زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

(٦٧)

سورة الملك

وتسمّى الواقية والمنجية ، لأنّها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر. مكّيّة.

وهي إحدى وثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة «تبارك» فكأنّما أحيا ليلة القدر».

وعن ابن عبّاس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وددت أنّ تبارك الملك في قلب كلّ مؤمن».

وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية شفعت للرجل ، فأخرجته يوم القيامة من النار ، وأدخلته الجنّة ، وهي سورة تبارك».

وعن ابن مسعود قال : إذا وضع الميّت في قبره يؤتى من قبل رجليه ، فيقال له : ليس لكم عليه سبيل ، لأنّه قد كان يقوم بسورة الملك. ثمّ يؤتى من قبل رأسه ، فيقول لسانه : ليس لكم عليه سبيل ، لأنّه كان يقرأ بي سورة الملك.

وروى الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح ، عن سدير الصيرفي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سورة الملك هي المانعة ، تمنع من عذاب القبر ، وهي مكتوبة في التوراة ، سورة الملك. ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ، ولم يكتب من الغافلين. وإنّي لأركع بها بعد العشاء الآخرة وأنا جالس. وإنّ الّذي كان يقرؤها في

١٢١

حياته في يومه وليلته ، إذا دخل عليه في قبره ناكر ونكير من قبل رجليه ، قالت رجلاه لهما : ليس لكما إلى ما قبلي سبيل ، قد كان هذا العبد يقوم عليّ فيقرأ سورة الملك في كلّ يوم وليلة. فإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما : ليس لكما إلى ما قبلي سبيل كان هذا العبد قد وعى سورة الملك. وإذا أتياه من قبل لسانه قال لهما : ليس لكما إلى ما قبلي سبيل ، قد كان هذا العبد يقرأ في كلّ يوم وليلة سورة الملك».

أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قرأ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) في المكتوبة قبل أن ينام لم يزل في أمان الله حتّى يصبح ، وفي أمانه يوم القيامة حتّى يدخل الجنّة إن شاء الله».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤))

ولمّا ختم سبحانه تلك السورة بأنّ الوصلة لا تنفع إلّا بالطاعة ، وأصل الطاعة المعرفة والتصديق بالكلمات الإلهيّة ، افتتح هذه السورة بدلائل المعرفة وآيات الربوبيّة ، فقال :

١٢٢

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ) تزايد وتعالى ، وتعاظم عن صفات المخلوقين في صفاته وأفعاله. أو تكاثر خيره. من البركة ، وهي كثرة الخير. (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) بقبضة قدرته التصرّف في الأمور كلّها كيف يشاء. وذكر اليد مجاز عن الإحاطة بالملك والاستيلاء عليه.

(وَهُوَ عَلى كُلِ) كلّ ما يشاء (قَدِيرٌ) فيفعل كلّ ما تقتضيه حكمته ومصلحته.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قدّرهما. أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدّره.

والحياة ما يصحّ بوجوده الإحساس. وقيل : ما يوجب كون الشيء حيّا ، وهو الّذي يصحّ منه أن يعلم ويقدر. والموت عدم ذلك فيه. ومعنى خلق الموت والحياة : إيجاد ذلك المصحّح وإعدامه.

والمعنى : أنّه سبحانه أعطاكم الحياة الّتي تقدرون بها على العمل ، وتستمكنون منه ، وسلّط عليكم الموت الّذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح ، لأنّ وراءه البعث والجزاء الّذي لا بدّ منه. وقدّم الموت على الحياة لقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (١). ولأنّه أدعى إلى حسن العمل ، فإنّ أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدّم ، لأنّه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهمّ. ولأنّه إلى القهر أقرب.

(لِيَبْلُوَكُمْ) ليعاملكم معاملة المختبر بالتكليف أيّها المكلّفون (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أصوبه وأخلصه ، لأنّه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل. وكذلك إذا كان صوابا غير خالص. فالخالص أن يكون لوجه الله ، والصواب أن يكون على السنّة.

وجاء مرفوعا أنّ أبا قتادة قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). قال : «أتمّكم عقلا ، وأشدّكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله به

__________________

(١) البقرة : ٢٨.

١٢٣

ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلّكم تطوّعا».

وعن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه تلا (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) إلى قوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). فقال : «يقول : أيّكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله».

وعن الحسن : أيّكم أزهد في الدنيا ، وأترك لها.

والجملة واقعة موقع ثاني المفعولين لفعل البلوى المتضمّن معنى العلم. فكأنّه قيل : ليعلمكم أيّكم أحسن عملا. وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملا.

وليس هذا من باب التعليق ، لأنّه إنّما يكون إذا وقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا ، كقولك : علمت أيّهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنّه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين ، بين أن يقع ما بعده مصدّرا بحرف الاستفهام وغير مصدّر به.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذي لا يعجز من الانتقام ممّن أساء العمل (الْغَفُورُ) لمن تاب منهم ، أو لمن أراد التفضّل عليه بإسقاط العقاب عنه.

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) مطابقة بعضها فوق بعض. مصدر : طابقت النعل إذا خصفتها طبقا على طبق. وهذا وصف بالمصدر. أو طوبقت طباقا. أو ذات طباق. جمع طبق ، كجبل وجبال. أو جمع طبقة ، كرحبة ورحاب.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي : اختلاف وتناقض من طريق الحكمة ، وهو عدم مناسبة بعض الأجزاء من بعض ، وعدم تناسق بعضها إلى بعض في الإتقان والإحكام والانتظام ، بل ترى أفعاله كلّها سواء في الحكمة.

وقرأ حمزة والكسائي : من تفوّت. ومعناهما واحد ، كالتعاهد والتعهّد. وهو الاختلاف وعدم التناسب والملائمة. من الفوت ، فإنّ كلّا من المتفاوتين فات عنه بعض ما في الآخر.

١٢٤

والجملة صفة ثانية لـ «سبع» وضع فيها «خلق الرحمن» موضع الضمير للتعظيم ، والإشعار بأنّه تعالى يخلق مثل ذلك بقدرته الباهرة رحمة وتفضّلا ، وأنّ في إبداعها نعما جليلة لا تحصى. والخطاب فيها للرسول ، أو لكلّ مخاطب.

وقوله : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) متعلّق بـ «ما ترى» على معنى التسبيب ، أي : قد نظرت إليها مرارا فانظر إليها مرّة اخرى متأمّلا فيها ، لتعاين ما أخبرت به من تناسبها واستقامتها واستجماعها ما ينبغي لها. والفطور : الشقوق والصدوع ، جمع فطر. والمراد الخلل ، من : فطره إذا شقّه. ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شقّ.

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي : رجعتين أخريين في ارتياد الخلل ، لأنّ من نظر في الشيء كرّة بعد اخرى بان له ما لم يكن بائنا. والمراد بالتثنية التكرير والتكثير ، كما في : لبّيك وسعديك. تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض. ولذلك أجاب الأمر بقوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) بعيدا عن إصابة المطلوب ونيل المراد ، كأنّه طرد عنه طردا بالصغار والتذلّل ، كذلّة من طلب شيئا فلم يجده وأبعد عنه (وَهُوَ حَسِيرٌ) كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى

١٢٥

قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢))

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أقرب السماوات إلى الأرض (بِمَصابِيحَ) بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السّرج فيه. والتنكير للتعظيم. ولا يمنع ذلك كون بعض الكواكب مركوزة في سماوات فوقها ، إذ التزيين بإظهارها فيها.

(وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) وجعلنا لها فائدة اخرى ، وهي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب الّتي تنفصل من نار الكواكب ، لا أنّهم يرجمون بالكواكب أنفسها ، لأنّها قارّة في الفلك على حالها. وما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار ، والنار ثابتة كاملة لا تنقص.

وقيل : معناه : وجعلناها رجوما وظنونا لشياطين الإنس ، وهم المنجّمون.

والرجوم جمع رجم بالفتح. وهو مصدر سمّي به ما يرجم به.

(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من الشياطين وغيرهم (عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وصفه بـ «بئس» وهو من صفات الذمّ ، والعقاب حسن ، لما في ذلك من الضرر الّذي يجب على كلّ عاقل أن يتّقيه غاية الجهد.

(إِذا أُلْقُوا) طرحوا (فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) صوتا فظيعا كصوت الحمير ، فيعظم بسماع ذلك عذابهم ، لما يرد على قلوبهم من هوله (وَهِيَ تَفُورُ) تغلي بهم

١٢٦

غليان المرجل (١) بما فيه.

(تَكادُ تَمَيَّزُ) تتفرّق (مِنَ الْغَيْظِ) من شدّة غضبها عليهم. وهو تمثيل لشدّة اشتعالها بهم. ويجوز أن يراد غيظ الزبانية. (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) جماعة من الكفرة (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) أي : قال لهم الملائكة الموكّلون بالنار على وجه التوبيخ والتبكيت : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) يخوّفكم بهذا العذاب.

(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا) ولم نقبل منهم (وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ممّا تدعوننا إليه وتحذّروننا منه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) فكذّبنا الرسل ، وأفرطنا في التكذيب حتّى نفينا الإنزال والإرسال رأسا ، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال. فالنذير إمّا بمعنى الجمع ، لأنّه فعيل. أو مصدر مقدّر بمضاف ، أي : أهل إنذار. أو منعوت به للمبالغة. أو الواحد ، والخطاب له ولأمثاله على التغليب. أو إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكلّ. أو على أنّ المعنى : قالت الأفواج قد جاء إلى كلّ فوج منّا رسول من الله فكذّبناهم وضلّلناهم.

وقيل : الخطاب من كلام الزبانية للكفّار على إرادة القول. فيكون الضلال ما كانوا عليه في الدنيا ، أو المراد عقابه الّذي يكونون فيه في الآخرة. فأرادوا بالضلال الهلاك ، أو سمّوا عقاب الضلال باسمه.

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش ، اعتمادا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات (أَوْ نَعْقِلُ) نتفكّر في حكمه ومعانيه تفكّر المستبصرين (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) في عدادهم وجملتهم.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) حين لا ينفعهم. والاعتراف إقرار عن معرفة. والذنب لم يجمع ، لأنّه في الأصل مصدر ، أو المراد به الكفر.

(فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) فأسحقهم الله سحقا ، أي : أبعدهم من رحمته.

__________________

(١) المرجل : القدر.

١٢٧

وتغليب أصحاب السعير على الكائنين فيهم حيث لم يقل : فسحقا لهم ولأصحاب السعير ، للإيجاز والمبالغة والتعليل ، لأنّه يشعر بأنّ الدعاء عليهم لكونهم من أصحاب السعير. وقرأ الكسائي بضمّ الحاء.

ولمّا بيّن الوعيد عقّبه بالوعد ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد. أو غائبين عنه ، أو عن أعين الناس. أو بالمخفي منهم ، وهو قلوبهم. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) تصغر دونه لذائذ الدنيا.

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤))

روي : أنّ المشركين كانوا يتكلّمون فيما بينهم بأشياء ، فيخبر الله به رسوله ، فيقولون : أسرّوا قولكم لئلّا يسمعه إله محمّد ، فنبّه الله على جهلهم بقوله :

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإجهار والإسرار. ومعناه : ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما. ثمّ علّله بقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بالضمائر قبل أن تترجم الألسنة عنها ، فكيف لا يعلم ما تكلّم به؟! ثمّ أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسرّ والمجهر بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ألا يعلم السرّ والجهر من أوجد الأشياء كلّها حسبما قدّرته حكمته (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) المتوصّل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن. ويجوز أن يكون «من خلق» منصوبا بمعنى : ألا يعلم الله من خلقه وهو بهذه المثابة؟! والتقييد بهذه الحال يستدعي أن يكون لـ «يعلم» مفعول ليفيد ، لأنّك لو قلت : ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير ، لم يكن معنى صحيحا ، لأنّ «ألا يعلم» معتمد على

١٢٨

الحال ، والشيء لا يوقّت بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن : ألا يعلم كذا وهو عالم بكلّ شيء.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

ثمّ عدّد سبحانه أنواع نعمه ممتنّا على عباده بذلك ، فقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) ليّنة يسهل لكم السلوك فيها (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) في جوانبها.

وهو مثل لفرط التذليل ، فإنّ منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلّل ، فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشى في مناكبها ، لم يبق شيء لم يتذلّل.

وقيل : مناكبها جبالها. قال الزجّاج : معناه : سهّل لكم السلوك في جبالها ، فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشى في مناكبها ، لم يبق شيء لم يتذلّل.

وقيل : مناكبها جبالها. قال الزجّاج : معناه : سهّل لكم السلوك في جبالها ، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها ، فهو أبلغ التذليل.

(وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ممّا أنبت الله في الأرض والجبال من الزروع والأشجار حلالا ، والتمسوا من نعم الله تعالى فيها (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) المرجع ، فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨))

ثمّ هدّد سبحانه الكفّار ، زاجرا لهم عن ارتكاب معصيته والجحود لربوبيّته ، فقال :

١٢٩

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) من ملكوته في السماء ، لأنّها مسكن ملائكته ، وثمّ عرشه وكرسيّه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه. أو الملك الموكّل بعذاب العصاة. أو على زعم العرب ، فإنّهم كانوا يعتقدون التشبيه ، وأنّه في السماء ، وأنّ الرحمة والعذاب ينزلان منه ، وكانوا يدعونه من جهتها ، فقيل لهم على حسب اعتقادهم : ء أمنتم من تزعمون أنّه في السماء وهو متعال عن المكان؟! وعن ابن كثير برواية قنبل : وأمنتم ، بقلب الهمزة الأولى واوا ، لانضمام ما قبلها. وآمنتم ، بقلب الثانية ألفا. وهو قراءة نافع برواية ورش وأبي عمرو ورويس.

(أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) فيغيّبكم فيها إذا عصيتموه ، كما فعل بقارون. وهو بدل من بدل الاشتمال. (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) تضطرب. والمور التردّد في المجيء والذهاب. وذلك بأن يحرّك الأرض عند الخسف بهم ، حتّى تضطرب فوقهم وهم يخسفون فيها ، حتّى تلقيهم إلى أسفل.

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي : ريحا ذات حجر ، كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء. أو سحابا يمطر عليكم الحصباء.

(فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي : إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري ، وحينئذ لا ينفعكم العلم.

ثمّ سلّى رسوله ، وهدّد قومه بقوله : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) إنكاري عليهم بإنزال العذاب واستئصالهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ

١٣٠

الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢))

ثمّ نبّه سبحانه على قدرته على الخسف وإرسال الحجارة ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها ، فإنّهنّ إذا بسطنها صففن قوادمها (وَيَقْبِضْنَ) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهنّ وقتا بعد وقت ، للاستظهار به على التحرّك. ولذلك عدل به إلى صيغة الفعل ، للتفرقة بين الأصل في الطيران ، وهو صفّ الأجنحة ـ لأنّ الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها ـ وبين القبض الّذي هو طارىء على البسط للاستعانة به على التحرّك ، كما يكون من السابح.

(ما يُمْسِكُهُنَ) في الجوّ على خلاف الطبع (إِلَّا الرَّحْمنُ) الشامل رحمته كلّ شيء ، بأن خلقهنّ على أشكال وخصائص يتأتّى منها الجري في الهواء (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبّر العجائب.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) وهذا عديل لقوله :

(أَوَلَمْ يَرَوْا) على معنى : أو لم تنظروا في أمثال هذه الصنائع ، فلم تعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب؟ أم لكم هذا الّذي هو جند لكم ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه؟ ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع الأوثان ، لاعتقادهم أنّهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم ، فكأنّهم الجند الناصر

١٣١

والرازق. ونحوه قوله : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) (١). إلّا أنّه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم ، إشعارا بأنّهم اعتقدوا هذا القسم.

و «من» مبتدأ ، و «هذا» خبره ، و «الّذي» بصلته صفته. و «ينصركم» وصف لـ «جند» محمول على لفظه.

(إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) لا معتمد لهم.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) أم من يشار إليه ويقال : «هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ» (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) بإمساك المطر وسائر الأسباب المحصّلة للرزق (بَلْ لَجُّوا) تمادوا (فِي عُتُوٍّ) عناد (وَنُفُورٍ) شراد عن الحقّ ، لتنفّر طباعهم عنه.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى) يقال : كببته فأكبّ. وهو من الغرائب والشواذّ. ونحوه : قشع الله السحاب فأقشع. والتحقيق أنّهما من باب : أنفض (٢) ، بمعنى : صار ذا كبّ وذا قشع. وليسا مطاوعي : كبّ ، بل المطاوع لهما : انكبّ وانقشع. ومعنى «مكبّا» : منكّسا رأسه إلى الأرض ، فهو لا يبصر الطريق ، ولا من يستقبله ، ولا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله ، فيعثر كلّ ساعة ، ويخرّ على وجهه ، لو عورة طريقه ، واختلاف أجزائه انخفاضا وارتفاعا. فحاله نقيض حال من يمشي سويّا ، ولذلك قابله بقوله : (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) مستويا قائما ، يبصر الطريق وجميع جهاته ، فيضع قدمه سالما من العثار والخرور (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مستوي الأجزاء والجهة.

وقيل : يراد الأعمى الّذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف (٣) ، فلا يزال ينكبّ على وجهه ، وأنّه ليس كالرجل السويّ الصحيح البصر ، الماشي في الطريق ،

__________________

(١) الأنبياء : ٤٣.

(٢) أنفض القوم : فني زادهم ، وهلكت أموالهم.

(٣) اعتسف الطريق : ركبه على غير هداية. واعتسف عن الطريق : مال عنه وعدل.

١٣٢

المهتدي له. والمراد تمثيل المشرك والموحّد بالسالكين ، والدينين بالمسلكين.

ولعلّ الاكتفاء بما في الكبّ من الدلالة على حال المسلك بدون ذكر الطريق ، للإشعار بأنّ ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمّى طريقا ، كمشي المتعسّف في مكان متعاد (١) غير مستو.

وقيل : (فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) هو الّذي يحشر على وجهه إلى النار ، و (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) الّذي يحشر على قدميه إلى الجنّة.

وعن قتادة : الكافر أكبّ على المعاصي ، فحشره الله يوم القيامة على وجهه.

وعن الكلبي : عني به أبو جهل بن هشام ، وبالسويّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : حمزة بن عبد المطّلب.

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لتسمعوا المواعظ (وَالْأَبْصارَ) لتنظروا صنائعه (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكّروا وتعتبروا (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : تشكرون شكرا قليلا. أو في زمان قليل

__________________

(١) تعادى المكان : تفاوت ولم يستو.

١٣٣

تشكرون ، باستعمالها فيما خلقت لأجلها. أو قليلا شكركم. فتكون «ما» مصدريّة.

(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) خلقكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) منها للجزاء.

(وَيَقُولُونَ) خاطبين للنبيّ والمؤمنين (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي : الحشر ، أو ما وعدوا من الخسف والحاصب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ذلك الوعد.

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ) أي : علم وقته (عِنْدَ اللهِ) لا يطّلع عليه غيره (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) والإنذار يكفي فيه العلم ـ بل الظنّ ـ بوقوع المحذّر منه.

ثمّ ذكر سبحانه حالهم عند نزول العذاب ومعاينته فقال : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي : الوعد ، فإنّه بمعنى الموعود (زُلْفَةً) ذا زلفة ، أي : قريبا منهم (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ساءت الرؤية وجوههم ، بأن علتها الكآبة ، وغشيها الكسوف والقترة (١) والاسوداد ، كما يكون وجه من يقاد إلى القتل ، أو يعرض على بعض العذاب (وَقِيلَ) قيل : القائلون هم الزبانية (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) تطلبون وتستعجلون به. تفتعلون من الدعاء. أو تدّعون أن لا بعث. فهو من الدعوى.

وعن بعض الزهّاد : أنّه تلاها في أول الليل في صلاته ، فبقي يكرّرها وهو يبكي إلى أن نودي لصلاة الفجر.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

__________________

(١) القترة : الغبرة ، أي : لون الغبار.

١٣٤

روي : أنّ كفّار مكّة كانوا يدعون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فقال الله سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) أماتني (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير آجالنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي : لا ينجيهم أحد من العذاب. قيل : وهو جواب لقولهم : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (١).

وتنقيح المعنى : أنّ الله سبحانه أمر رسوله بأن يقول للكافرين : نحن مؤمنون متربّصون لإحدى الحسنيين : إمّا أن نهلك كما تتمنّون ، فننقلب إلى الجنّة ، أو نرحم بالنصرة والإدالة (٢) للإسلام كما نرجو ، فمن يجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار؟

يعني : أنتم تطلبون لنا الهلاك الّذي هو استعجال للفوز والسعادة ، وأنتم في أمر هو الهلاك الّذي لا هلاك بعده ، وأنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه.

أو المعنى : إن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم من النار؟ وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم وقتلكم فمن يجيركم؟ فإنّ المقتول على أيدينا هالك. أو إن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون ، فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم؟ وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له؟

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) الّذي أدعوكم إليه مولي النعم كلّها (آمَنَّا بِهِ) للعلم بذلك (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) للوثوق عليه ، والعلم بأنّ غيره بالذات لا يضرّ ولا ينفع.

وتأخير صلة «آمنّا» وتقديم صلة «توكّلنا» لأجل أنّ وقوع «آمنّا» تعريض بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم ، كأنّه قيل : آمنّا ولم نكفر كما كفرتم. ثم قال : وعليه توكّلنا خصوصا ، لم نتّكل على ما أنتم متّكلون عليه من رجالكم وأموالكم.

__________________

(١) الطور : ٣٠.

(٢) الإدالة : الغلبة.

١٣٥

(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) منّا ومنكم. وقرأ الكسائي بالياء.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) غائرا في الأرض بحيث لا تناله الدلاء.

مصدر وصف به. (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) جار ، أو ظاهر سهل المأخذ. قيل : إنّها تليت عند محمد بن زكريّا المتطبّب فقال : تجيء به الفؤوس والمعاول ، فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته.

١٣٦

(٦٨)

سورة القلم

مكّيّة وهي اثنتان وخمسون آية.

أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن قرأ سورة (ن وَالْقَلَمِ) أعطاه الله ثواب الّذين حسن أخلاقهم».

عليّ بن ميمون عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة «ن والقلم» في فريضة أو نافلة آمنه الله عزوجل من أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر إن شاء الله تعالى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

ولمّا ختم الله سبحانه سورة الملك بذكر تكذيب الكفّار ووعيدهم ، افتتح هذه السورة بمثل ذلك ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن) من أسماء الحروف. ويؤيّده سكونه وكتبته

١٣٧

بصورة الحرف. أو من أسماء السورة ، مثل «حم» و «ص» وما أشبه ذلك. وقد ذكرنا ذلك مع غيره من الأقوال في مفتتح سورة البقرة.

وقيل : اسم الحوت. والمراد به الجنس ، أو البهموت ، وهو الحوت الّذي عليه الأرضون.

وعن الحسن : هو الدواة ، فإنّ بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشدّ سوادا من المداد يكتب به.

وعن ابن عبّاس ومجاهد ومقاتل والسدّي مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هو لوح من نور».

وفي رواية عن ابن عبّاس : هو حرف من حروف الرحمن.

وعن أبي جعفر عليه‌السلام : «هو نهر في الجنّة قال الله له : كن مدادا فجمد ، وكان أبيض من اللبن وأحلى من الشهد. ثمّ قال للقلم : اكتب ، فكتب القلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة».

ويؤيّده قوله عقيب ذلك :

(وَالْقَلَمِ) هو الّذي خطّ به اللوح ، أو الّذي يخطّ به في الدنيا. أقسم به لكثرة فوائده الّتي لا يحيط بها الوصف ، إذ هو أحد لساني الإنسان ، يؤدّي عنه ما في جنانه ، ويبلغ البعيد عنه ما يبلغ القريب بلسانه ، وبه تحفظ أحكام الدين ، وبه تستقيم أمور العالمين.

وقد قيل : إنّ البيان بيانان : بيان اللسان ، وبيان البنان. وبيان اللسان تدرسه (١) الأعوام ، وبيان الأقلام باق على مرّ الأيّام.

وقيل : إنّ قوام أمور الدين والدنيا بشيئين : القلم والسيف ، والسيف تحت القلم.

__________________

(١) أي : يمحوه مرور الأعوام.

١٣٨

وأخفى ابن عامر والكسائي ويعقوب النون إجراء للواو المنفصل مجرى المتّصل ، فإنّ النون الساكنة تخفى مع حروف الفم إذا اتّصلت بها ، وقد روي ذلك عن نافع وعاصم.

(وَما يَسْطُرُونَ) وما يكتبون. والضمير للقلم بالمعنى الأوّل على التعظيم ، أو بالمعنى الثاني على إرادة الجنس. وإسناد الفعل إلى الآلة ، وإجراؤه مجرى أولي العلم ، لإقامته مقامهم. أو لأصحابه المقدّر ، و «ما» موصولة أو مصدريّة ، كأنّه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم ، أو وسطرهم. أو للملائكة الحفظة ، أي : وما تكتبه الملائكة ممّا يوحى إليهم ، وما يكتبونه من أعمال بني آدم.

وجواب القسم قوله : (ما أَنْتَ) مبتدأ (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) حال ، والعامل فيها معنى النفي (بِمَجْنُونٍ) خبر المبتدأ. وحقيقة المعنى : انتفى عنك الجنون منعّما عليك بالنبوّة وحصافة (١) الرأي. ونظير ذلك : ما أنت بمجنون بحمد الله.

وقيل : عامل الحال «مجنون» ، والباء لا تمنع عمله فيما قبله ، لأنّها مزيدة.

وفيه نظر من حيث المعنى ، لأنّه يقيّد نفي الجنون ، والمقصود نفيه مطلقا.

والمراد استبعاد ما كان ينسبه إليه كفّار مكّة من الجنون عداوة وحسدا ، وأنّه من إنعام الله عليه بحصافة العقل والشهامة الّتي يقتضيها التأهيل للنبوّة بمعزل عنه.

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) على احتمال أعباء رسالتك وغصص تبليغك (غَيْرَ مَمْنُونٍ) مقطوع ، كقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (٢). أو غير ممنون به عليك ، لأنّه ثواب تستوجبه على عملك ، وليس بتفضّل ابتداء ، وإنّما تمنّ الفواضل لا الأجور على الأعمال. وقال ابن عبّاس : ليس من نبيّ إلّا وله مثل أجر من آمن به ودخل في دينه.

__________________

(١) حصف حصافة : كان جيّد الرأي محكم العقل.

(٢) هود : ١٠٨.

١٣٩

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) إذ تتحمّل من قومك ما لا يتحمّل أمثالك. وقيل : هو الخلق الّذي أمره الله به في قوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١).

وعن عائشة : أنّ سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ القرآن (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (٢). وقريب منه : أنّ معناه : إنّك متخلّق بأخلاق الإسلام ، ومتأدّب بآدابه.

وقيل : سمّي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه. ويعضده ما روي عنه أنّه قال : «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».

وقال : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي».

وقال عليه‌السلام : «إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار».

وعن أبي الدرداء قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن».

وعن الرضا عليّ بن موسى عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عليكم بحسن الخلق ، فإنّ حسن الخلق في الجنّة لا محالة. وإيّاكم وسوء الخلق ، فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة».

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أيّكم الّذي فتن بالجنون. والباء مزيدة. أو بأيّكم الجنون ، على أنّ المفتون مصدر ، كالمعقول والمجلود. أو بأيّ الفريقين منكم المجنون ، أبفريق المؤمنين؟ أم بفريق الكافرين؟ أي : في أيّهما يوجد من يستحقّ هذا الاسم. وهذا تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما. وهذا كقوله : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (٣).

__________________

(١) الأعراف : ١٩٩.

(٢) المؤمنون : ١

(٣) القمر : ٦.

١٤٠