاس : كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربّد (٣) له جلده.

وقيل : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتغيّر حاله عند نزول الوحي ويعرق ، وإذا كان راكبا يبرك راحلته ولا يستطيع المشي.

وسأل الحرث بن هشام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشدّ عليّ ، فيفصم عنّي ، وقد وعيت ما قال. وأحيانا يتمثّل الملك رجلا ، فأعي ما يقول.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) إنّ النفس الّتي تنشأ من مضجعها إلى العبادة. من : نشأ من مكانه إذا نهض. أو قيام الليل ، على أنّ الناشئة مصدر من : نشأ إذا قام ونهض ، على فاعلة ، كالعاقبة. ويدلّ عليه ما روي عن عبيد بن عمير قلت لعائشة : رجل قام من أوّل الليل أتقولين له : قام ناشئة؟ قالت : لا ، إنّما الناشئة القيام بعد النوم. ففسّرت الناشئة بالقيام عن المضجع ، أو العبادة الّتي تنشأ بالليل ، أي : تحدث. أو ساعات الليل ، لأنّها تحدث واحدة بعد اخرى. أو ساعاتها الأول ، من : نشأت إذا ابتدأت.

وعن عليّ بن الحسين : «أنّه كان يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول : أما سمعتم قول الله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) هذه ناشئة الليل».

__________________

(١) أي : يقلع عنه.

(٢) ارفضّ العرق : سال وترشّش.

(٣) تربّد اللون : تغيّر.

٢٢٤

(هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) كلفة ، أو ثبات قدم. وقرأ أبو عمرو وابن عامر : وطاء ، أي : مواطأة يواطئ قلبها لسانها ، إن أردت النفس. أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه ، إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات. أو أشدّ موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص. أو أثقل وأغلظ على المصلّي من صلاة النهار ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر».

(وَأَقْوَمُ قِيلاً) وأسدّ مقالا ، وأثبت قراءة ، لحضور القلب وهدوء الأصوات.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) تقلّبا في مهمّاتك وشواغلك من تبليغ الرسالة ، ودعوة الخلق ، وتعليم الفرائض والسنن ، وإصلاح المعيشة لنفسك وعيالك. فعليك بالتهجّد ، فإنّ مناجاة الحقّ تستدعي فراغا.

وقال صاحب المجمع : «وفي هذا دلالة على أنّه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل لأجل التعليم والتعلّم ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحتاج إلى التعليم أكثر ممّا يحتاج الواحد منّا إليه ، ثمّ لم يرض سبحانه منه أن يترك حظّه من قيام الليل» (١).

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره ليلا ونهارا. وذكر الله يتناول كلّ ما يذكر به ، من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة ودراسة علم.

وقيل : معناه : اقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم في ابتداء صلاتك ، توصلك بركة قراءتها إلى ربّك ، وتقطعك من كلّ ما سواه.

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) وانقطع إليه بالعبادة ، وجرّد نفسك عمّا سواه. ولهذه الرمزة ومراعاة الفواصل وضع «تبتيلا» موضع : تبتّلا. وقال في الكشّاف : «معنى تبتّل : بتّل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحقّ الفواصل» (٢). وعن ابن عبّاس : معناه : أخلص له إخلاصا.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٣٧٩.

(٢) الكشّاف ٤ : ٦٣٩.

٢٢٥

وروى محمد بن مسلم وزرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّ التبتّل هنا رفع اليدين في الصلاة». وفي رواية أبي بصير قال : «هو رفع يدك إلى الله ، وتضرّعك إليه».

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) خبر محذوف ، أي : هو ربّ العالم بما فيه ، والمتصرّف فيما بينهما ، والمدبّر لما بينهما. أو مبتدأ خبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : ربّ المشرقين لا أحد يحقّ له العبادة سواه. وقرأ ابن عامر والكوفيّون غير حفص ويعقوب بالجرّ على البدل من «ربّك». وقيل : بإضمار حرف القسم ، وجوابه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

(فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) حفيظا للقيام بأمرك ، واعتمد عليه ، وفوّض أمرك إليه. وهذا مسبّب عن التهليل ، فإنّ توحّده بالألوهيّة يقتضي أن توكّل إليه الأمور.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من التكذيب والأذى ، والنسبة إلى السحر والكهانة (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) بأن تجانبهم وتداريهم ، ولا تكافئهم ، وتكل أمرهم إلى الله ، كما قال مهدّدا للكفّار : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) والّذين يكذّبونك فيما تدعوهم إليه ، من التوحيد وإخلاص العبادة ووقوع البعث والجزاء. ونصبه على أنّه مفعول معه. والمعنى : دعني وإيّاهم ، وكل إليّ أمرهم ، فإنّ بي غنية عنك في مجازاتهم ، فلا تشغل نفسك بمجازاتهم. (أُولِي النَّعْمَةِ) أرباب التنعّم. يريد صناديد قريش. وقيل : نزلت في المطعمين ببدر ، وهم عشرة ، ذكرناهم في الأنفال (١). (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) زمانا أو إمهالا قليلا. وهذا أيضا وعيد ، ولم يكن إلّا يسيرا حتّى كانت وقعة بدر.

ثمّ علّل الأمر المذكور بقوله : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) جمع النكل ، وهو القيد الثقيل

__________________

(١) راجع ج ٣ ص ٣٨ ، ذيل الآية ٣٦ من سورة الأنفال.

٢٢٦

(وَجَحِيماً) هو اسم من أسماء جهنّم. وقيل : يعني : نارا عظيمة ، ولا يسمّى القليل به.

(وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) ينشب في الحلق ، فلا يدخل ولا يخرج ، كالزقّوم والضريع. وروى حمران بن أعين عن عبد الله بن عمر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع قارئا يقرأ هذه فصعق. (وَعَذاباً أَلِيماً) ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يعرف كنهه إلّا الله تعالى.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) تضطرب وتتزلزل شديدا. ظرف لما في (لَدَيْنا أَنْكالاً) من معنى الفعل. (وَالْجِبالُ) وترجف الجبال معها ، وتضطرب بمن عليها (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً) رملا مجتمعا. فعيل بمعنى مفعول. من : كثبت الشيء إذا جمعته.

(مَهِيلاً) سائلا منثورا. من : هيل هيلا إذا نثر. يعني : أنّ الجبال تنقلع من أصولها فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

ثمّ أكّد سبحانه الحجّة على قريش فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) يا أهل مكّة (شاهِداً عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم يوم القيامة بتكذيبكم وكفركم (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) يعني : موسى. ولم يعيّنه ، لأنّ المقصود لم يتعلّق به.

(فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) عرّفه لسبق ذكره (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) ثقيلا

٢٢٧

شديدا ، مع كثرة جنوده وسعة ملكه. من قولهم : طعام وبيل غير مستمرئ لثقله. ومنه : الوابل للمطر العظيم القطر.

ثمّ حذّرهم الله سبحانه أن ينالهم مثل ما نال فرعون وقومه ، فقال : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) أنفسكم (إِنْ كَفَرْتُمْ) بقيتم على الكفر (يَوْماً) عذاب يوم. أو فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة؟ ويجوز أن يكون مفعولا لـ «كفرتم» على تأويل : فكيف تتّقون الله إن جحدتم يوم القيامة والجزاء؟ لأنّ التقوى هو خوف عقاب الله.

(يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) من شدّة هوله. جمع أشيب. وهذا على التمثيل والفرض ، كما يقال : يوم يشيب النواصي ، وهذا أمر يشيب منه الوليد. وأصله : أن الهموم الشديدة تضعف القوى فتسرع بالشيب. ويجوز أن يكون وصفا لليوم بالطول.

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) التذكير على تأويل السقف. والباء للآلة ، كالباء في : فطرت العود بالقدوم (١). بمعنى : أنّ السماء على عظمها وإحكامها تنفطر بشدّة ، كما ينفطر الشيء بما يفطر به. (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) الضمير لله ، أو لليوم وإن لم يجر له ذكر ، لكونه معلوما ، على إضافة المصدر إلى المفعول.

(إِنَّ هذِهِ) أي : هذه الآيات الموعدة (تَذْكِرَةٌ) موعظة (فَمَنْ شاءَ) أن يتّعظ (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) إلى ثواب ربّه طريقا يتقرّب إليه بسلوك التقوى والخشية.

__________________

(١) القدوم : آلة للنحت والنجر.

٢٢٨

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

روي : أنّ التهجّد كان واجبا على التخيير المذكور ، فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطائفة من المؤمنين معه يقومون في الليل للتهجّد ، فشقّ ذلك عليهم ، فكان الرجل يصلّي الليل كلّه مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فخفّف الله ذلك عنهم بقوله :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) أي : أقلّ (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) استعار الأدنى للأقلّ ، لأنّ الأقرب إلى الشيء أقلّ بعدا منه ، فإنّ المسافة بين الشيئين إذا دنت قلّ ما بينهما من الأحياز ، وإذا بعدت كثر ذلك. وقرأ هشام : ثلثي الليل بسكون اللام. وابن كثير والكوفيّون : نصفه وثلثه بالنصب ، عطفا على «أدنى». والمعنى : أنّك تقوم في بعض الليالي أقلّ من ثلثيها ، وفي بعضها النصف ، وفي بعضها الثلث.

(وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ويقوم ذلك طائفة من أصحابك. روى أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس : في قوله : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) : عليّ وأبو ذرّ (١).

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ : ٣٨٧ ح ١٠٣٦.

٢٢٩

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلّا الله ، فإنّ تقديم اسمه مبتدأ مبنيّا عليه «يقدّر» يشعر بالاختصاص. ويؤيّده قوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي : لن تحصوا تقدير الأوقات ، ولن تستطيعوا ضبطها بالتعديل والتسوية ، إلّا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عن الجبائي : معناه : جعله تطوّعا بعد أن كان فرضا. وقيل : معناه : فلم يلزمكم إثما كما لا يلزم التائب.

وقيل : فخفّف عليكم هذا التكليف. والكلّ عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر ، ورفع التبعة فيه ، كرفع التبعة عن التائب.

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فصلّوا ما تيسّر عليكم من صلاة الليل. عبّر عن الصلاة بالقرآن كما عبّر عنها بسائر أركانها. ثمّ نسخ ذلك أيضا بالصلوات الخمس.

وقيل : فاقرؤا القرآن بعينه كيفما تيسّر عليكم. ومن قال : المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة ، فهو محمول على الاستحباب عند الأكثر دون الوجوب.

وقال بعضهم : هو محمول على الوجوب ، لأنّ القارئ يقف على إعجاز القرآن وما فيه من دلائل التوحيد وإرسال الرسل. ولا يلزم حفظ القرآن ، لأنّه من القرب المستحبّة المرغّب فيها.

ثمّ اختلفوا في القدر الّذي تضمّنه هذا الأمر من القراءة. فقال سعيد بن جبير : خمسون آية. وقال ابن عبّاس : مائة آية. وعن الحسن قال : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن. وقال كعب : من قرأ مائة آية في ليلة كتب من القانتين. وقال السدّي : مائتا آية. وقال جويبر : ثلث القرآن ، لأنّ الله يسّره على عباده. وعلى مذهب أصحابنا لا تجب القراءة إلّا في الصلوات الواجبة ، وفي غيرها مندوبة.

ثمّ بيّن حكمة اخرى مقتضية للترخيص والتخفيف ، فقال مستأنفا : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ) يسافرون (فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ

٢٣٠

اللهِ) للتجارة ، أو لتحصيل العلم. قال عبد الله بن مسعود : أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه ، كان عند الله بمنزلة الشهداء. ثمّ قرأ : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ).

(وَآخَرُونَ) ومنكم قوم آخرون (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فيقتضي التخفيف عنهم أيضا (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) كرّره مبالغة في القراءة ، ولهذا يؤكّد استحبابها.

وروي عن الرضا عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن جدّه قال : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السرّ».

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) يريد به الأمر بسائر الإنفاقات في سبيل الخير ، أو بأداء الزكاة على أحسن وجه ، والترغيب فيه بوعد العوض ، كما صرّح به في قوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) من طاعة بدنيّة أو ماليّة (تَجِدُوهُ) تجدوا ثوابه (عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) لكم من التقصير والشحّ (وَأَعْظَمَ أَجْراً) أفضل ثوابا من الّذي تؤخّرونه إلى الوصيّة عند الموت. أو من متاع الدنيا تخلّفونه بعد موتكم. و «خيرا» ثاني مفعولي «تجدوه». وهو تأكيد ، أو فصل ، لأنّ «أفعل من» كالمعرفة ، ولذلك يمتنع من حرف التعريف.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) في مجامع أحوالكم ، فإنّ الإنسان لا يخلو من تفريط (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) ستّار لذنوبكم ، صفوح عنكم (رَحِيمٌ) بكم ، منعم عليكم.

٢٣١
٢٣٢

(٧٤)

سورة المدّثّر

مكّيّة. وهي ستّ وخمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة المدّثّر اعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد من صدّق بمحمّد وكذّب به بمكّة».

محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدّثّر كان حقّا على الله أن يجعله مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

ولمّا أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر المزّمّل بالصلاة وغيرها ، أمره في مفتتح

٢٣٣

هذه السورة بالإنذار عن ترك المأمورات ، فأمره أن يبدأ بنفسه ثمّ بالناس ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وهو لابس الدثار.

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني وشمالي فلم أر شيئا ، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء والأرض ـ يعني : الملك الّذي ناداه ـ فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت : دثّروني دثّروني ، فنزل جبرئيل وقال : «يا أيّها المدّثّر». ولذلك قيل : هي أوّل سورة نزلت.

وعن الزهري : أوّل ما نزل سورة «اقرأ باسم ربّك» إلى قوله : «ما لم يعلم». فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل يعلو شواهق الجبال ، فأتاه جبرئيل فقال : إنّك نبيّ الله. فرجع إلى خديجة وقال : دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا. فنزل : «يا أيّها المدّثّر».

وقيل : سمع من قريش ما كرهه ، فاغتمّ فتغطّى بثوبه مفكّرا كما يفعل المغموم ، فنزل.

وقيل : المراد المتدثّر بالنبوّة والكمالات النفسانيّة. أو المختفي ، فإنّه كان بحراء كالمختفي فيه ، على سبيل الاستعارة.

(قُمْ) من مضجعك ، أو قم قيام عزم وجدّ (فَأَنْذِرْ) أطلق الإنذار للتعميم.

والمعنى : فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد. أو قدّر بمفعول دلّ عليه قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) أي فحذّر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. والأوّل أولى. ويؤيّده قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (٢).

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) وخصّص ربّك بالتكبير. وهو وصفه بالكبرياء اعتقادا وقولا. روي : أنّه لمّا نزل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله أكبر ، فكبّرت خديجة وفرحت ، وأيقنت

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤.

(٢) سبأ : ٢٨.

٢٣٤

أنّه الوحي ، وذلك لأنّ الشيطان لا يأمر بذلك.

وقد يحمل على تكبير الصلاة ، وهو في مفتتح الصلوات الواجبة واجب ، وفي غيرها مستحبّ. والفاء فيه وفيما بعده لإفادة معنى الشرط ، كأنّه قال : مهما يكن من شيء فلا تدع تكبيره. وتقديم هذا الأمر على الأوامر الآتية ، للدلالة على أنّ المقصود الأوّل من الأمر بالقيام أن يكبّر ربّه عن الشرك والتشبيه ، فإنّ أوّل ما يجب معرفة الصانع ، وأوّل ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه عن جميع النواقص والعيوب.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) من النجاسات ، فإنّ التطهير شرط في الصلاة ، محبوب في غيرها. وذلك بغسلها ، أو بحفظها عن النجاسة ، كتقصيرها مخافة جرّ الذيول فيها.

ولهذا قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : «معناه : فثيابك فقصّر».

وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : غسل الثياب يذهب الهمّ والحزن ، وهو طهور للصلاة ، وتشمير (١) الثياب طهور لها ، وقد قال الله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي : فشمّر».

وهو أوّل ما أمر به من رفض العادات المذمومة ، فإنّ عادتهم في الجاهليّة جرّ الذيول على الأرض مرحا وتكبّرا.

أو طهّر نفسك من الأخلاق الذميمة والأفعال الدنيئة. يقال للرجل إذا كان صالحا : إنّه لطاهر الثياب ، وطاهر الجيب والأردان والذيل. فهو وصف له بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق. وإذا كان فاجرا يقال : إنّه لخبيث الثياب والذيل. وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه ، فكنّي به عنه. فيكون أمرا باستكمال القوّة العمليّة ، بعد أمره باستكمال القوّة النظريّة والدعاء إليه.

أو فطهّر دثار النبوّة عمّا يدنّسه من الحقد والضجر وقلّة الصبر.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي : فاهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدّي إليه من الشرك وغيره من المآثم. والمعنى : الثبات على هجره ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بريئا منه.

__________________

(١) شمّر الثوب عن ساقيه : رفعه.

٢٣٥

وقيل : معناه : أخرج حبّ الدنيا عن قلبك ، لأنّه رأس كلّ خطيئة. وقرأ يعقوب وحفص : والرّجز بضمّ الراء. وهو لغة ، كالذّكر.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ولا تعط عطيّة مستكثرا. نهي عن الاستغزار ، وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب. ومنه : الحديث : «المستغزر يثاب من هبته».

وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون نهيا خاصّا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الله اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق. وهذا مرويّ عن ابن عبّاس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحّاك ، والنخعي.

والثاني : أن يكون نهي تنزيه لا تحريم له ولأمّته.

وقال الحسن والربيع بن أنس : معناه : لا تمنن حسناتك على الله تعالى مستكثرا ، أي : رائيا لها كثيرا ، فينقصك ذلك عند الله.

وعن ابن زيد : لا تمنن ما أعطاك الله من النبوّة والقرآن ، مستكثرا به الأجر من الناس لأجل التبليغ.

وعن أبي مسلم : هذا نهي عن الربا المحرّم.

وقيل : لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيته ، فإنّ المنّ يكدّر الصنيعة.

(وَلِرَبِّكَ) ولوجهه ، أو أمره (فَاصْبِرْ) فاستعمل الصبر. أو فاصبر على مشاقّ التكاليف وأذى المشركين. وعن النخعي : فاصبر على عطيّتك. كأنّه وصله بما قبله ، وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) في الصور. فاعول من النقر بمعنى التصويت. وأصله : القرع الّذي هو سبب الصوت. واختلف في أنّها النفخة الأولى الّتي هي أوّل الشدّة

٢٣٦

الهائلة العامّة ، أم الثانية الّتي عندها يحيي الله الخلق جميعا يوم القيامة ، وتسمّى صيحة الساعة. والفاء للسببيّة ، كأنّه قال : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم نفخ الصور الّذي يلقون في يومه عاقبة أمرهم ، وتلقى عاقبة صبرك عليه.

و «إذا» ظرف لما دلّ عليه قوله : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكافِرِينَ) فإنّ معناه : فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين. و «ذلك» إشارة إلى وقت النقر. وهو مبتدأ ، خبره «يوم عسير». و «يومئذ» بدله. كأنّه قيل : فيوم النقر يوم عسير. أو ظرف لخبره ، إذ التقدير : فذلك الوقت وقت وقوع يوم عسير. (غَيْرُ يَسِيرٍ) تأكيد يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه ، ويشعر بيسره على المؤمنين ، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم ، وبشارة المؤمنين وتسليتهم.

ويجوز أن يراد أنّه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا ، كما يرجى تيسّر العسير من أمور الدنيا.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما

٢٣٧

أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

وروي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزل عليه (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) (١) قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلمّا فطن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية.

فانطلق الوليد حتّى أتى مجلس قومه بني مخزوم ، فقال : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة (٢) ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق (٣) ، وإنّه ليعلو وما يعلى. ثمّ انصرف إلى منزله.

فقالت قريش : صبأ (٤) والله الوليد ، والله لتصبأنّ قريش كلّهم. وكان يقال للوليد : ريحانة قريش.

فقال لهم أبو جهل : أنا أكفيكموه. فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا.

فقال له : مالي أراك حزينا يا ابن أخي؟

قال : هذه قريش يعيبونك على كبر سنّك ، فيزعمون أنّك زيّنت كلام محمد.

فقام مع أبي جهل حتّى أتى مجلس قومه فقال : تزعمون أنّ محمّدا مجنون ، فهل رأيتموه يخنق؟

قالوا : اللهمّ لا.

__________________

(١) غافر : ١ ـ ٣.

(٢) الطلاوة : الحسن والبهجة.

(٣) غدق المكان : ابتلّ بالغدق وخصب. والغدق : الماء الكثير.

(٤) أي : خرج من دين إلى دين آخر.

٢٣٨

قال : تزعمون أنّه كاهن ، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟

قالوا : اللهمّ لا.

قال : تزعمون أنّه شاعر ، فهل رأيتموه ينطق بشعر قطّ؟

قالوا : اللهمّ لا.

قال : أتزعمون أنّه كذّاب؟ فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟

قالوا : اللهمّ لا. وكان يسمّى الصادق الأمين قبل النبوّة من صدقه.

فقالت قريش للوليد : فما هو؟

فتفكّر في نفسه ثمّ نظر وعبس فقال : ما هو إلّا ساحر. أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، فهو ساحر. وما الّذي يقوله إلّا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل. ففرحوا بقوله. فقال سبحانه تهديدا للوليد : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً)

حال من الياء ، أي : ذرني وحدي معه ، فإنّي أجزيك في الانتقام منه عن كلّ منتقم ، فأكفيكه. أو من التاء ، أي : ومن خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. أو من العائد المحذوف ، أي : من خلقته فريدا لا مال له ولا ولد ، فإنّه كان ملقّبا بالوحيد ، فسمّاه الله به تهكّما ، وتغييرا له عن الغرض الّذي كانوا يؤمّونه ـ من مدحه والثناء عليه بأنّه وحيد قومه ، لرئاسته ويساره وتقدّمه في الدنيا ـ إلى وجه الذمّ والعيب ، وهو أنّه خلق وحيدا لا مال له ولا ولد ، فآتاه الله ذلك ، فكفر بنعمة الله وأشرك به ، واستهزأ بدينه. أو أراد أنّه وحيد ولكن في الشرارة ، أو عن أبيه ، لأنّه كان زنيما (١).

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) مبسوطا كثيرا ، أو ممدّا بالنماء. من : مدّ النهر ومدّ نهره آخر. قيل : كان له الضرع والزرع والتجارة. وعن ابن عبّاس : هو ما كان له بين مكّة والطائف من صنوف الأموال. وقيل : الممدود الكثير الّذي لا تنقطع غلّته عنه

__________________

(١) الزنيم : الدعيّ ، أي : اللاحق بقوم ليس منهم.

٢٣٩

سنة حتّى يدرك غلّة سنة أخرى ، فهو ممدود على الأيّام. وكان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا وشتاء ، وما بين مكّة إلى الطائف من الإبل المؤبّلة (١) ، والخيل المسوّمة ، والنعم المرحّلة (٢) ، والمستغلّات الّتي لا تنقطع غلّتها ، والجواري والعبيد ، والعين الكثيرة. وعن مجاهد : كان له مائة ألف دينار. وقيل : ألف ألف.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) حضورا معه بمكّة يتمتّع بلقائهم ويستأنس بهم ، لا يشتغل قلبه بغيبتهم ، ولا يحزن لفراقهم. ولا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش ، لأنّهم مكفيّون ، لوفور نعمة أبيهم ، فاستغنوا عن التكسّب وطلب المعاش بأنفسهم. ولا يحتاج هو أن يرسلهم في مصالحه ، لكثرة خدمه. أو يشهدون معه في المحافل والمجامع ، لوجاهتهم واعتبارهم. أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه.

وعن مجاهد : كان له عشرة بنين. وقيل : ثلاثة عشر. وقال مقاتل : سبعة : الوليد بن الوليد ، وخالد ، وعمارة ، وهشام ، والعاص ، وقيس ، وعبد شمس. أسلم منهم ثلاثة : خالد ، وهشام ، وعمارة.

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) وبسطت له الرئاسة والجاه العريض. ومنه قولهم : أدام الله تأييدك وتمهيدك ، يريدون زيادة الجاه والحشمة. وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم ، ولذلك لقّب ريحانة قريش والوحيد بسبب استحقاق الرئاسة والتقدّم.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) على ما أعطيته. وهو استبعاد واستنكار لطمعه ، إمّا لأنّه لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة ، أو لأنّه لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم. وقيل : إنّه كان يقول : إن كان محمّد صادقا فما خلقت الجنّة إلّا لي.

ولذلك قال : (كَلَّا) ردعا له عن الطمع وقطع رجائه. ثمّ علّل الردع على سبيل الاستئناف بقوله : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي : عاند آيات المنعم وكفّر بذلك نعمته ،

__________________

(١) أي : المتّخذة والمقتناة ، أو المجتمعة.

(٢) المرحّل من النعم : الّذي شدّ عليه الرّحل.

٢٤٠