زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

ديّار وديّور ، كقيّام وقيّوم. وهو فيعال من الدار والدور. وأصله : ديوار ، ففعل به ما فعل بأصل سيّد وميّت. لا فعّال ، وإلّا لكان دوّارا.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) عن دينك (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) إلّا من سيفجر ويكفر بعد البلوغ. فوصفهم بما يصيرون إليه ، كقوله عليه الصلاة والسّلام : «من قتل قتيلا فله سلبه».

وعلمه عليه‌السلام بذلك لما جرّبهم واستقرى أحوالهم ألف سنة إلّا خمسين عاما ، فعرف شيمهم وطباعهم. وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه كما ذكر ويقول : احذر هذا ، فإنّه كذّاب ، وإنّ أبي حذّرنيه ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك. وأيضا قد أخبره الله عزوجل (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١).

واعلم أنّ صبيانهم غرقوا لا على وجه العقاب ، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الهلاك. وكم منهم من يموت بالحرق والغرق ، وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون.

وعن الحسن : أنّه سئل عن ذلك ، فقال : علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب.

وعن مقاتل والربيع وعطاء : أنّ الله أعقم أرحام نسائهم ، وأيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة ، فلم يكن معهم صبيّ حين أغرقوا.

ثمّ دعا عليه‌السلام لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات ، فقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) لملك بن متوشلح وشمخا بنت أنوش ، وكانا مؤمنين (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) منزلي. وقيل : مسجدي. وقيل : سفينتي.

(مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى يوم القيامة. خصّ أوّلا من يتّصل به ، لأنّهم أولى وأحقّ بدعائه ، ثمّ عمّ المؤمنين والمؤمنات. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) هلاكا.

__________________

(١) هود : ٣٦.

٢٠١
٢٠٢

(٧٢)

سورة الجنّ

مكّيّة. وهي ثمان وعشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة الجنّ اعطي بعدد كلّ جنّيّ وشيطان صدّق بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذّب به عتق رقبة».

حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أكثر قراءة «قل أوحي إليّ» لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجنّ ، ولا من نفثهم ، ولا من سحرهم ، ولا من كيدهم ، وكان مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول : يا ربّ لا أريد بهم بدلا ، ولا أريد بدرجتي حولا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ

٢٠٣

كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

ولمّا تقدّم في سورة نوح عليه‌السلام اتّباع قومه أكابرهم ، افتتح هذه السورة اتّباع الجنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) إنّما ذكره على لفظ ما لم يسمّ فاعله

٢٠٤

تفخيما وتعظيما ، فإنّ الله سبحانه أوحى إليه ، وجبرئيل عليه‌السلام أنزل عليه (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) بالفتح ، لأنّه فاعل «أوحي» (نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) النفر ما بين الثلاثة والعشرة.

وقيل : كانوا من الشيصبان. وهم أكثر الجنّ عددا ، وعامّة جنود إبليس منهم. والجنّ أجسام عاقلة خفيّة يغلب عليهم الناريّة أو الهوائيّة على صورة مخصوصة ، بخلاف صورة الناس والملائكة ، فإنّ الملك مخلوق من النور ، والانس من الطين ، والجنّ من النار. وقيل : نوع من الأرواح المجرّدة. وقيل : نفوس بشريّة مفارقة عن أبدانها.

وفيه دلالة على أنّه عليه‌السلام ما رءاهم ولم يقرأ عليهم ، وإنّما اتّفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها ، فأخبر الله به رسوله.

(فَقالُوا) أي : قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (١) (إِنَّا) بالكسر ، لأنّه مبتدأ محكيّ بعد القول (سَمِعْنا قُرْآناً) كتابا (عَجَباً) بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه ودقّة معانيه ، قائمة فيه دلائل الإعجاز عن الإتيان بمثله. وهو مصدر وضع موضع العجيب للمبالغة.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) إلى الحقّ والصواب ، من التوحيد والإيمان بكلّ ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَآمَنَّا بِهِ) بالقرآن. ولمّا كان الإيمان به إيمانا بالله وبوحدانيّته وبراءة من الشرك قالوا : (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي : لن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان.

وفي هذا دلالة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مبعوثا إلى الجنّ والإنس. وعلى أنّ الجنّ عقلاء مخاطبون ، وبلغات العرب عارفون. وعلى أنّهم يميّزون بين المعجز وغيره.

وأنّهم دعوا قومهم إلى الإسلام ، وأخبروهم بإعجاز القرآن. وأنّه كلام الله ، لأنّ كلام العباد لا يتعجّب منه.

وروى الواحدي بإسناده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قال : ما قرأ

__________________

(١) الأحقاف : ٢٩.

٢٠٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الجنّ وما رآهم ، بل انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء بشهاب ثاقب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب. قالوا : ما ذاك إلّا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمرّ النفر الّذين أخذوا نحو تهامة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر ، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الّذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم وقالوا : إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنّا به ولن نشرك بربّنا أحدا. فأوحى الله تعالى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قل أوحي إليّ أنّه استمع نفر من الجنّ» (١). ورواه البخاري (٢) ومسلم أيضا في الصحيح.

وعن علقمة بن قيس قال : قلت لعبد الله بن مسعود : من كان منكم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الجنّ؟ فقال : ما كان منّا معه أحد ، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة ، فقلنا : اغتيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو استطير. فانطلقنا نطلبه من الشعاب ، فلقيناه مقبلا من نحو حراء ، فقلنا : يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك ، وقلنا له : بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك. فقال لنا : إنّه أتاني داعي الجنّ فذهبت وأقرأتهم القرآن. فذهب بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. فأمّا أن يكون صحبه منّا أحد فلم يصحبه.

وقيل : كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين رآهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فآمنوا به وأرسلهم إلى سائر الجنّ.

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) قراءة ابن كثير والبصريّان بالكسر ، على أنّه من

__________________

(١) التفسير الوسيط ٤ : ٣٦١.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ١٩٩ ، صحيح مسلم ١ : ٣٣١ ح ١٤٩.

٢٠٦

جملة المحكيّ بعد القول. وكذا ما بعده ، إلّا قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) (١) (وَأَنَّ الْمَساجِدَ) (٢) (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ) (٣) فإنّها من جملة الموحى به. ووافقهم نافع وأبو بكر إلّا في قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ) على أنّه استئناف أو مقول. وفتح الباقون الكلّ إلّا ما صدّر بالفاء ، على أنّ ما كان من قولهم فمعطوف على محلّ الجارّ والمجرور في «آمنّا به» كأنّه قيل : صدّقناه أنّه تعالى جدّ ربّنا ، أي : عظمته. من قولك : جدّ فلان في عيني إذا عظم. ومنه قول أنس بن مالك : كان الرجل إذا قرأ البقرة جدّ في أعيننا ، أي : عظم. أو سلطانه ، أو غناه. مستعار من الجدّ الّذي هو الدولة والبخت ، لما يقال : الملوك والأغنياء هم المجدودون. والمعنى : وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد ، لعظمته أو لسلطانه أو لغناه.

وقوله : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) بيان لوصفه بالتعالي.

قال الربيع بن أنس : إنّه قال : ليس لله تعالى جدّ ، وإنّما قالته الجنّ بجهالة ، فحكاه سبحانه كما قالت. وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) جاهلنا ، إبليس أو مردة الجنّ (عَلَى اللهِ شَطَطاً) قولا ذا شطط ، وهو البعد والمجاوزة عن الحدّ في الظلم وغيره. ومنه : أشطّ في السوم إذا أبعد فيه. أو هو في نفسه شطط ، لفرط ما أشطّ فيه ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى. فاعترفوا بأنّ إبليس كان يخرج عن الحدّ في إغواء الخلق ودعائهم إلى الضلالة.

ثمّ اعتذروا عن اتّباعهم السفيه في ذلك ، بظنّهم أنّ أحدا لا يكذب على الله ، فقالوا :

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) نصب على المصدر ، لأنّه نوع من القول. أو الوصف لمحذوف ، أي : قولا مكذوبا فيه. ومن قرأ : أن لن تقوّل

__________________

(١) الجنّ : ١٦ و١٨ ـ ١٩.

(٢) الجنّ : ١٦ و١٨ ـ ١٩.

(٣) الجنّ : ١٦ و١٨ ـ ١٩.

٢٠٧

جعله مصدرا ، لأنّ التقوّل لا يكون إلّا كذبا.

والمعنى : كان في ظنّنا أنّ أحدا من الثقلين لن يكذب على الله ولن يفتري عليه ما ليس بحقّ ، من اتّخاذ الشريك معه والصاحبة والولد ، فكنّا نصدّقهم فيما أضافوا إليه من ذلك ، حتّى تبيّن لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم.

وفي هذا دلالة على أنّهم كانوا مقلّدين ، حتّى سمعوا الحجّة وانكشف لهم الحقّ ، فرجعوا عمّا كانوا عليه. وفيه إشارة إلى بطلان التقليد في التوحيد ، ووجوب اتّباع الدليل.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) وذلك لأنّ الرجل كان إذا أمسى بقفر قال : أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. يريد كبير الجنّ.

فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا : سدنا الجنّ والإنس. وكان هذا منهم على حسب اعتقادهم أنّ الجنّ يحفظهم. وعن مقاتل : أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من اليمن ، ثمّ بنو حنيفة ، ثمّ فشا في العرب.

(فَزادُوهُمْ) فزادوا الجنّ باستعاذتهم بهم (رَهَقاً) كبرا وعتوّا وطغيانا. أو فزاد الجنّ الإنس غيّا ، بأن أضلّوهم لاستعاذتهم بهم. والرهق في الأصل غشيان المحارم.

(وَأَنَّهُمْ) وأنّ الإنس (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيّها الجنّ. وهو من كلام الجنّ يقوله بعضهم لبعض. أو استئناف كلام من الله. ومن فتح «أنّ» فيهما جعلهما من الموحى به. والضمير في (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) للجنّ. والخطاب لكفّار قريش ، أي : ظنّ الجنّ كما ظننتم أيّها الكفّار (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) هذا سادّ مسدّ مفعولي «ظنّوا».

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. واللّمس مستعار من المسّ للطلب ، لأنّ الماسّ طالب متعرّف. يقال : لمسه والتمسه وتلمّسه ، كطلبه واطّلبه وتطلّبه. ونحوه : الجسّ. يقال : جسّوه بأعينهم وتجسّسوه.

٢٠٨

(فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً) حرّاسا. اسم جمع ، كالخدم بمعنى الخدّام (شَدِيداً) أي : قويّا. ولو ذهب إلى معناه الجمعيّ لقيل : شدادا. وهم الملائكة يمنعونهم عنها. (وَشُهُباً) جمع شهاب. وهو شيء مضيء متولّد من النار.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) مقاعد خالية عن الحرس والشهب ، أو صالحة للترصّد والاستماع. و «للسمع» صلة لـ «نقعد» أو صفة لـ «مقاعد». (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) شهابا راصدا له ولأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم. أو ذوي شهاب راصدين بالرجم ، على أنّه اسم جمع للراصد. وهم الملائكة الّذين يرجمونهم بالشهب ، ويمنعونهم من الاستماع.

واعلم أنّ بعضهم قالوا : إنّ الرجم لم يكن في الجاهليّة أصلا ، وحدث بعد مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو إحدى آياته. والأصحّ أنّه كان قبل المبعث ، ولكنّ الشياطين كانت تسترقّ في بعض الأحوال ، فلمّا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة ، حتّى تنبّه لها الإنس والجنّ ، ومنع الاستراق رأسا.

وعن البلخي : أنّ الشهب كانت لا محالة فيما مضى من الزمان ، غير أنّه لم يكن يمنع بها الجنّ عن صعود السماء ، فلمّا بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع بها الجنّ منه.

وعن معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهليّة؟ قال : نعم. قلت : أرأيت قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ)؟ فقال : غلظت الرجمة وشدّد أمرها حين بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي قوله : «ملئت» دليل على أنّ الحادث هو الملء والكثرة. وكذلك قوله : (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) أي : كنّا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلّها. وهذا سبب ما حملهم على الضرب في البلاد حتّى عثروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمعوا قراءته. يقولون : لمّا حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق ، قلنا : ما هذا إلّا لأمر أراده الله بأهل الأرض.

٢٠٩

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بحراسة السماء (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) خيرا ورحمة ، ولو ببعث نبيّ عظيم الشأن.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) المؤمنون الأبرار (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي : قوم دون ذلك ، فحذف الموصوف. وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه. أو أرادوا الطالحين. (كُنَّا طَرائِقَ) ذوي طرائق ومذاهب متفرّقة مختلفة. أو كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة. أو كنّا في طرائق مختلفة. أو كانت طرائقنا طرائق ، على حذف المضاف الّذي هو الطرائق ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. (قِدَداً) متفرّقة مختلفة. جمع القدّة. من : قدّ ، كالقطعة من : قطع. ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطيع والتفرّق.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا) علمنا ، فإنّ الظنّ بمعنى اليقين شائع في كلامهم (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) كائنين في الأرض أينما كنّا فيها (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) هاربين منها إلى السماء. وقيل : لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا ، ولن نعجزه هربا إن طلبنا.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) القرآن (آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) فهو لا يخاف ، أي : فهو غير خائف ، لأنّ الكلام في تقدير مبتدأ وخبر دخلت الفاء عليه ، ولو لا ذلك لقيل : لا يخف. والفائدة في رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله أنّه إذا فعل ذلك فكأنّه قيل : فهو لا يخاف ، فكان دالّا على تحقيق أنّ المؤمن ناج لا محالة ، وأنّه هو المختصّ بذلك دون غيره. (بَخْساً) أي : جزاء بخس ، وهو النقص في الجزاء (وَلا رَهَقاً) ولا جزاء رهق ، وهو وصول الذلّة ، لأنّه لم يبخس هذا المؤمن أحدا حقّا ، ولم يرهق ظلم أحد ، فلا يخاف جزاءهما. وفيه دلالة على أنّ من حقّ من آمن بالله أن يجتنب المظالم. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم ودمائهم وأموالهم».

ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس ، بل يجزى الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلّة ، من قوله عزوجل :

٢١٠

(وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (١).

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) المنقادون لأوامر الله (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) الجائرون عن طريق الحقّ ، وهو الإيمان والطاعة (فَمَنْ أَسْلَمَ) انقاد لأوامره (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) توخّوا رشدا عظيما يبلغهم إلى دار الثواب.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) توقد بهم كما توقد بالحطب. وعن سعيد بن جبير : أنّ الحجّاج قال له حين أراد قتله : ما تقول فيّ؟ قال : قاسط عادل.

فقال القوم : ما أحسن ما قال. حسبوا أنّه يصفه بالقسط والعدل. فقال الحجّاج : يا جهلة إنّه سمّاني ظالما مشركا ، وتلا لهم قوله : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) وقوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (٢).

وقد زعم من لا يرى للجنّ ثوابا أنّ الله عزّ وعلا أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم. وكفى به وعدا أن قال : (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً). فذكر سبب الثواب وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) «أن» مخفّفة من الثقيلة ، وهو من جملة الموحى به.

وضمير الجمع للجنّ. والمعنى : وأوحي إليّ أنّ الشأن لو استقام الجنّ (عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي : الطريقة المثلى ، وهي طريقة الإسلام ، أي : لو ثبت أبو الجنّ ـ وهو الجانّ ـ على ما كان عليه من عبادة الله والطاعة ، ولم يستكبر عن السجود لآدم ، ولم يكفر ، وتبعه ولده على الإسلام ، واستقاموا على الهدى (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) ماء كثيرا غزيرا من السماء ، أي : لأنعمنا عليهم ، ولوسّعنا رزقهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير ، لأنّه أصل المعاش وسعة الرزق ، ولعزّة وجوده بين العرب.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم كيف يشكرون ما خوّلوا منه ، أي : لنعاملهم معاملة

__________________

(١) يونس : ٢٧.

(٢) الأنعام : ١.

٢١١

المختبر في شدّة التعبّد ، بتكليف الانصراف عمّا تدعو شهواتهم إليه ، وفي ذلك المحنة الشديدة ، والمثوبة على قدر المشقّة في الصبر عمّا تدعو إليه الشهوة.

ويجوز أن يكون معناه : وأن لو استقام الجنّ الّذين استمعوا على طريقتهم الّتي كانوا عليها قبل الإسماع ، ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام ، لوسّعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنفتنهم فيه ، أي : لتكون النعمة سببا في اتّباعهم شهواتهم ، ووقوعهم في الفتنة ، وازديادهم إثما ، أو لنعذّبهم في كفران النعمة.

وقيل : ضمير الجمع راجع إلى الإنس. وعن مقاتل : أراد به مشركي مكّة ، أي : لو آمنوا واستقاموا على طريقة الإيمان لأسقيناهم ماء كثيرا ، وذلك بعد ما رفع عنهم القطر سبع سنين.

وعن أبي بصير قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أخبرني عن قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (١). قال : هو والله ما أنتم عليه ، ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا».

وعن بريد العجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «معناه : لأفدناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الأئمّة».

وقيل : راجع إلى الجنّ والإنس كليهما.

(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن عبادته ، أو موعظته ، أو وحيه (يَسْلُكْهُ) يدخله. وقرأ غير الكوفيّين بالنون. (عَذاباً صَعَداً) شاقّا يعلو المعذّب ويغلبه.

مصدر وصف به. والأصل : نسلكه في عذاب ، كقوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٢).

فعدّي إلى مفعولين ، إمّا بحذف الجارّ وإيصال الفعل ، كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (٣). وإمّا بتضمينه معنى : ندخله.

__________________

(١) فصّلت : ٣٠.

(٢) المدّثّر : ٤٢.

(٣) الأعراف : ١٥٥.

٢١٢

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

وعن سعيد بن جبير : قالت الجنّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أي : أوحي إليّ أنّ المساجد كلّها لله مختصّة به (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فلا تعبدوا فيها غيره.

وقيل : معناه : ولأنّ المساجد لله فلا تدعوا ، على أنّ اللام متعلّقة بـ «لا

٢١٣

تدعوا» أي : فلا تدعوا مع الله أحدا في المساجد ، لأنّها لله خاصّة ولعبادته. والأولى أن يكون المراد بالمخاطبين الجنّ والإنس جميعا.

وعن قتادة : كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله ، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد.

وقيل : المساجد أعضاء السجود السبعة ، على أنّ المراد النهي عن السجود لغير الله. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمرت أن أسجد على سبعة آراب (١) ، وهي : الجبهة والأنف ، واليدان ، والركبتان ، وأصابع الرجلين».

وروي : أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الرضا عليهم‌السلام عن قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ). فقال : «هي الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها».

وقيل : المراد المسجد الحرام ، لأنّه قبلة المساجد ، ولهذا ورد بلفظ الجمع.

ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (٢).

وقيل : المساجد جمع المسجد ، وهو مصدر ميمي. والمعنى : السجدات كلّها لله.

وقيل : المراد بالمساجد الأرض كلّها ، لأنّها جعلت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجدا ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا».

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإنّما ذكر بلفظ العبد ، لأنّ التقدير : وأوحي إليّ أنّه لمّا قام عبد الله. فلمّا كان واقعا في كلام رسول الله عن نفسه ، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلّل. وللإشعار بما هو المقتضي لقيامه ، أعني : العبوديّة. (يَدْعُوهُ) يعبده. يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجنّ فاستمعوا لقراءته. (كادُوا) كاد الجنّ (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) متراكمين من ازدحامهم عليه

__________________

(١) الآراب جمع الإرب : العضو.

(٢) البقرة : ١١٤.

٢١٤

تعجّبا ممّا رأوا من عبادته ، واقتداء أصحابه به قائما وراكعا وساجدا ، فسمعوا من قراءته. أو كاد الإنس والجنّ يكونون عليه مجتمعين لإبطال أمره.

وعن قتادة : تلبّدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليطفؤه ، فأبى الله إلّا أن ينصره ويظهره على من ناواه.

ومن قرأ «وإنّه» بالكسر جعله من كلام الجنّ ، قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم ، حاكين ما رأوا من صلاته وازدحام الصحابة عليه في ائتمامهم به.

واللبد جمع لبدة ، وهو ما تلبّد بعضه على بعض ، كلبدة الأسد. وعن ابن عامر برواية هشام : لبدا بضمّ اللام ، جمع لبدة ، وهي لغة.

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي : قال عبد الله للجنّ عند ازدحامهم متعجّبين : ليس ما ترون من عبادتي الله ورفضي الإشراك بالله بأمر يتعجّب منه ، إنّما يتعجّب ممّن يدعو غير الله ويجعل له شركاء. أو قال للمتظاهرين عليه : إنّما أدعو ربّي. يريد : ما أتيتكم بأمر منكر ، إنّما أعبد ربّي وحده ، ولا أشرك به أحدا ، وليس ذلك ممّا يوجب إطباقكم على مقتي وعداوتي. أو قال الجنّ لقومهم ذلك حكاية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقرأ عاصم وحمزة : قل ، على الأمر للنبيّ ، ليوافق قوله : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) ولا نفعا. أو غيّا ولا رشدا. والمعنى : لا أستطيع أن أضرّكم وأن أنفعكم ، إنّما الضارّ والنافع الله. أو لا أستطيع أن أقسركم على الغيّ والرشد ، إنّما القادر على ذلك الله عزوجل.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن أراد بي سوءا ، من مرض أو موت أو غيرهما (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ يؤوى إليه. وأصله : المدّخل ، من اللحد. وقيل : محيصا ومعدلا.

(إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ) استثناء من قوله : «لا أملك» فإنّ التبليغ إرشاد وإنفاع ،

٢١٥

وما بينهما اعتراض مؤكّد لنفي الاستطاعة من نفسه وبيان عجزه. أو من «ملتحدا».

ومعناه : لن أجد من دونه منجا إلّا أن أبلّغ عنه ما أرسلني به. وقيل : «إلّا» بمعنى : إن لا ، أي : إن لا أبلّغ بلاغا. وما قبله دليل الجواب.

وقوله : (وَرِسالاتِهِ) عطف على «بلاغا». كأنّه قيل : لا أملك إلّا التبليغ والرسالات. و «من الله» صفة «بلاغا» لا صلته ، لأنّ صلته «عن» كقوله : بلّغوا عنّي.

والمعنى : إلّا أن أبلّغ بلاغا كائنا من الله ، فأقول : قال الله كذا وكذا ، ناسبا قوله إليه ، وأن أبلّغ رسالاته وأحكامه الّتي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان.

وقيل : أراد بالبلاغ توحيد الله وعدله ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، إذ الكلام فيه. وأراد بالرسالة ما أرسل لأجله من بيان الشرائع.

ولمّا بيّن سبحانه أنّه لا ملجأ من عذابه إلّا طاعته ، عقّبه بوعيد من قارف معصيته ، فقال :

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر بالتوحيد ، إذ الكلام فيه (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) جمعه للمعنى.

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) في الدنيا ، كوقعة بدر. أو في الآخرة. والغاية لقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) بالمعنى الثاني. أو لمحذوف دلّ عليه الحال ، من استضعاف الكفّار للنبيّ ، وعصيانهم له ، واستقلالهم لعدده. كأنّه قال : لا يزال على ما هم عليه حتّى إذا رأوا ما يوعدون. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) هو أم هم.

ولمّا سمع المشركون (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) قالوا : متى يكون هذا الموعود؟ إنكارا له ، فقال الله سبحانه :

(قُلْ إِنْ أَدْرِي) ما أدري (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) متوقّع في كلّ ساعة (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) مهلة وغاية تطول مدّتها. يعني : قل لهم إنّه كائن لا محالة ،

٢١٦

ولكن لا أدري وقته.

(عالِمُ الْغَيْبِ) هو عالم الغيب (فَلا يُظْهِرُ) فلا يطلع (عَلى غَيْبِهِ) أي : على الغيب المخصوص به علمه (أَحَداً) من عباده (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) يعلم بعضه حتّى يكون له معجزة. و «من» بيان لـ «من».

قال صاحب الكشّاف : «معناه : أنّه لا يطلع على الغيب إلّا المرتضى الّذي هو مصطفى للنبوّة خاصّة ، لا كلّ مرتضى. وفي هذا إبطال للكرامات ، لأنّ الّذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل. وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطّلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط» (١). انتهى كلامه.

والجواب عن إبطال ظهور الكرامات من الأولياء بتخصيص الإظهار على الغيب بما يكون بغير توسّط البشر ، كما هو المتبادر ، أو بتخصيص الرسول بالملائكة.

والمعنى : لا يظهر الغيب أوّلا إلّا على الرسل أو على الملائكة ، وهم يطلعون الأنبياء والأولياء ثانيا بإذنه. فكرامات الأولياء على المغيّبات إنّما يكون تلقّيا من الرسول أو الملائكة ، كاطّلاعنا على أحوال الآخرة بتوسّط الأنبياء. ولا ريب أنّ فشوّ معجزات الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم ، واشتهار كراماتهم بحيث لا ينكرها أحد إلّا أعدى معاديهم وأعند معانديهم ، يهدم أساس هذا الإبطال. وبديهة العقل قاضية على أنّ في قوله : «لا كلّ مرتضى» تعريضا له إلى قدوة الأولياء ومرتضى الأوصياء ، ومظهر العجائب ومظهر الغرائب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله ، وهذا مستلزم للعناد والبغض. نعوذ بالله من شرور الاعتقادات الفاسدة ، والآراء الباطلة ، والأقوال المضلّة.

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٦٣٢ ـ ٦٣٣.

٢١٧

(فَإِنَّهُ) فإنّ الله سبحانه (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يدخل من بين يدي من ارتضى للرسالة (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) حرسا من الملائكة يحرسونه ويحفظونه من الشياطين ، يطردونهم عنه ، ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم. وعن الضحّاك : ما بعث نبيّ إلّا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبّهوا بصورة الملك.

(لِيَعْلَمَ) النبيّ الموحى إليه (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) جبريل مع خواصّ الملائكة النازلين بالوحي ، كما جرت عادة الملوك بأن يضمّوا إلى الرسول جماعة من خواصّهم تشريفا له. وهذا كما روي أنّ سورة الأنعام نزلت ومعه سبعون ألف ملك.

وعن سعيد بن جبير : ما نزل جبرئيل بشيء من الوحي إلّا ومعه أربعة من الملائكة حفظة. أو ليعلم الله أن قد أبلغ الأنبياء. يعني : ليتعلّق علمه به موجودا. (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) محروسة من التغيير. وعلى التفسير الثاني ؛ وحدّ الضمير أوّلا على اللفظ في قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ). ثمّ جمع على المعنى ، كقوله : (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) (١).

(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) بما عند الرسل من الحكم والشرائع ، لا يفوته منها شيء ، ولا ينسى منها حرفا ، فهو مهيمن عليها حافظ لها (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) حتّى القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر ، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ ونصب «عددا» على الحال ، أي : وضبط كلّ شيء معدودا محصورا. أو على المصدر في معنى : إحصاء.

__________________

(١) الجنّ : ٢٣.

٢١٨

(٧٣)

سورة المزّمّل

مكّيّة. وقيل : مدنيّة. وقيل : بعضها مكّيّ ، وبعضها مدنيّ. وهي ثماني عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة المزّمّل دفع عنه العسر في الدنيا والآخرة».

منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة المزّمّل في العشاء الآخرة أو في آخر الليل ، كان له الليل والنهار شاهدين مع السّورة ، وأحياه الله حياة طيّبة ، وأماته ميتة طيّبة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ

٢١٩

الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤))

ولمّا ختم الله سورة الجنّ بذكر الرسل ، افتتح هذه السورة بذكر نبيّنا خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أصله : المتزمّل ، وهو الّذي تزمّل في ثيابه ، أي : تلفّف بها ، فأدغم التاء في الزاي. ونحوه : المدّثّر في المتدثّر.

سمّي به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تهجينا لما كان عليه ، فإنّه كان نائما ، أو مرتعدا ممّا دهشه من بدء الوحي ، متزمّلا في قطيفة ، وذلك قبل التبليغ ، ولمّا بلّغ خوطب بالنبيّ والرسول.

وقيل : دخل على خديجة ، وقد جئث (١) فرقا وخوفا أوّل ما أتاه جبرئيل على صورته الأصليّة ، وبوادره (٢) ترعد ، فقال : زمّلوني زمّلوني ، وحسب أنّه عرض له ، فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبرئيل : يا أيّها المزّمّل.

أو تحسينا (٣) له ، إذ روي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي متلفّفا بمرط (٤) مفروش على عائشة ، فأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه.

__________________

(١) جئث جأثا : فزع.

(٢) البوادر جمع البادرة : اللحمة بين المنكب والعنق.

(٣) عطف على قوله : تهجينا ، قبل ستّة أسطر.

(٤) المرط : كساء من صوف ونحوه يؤتزر به. كلّ ثوب غير مخيط.

٢٢٠