زبدة التّفاسير - ج ٧

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٧

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-09-4
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٧٦

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) من أهل قرية (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) بالاستقصاء والمناقشة (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) منكرا. والمراد حساب الآخرة وعذابها. والتعبير بلفظ الماضي للتحقيق ، كقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (١) (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) (٢).

ونحو ذلك ، فإنّ ما هو كائن لا محالة فكأن قد كان. ويجوز أن يكون المراد بالحساب استقصاء ذنوبهم ، وإثباتها في صحائف الحفظة ، وبالعذاب ما أصيبوا به عاجلا.

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) ثقل عقوبة كفرها وشدّة معاصيها (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) لا ربح فيه أصلا.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) تكرير للمبالغة ، وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها في قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا أصحاب العقول الصافية ، فلا تفعلوا مثل ما فعل أولئك ، فينزل بكم ما نزل بهم.

ثمّ وصف أولي الألباب بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) خصّ المؤمنين بينهم بالذكر ، لأنّهم المنتفعون بذلك دون الكفّار. ثمّ ابتدأ سبحانه فقال : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) يعني بالذكر جبرئيل ، لكثرة ذكره ، أو لنزوله بالذكر وهو القرآن ، أو لأنّه مذكور في السماوات ، أو في الأمم. أو ذا ذكر ، أي : شرف.

أو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لمواظبته على تلاوة القرآن ، أو لتبليغه. وأبدل منه «رسولا» للبيان. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

أو أراد بالذكر القرآن ، و «رسولا» منصوب بمقدّر مثل : أرسل ، ودلّ قوله : (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) عليه. وقيل : عمل «ذكرا» في «رسولا» أي : أنزل الله إليكم ذكرا رسولا ، أي : للرسالة.

__________________

(١) الأعراف : ٤٤ و٥٠.

(٢) الأعراف : ٤٤ و٥٠.

١٠١

(يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) حال من اسم «الله» أو صفة «رسولا».

والمراد بالموصول في قوله : (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الّذين آمنوا بعد إنزاله ، أي : ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح ، لأنّهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ، وإنّما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ. أو ليخرج من علم أنّه مؤمن (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر إلى الهدى. شبّه الكفر بالظلمات ، لأنّه يؤدّي إلى ظلمة القبر وظلمة القيامة وظلمة جهنّم. وشبّه الإيمان بالنور ، لأنّه يؤدّي إلى نور القيامة.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) قرأ نافع وابن عامر : ندخله بالنون. (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) فيه تعجيب وتعظيم لما رزقوا من الثواب.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) مبتدأ وخبر (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي : وخلق مثلهنّ في العدد من الأرض. وما في القرآن آية تدلّ على أنّ الأرضين سبع إلّا هذه. ولا خلاف في السماوات أنّها سماء فوق سماء. وأمّا الأرضون فقال المحقّقون : إنّها سبع طباقا بعضها فوق بعض كالسماوات ، لأنّها لو كانت مصمتة لكانت أرضا واحدة. وفي كلّ أرض خلق ، خلقهم الله تعالى كما شاء.

وروى أبو صالح عن ابن عبّاس : أنّها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض ، يفرّق بينهنّ البحار ، وتظلّ جميعهنّ السماء. والله سبحانه أعلم بصحّة ما استأثر بعلمه ، واشتبه على خلقه. وقد ذكر في الذاريات (١) رواية العيّاشي عن أبي الحسن عليه‌السلام في كيفيّة وضع السماوات والأرضين.

وقيل : بين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وغلظ كلّ سماء كذلك.

__________________

(١) راجع ج ٦ ص ٤٦٦ ، ذيل الآية ٨ من سورة الذاريات.

١٠٢

والأرضون مثل السماوات.

وعن ابن عبّاس : إنّ نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق؟ قال : نعم. قال : فما الخلق؟ قال : إمّا ملائكة أو جنّ.

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي : يجري أمر الله وقضاؤه بينهنّ ، وينفذ حكمه فيهنّ.

وعن قتادة : في كلّ سماء وفي كلّ أرض خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) علّة لـ «خلق» ، أو لـ «يتنزّل» ، أو لمضمر يعمّهما ، مثل : فعل ما فعل. ولا شبهة أنّ كلّا منهما يدلّ على كمال قدرته وعلمه.

١٠٣
١٠٤

(٦٦)

سورة التحريم

مدنيّة. وهي اثنتا عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن قرأ سورة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) أعطاه الله توبة نصوحا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ

١٠٥

مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

واعلم أنّه سبحانه لمّا ذكر في سورة الطلاق أحكام النساء في الطلاق وغيره ، افتتح هذه السورة بأحكامهنّ.

وقد اختلف أقوال المفسّرين في سبب نزول هذه السورة.

فقيل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا صلّى الغداة يدخل على أزواجه امرأة امرأة ، وكان قد أهديت لحفصة بنت عمر بن الخطّاب عكّة (١) من عسل ، وكانت إذا دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلّما حبسته وسقته منها. وإنّ عائشة أنكرت احتباسه عندها ، فقالت لجويرية حبشيّة عندها : إذا دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حفصة فادخلي عليها ، فانظري ماذا تصنع. فأخبرتها الخبر وشأن العسل. فغارت عائشة وأرسلت إلى صواحبها فأخبرتهنّ ، وقالت : إذا دخل عليكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن : إنّا نجد منك ريح المغافير ، وهو صمغ العرفط (٢) كريه الرائحة.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكره ويشقّ عليه أن يوجد منه ريح غير طيّبة ، لأنّه يأتيه الملك.

قال : فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سودة. قالت : فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ إنّي فرقت من عائشة فقلت : يا رسول الله ما هذه الريح الّتي أجدها منك ، أكلت المغافير؟ فقال : لا ، ولكن حفصة سقتني عسلا. ثمّ دخل على امرأة امرأة ، وهنّ يقلن له ذلك.

ثمّ دخل على عائشة ، فأخذت بأنفها. فقال لها : ما شأنك؟ قالت : أجد ريح

__________________

(١) العكّة : وعاء أصغر من القربة.

(٢) العرفط : شجر من العضاه. والواحدة : عرفطة. والعضاه : كلّ شجر يعظم وله شوك.

١٠٦

المغافير ، أكلتها يا رسول الله؟ قال : لا ، بل سقتني حفصة عسلا. فقالت : جرست (١) إذا نحلها العرفط. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أطعمه أبدا. فحرّمه على نفسه.

وعن عطاء بن أبي مسلم : أنّ الّتي كانت تسقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العسل أمّ سلمة. وقيل : بل كانت زينب بنت جحش.

قالت عائشة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا. فتواطأت أنا وحفصة أيّتنا دخل عليها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلتقل : إنّي أجد منك ريح المغافير ، أكلت المغافير. فدخل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إحداهما فقالت له ذلك. فقال : لا ، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود عليه فنزلت.

وعن قتادة والشعبي ومسروق : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم الأيّام بين نسائه ، فلمّا كان يوم حفصة قالت : يا رسول الله إنّ لي إلى أبي حاجة ، فأذن لي أن أزوره.

فأذن لها. فلمّا خرجت أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جاريته مارية القبطيّة ، وكان قد أهداها له المقوقس ، فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها. فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا ، فجلست عند الباب ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجهه يقطر عرقا.

فقالت حفصة : إنّما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ، ثمّ وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقّا؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أليس هي جاريتي ، قد أحلّ الله ذلك لي؟! اسكتي ، فهي حرام عليّ ، ألتمس بذلك رضاك ، فلا تخبري بهذا امرأة منهنّ ، وهو عندك أمانة.

فلمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرعت حفصة الجدار الّذي بينها وبين عائشة ، فقالت : ألا أبشّرك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حرّم عليه أمته مارية ، وقد أراحنا الله منها. وأخبرت عائشة بما رأت ، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه.

فطلّق حفصة ، واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوما ، وقعد في مشربة أمّ إبراهيم

__________________

(١) جرس الشيء : لحسه بلسانه.

١٠٧

مارية حتّى نزلت آية التخيير.

وعن الزجّاج : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلا في يوم عائشة مع جاريته أمّ إبراهيم مارية القبطيّة ، فوقفت حفصة على ذلك. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تعلمي عائشة ذلك.

وحرّم مارية على نفسه. فأعلمت حفصة عائشة الخبر ، واستكتمتها إيّاه. فأطلع الله نبيّه على ذلك ، وهو قوله : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) يعني : حفصة.

ولمّا حرّم مارية القبطيّة أخبر حفصة أنّه يملك من بعده أبو بكر ثمّ عمر تسلية لها. فعرّفها بعض ما أفشت من الخبر ، وأعرض عن بعض ، وهو أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي.

وقريب من ذلك ما رواه العيّاشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكّي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، إلّا أنّه زاد في ذلك : أنّ كلّ واحدة منهما حدّثت أباها بذلك ، فعاتبهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك ، وأعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الآخر. فنزلت :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) يعني : العسل ، أو ما ملكت يمينك ، وهي مارية (تَبْتَغِي) بهذا التحريم (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) تفسير لـ «تحرّم» ، أو حال من فاعله ، أو استئناف لبيان الداعي إلى التحريم. والمعنى : تطلب به رضا نسائك ، وهو أحقّ أن تطلب مرضاته.

وليس هذا بزلّة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارتكاب ذنب صغير ، كما زعم جار الله (١) ، لأنّ تحريم الرجل أمته أو بعض ملاذّه بسبب أو غير سبب ليس بقبيح ، ولا داخل في جملة الذنوب. ولا يمتنع أن يكون خرج هذا القول مخرج التوجّع له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ بالغ في إرضاء أزواجه في تلك المشقّة. ولو أنّ رجلا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهنّ

__________________

(١) انظر الكشّاف ٤ : ٥٦٤.

١٠٨

لجاز أن يقال له : لم فعلت ذلك وتحمّلت فيه المشقّة؟ وإن لم يفعل قبيحا. ولو قلنا : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عوتب على ذلك ، لأنّ ترك التحريم كان أفضل من فعله ، لم يمتنع ، لأنّه يحسن أن يقال لتارك النفل : لم لم تفعله؟ ولم عدلت عنه؟ ولأنّ تطييب قلوب النساء ممّا لا تنكره العقول.

واعلم أنّ العلماء اختلفوا فيمن قال لامرأته : أنت عليّ حرام. فقال مالك : هو ثلاث تطليقات.

وقال أبو حنيفة : إن نوى به الظهار فهو ظهار ، وإن نوى الإيلاء فهو إيلاء ، وإن نوى الطلاق فهو طلاق. وإن نوى ثلاثا كان ثلاثا ، وإن نوى اثنتين فواحدة بائنة.

وإن لم يكن له نيّة فهو يمين.

وقال الشافعي : إن نوى الطلاق كان طلاقا ، أو الظهار كان ظهارا ، وإن لم يكن له نيّة فهو يمين.

وروي عن ابن مسعود وابن عبّاس وعطاء : أنّه يمين.

وقال أصحابنا : إنّه لا يلزم به شيء ، إذ وجوده كعدمه. وهو قول مسروق.

وإنّما أوجب الله فيه الكفّارة ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلف أن لا يقرب جاريته ولا يشرب الشراب المذكور ، فأوجب الله عليه أن يكفّر عن يمينه ، ويعود إلى استباحة ما كان حرّمه. وبيّن أنّ التحريم لا يحصل إلّا بأمر الله ونهيه ، ولا يصير الشيء حراما بتحريم منّا إلّا إذا حلفنا على تركه.

(وَاللهُ غَفُورٌ) عن الذنب ، فضلا عن ترك الندب ، فكيف يؤاخذ به؟

(رَحِيمٌ) إذا رجع عن الذنب ، أو إلى ما هو الأولى.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) قد شرع لكم تحليلها ، وهو حلّ ما عقدته بالكفّارة. وفي هذا دلالة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حلف ، ولم يقتصر على قوله : هي عليّ حرام ، لأنّ هذا القول ليس بيمين.

١٠٩

وعن مقاتل : أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكفّر عن يمينه ويراجع وليدته ، فأعتق رقبة وعاد إلى مارية.

وعن الحسن : أنّه لم يكفّر ، وإنّما هو تعليم للمؤمنين.

وقيل : معناه : شرع الله لكم الاستثناء.

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ) متولّي أموركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم ، فيشرعه لكم (الْحَكِيمُ) المتقن في أفعاله وأحكامه ، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلّا بما توجبه الحكمة. وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم ، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) يعني : حفصة (حَدِيثاً) تحريم مارية أو العسل ، أو أنّ أبا بكر وعمر يملكان (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي : فلمّا أخبرت حفصة عائشة بالحديث وأفشته إليها (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) وأطلع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحديث ـ أي : على إفشائه ـ على لسان جبرئيل (عَرَّفَ بَعْضَهُ) عرّف الرسول حفصة بعض ما فعلت (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) عن إعلام بعض تكرّما ، وعملا بمكارم الأخلاق. قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام. وقال الحسن : ما استقصى كريم قطّ.

وقرأ الكسائي بالتخفيف ، على معنى : جازى عليه. من قولك للمسيء : لأعرفنّ لك ذلك ، وقد عرفت ما صنعت. ومنه : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) (١). وهذا كثير في القرآن. وكان جزاؤه تطليقه إيّاها ، فطلّقها ثم راجعها بأمر الله. لكنّ المشدّد من باب إطلاق المسبّب على السبب ، والمخفّف بالعكس.

ويؤيّد الأوّل قوله : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ) بجميع الأمور (الْخَبِيرُ) بسرائر الصدور ، فإنّه أوفق للإعلام.

__________________

(١) النساء : ٦٣.

١١٠

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) من التعاون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإيذاء والتظاهر عليه ، فقد حقّ عليكما التوبة ، ووجب عليكما الرجوع إلى الحقّ. والخطاب لحفصة وعائشة على الالتفات ، للمبالغة في معاتبتهما. فقد روى البخاري في الصحيح عن ابن عبّاس قال : «قلت لعمر بن الخطّاب : من المرأتان اللّتان تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : هما عائشة وحفصة» (١).

ويدلّ على حذف جزاء الشرط قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) مالت إلى الإثم ، وزاغت عن مخالصة الرسول ، وحبّ ما يحبّه ، وكراهة ما يكرهه. من : صغت النجوم إذا مالت للغروب.

(وَإِنْ تَظاهَرا) تتظاهرا (عَلَيْهِ) أي : تتعاونا بما يسوءه ، من إفشاء سرّه وغيره. وقرأ الكوفيّون بالتخفيف.

(فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) وليّه وناصره. وزيادة «هو» إيذان بأنّ نصرته عزيمة من عزائمه ، وأنّه يتولى ذلك بذاته.

(وَجِبْرِيلُ) قرن ذكر جبريل بذكره مفردا له من بين الملائكة ، تعظيما له ، وإظهارا لمكانته عنده ، فإنّه رئيس الملائكة الكرّوبيّين (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ومن صلح العمل من المؤمنين. يعني : كلّ من آمن وعمل صالحا أتباعه وأعوانه.

فـ «صالح» جنس ، ولذلك عمّم بالإضافة ، فأريد به الجمع ، كقولك : لا يفعل هذا الصالح من الناس ، تريد الجنس. وكقولك : لا يفعله من صلح منهم. ويجوز أن يكون أصله : وصالحوا المؤمنين ، فكتب بغير واو على اللفظ ، لأنّ تلفّظ الواحد والجمع فيه واحد ، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخطّ.

ووردت الرواية من طريق الخاصّ والعامّ أنّ المراد بصالح المؤمنين

__________________

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٩٦.

١١١

أمير المؤمنين صلوات الله عليه. وهو قول مجاهد.

وفي كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لقد عرّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا أصحابه مرّتين. أمّا مرّة فحيث قال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. وأمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أخذ رسول الله بيد عليّ فقال : أيّها الناس هذا صالح المؤمنين» (١).

وقالت أسماء بنت عميس : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «وصالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب».

(وَالْمَلائِكَةُ) على تكاثر عددهم وامتلاء السماوات من جموعهم (بَعْدَ ذلِكَ) بعد نصرة الله وناموسه وصالح المؤمنين (ظَهِيرٌ) فوج مظاهر له ، كأنّهم يد واحدة على من يعاديه. فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟

ومظاهرتهم من جملة نصرة الله. فكأنّه فضّل نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى ، لفضلهم على جميع خلقه.

(عَسى رَبُّهُ) أي : واجب منه ، فإنّ «عسى» و «لعلّ» من الله واجب (إِنْ طَلَّقَكُنَ) يا معاشر أزواج النبيّ (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) على التغليب ، أو تعميم الخطاب. وقرأ نافع وأبو عمرو : يبدله بالتخفيف. وليس فيه ما يدلّ على أنّه لم يطلّق حفصة. وأزواج النبيّ قبل عصيانهنّ كنّ أخيار النساء ، فلمّا آذين رسول الله وعصينه لم يبقين على تلك الصفة ، فكان غيرهنّ من المطيعات لرسول الله والنازلات عن هواهنّ ورضاهنّ خيرا منهنّ.

وقد عرّض بذلك في قوله : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) مقرّات مخلصات ، أو منقادات مصدّقات (قانِتاتٍ) مصلّيات ، أو مواظبات على الطاعة ، أو متذلّلات

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ : ٣٥٢ ح ٩٩٦.

١١٢

لأمر الله (تائِباتٍ) عن الذنوب (عابِداتٍ) متعبّدات ، أو متذلّلات لأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (سائِحاتٍ) صائمات. سمّي الصائم سائحا ، لأنّه يسيح بالنهار بلا زاد ، فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه. فشبّه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره. أو مهاجرات.

(ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) وسّط العاطف بينهما لتنافيهما ، لا يجتمعن فيهما اجتماعهنّ في سائر الصفات ، فلم يكن به بدّ من الواو. أو لأنّهما في حكم صفة واحدة ، إذ المعنى : مشتملات على الثيّبات والأبكار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))

ولمّا أدّب سبحانه نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمر عقيبه المؤمنين بتأديب نسائهم

١١٣

وذرّيّتهم ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ) احفظوها وامنعوها بترك المعاصي وفعل الطاعات (وَأَهْلِيكُمْ) بالنصح والتأديب ، والنهي عن القبائح ، والحثّ على أفعال الخير ، ليتّصفوا بما اتّصفتم به من التقوى. وفي الحديث : «رحم الله رجلا قال : يا أهلاه ؛ صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم ، لعلّ الله يجمعهم معه في الجنّة».

(ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) نوعا من النار لا يتّقد إلّا بهما اتّقاد غيرها بالحطب. وعن ابن عبّاس : هي حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الأشياء حرّا إذا أوقد عليها. وقيل : أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله.

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ) تلي أمرها ، وهم الزبانية (غِلاظٌ شِدادٌ) الأفعال. أو غلاظ الخلق ، شداد الخلق ، عظام الأجرام ، أقوياء على الأفعال الشديدة. وهم الزبانية التسعة عشر وأعوانهم.

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) فيما مضى. في محلّ النصب على البدل ، أي : لا يعصون ما أمر الله ، أي : أمره ، كقوله : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (١). أو لا يعصونه فيما أمرهم (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فيما يستقبل. أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر والتزامها ، ويؤدّون ما يؤمرون به من غير توان وتثاقل. فالجملة الثانية غير الأولى.

واعلم أنّ فسّاق المؤمنين وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفّار ، فإنّهم مساكنون الكفّار في قرار واحد ، فقيل للّذين آمنوا : قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الّذين أعدّت لهم هذه النار الموصوفة.

ويجوز أن يأمرهم بالتوقّي من الارتداد ، والندم على الدخول في الإسلام.

وأن يكون خطابا للّذين آمنوا بألسنتهم ، وهم المنافقون. ويعضد ذلك قوله على

__________________

(١) طه : ٩٣.

١١٤

أثره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : يقال لهم ذلك عند دخولهم النار. والنهي عن الاعتذار لأنّه لا عذر لهم ، أو لا ينفعهم الاعتذار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) بالغة في النصح. وهو الخلوص لوجه الله. يقال : عسل ناصح إذا خلص من الشمع. ورجل ناصح الجيب ، أي : نقيّ القلب. أو في النصاحة ، وهي الخياطة ، كأنّها تنصح ـ أي : ترفو ـ ما خرق الذنب وترمّ خلله. وصفت به التوبة على الإسناد المجازي مبالغة. وحقيقة : صفة التائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم ، فيأتوا على طريقها متداركة للفرطات ، ماحية للسيّئات. وذلك أن يتوبوا على القبائح لقبحها ، نادمين عليها ، مغتمّين أشدّ الاغتمام لارتكابها ، عازمين على أنّهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع ، موطّنين أنفسهم على ذلك.

وعن عليّ عليه‌السلام : «أنّه سمع أعرابيّا يقول : اللهمّ إنّي أستغفرك وأتوب إليك.

فقال : إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذّابين. قال : وما التوبة؟ قال : يجمعها ستّة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وللفرائض الإعادة ، وردّ المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم على أن لا تعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربّيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي».

وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشرّ أن يتوب عن الذنب ثمّ يعود فيه.

وعن شهر بن حوشب : أن لا يعود ولو حزّ بالسيف وأحرق بالنار.

ويجوز أن يراد : توبة تنصح الناس ، أي : تدعوهم إلى مثلها ، لظهور اثرها في صاحبها ، واستعماله الجدّ والعزيمة في العمل على مقتضياتها.

ويؤيّده ما روي عن السدّي أنّه قال : لا تصحّ التوبة إلّا بنصيحة النفس والمؤمنين ، لأنّ من صحّت توبته أحبّ أن يكون الناس مثله.

١١٥

وقرأ أبو بكر بضمّ النون. وهو مصدر بمعنى النصح ، كالشكر والشكور ، والكفر والكفور. أو بمعنى النصاحة ، كالثبات والثبوت. تقديره : ذات نصوح. أو تنصح نصوحا. أو توبوا لنصح أنفسكم ، على أنّه مفعول له.

قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال : أن يتوب التائب ثمّ لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع.

وقال ابن مسعود : التوبة النصوح هي الّتي تكفّر كلّ سيّئة ، وهو في القرآن. ثمّ قرأ هذه الآية.

وقيل : إنّ التوبة النصوح هي الّتي يناصح الإنسان فيها نفسه بإخلاص الندم ، مع العزم على أن لا يعود إلى مثله.

وقيل : هي أن يكون الذنب نصب عينيه ، ولا يزال كأنّه ينظر إليه.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ذكر بصيغة الإطماع على عادة الملوك من الإجابة بـ «عسى» و «لعلّ» ، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبتّ. وإشعارا بأنّ العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء.

ثمّ عرّض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق ، واستحمد إلى المؤمنين على أنّه عصمهم من مثل حالهم ، فقال :

(يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) ظرف لـ «يدخلكم». (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) عطف على النبيّ. وقيل : مبتدأ خبره (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي : على الصراط.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «يسعى أئمّة المؤمنين بين أيدي المؤمنين وبأيمانهم ، حتّى ينزلوهم منازلهم في الجنّة».

(يَقُولُونَ) إشفاقا إذا طفئ نور المنافقين ، على عادة البشريّة ، وإن كانوا معتقدين الأمن (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) وقال الحسن : الله متمّمه لهم ، ولكنّهم يدعون

١١٦

تقرّبا إلى الله ، كقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (١) ، وهو مغفور له. فلمّا كانت حالهم كحال المتقرّبين ، حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة ، سمّي تقرّبا.

وقيل : تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم ، فيسألون إتمامه تفضّلا ، كما قيل : إنّ السابقين إلى الجنّة يمرّون مثل البرق على الصراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم حبوا وزحفا ، فأولئك الّذين يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا. (وَاغْفِرْ لَنا) واستر علينا معاصينا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ويؤيّد القول الأول قوله إثر ذلك : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) بالحجّة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) واستعمل الخشونة فيما تجاهدهم إذا بلغ الرفق نهايته ولم يؤثّر (وَمَأْواهُمْ) ومآل الكفّار والمنافقين (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنّم ، أو مأواهم.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠))

ثمّ مثّل الله عزوجل حال الكفّار ـ في أنّهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر ، لأنّ عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبتّ الوصل ، وجعلهم أبعد من الأجانب ، وإن كان المؤمن الّذي يتّصل به الكافر نبيّا من أنبياء الله ـ بحال امرأة لوط وامرأة نوح لمّا نافقتا وخانتا الرسولين ،

__________________

(١) محمد : ١٩.

١١٧

تعريضا لعائشة وحفصة إذ خانتا رسول الله وتظاهرتا عليه ، فقال :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) بيّنة (لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) يريد به تعظيم نوح ولوط (فَخانَتاهُما) بالنفاق وتظاهرهما على الرسولين. فامرأة نوح قالت لقومه : إنّه مجنون مخبّط العقل.

وامرأة لوط دلّت على ضيفانه. ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ، لأنّه سمج في الطباع كلّها ، نقيصة عند كلّ أحد ، موجب لاستخفاف الزوج ، وحطّ مرتبته ومنزلته عن قلوب العباد ، بخلاف الكفر ، فإنّ الكفّار لا يستسمجونه ، بل يستحسنونه ويسمّونه حقّا. وعن ابن عبّاس : ما بغت امرأة نبيّ قطّ.

(فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلم يغن النبيّان عن امرأتيهما بحقّ الزواج إغناء مّا (وَقِيلَ) لهما عند موتهما ، أو يوم القيامة (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) مع سائر الداخلين من الكفرة الّذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم‌السلام.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

ثمّ مثّل حال المؤمنين ـ في أنّ وصلة الكافرين لا تضرّهم ، ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله ـ بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله ، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى ، فقال :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) هي آسية بنت مزاحم. وقيل :

١١٨

هي عمّة موسى عليه‌السلام ، آمنت حين سمعت بتلقّف عصا موسى الإفك ، فعذّبها فرعون.

وعن أبي هريرة : أنّ فرعون وتّد امرأته بأربعة أوتاد ، واستقبل بها الشمس ، وأضجعها على ظهرها ، ووضع رحى على صدرها. وقيل : أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة ، فدعت الله فرقى بروحها ، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه.

(إِذْ قالَتْ) ظرف للمثل المحذوف (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ) قريبا من رحمتك كمال قرب. أو في أعلى درجات المقرّبين. فعبّرت عن كمال القرب إلى العرش بقولها : عندك (بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) أي : في جنّات المأوى الّتي هي أقرب إلى العرش (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) من نفسه الخبيثة (وَعَمَلِهِ) وفعله السيء (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من القبط التابعين له في الظلم.

وفيه دليل على أنّ الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل ، من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين.

وقوله : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) عطف على (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) تسلية للأرامل ، فإنّه جمع في التمثيل بين الّتي لها زوج والّتي لا زوج لها (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) من الرجال (فَنَفَخْنا فِيهِ) في فرجها (مِنْ رُوحِنا) من روح خلقناه بلا توسّط أصل (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) بصحفه المنزلة ، أو بما أوحي إلى أنبيائه (وَكُتُبِهِ) وما كتب في اللوح. أو جنس الكتب المنزلة. ويدلّ عليه قراءة البصريّين وحفص : وكتبه بالجمع.

(وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) من عداد المواظبين على الطاعة. والتذكير للتغليب ، وللإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين ، حتّى عدّت من جملتهم أو من نسلهم. فتكون «من» ابتدائيّة. والمعنى : أنّها ولدت من القانتين ، لأنّها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله عليهما.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلّا أربع :

١١٩

آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

ولا شبهة لأولي النهى أنّ في طيّ هذين التمثيلين تعريضا بحفصة وعائشة ، وبما فرط منهما من التظاهر على رسول الله بما كرهه. وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه ، لما في التمثيل من ذكر الكفر. وإشارة إلى أنّ من حقّهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين. وأن لا تتّكلا على أنّهما زوجا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلّا مع كونهما مخلصتين. والتعريض بحفصة أرجح ، لأنّ امرأة لوط أفشت عليه ، كما أفشت حفصة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأسرار التنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللطف والخفاء حدّا تدقّ عن تفطّن العالم ، وتزلّ عن تبصّره.

١٢٠