زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

ثمّ بيّن سبحانه قصّة نوح عليه‌السلام ، فقال : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) جاوز حدّه المعتاد ، أو طغا على خزّانه ، وذلك في الطوفان (حَمَلْناكُمْ) أي : آباءكم وأنتم في أصلابهم (فِي الْجارِيَةِ) في سفينة نوح. ولمّا كانوا من نسل المحمولين الناجين كان حمل آبائهم منّة عليهم ، لأنّ نجاتهم سبب ولادتهم.

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ) لنجعل الفعلة ، وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين (تَذْكِرَةً) عظة وعبرة دالّة على قدرة الصانع وحكمته ، وكمال قهره ورحمته ، وتتذكّرون بها نعم الله تعالى ، وتشكرونه عليها ، وتتفكّرون فيها ، فتعرفون كمال قدرته (وَتَعِيَها) وتحفظها. والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك ، والإيعاء أن تحفظه في غيرك ، كما تقول : أوعيت الشيء في الظرف. (أُذُنٌ واعِيَةٌ) حافظة لما جاء من عند الله. أو سامعة قابلة ما سمعت ممّا يجب سماعها ، بتذكّره وإشاعته ، والتفكّر فيه والعمل بموجبه.

وقرأ نافع : أذن بالتخفيف والتنكير ، للدلالة على قلّتها ، فإنّ تنكير الواحد يدلّ على القلّة. ولتوبيخ الناس بقلّة من يعي منهم. وللدلالة على أنّ الأذن الواحدة إذا وعت فهي السواد الأعظم عند الله ، وأنّ ما سواها لا يبالي الله تعالى بهم وإن ملأوا ما بين الخافقين.

وروى الطبري بإسناده عن مكحول أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم اجعلها أذن عليّ. ثمّ قال عليّ عليه‌السلام : فما سمعت شيئا من رسول الله فنسيته» (١).

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٩ : ٣٥.

١٦١

وكذا روى بإسناده عن عكرمة عن بريدة الأسلمي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ : «يا عليّ إنّ الله تعالى أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلّمك وأن تعي ، وحقّ على الله أن تعي» (١).

وعن أبي عمرو عثمان بن خطّاب المعمّر المعروف بأبي الدنيا الأشجّ قال : «سمعت عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : لمّا نزلت (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألت الله عزوجل أن يجعلها أذنك يا عليّ».

ونقل الزمخشري أيضا في الكشّاف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه قال لعليّ عليه‌السلام عند نزول هذه الآية : سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ. قال عليّ عليه‌السلام : فما نسيت شيئا بعد ، وما كان لي أن أنسى» (٢).

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

ولمّا بالغ في تهويل القيامة ، وذكر مآل المكذّبين بها ، تفخيما لشأنها وتنبيها على إمكانها ، عاد إلى شرحها ، فقال :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي : لا يتثنّى في وقتها. فلا ينافيها النفختان : نفخة الصعق ، ونفخة الحشر. وإنّما حسن إسناد الفعل إلى المصدر لتقييده.

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٩ : ٣٥ ـ ٣٦. ولكن رواه عن عبد الله بن رستم عن بريدة.

(٢) الكشّاف : ٤ : ٦٠٠.

١٦٢

وحسن تذكيره للفصل. والمراد بها النفخة الأولى الّتي عندها خراب العالم. وبه رواية عن ابن عبّاس.

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) رفعت من أماكنها بمجرّد القدرة الكاملة ، أو بتوسّط زلزلة أو ريح عاصفة (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) فضربت الجملتان بعضها ببعض ضربة واحدة حتّى تندقّ وتصير كثيبا مهيلا وهباء منبثّا. والدكّ أبلغ من الدقّ. وقيل : فبسطتا بسطة واحدة ، فصارتا أرضا لا عوج فيها ولا أمتا ، لأنّ الدكّ سبب للتسوية.

ولهذا قيل : ناقة دكّاء للّتي لا سنام لها ، وأرض دكّاء للمتّسعة المستوية. ومنه : الدكّان.

(فَيَوْمَئِذٍ) فحينئذ (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) نزلت النازلة ، وهي القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) انفرج بعضها من بعض لنزول الملائكة (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ضعيفة مسترخية ساقطة القوّة جدّا ، فتصير بمنزلة الصوف في الوهي والضعف بعد ما كانت محكمة متقنة.

(وَالْمَلَكُ) والجنس المتعارف بالملك. وهو أعمّ من الملائكة. ألا ترى أنّ قولك : ما من ملك إلّا وهو شاهد ، أعمّ من قولك : ما من ملائكة.

(عَلى أَرْجائِها) جوانبها. جمع رجا مقصورا. يعني أنّها تنشقّ ـ وهي مسكن الملائكة ـ فينضوون (١) إلى أطرافها وما حولها من حافّاتها.

قال في الأنوار : «ولعلّه تمثيل لخراب السماء بخراب البنيان ، وانضواء أهلها إلى أطرافها وحواليها. وإن كان على ظاهره فلعلّ هلاك الملائكة أثر ذلك» (٢).

(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) فوق الملائكة الّذين هم على الأرجاء (يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) ثمانية أملاك ، لما روي مرفوعا أنّهم اليوم اربعة ، فإذا كان يوم القيامة

__________________

(١) انضوى إليه : انضمّ وأوى إليه.

(٢) أنوار التنزيل ٥ : ١٤٨.

١٦٣

أيّدهم الله بأربعة آخرين ، فيكونون ثمانية.

وعن الضحّاك : ثمانية صفوف من الملائكة ، لا يعلم عدّتهم إلّا الله.

وروي : ثمانية أملاك ، أرجلهم في تخوم الأرض السابعة ، والعرش فوق رؤوسهم ، وهم مطرقون مسبّحون.

وقيل : بعضهم على صورة الإنسان ، وبعضهم على صورة الأسد ، وبعضهم على صورة الثور ، وبعضهم على صورة النسر.

وروي : ثمانية أملاك في خلق الأوعال (١) ، ما بين أظلافها (٢) إلى ركبها مسيرة سبعين عاما.

وعن شهر بن حوشب : أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك. وأربعة يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك.

وعن الحسن : الله أعلم كم هم؟ أثمانية أم ثمانية آلاف؟

ويجوز أن تكون الثمانية من الروح ، أو من خلق آخر. فهو القادر على كلّ خلق. سبحان الّذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون.

وقال صاحب الأنوار : «ولعلّه أيضا تمثيل لعظمته بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العامّ. وعلى هذا قال : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) تشبيها للمحاسبة بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحوالهم» (٣). والصحيح أنّه لا للتمثيل بل للتحقيق.

__________________

(١) الأوعال جمع الوعل : تيس الجبل له قرنان قويّان. والتيس : الذكر من المعز والظباء والوعول.

(٢) أظلاف جمع ظلف. وهو لما اجترّ من الحيوانات ـ كالبقرة والجمل ـ بمنزلة الحافر للفرس.

(٣) أنوار التنزيل ٥ : ١٤٨.

١٦٤

وقال في الكشّاف : «وروي أنّ في يوم القيامة ثلاث عرضات : ثنتان منها معاذير وجدال واحتجاج وتوبيخ ، والثالثة منها تطيّر الصحف في الأيدي ، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه ، والهالك كتابه بشماله» (١).

وهذا وإن كان بعد النفخة الثانية ، لكن لمّا كان اليوم اسما لزمان متّسع تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والحساب ، وإدخال أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، صحّ جعله ظرفا للكلّ.

(لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) سريرة على الله حتّى يكون العرض للاطّلاع عليها.

وإنّما المراد منه إفشاء الحال ، والمبالغة في العدل. أو على الناس ، كما قال الله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٢). وقرأ حمزة والكسائي بالياء للفصل.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠)

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٦٠٢.

(٢) الطارق : ٩.

١٦٥

ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))ثمّ فصّل حال المكلّفين في ذلك اليوم ، فقال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ) لأهل القيامة تبجّحا وفرحا (هاؤُمُ) تعالوا (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) لعلمه بأنّه ليس فيه إلّا الطاعات ، فلا يستحي أن ينظر فيه غيره. و «هاء» اسم لـ «خذ». وفيه لغات أجودها : هاء يا رجل ، وهاء يا امرأة ، وهاؤما يا رجلان أو امرأتان ، وهاؤم يا رجال ، وهاؤنّ يا نسوة. ومفعوله محذوف. و «كتابيه» مفعول «اقرأوا» لأنّه أقرب العاملين. ولأنّ أصله : هاؤم كتابي اقرؤا كتابي ، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه.

ونظيره : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً). ولأنّه لو كان مفعول «هاؤم» لقيل : اقرؤه ، إذ الأولى إضماره حيث أمكن. والهاء فيه وفي «حسابيه» و «ماليه» و «سلطانيه» للسكت ، تثبت في الوقف ، وتسقط في الوصل. واستحبّ الوقف ، لثباتها في الامام.

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي : علمت. وإنّما أجرى الظنّ مجرى العلم ، لأنّ الظنّ الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام. ولعلّه عبّر عنه بالظنّ إشعارا بأنّه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات الّتي لا تنفكّ عنها العلوم النظريّة غالبا.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) في حالة من العيش ذات رضا ، أي : منسوبة إليه ،

١٦٦

كالتامر واللابن (١) ، على النسبة بالصيغة ، فإنّ النسبة نسبتان : نسبة بالحروف ، ونسبة بالصيغة ، أو جعل الفعل لها مجازا ، وهو لصاحبها ، وذلك لكونها صافية عن الشوائب ، دائمة مقرونة بالتعظيم.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) مرتفعة المكان ، لأنّها في السماء. أو رفيعة الدرجات. أو رفيعة الأبنية والأشجار.

(قُطُوفُها) جمع قطف ، وهو ما يجتنى بسرعة. والقطف بالفتح المصدر.

(دانِيَةٌ) يتناولها القاعد والنائم.

وعن عطاء بن يسار ، عن سلمان قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يدخل الجنّة أحدكم إلّا بجواز بسم الله الرّحمن الرّحيم : هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، أدخلوه جنّة عالية قطوفها دانية».

(كُلُوا وَاشْرَبُوا) بإضمار القول. وجمع الضمير للمعنى. (هَنِيئاً) أكلا وشربا هنيئا. أو هنئتم هنيئا على المصدر. (بِما أَسْلَفْتُمْ) بما قدّمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية من أيّام الدنيا. وعن مجاهد : أيّام الصيام ، أي : كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله.

وروي أنّه تعالى يقول : «يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة ، وغارت أعينكم ، وخمصت بطونكم ، فكونوا اليوم في نعيمكم ، وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيّام الخالية».

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ) لما يرى من قبح العمل وسوء العاقبة (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ * يا لَيْتَها) يا ليت الموتة الّتي متّها (كانَتِ الْقاضِيَةَ) القاطعة لأمري ، فلم أبعث بعدها ، ولم ألق ما ألقى. أو يا ليت هذه الحالة كانت الموتة الّتي قضت عليّ ، لأنّه رأى تلك الحالة أبشع وأمرّ ممّا ذاقه

__________________

(١) أي : ذو التمر واللبن.

١٦٧

من مرارة الموت وشدّته ، فتمنّاه عندها. أو يا ليت حياة الدنيا كانت الموتة ، ولم أخلق فيها حيّا.

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) مالي من المال والتبع من عذاب الله شيئا. و «ما» نفي ، والمفعول محذوف. أو استفهام إنكار مفعول لـ «أغنى» أي : أيّ شيء أغنى عنّي ما كان لي من اليسار؟

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ملكي وتسلّطي على الناس ، فبقيت فقيرا ذليلا. وعن ابن عبّاس : أنّها نزلت في الأسود بن عبد الأشدّ ، أي : ضلّت عنّي حجّتي الّتي كنت أحجّ بها في الدنيا وبطلت.

وقرأ حمزة : عنّي ، مالي ، عنّي ، سلطاني ، بحذف الهاء في الوصل. والباقون بإثباتها في الحالين.

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يقول لخزنة النار : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أوثقوه بالغلّ ، وهو أن تشدّ إحدى يديه ورجليه إلى عنقه بجامعة.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ثمّ لا تصلّوه إلّا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنّه كان يتعظّم على الناس. يقال : صلى النار ، وصلّاه النار.

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) أراد بذلك الوصف بالطول ، كما قال : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) (١). يريد مرّات كثيرة.

قال نوف البكالي : كلّ ذراع سبعون باعا ، والباع أبعد ممّا بينك وبين مكّة ، وكان في رحبة الكوفة.

وقال سويد بن نجيح : إنّ جميع أهل النار في تلك السلسلة ، ولو أنّ حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرّها.

(فَاسْلُكُوهُ) فأدخلوه فيها ، بأن تلفّوها على جسده ، وهو فيما بينها مرهق

__________________

(١) التوبة : ٨٠.

١٦٨

مضيّق عليه لا يقدر على حركة.

وتقديم السلسلة كتقديم الجحيم للدلالة على التخصيص ، والاهتمام بذكر أنواع ما يعذّب به. و «ثمّ» لتفاوت ما بين الغلّ والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدّة.

ثمّ علّل ذلك العذاب الأليم والعقاب العظيم على طريقة الاستئناف مبالغة بقوله : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) كأنّه قيل : ما له يعذّب هذا العذاب الشديد؟

فأجيب بأنّه لم يكن يوحّد الله في دار التكليف ، ولا يصدّق به. وذكر العظيم للإشعار بأنّه المستحقّ للعظمة ، فمن تعظّم فيها استوجب ذلك.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ولا يحثّ على بذل طعام المسكين.

يعني : أنّه يمنع الناس عن أداء الزكاة وسائر الحقوق الواجبة ، فضلا عن أن يبذل من ماله.

وفيه دليلان قويّان على عظم الجرم في حرمان المسكين : أحدهما : عطفه على الكفر ، وجعله قرينا له. والثاني : ذكر الحضّ دون الفعل ، ليعلم أنّ تارك الحضّ بهذه المنزلة ، فكيف بتارك الفعل. وتخصيص الأمرين بالذكر ، لأنّ الكفر بالله أقبح العقائد ، والبخل وقسوة القلب أشنع الرذائل. وفيه دليل على تكليف الكفّار بالفروع.

وعن أبي الدرداء : أنّه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر؟

وقيل : هو منع الكفّار عن قولهم : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) (١).

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) قريب يحميه ويدفع عنه العذاب (وَلا طَعامٌ) ولا له اليوم طعام (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) غسالة أهل النار ، وما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم. فعلين من الغسل.

__________________

(١) يس : ٤٧.

١٦٩

وقيل : إنّ أهل النار طبقات : فمنهم من طعامه الغسلين ، ومنهم من طعامه الزقّوم ، ومنهم من طعامه الضريع ، لأنّه قال في موضع آخر : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (١).

وقيل : يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين ، فعبّر عنه بعبارتين.

وقيل : يجوز أن يكون المراد : ليس لهم طعام إلّا من ضريع ، ولا شراب إلّا من غسلين ، كقوله : علفتها تبنا وماء باردا.

(لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أصحاب الخطايا. من : خطئ الرجل إذا تعمّد الذنب ، لا من الخطأ المضادّ للصواب.

وقال في المجمع : «والفرق بين الخاطئ والمخطئ : أنّ المخطئ قد يكون من غير تعمّد ، والخاطئ : المذنب المتعمّد ، الجائر عن الصراط المستقيم» (٢). وعن ابن عبّاس : هم المشركون.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ

__________________

(١) الغاشية : ٦.

(٢) مجمع البيان : ١٠ : ٣٤٨.

١٧٠

(٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

(فَلا أُقْسِمُ) لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم. أو فأقسم ، و «لا» مزيدة. أو فلا ردّ ، لإنكارهم البعث ، و «أقسم» مستأنف. (بِما تُبْصِرُونَ * وَما لا تُبْصِرُونَ) أي : بجميع الأشياء على الشمول والإحاطة ، لأنّها لا تخرج من قسمين : مبصر وغير مبصر.

وقيل : الدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنّ ، والخلق والخالق ، والنعم الظاهرة والباطنة.

وجواب القسم (إِنَّهُ) إنّ القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي : يقوله ويتكلّم به على وجه الرسالة من عند الله وتبليغه عن الله ، فإنّ الرسول لا يقول عن نفسه (كَرِيمٍ) على الله ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : جبرئيل.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) كما تزعمون تارة (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) تصدّقون ، لفرط عنادكم. والقلّة في معنى العدم ، أي : لا تؤمنون البتّة ، كما تقول لمن لا يزورك : قلّ ما تأتينا ، وأنت تريد : لا تأتينا أصلا.

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) كما تدّعون أخرى (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) تذكّرا قليلا ، أي : لا تذكرون أصلا ، فلذلك يلتبس الأمر عليكم. وقرأ ابن كثير ويعقوب وابن عامر بالياء فيهما. وذكر الإيمان مع نفي الشاعريّة ، والتذكّر مع نفي الكاهنيّة ، لأنّ عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بيّن لا ينكره إلّا معاند ، بخلاف مباينته للكهانة ، فإنّه يتوقّف على تذكّر أحوال الرسول ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة ومعاني أقوالهم.

وفيه تنبيه على أنّ المراد بـ «رسول كريم» محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ المعنى : على

١٧١

إثبات أنّه رسول ، لا شاعر ولا كاهن.

(تَنْزِيلٌ) هو تنزيل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) نزّله على لسان جبرئيل.

ثمّ أوعدهم على التكذيب ، فقال : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) أي : افترى علينا بعض الأقوال المفتراة ، فإنّ التقوّل افتعال القول ، لأنّ فيه تكلّفا من المفتعل. وسمّى الأقوال المتقوّلة ـ أي : المفتراة ـ أقاويل تحقيرا لها وتصغيرا بها ، كأنّها جمع أفعولة من القول ، كالأضاحيك والأعاجيب. والمعنى : ولو ادّعى علينا شيئا لم نقله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي : لأخذنا بيمينه.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) أي : نياط قلبه بضرب عنقه. وهو حبل الوريد إذا قطع مات صاحبه. وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه ، وهو أن يأخذ القتّال بيمينه ويكفحه (١) بالسيف ويضرب به جيده. وخصّ اليمين عن اليسار ، لأنّ القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفا أحد أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف ـ وهو أشدّ على المصبور ، لنظره إلى السيف ـ أخذ بيمينه. وقيل : اليمين بمعنى القوّة.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ) عن القتل (حاجِزِينَ) دافعين ، أي : لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه. أو عن محمد ، أي : لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه. ووصف «أحد» بـ «حاجزين» لأنّه في معنى الجماعة. وهو اسم يقع في النفي العامّ ، مستويا فيه الواحد والجمع والمذكّر والمؤنّث. ومنه قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢). والخطاب للناس.

(وَإِنَّهُ) وإنّ القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) لأنّهم المنتفعون به (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)

__________________

(١) كفح العدو : واجهه واستقبله.

(٢) البقرة : ٢٨٥.

١٧٢

فنجازيهم على تكذيبهم (وَإِنَّهُ) وإنّ القرآن (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) إذا رأوا ثواب المصدّقين به (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي : وإنّ القرآن لليقين حقّ اليقين ، كقولك : هو العالم حقّ العالم. والإضافة للبيان. والمعنى : لعين اليقين ، ومحض اليقين.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فسبّح الله بذكر اسمه العظيم ، تنزيها له عن الرضا بالتقوّل عليه ، وشكرا على ما أوحى إليك.

١٧٣
١٧٤

(٧٠)

سورة المعارج

مكّيّة. وهي أربع وأربعون آية.

عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن قرأ سورة «سأل سائل» أعطاه الله ثواب الّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، والّذين هم على صلواتهم يحافظون».

وعن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة «سأل سائل» لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله ، وأسكنه جنّته مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ

١٧٥

يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

ولمّا ختم سورة الحاقّة بوعيد الكفّار ، افتتح هذه السورة بمثل ذلك ، فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) ضمّن «سأل» معنى : دعا ، فعدّي تعديته ، كأنّه قيل : دعا داع بعذاب واقع على نفسه. من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه. ومنه قوله تعالى : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) (١).

وعن ابن عبّاس : السائل النضر بن الحارث ، فإنّه قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢). وقيل : أبو جهل : فإنّه قال : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) (٣) سأله استهزاء. وقيل : هو الرسول ، استعجل بعذابهم.

وقرأ نافع وابن عامر : سال. وهو إمّا من السؤال على لغة قريش. يقولون : سلت تسال ، وهما يتسالان. أو يكون من السيلان. والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب فذهب بهم وأهلكهم. ومضيّ الفعل لتحقّق وقوعه ، إمّا في الدنيا ، وهو قتل بدر ، أو في الآخرة ، وهو عذاب النار.

وعن قتادة : سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع؟ فنزلت.

__________________

(١) الدخان : ٥٥.

(٢) الأنفال : ٣٢.

(٣) الشعراء : ١٨٧.

١٧٦

وعلى هذا ، «سأل» مضمّن معنى : عنى واهتمّ.

وقال السيّد أبو الحمد : حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني ، قال : أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي ، قال : حدّثنا أبو بكر الجرجرائي ، قال : حدّثنا أبو أحمد البصري ، قال : حدّثنا محمّد بن سهل ، قال : حدّثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار ، قال : حدّثنا محمد بن أيّوب الواسطي ، قال : حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن محمّد الصادق ، عن آبائه صلوات الله عليهم ، قال : «لمّا نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام يوم غدير خم وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحرث الفهري ، فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحجّ والصلاة والصوم والزكاة ، فقبلناها. ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه. فهذا شيء منك ، أو أمر من عند الله؟

قال : والله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولّى نعمان بن الحرث وهو يقول : اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. فرماه الله بحجر على رأسه فقتله. فأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ)» (١).

(لِلْكافِرينَ) صفة اخرى لـ «عذاب» ، أي : بعذاب واقع كائن للكافرين. أو متعلّق بالفعل ، أي : دعا للكافرين بعذاب واقع. أو صلة لـ «لواقع» أي : بعذاب نازل لأجلهم. وعلى قول قتادة : كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي : هو للكافرين. (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) يردّه.

(مِنَ اللهِ) متّصل بـ «واقع» أي : واقع من عنده. أو بـ «دافع» بمعنى : ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته ، وأوجبت الحكمة وقوعه. (ذِي الْمَعارِجِ) ذي

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ : ٣٨١ ح ١٠٣٠.

١٧٧

المصاعد. وهي الدرجات العالية والمراتب الرفيعة الّتي يعطيها الأنبياء والأولياء في الجنّة. أو المراد : مواضع عروج الملائكة في السماوات ، فإنّ الملائكة يعرجون فيها. ومنه : ليلة المعراج ، لأنّه عرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء فيها. أو الدرجات الّتي يصعد فيها الكلم الطيّب والعمل الصالح ، أو يترقّى فيها المؤمنون في سلوكهم.

ثمّ وصف المصاعد وبعد مداها في العلوّ والارتفاع ، فقال : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) وقرأ الكسائي بالياء (وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي : ارتفاع تلك المعارج بحيث لو قدرت الملائكة قطعها في زمان لكان في زمان مقدّر بخمسين الف سنة من سنيّ الدنيا.

وقيل : معناه : تعرج الملائكة والروح إلى عرشه في يوم كان مقداره كمقدار خمسين ألف سنة ، من حيث إنّهم يقطعون فيه ما يقطعه الإنسان فيها لو فرض. لا أنّ ما بين أسفل العالم وأعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ، لأنّ ما بين مركز الأرض ومقعّر السماء الدنيا ـ على ما قيل ـ مسيرة خمسمائة عام ، وثخن كلّ واحد من السماوات السبع والكرسيّ والعرش كذلك. وحيث قال (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) (١) يريد به زمان عروجهم من الأرض إلى محدّب السماء الدنيا.

وقيل : معناه : إنّ أوّل نزول الملائكة إلى الدنيا ، وأمره ونهيه ، وقضائه بين الخلائق إلى آخر عروجهم إلى السماء ـ وهو القيامة ـ هذه المدّة. فيكون مقدار الدنيا خمسين ألف سنة ، لا يدري كم مضى وكم بقي ، وإنّما يعلمها الله عزوجل.

وقيل : في «يوم» متعلّق بـ «واقع» أو «سال» إذا جعل من السيلان. والمراد به يوم القيامة. واستطالته إمّا لشدّته على الكفّار ، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات ، أو لأنّه على الحقيقة كذلك. والروح جبرئيل. وإفراده لفضله. أو خلق أعظم من الملائكة ، هم حفظة على الملائكة ، كما أنّ الملائكة حفظة على الناس.

__________________

(١) السجدة : ٥.

١٧٨

وقد روي : «أنّ فيه خمسين موطنا ، كلّ موطن ألف سنة ، وما قدر ذلك على المؤمنين إلّا كما بين الظهر والعصر».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه : «لو ولي الحساب يوم القيامة غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا ، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة واحدة».

وعنه أيضا قال : «لا ينتصف ذلك اليوم حتّى يقبل أهل الجنّة في الجنّة ، وأهل النار في النار».

وروى أبو سعيد الخدري قال : «قيل : يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟ فقال : والّذي نفس محمد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا».

وقوله : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) متعلّق بـ «سأل» لأنّ سؤال الكفرة كان عن استهزاء أو تعنّت ، وذلك ممّا يضجر الرسول ، أو سؤاله كان عن تضجّر واستبطاء للنصر. أو بـ «سال» لأنّ المعنى : قرب وقوع العذاب ، فاصبر صبرا جميلا لا يشوبه استعجال واضطراب قلب ، فقد شارفت الانتقام.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) الضمير للعذاب الواقع ، أو ليوم القيامة فيمن علّق «في يوم» بـ «واقع» أي : يرون العذاب أو يوم القيامة (بَعِيداً) عن الإمكان ، أي : يستبعدونه على جهة الإحالة (وَنَراهُ قَرِيباً) منه ، أو من الوقوع ، هيّنا في قدرتنا ، غير بعيد عنّا ولا متعذّر.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) ظرف لـ «قريبا» أي : قريب عذاب الكافرين في يوم. أو لمضمر دلّ عليه «واقع» أي : يقع العذاب في يوم. أو بدل من «في يوم» فيمن علّقه بـ «واقع». والمهل (١) : المذاب في مهل ، كالفلزّات بالكسر وتشديد الزاء

__________________

(١) المهل : اسم يجمع معدنيّات الجواهر ، كالفضّة والحديد والصفر. والمهل : الرفق والتؤدة. والمعنى : المذاب برفق وتؤدة.

١٧٩

المعجمة. وهي ما نبعته (١) الكير ممّا يذاب من جواهر الأرض ، كالفضّة المذابة.

وعن ابن عبّاس : المهل درديّ (٢) الزيت.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف المصبوغ ألوانا ، لأنّ الجبال مختلفة الألوان ، فإذا بسّت وطيّرت في الجوّ أشبهت العهن المنفوش إذا طيّرته الريح.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) ولا يسأل قريب قريبا عن حاله ولا يكلّمه ، لأنّ بكلّ أحد ما يشغله عن المساءلة. وعن ابن كثير : ولا يسأل على بناء المفعول ، أي : لا يطلب من حميم حميم ، أو لا يسأل منه حاله.

وقيل : معناه : أنّه لا يحتاج إلى سؤاله ، لأنّه يكون لكلّ علامة يعرف بها.

فعلامة الكافرين سواد الوجوه وزرقة العيون ، وعلامة المؤمنين نضارة اللون وبياض الوجوه.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) أي : يبصّر الأحماء الأحماء ، فلا يخفون عليهم.

فجمع الضميرين لعموم الحميم. وهذا كلام مستأنف ، كأنّه لمّا قال : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قيل : لعلّه لا يبصره ، فقيل : يبصّرونهم ، ولكنّهم لتشاغلهم لم يتمكّنوا من تساؤلهم ، لا للخفاء أو لما يغني عنه من مشاهدة الحال ، كبياض الوجه وسواده. ويجوز أن يكون صفة لـ «حميما» أي : حميما مبصّرين معرّفين إيّاهم.

وقيل : معناه : يعرّف المؤمنون أعداءهم على حالهم من العذاب ، فيشمتوا بهم ويسرّون.

وقيل : يعرّف أتباع الضلالة رؤساءهم.

وقيل : الضمير للملائكة ، فقد تقدّم ذكرهم ، أي : يعرّفهم الملائكة ويجعلون

__________________

(١) كذا في النسخة الخطّية ، ولعلّ الصحيح : نفخته. والكير : زقّ ينفخ فيه الحدّاد.

(٢) الدرديّ من الزيت ونحوه : الكدر الراسب في أسفله.

١٨٠