زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وهم المجانين على الحقيقة. وهم الذين ضلّوا عن سبيله. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الفائزين بكمال العقل ، العاملين بموجبه. فيجازي كلّا بما يستحقّه ويستوجبه.

روي عن السيّد أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني رحمه‌الله ، قال : حدّثنا أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني ، قال : حدّثنا أبو عبد الله الشيرازي ، قال : حدّثنا أبو بكر الجرجرائي ، قال : حدّثنا أبو أحمد البصري ، قال : حدّثني عمرو بن محمد بن تركي ، قال : حدّثنا محمد بن الفضل ، قال : حدّثنا محمد بن شعيب ، عن عمرو بن شمر ، عن دلهم بن صالح ، عن الضحّاك بن مزاحم ، قال : لمّا رأت قريش تقديم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام وإعظامه له نالوا من عليّ وقالوا : قد افتتن به محمد.

فأنزل الله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ).

قسم أقسم الله به. (ما أَنْتَ) يا محمد (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) يعني : القرآن. إلى قوله : (بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وهم النفر الّذين قالوا ما قالوا. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» (١).

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ : ٣٥٩ ح ١٠٠٦.

١٤١

ثمّ قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تهييجا للتصميم على معاصاتهم : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) بتوحيد الله وبنبوّتك (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) لو تلين وتصانع ، بأن تدع نهيهم عن الشرك ، أو توافقهم فيه أحيانا (فَيُدْهِنُونَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم يدهنون ، كقوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) (١). ولهذا رفع ولم ينصب بإضمار «أن» ليكون جواب التمنّي.

والمعنى : فهم يلاينونك بترك الطعن والموافقة. كما روي أنّهم كانوا أرادوه على أن يعبد الله مدّة وآلهتهم مدّة ، ويكفّوا عنه غوائلهم.

والفاء للعطف ، أي : ودّوا التداهن وتمنّوه ، لكنّهم أخّروا ادّهانهم حتّى تدهن.

أو للسببيّة ، أي : ودّوا لو تدهن ، فهم يدهنون حينئذ. أو ودّوا ادّهانك ، فهم الآن يدهنون طمعا في ادّهانك.

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحقّ والباطل. وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومثله قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) (٢). (مَهِينٍ) حقير الرأي. من المهانة ، وهي القلّة والحقارة. يريد القلّة في الرأي والتمييز. وعن ابن عبّاس : أي : كذّاب ، لأنّ الكذّاب حقير عند الناس.

(هَمَّازٍ) عيّاب ، طعّان. وعن الحسن : يلوي شدقيه في أقفية الناس.

(مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) نقّال للحديث على وجه السعاية.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يمنع الناس عن الخير ، من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح (مُعْتَدٍ) متجاوز في الظلم (أَثِيمٍ) كثير الآثام.

(عُتُلٍ) جاف ، غليظ ، شديد الخصومة بالباطل. من : عتله إذا قاده بعنف وغلظة.

__________________

(١) الجنّ : ١٣.

(٢) البقرة : ٢٢٤.

١٤٢

(بَعْدَ ذلِكَ) بعد ما عدّ من المعائب والنقائص (زَنِيمٍ) دعيّ ملصق إلى قوم ليس منهم في النسب ، أي : مولود على الزنا. من زنمتي الشاة ، وهما المتدلّيتان من أذنها وحلقها ، لأنّهما زائدتان. قال حسّان :

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (١)

فلمّا كان الدعيّ زائدا في القوم ليس منهم فهو معلّق بغيرهم.

وقيل : هو الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسرا ، وكان له عشرة من البنين ، فكان يقول لهم وللحمته (٢) : من أسلم منكم منعته رفدي. وكان دعيّا في قريش ليس من سنخهم ، ادّعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده. وقيل : بغت أمّه ، ولم يعرف حتّى نزلت هذه الآية.

واعلم أنّ الله سبحانه جعل جفاءه ودعوته أشدّ معايبه ، لأنّه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه ، واجترأ على كلّ معصية. والنطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ، ومن ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنّة ولد الزنا ، ولا ولده ، ولا ولد ولده».

وقيل : نزلت في الأخنس بن شريق ، أصله من ثقيف ، وعداده في زهرة.

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ * إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : كذّب بآياتنا حينئذ ، ونسبها إلى أحاديث الأوائل الّتي سطرت وكتبت لا أصل لها ، لأنّه كان متموّلا مستظهرا بالمال والبنين من فرط غروره. والعامل في «أن كان» مدلول «قال» الّذي هو جواب «إذا» ، وهو ما دلّت عليه الجملة من معنى التكذيب ، لا نفسه ، لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله. ويجوز أن يكون علّة لـ «لا تطع» أي : لا

__________________

(١) لحسّان بن ثابت يخاطب الوليد بن المغيرة بأنّه زنيم ، أي : معلّق في آل هاشم كزنمتي الشاة. فشبّهه بالزنمة وبالقدح المنفرد المعلّق خلف الراكب. انظر ديوان حسّان (طبعة دار صادر) : ٨٩.

(٢) اللحمة : القرابة.

١٤٣

تطع من هذه معايبه ، لأن كان ذا مال وبنين ، أي : ليساره وحظّه من الدنيا.

وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وأبو بكر : أأن كان ، على الاستفهام ، غير أنّ ابن عامر برواية هشام جعل الهمزة الثانية بين بين ، أي : ألأن كان ذا مال كذّب ، أو أتطيعه لأن كان ذا مال.

(سَنَسِمُهُ) سنعلمه بالكيّ (عَلَى الْخُرْطُومِ) على الأنف. وقد أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقي أثره.

وقيل : هو عبارة عن أن يذلّه غاية الإذلال ، كقولهم : جدع أنفه ورغم أنفه ، فإنّ الوجه أكرم موضع في الجسد ، والأنف أكرم موضع من الوجه ، لتقدّمه له ، ولذلك جعلوه مكان العزّ والحميّة ، واشتقّوا منه الأنفة ، وقالوا : الأنف في الأنف. فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأنّ السمة على الوجه شين وإذلال ، فكيف بها على أكرم موضع منه. وفي إيثار الخرطوم على الأنف استخفاف به واستهانة.

وقيل : معناه : سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يبين بها عن سائر الكفرة ، كما عادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عداوة بان بها عنهم.

وقيل : إنّ الخرطوم الخمر ، سمّيت به لأنّها تطير في الخياشيم. فالمعنى : سنحدّه على شربها. وهو تعسّف.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا

١٤٤

الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ) بلونا أهل مكّة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) يريد بستانا كان دون صنعاء بفرسخين ، وكان لرجل صالح ، وكان ينادي الفقراء وقت الصرام (١) ، ويترك لهم ما أخطأه المنجل ، وألقته الريح ، وما بقي على البساط الّذي يبسط تحت النخلة ، فيجتمع لهم شيء كثير. فلمّا مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، فحلفوا : ليصر منّها وقت الصباح خفية عن المساكين ، كما قال :

(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) ليقطعنّها داخلين في الصباح مبكّرين (وَلا يَسْتَثْنُونَ) ولا يقولون : إن شاء الله. وإنّما سمّاه استثناء ، وإنّما هو شرط ، لأنّه يؤدّي مؤدّى الاستثناء ، من حيث إنّ معنى قولك : لأخرجنّ إن شاء الله ، ولا أخرج إلّا أن يشاء الله ، واحد. ولما فيه من الإخراج ، غير أنّ المخرج به خلاف المذكور ،

__________________

(١) أي : القطع.

١٤٥

والمخرج بالاستثناء عينه.

(فَطافَ عَلَيْها) على الجنّة (طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ منه (وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) كالبستان الّذي صرم ثماره ، أي : المقطوع بحيث لم يبق فيه شيء. فعيل بمعنى مفعول.

وقيل : الصريم اسم الليل والنهار. سمّيا به لأنّ كلّا منهما ينصرم عن صاحبه.

فالمعنى : كالليل باحتراقها واسودادها ، أي : احترقت فاسودّت. أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس ، أي : يبست وذهبت خضرتها ، ولم يبق منها شيء. من قولهم : بيّض الإناء إذا فرّغه. وقيل : الصريم الرمال. سمّيت به لانقطاعها.

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي : نادى بعضهم بعضا حال كونهم داخلين في الصباح (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) أي : اخرجوا ، أو بأن اخرجوا إليه غدوة. وتعدية الفعل بـ «على» إمّا لتضمّنه معنى الإقبال ، كقولهم : يغدى عليه بالجفنة ويراح ، أي : فأقبلوا على حرثكم باكرين. أو لتشبيه الغدوّ للصرام بغدوّ العدوّ المتضمّن لمعنى الاستيلاء ، كما يقال : غدا عليهم العدوّ. (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) قاطعين له.

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) يتشاورون فيما بينهم. وخفت وخفي وخفد بمعنى الكتم. ومنه : الخفدود للخفّاش. (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) «أن» مفسّرة. والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول ، أي : لا تمكّنوه من الدخول حتّى يدخل ، كقولك : لا أرينّك هاهنا.

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) وخرجوا غدوة قادرين على نكد ـ أي : على منع الخير ـ لا غير ، عاجزين عن النفع. من : حاردت السنة ، إذا لم يكن فيها مطر. وحاردت الإبل ، إذا منعت درّها.

والمعنى : أنّهم عزموا أن يتنكّدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرون على نفعهم ، فغدوا بحال فقر وذهاب مال لا يقدرون فيها إلّا على النكد والحرمان.

١٤٦

وذلك أنّهم طلبوا حرمان المساكين ، فتعجّلوا الحرمان والمسكنة. أو وغدوا على محاردة جنّتهم وذهاب خيرها قادرين على إصابة خيرها ومنافعها ، أي : غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع. أو لمّا قالوا : اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيّتهم عاقبهم الله تعالى ، بأن حاردت جنّتهم وحرموا خيرها ، فلم يغدوا على حرث ، وإنّما غدوا على حرد.

و «قادرين» على عكس الكلام للتهكّم ، أي : قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين. وعلى هذا «على حرد» ليس بصلة «قادرين».

وقيل : الحرد بمعنى الحرد ، أي : لم يقدروا إلّا على حنق وغضب بعضهم على بعض ، كقوله : (يَتَلاوَمُونَ) (١).

وقيل : الحرد القصر والسرعة. يقال : حردت حردك. قال :

أقبل سيل جاء من أمر الله

يحرد حرد الجنّة المغلّة (٢)

يعني : وغدوا قاصدين إلى جنّتهم بسرعة ونشاط ، قادرين عند أنفسهم ، يقولون : نحن نقدر على صرامها وزيّ (٣) منفعتها عن المساكين.

وقيل : حرد علم للجنّة ، أي : غدوا على تلك الجنّة قادرين على صرامها عند أنفسهم ، أو مقدّرين أن يتمّ لهم مرادهم. من الصرام والحرمان. كلّ ذلك نقلت عن الكشّاف (٤).

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا) في بديهة وصولهم (إِنَّا لَضَالُّونَ) طريق جنّتنا ، وما هي بها (بَلْ نَحْنُ) أي : بعد ما تأمّلوا وعرفوا أنّها هي (مَحْرُومُونَ) حرمنا

__________________

(١) القلم : ٣٠.

(٢) يصف الشاعر سيلا بالكثرة. يقول : جاء سيل من عند الله ، يسرع إسراع الجنّة المغلّة ، أي : كثيرة الغلّة والخير. وإسراع الجنّة ـ أي : البستان ـ : ظهور خيرها في زمن يسير.

(٣) زوى يزوي زيّا الشيء : منعه.

(٤) الكشّاف ٤ : ٥٩٠ ـ ٥٩١.

١٤٧

خيرها ، لجنايتنا على أنفسنا.

(قالَ أَوْسَطُهُمْ) أعدلهم رأيا وخيرهم. من قولهم : هو من سطة خيار قومه ، وأعطني من سطات مالك. ومنه. قوله تعالى : (أُمَّةً وَسَطاً) (١). وقيل : أوسطهم سنّا. (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) لو لا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيّتكم.

وقد روي : أنّه قال أوسطهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين ، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم ، وسارعوا إلى حسم شرّها قبل حلول النقمة. فعصوه ، فعيّرهم. والدليل عليه قوله : (قالُوا) اعترافا بظلمهم في منع المعروف (سُبْحانَ رَبِّنا) نزّهناه عن الظلم ، فلم يفعل بنا ما فعله ظلما (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فتكلّموا بما كان يدعوهم إلى التكلّم به على أثر مقارفة الخطيئة ، ولكن بعد خراب البصرة.

وقيل : المراد بالتسبيح الاستثناء ، لتشاركهما في معنى التعظيم لله ، لأنّ الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له ، وكلّ واحد من التفويض والتنزيه تعظيم.

وعن الحسن : هو الصلاة. كأنّهم كانوا يتوانون في الصلاة ، وإلّا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر ، ولكانت لهم لطفا في أن يستثنوا ولا يحرموا.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يلوم بعضهم بعضا ، فإنّ منهم من أشار بذلك ، ومنهم من استصوبه ، ومنهم من سكت راضيا ، ومنهم من أنكره.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) متجاوزين حدود الله. والويل : المكروه الشديد الشاقّ على النفس.

فتابوا وندموا ورجعوا إلى الله ، ثمّ قالوا : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) لعلّ الله يخلّف علينا ، ويولينا خيرا من الجنّة الّتي هلكت ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة. وقد روي : أنّهم لمّا تابوا ابدلوا خيرا منها. وعن ابن مسعود : بلغني أنّهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق ، فأبدلهم بها جنّة يقال لها : الحيوان ، فيها عنب

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

١٤٨

يحمل البغل منه عنقودا.

(إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) راجون العفو ، طالبون منه الخير. و «إلى» لانتهاء الرغبة ، أو لتضمّنها معنى الرجوع.

(كَذلِكَ الْعَذابُ) مثل ذلك العذاب الّذي بلونا به أهل مكّة وأصحاب الجنّة العذاب في الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أشدّ وأعظم منه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لاحترزوا عمّا يؤدّيهم إلى العذاب.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥))

١٤٩

ولمّا ذكر سبحانه ما أعدّه في الآخرة للكافرين ، عقّبه بذكر ما وعده للمتّقين ، فقال :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : في الآخرة ، أو في جوار القدس (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) جنّات ليس فيها إلّا التنعّم الخالص.

روي : أنّ المجرمين كانوا يقولون : إن صحّ أنّا نبعث كما يزعم محمّد ومن معه لم يفضلونا ، بل نكون أحسن حالا منهم كما نحن عليه في الدنيا. فأنكر الله تعالى ذلك عليهم بقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أي : لا نجعل المسلمين كالمشركين في الجزاء والثواب.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) التفات فيه تعجّب من حكمهم ، وتهجين وتوبيخ لهم ، واستبعاد له ، وإشعار بأنّ هذا من اختلال فكرهم واعوجاج رأيهم. ومعناه : أيّ شيء يحملكم على تفضيل الكفّار حتّى صار سببا لإصراركم على الكفر؟ ولا يحسن في الحكمة التسوية بين الأولياء والأعداء في دار الجزاء ، فضلا عن تفضيل الأعداء على الأولياء.

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) من السماء (فِيهِ تَدْرُسُونَ) تقرءون. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) إنّ لكم ما تختارونه وتشتهونه. يقال : تخيّر الشيء واختاره ، أخذ خيره.

ونحوه : تنخّله وانتخله (١) إذا أخذ من خوله. وأصل الكلام : تدرسون أنّ لكم ما تتخيّرون ، بفتح «أنّ» لأنّه المدروس ، فلمّا جيء باللام كسرت. ويجوز أن يكون حكاية للمدروس ، كقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى نُوحٍ) (٢) أو استئنافا.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) عهود مؤكّدة بالأيمان (بالِغَةٌ) متناهية في التوكيد.

__________________

(١) تنخّل وانتخل الشيء : صفّاه واختاره وأخذ أفضله.

(٢) الصافّات : ٧٨ ـ ٧٩.

١٥٠

يقال : لفلان عليّ يمين بكذا ، إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به. يعني : أم ضمنّا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلّظة متناهية في التوكيد.

(إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلّق بالمقدّر في «لكم» أي : ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة ، لا نخرج عن عهدتها حتّى نحكّمكم في ذلك اليوم وأعطيناكم ما تحكمون.

أو بـ «بالغة» أي : أيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه ، وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم.

فقوله : (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) جواب القسم ، لأنّ معنى (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) : أم أقسمنا لكم.

ثمّ قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلزاما للكفرة بما قالوه :

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ) الحكم (زَعِيمٌ) أي : قائم به وبالاحتجاج لصحّته ، كما يقوم الزعيم المتكلّم عن القوم المتكفّل بأمورهم.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) ناس يشاركونهم في هذا القول ، ويوافقونهم عليه ، ويذهبون مذهبهم فيه (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم. يعني : أن أحدا لا يسلّم لهم هذا ، ولا يساعدهم عليه ، كما أنّه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد لهم به عند الله ، ولا زعيم لهم يقوم به.

وقد نبّه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبّثوا به من عقل أو نقل يدلّ عليه ، لاستحقاق أو وعد أو محض تقليد على الترتيب ، تنبيها على مراتب النظر ، وتزييفا لما لا سند له.

وقيل : المعنى : أم لهم شركاء ـ يعني : الأصنام ـ يجعلونهم مثل المؤمنين في الآخرة؟ كأنّه لمّا نفى أن تكون التسوية من الله ، نفى بهذا أن تكون ممّا يشركون الله به.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) ناصب الظرف «فليأتوا». أو إضمار : اذكر. أو

١٥١

التقدير : يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، فحذف للتهويل البليغ. والمعنى : يوم يشتدّ الأمر ويصعب الخطب ، فإنّ كشف الساق مثل في ظهور اشتداد الأمر وصعوبة الخطب. وأصله : تشمير المخدّرات عن سوقهنّ (١) في الهرب. وتشمير الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجدّ فيه ، فيشمّر عن ساقه. قال حاتم :

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

فاستعير عن الساق في موضع الشدّة من غير كشف الساق حقيقة ، كما تقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثمّ ولا غلّ ، وإنّما هو مثل في البخل.

وأمّا من شبّه فلقلّة نظره في علم البيان. والّذي غرّه حديث ابن مسعود : «يكشف الرحمن عن ساقه ، فأمّا المؤمنون فيخرّون سجّدا ، وأمّا المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا ، كأنّ فيها سفافيد» (٢). ومعناه : يشتدّ أمر الرحمان ويتفاقم هوله ، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة. وليس معنى حديثه على ظاهره ، لأنّ هذا موافق لمذهب المشبّهة الّذين كانوا من أعاظم الكفّار والملاحدة. وأيضا على هذا الوجه الظاهر من حقّ الساق أن تعرّف ، لأنّها ساق مخصوصة معهودة عنده ، وهي ساق الرحمن.

أو معنى الآية : يوم يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عيانا.

مستعار من ساق الشجر وساق الإنسان. وتنكيره للتهويل أو للتعظيم. كأنّه قيل : يشتدّ الخطب يوم يقع أمر فظيع هائل وشدّة عظيمة.

(وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي : يقال لهم : اسجدوا على وجه التوبيخ على تركهم السجود في الدنيا إن كان اليوم يوم القيامة ، أو يدعون إلى الصلوات إن كان وقت النزع (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لذهاب وقته ، أو زوال القدرة عليه.

__________________

(١) جمع : ساق.

(٢) سفافيد جمع سفّود ، وهي : حديدة يشوى عليها اللحم.

١٥٢

وقيل : معناه : أنّ شدّة الأمر وصعوبة حال ذلك اليوم تدعوهم إلى السجود ، وإن كانوا لا ينتفعون به ، وليس أنّهم يؤمرون به. وهذا كما يفزع الإنسان إلى السجود إذا أصابه هول من أهوال الدنيا.

وعن ابن مسعود : تعقم أصلابهم ، أي : تردّ عظاما بلا مفاصل ، لا تنثني عند الرفع والخفض ، فلا يستطيعون السجود. وفي الحديث : «تبقى أصلابهم طبقا واحدا» أي : فقارة واحدة.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تلحقهم ذلّة. ثمّ علّل ذلك بقوله : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) في الدنيا ، أو زمان الصحّة (وَهُمْ سالِمُونَ) سالموا الأصلاب والمفاصل ، متمكّنون منه ، مزاحوا العلل فيه. يعني : أنّهم كانوا يؤمرون بالصلاة في الدنيا فلم يفعلوا.

وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّهما قالا : «في هذه الآية أفحم القوم ، ودخلتهم الهيبة ، وشخصت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، لما رهقهم من الندامة والخزي والمذلّة ، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ، أي : يستطيعون الأخذ بما أمروا به ، والترك لما نهوا عنه ، ولذلك ابتلوا».

ثمّ قال تسلية لرسوله وتهديدا للمكذّبين : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) كله إليّ ، فإنّي أكفيكه. والمعنى : حسبي مجازيا لمن يكذّب بالقرآن ، فلا تشغل قلبك بشأنه ، وتوكّل عليّ في الانتقام منه. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سندينهم من العذاب درجة درجة ، بالإمهال وإدامة الصحّة وازدياد النعمة ، فإنّ استدراج الله العصاة أن يرزقهم الصحّة والنعمة ، فيجعلوا رزق الله ذريعة إلى ازدياد الكفر والمعاصي ، ثمّ يجزيهم (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) من الجهة الّتي لا يشعرون أنّه استدراج ، وهو الإنعام عليهم ، لأنّهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين ، وهو سبب لهلاكهم.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) أمهلهم ليزدادوا إثما. ولا شبهة أنّ الصحّة والرزق والمدّ في

١٥٣

العمر إحسان من الله وإفضال ، يوجب عليهم الشكر والطاعة ، ولكنّهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم ، فلمّا تدرّجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج. (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) لا يدفع بشيء. وسمّي إنعامه وتمكينه كيدا ، كما سمّاه استدراجا ، لأنّه في صورة الكيد ، حيث كان سببا للتورّط في الهلكة.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة ، فيدع الاستغفار ، فهو الاستدراج».

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠))

ثمّ خاطب سبحانه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال على وجه التوبيخ للكفّار ، عطفا على قوله : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ).

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على الإرشاد (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) من غرامة (مُثْقَلُونَ) بحملها ، فيعرضون عنك.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) اللوح ، أو المغيّبات (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) منه ما يحكمون به ، ويستغنون به عن علمك ، أي : لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا ، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم ، فيثبّطهم ذلك عن الإيمان.

ولمّا كان عدم انقيادهم لك لا يكون إلّا لفرط عنادهم وتوغّلهم في مكابرتهم ولجاجهم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وهو إمهالهم ، وتأخير نصرتك عليهم (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني : يونس عليه‌السلام في استعجال عقاب قومه (إِذْ نادى) ربّه في

١٥٤

بطن الحوت ، وهو قوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (١). (وَهُوَ مَكْظُومٌ) مملوء غيظا. من : كظم السقاء إذا ملأه. والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتبتلي ببلائه.

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لو لا أن أدركته رحمة من ربّه ، من إجابة دعائه ، وقبول توبته عن ترك الأولى ، وتخليصه من بطن الحوت. وحسن تذكير الفعل للفصل. (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) بالأرض العارية الخالية عن الأشجار (وَهُوَ مَذْمُومٌ) مليم مطرود عن الرحمة والكرامة. وهو حال يعتمد عليها الجواب ، لأنّها المنفيّة دون النبذ ، لأنّه كان واقعا. ولو كان بغير اعتماد لكان النبذ منفيّا ، لكنّه واقع.

يعني : أنّ حاله كانت على خلاف الذمّ حين نبذ بالعراء ، ولو لا توبته لكانت حاله على الذمّ.

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) بأن جمعه إليه ، وقرّبه بالتوبة عليه ، كما قال : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢). أو بأن ردّ الوحي إليه. أو استنبأه إن صحّ أنّه لم يكن نبيّا قبل هذه الواقعة. (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) من الكاملين في الصلاح ، بأن عصمه من أن يفعل ما تركه أولى. أو من الأنبياء. والآية نزلت حين همّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو على ثقيف. وقيل : بأحد حين حلّ به ما حلّ ، فأراد أن يدعو على المنهزمين.

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

وروي : أنّه كان في بني أسد عيّانون (٣) ، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله ، وكان الرجل منهم يتجوّع ثلاثة أيّام ، فلا يمرّ به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله

__________________

(١) الأنبياء : ٨٧.

(٢) طه : ١٢٢.

(٣) العيّان : الشديد الإصابة بالعين.

١٥٥

إلّا عانه وصرعه. فأراد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله بمثل هذا القول ، فقال له حين قراءته : لم أر كاليوم رجلا مثله ، فعصمه الله. فنزلت :

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) بأن يصيبوك بالعين. «وإن» هي المخفّفة ، واللام دليلها. وفي الحديث : «إنّ العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر».

ويكون ذلك من خصائص بعض النفوس ، فإنّه غير ممتنع أن يكون الله تعالى أجرى العادة بصحّة ذلك لضرب من المصلحة ، وعليه إجماع المفسّرين ، وجوّزه العقلاء ، فلا مانع منه.

وجاء في الخبر : «أنّ أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال : نعم ، فلو كان شيء يسبق القدر لسبقه العين».

وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية.

وقرأ نافع : ليزلقونك. من : زلقته فزلق ، كحزنته فحزن.

(لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي : القرآن. وعن الزجّاج : معنى الآية : أنّهم من شدّة تحديقهم وحدّة نظرهم إليك شزرا (١) بعيون العداوة والبغضاء ، بحيث يكادون يزلّون قدمك ، أو يهلكونك عند تلاوة القرآن والدعاء إلى التوحيد ، حسدا على ما أوتيت من النبوّة والكتاب. من قولهم : نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أي : لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله. (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) حيرة في أمره وتنفيرا عنه ، وإلّا فقد علموا أنّه أعقلهم.

ولمّا نسبوا الجنون إليه لأجل القرآن ، بيّن أنّه ذكر عامّ ، لا يدركه ولا يتعاطاه إلّا من كان أكمل الناس عقلا وأمتنهم رأيا ، فقال : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ذكر عامّ وموعظة تامّة ، فكيف يجنّن من جاء بمثله؟!

__________________

(١) شزر الرجل وإليه : نظر إليه بجانب عينه مع إعراض أو غضب.

١٥٦

(٦٩)

سورة الحاقّة

مكّيّة. وهي إحدى وخمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة الحاقّة حاسبه الله حسابا يسيرا».

وروى جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أكثروا من قراءة الحاقّة ، فإنّ قراءتها في الفرائض من الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى الله».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))

١٥٧

ولمّا ذكر في آخر سورة القلم حديث القيامة ووعيد الكفّار ، افتتح هذه السورة بذكر القيامة أيضا وأحوال أهل النار ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ) أي : الساعة. أو الحالة الّتي يحقّ وقوعها ، ويجب مجيئها. أو الّتي تقع فيها حواقّ الأمور ، من الحساب والثواب والعقاب. أو الّتي تحقّ فيها الأمور ، أي : تعرف على الحقيقة. من قولك : لا أحقّ هذا ، أي : لا أعرف حقيقته. جعل الفعل لها. وهو لأهلها ، على الإسناد المجازي. وهي مبتدأ خبرها (مَا الْحَاقَّةُ) وأصله : ما هي؟ أي : أيّ شيء هي؟ على التعظيم لشأنها والتهويل لها. فوضع الظاهر موضع المضمر ، لأنّه أهول لها.

ثمّ زاد في تهويلها ، فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) أي : أيّ شيء أعلمك ما هي؟ أي : أنّك لا تعلم كنهها ، فإنّها أعظم من أن تبلغها دراية أحد. و «ما» مبتدأ وخبره «أدراك» ، معلّق عنه لتضمّنه معنى الاستفهام. قال الثوري : يقال للمعلوم : وما أدريك ، ولما ليس بمعلوم : وما يدريك ، في جميع القرآن. وإنّما قال لمن يعلمها : وما أدراك ، لأنّه إنّما يعلمها بالصفة.

ولمّا ذكرها وفخّمها أتبع ذلك ذكر من كذّب بها ، وما حلّ بهم بسبب التكذيب ، تذكيرا لأهل مكّة ، وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم ، فقال :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ) قوم صالح (وَعادٌ) قوم هود (بِالْقارِعَةِ) بالحالة الّتي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال ، والأجرام والسماء بالانفطار والانشقاق ، والأرض والجبال بالدكّ والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار. ووضعت موضع الضمير لتدلّ على معنى القرع في الحاقّة زيادة في وصف شدّتها.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) بالواقعة المجاوزة للحدّ في الشدّة ، وهي الصاعقة أو الرجفة. وعن قتادة : بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم ، أي : فأماتتهم ، لتكذيبهم بالقارعة.

١٥٨

وما قيل : معناه : بسبب طغيانهم بالتكذيب وغيره ، على أنّها مصدر كالعافية ، لا يطابق قوله : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي : شديدة الصوت ، أو البرد من الصرّ ، كأنّها الّتي كرّر فيها البرد وكثر ، فهي تحرق لشدّة بردها (عاتِيَةٍ) شديدة العصف عتت على عاد ، فما قدروا على ردعها بحيلة ، من استتار ببناء ، أو لياذ بجبل ، أو اختفاء في حفرة ، فإنّها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم. أو كأنّها عتت على خزّانها ، فلم يستطيعوا ضبطها. أو على عاد ، فلم يقدروا على ردّها.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أرسل الله سفينة من ريح إلّا بمكيال ، ولا قطرة من مطر إلّا بمكيال ، إلّا يوم عاد ويوم نوح ، فإنّ الماء يوم نوح طغا على الخزّان ، فلم يكن لهم عليه سبيل.

ثمّ قرأ (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) (١) الآية. وإنّ الريح يوم عاد عتت على الخزّان ، فلم يكن لهم عليها سبيل. ثمّ قرأ : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ). ولعلّها عبارة عن الشدّة والإفراط فيها.

وكذا روي عن الزهري : أنّه ما يخرج من الريح شيء إلّا عليها خزّان يعلمون قدرها وعددها وكيلها ، حتّى كانت الّتي أرسلت على عاد فاندفق منها ، فهم لا يعلمون قدرها غضبا لله ، فلذلك سمّيت عاتية.

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) سلّطها عليهم بقدرته. وهو استئناف أو صفة جيء به لنفي ما يتوهّم من أنّها كانت من اتّصالات فلكيّة ، إذ لو كانت لكان هو المقدّر لها والمسبّب. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) متتابعات ، فإنّ هبوبات الرياح ما سكنت ساعة حتّى أتت عليهم وأهلكتهم جميعا. جمع حاسم ، كشهود وقعود. تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم ، في إعادة الكيّ على الداء كرّة بعد كرّة حتّى ينحسم. يقال : حسمت الدابّة إذا تابعت كيّها بعد كيّ. أو نحسات

__________________

(١) الحاقّة : ١١.

١٥٩

حسمت كلّ خير واستأصلته. أو قاطعات قطعت دابرهم. ويجوز أن يكون مصدرا كالشكور والكفور ، منتصبا على العلّة بمعنى : قطعا ، أي : سخّرنا عليهم للاستئصال ، أو المصدر لفعله المقدّر حالا ، أي : تحسمهم حسوما ، بمعنى : تستأصل استئصالا.

وهي كانت أيّام العجوز من صبيحة أربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر. وإنّما سمّيت عجوزا ، لأنّها عجز الشتاء ، أي : آخره. وهذه الأيّام ذات برد ورياح شديدة.

ولها أسماء مشهورة. لليوم الأوّل : الصنّ. وللثاني : الصنّبر. وللثالث : الوبر. وللرابع : مطفئ الجمر. وللخامس : مكفئ الظعن. وقيل : السادس : الآمر. والسابع : المؤتمر. والثامن : المعلّل. أو لأنّ عجوزا من عاد توارت في سرب ، فانتزعتها الريح في الثامن فأهلكتها ، فانقطع العذاب فيه.

(فَتَرَى الْقَوْمَ) إن كنت حاضرهم (فِيها) في مهابّها ، أو في الليالي والأيّام (صَرْعى) هلكى مصروعين. جمع صريع. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) أصول نخل (خاوِيَةٍ) متأكّلة الأجواف (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) من بقيّة ، أو من نفس باقية ، أو بقاء.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) ومن تقدّمه. وقرأ البصريّان والكسائي : ومن قبله ، أي : ومن عنده من أتباعه. ويؤيّده قراءة عبد الله وأبيّ : ومن معه. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) قرى قوم لوط. والمراد أهلها. (بِالْخاطِئَةِ) بالخطإ ، أو بالفعلة ، أو بالأفعال ذات الخطأ.

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي : فعصى كلّ أمّة رسولها (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) زائدة في الشدّة ، كما زادت أعمالهم في القبح. يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد. قال الله تعالى : (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) (١).

__________________

(١) الروم : ٣٩.

١٦٠