أنصار الحسين

محمّد مهدي شمس الدين

أنصار الحسين

المؤلف:

محمّد مهدي شمس الدين


الموضوع : التراجم
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٨

وقد كان هذاا الاعلان الذي سمعه الناس من الحسين في زبالة هو الاختبار الاول في هذه المسيرة ، وقد أدى إلى تفرق الكثيرين الذين رافقوه عن رغبة وطمع ، وبقي معه هؤلاء الرجال النادرون الذين سيعرفهم التاريخ عما قليل باسم (أنصا رالحسين).

وقد مروا في اختبار ثان حين حثهم الحسين على النجاة بأنفسهم في ليلة العاشر من المحرم قائلا لهم :

(هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فإن القوم إنما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري) (١).

ولكنهم رفضوا هذه الفرصة وآثروا البقاء معه إلى النهاية ، واستشهدوا جميعا.

وسنرى أنه لم يبق في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة ، وذلك لان عددا قليلا من الرجال قد إنضم إليه فيما بعد ، وشارك أصحابه الاولين مصيرهم المجيد.

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٤١٩ ، واليعقوبي : ٢ / ٢٣١ ، والخوارزمي : ١ / ٢٤٧.

٤١
٤٢

كم هم؟

من المؤكد أنه لا سبيل لنا إلى معرفة العدد الحقيقي لاصحاب الحسن عليه السلام ، من استشهد منهم ومن لم يرزق الشهادة ، وذلك لان المستندات المباشرة لهذه المسألة ، وهي روايات شهود العيان ، مختلفة في التقدير. وهي ، بطبيعة الحال ، غير مبنية على الاحصاء ، بل مبنية على الرؤية البصرية والتخمين كما تقضي بذلك طبيعة الموقف ، ومن هنا فإن أيا منها لا تعبر عن عدد نهائي ، وإنما تعبر عن عدد تقريبي ، لا بد أن يفترض فيه أنه يزيد على العدد الحقيقي قليلا أو ينقص عنه قليلا.

فيما يلي نعرض الروايات الرئيسية في الموضوع ، ونحللها ، ونناقشها.

* * *

لدينا ، بالنسبة إلى من شارك في المعركة من الهاشميين وغيرهم ، أربع روايات.

٤٣

الرواية الاولى :

رواية المسعودي ، وهي : (فلما بلغ الحسين القادسية لقيه الحر بن يزيد التميمي ... فعدل إلى كربلاء ، وهو في مقدار خمسمائة فارس من أهل بيته وأصحابه ، ونحو مائة راجل) (١).

إن المسعودي لم يذكر مستنده في هذه الرواية ، ومع أن المسعودي يتسم بالدقة في تاريخه إلا أننا لا يمكن أن نقبل العدد الوارد في هذه الرواية على أنه العدد الذي وصل مع الحسين إلى كربلاء ، فهي من هذه الجهة تخالف كل الروايات المعروفة التي نعرف مستنداتها ، دون أن تمتاز هذه الرواية بما يجعلها حرية بالقبول دون غيرها.

يمكن أن تكون هذه الرواية صادقة إلى حد بعيد إذا أخرجناها من إطارها الجغرافي ، وتأخرنا بها في الزمان قليلا عن لقاء الحسين للحر ، واعتبرنا أنها تعبر عن العدد الذي كان قبل أن يعلن الحسين عن مقتل مسلم ابن عقيل وعبد الله بن بقطر وهاني بن عروة ، وأما بعد ذلك فمن المؤكد أن عدد الاصحاب ليس بالمقدار الذي ورد في رواية المسعودي.

الرواية الثانية :

رواية عمار الدهني عن أبي جعفر (محمد بن علي بن الحسين = الامام الباقر) وقد جاء فيها : (. حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحر بن يزيد التميمي ... فلما رأى ذلك عدل إلى

___________________

(١) مروج الذهب : ٣ / ٧٠ ـ يظهر من المسعودي في مقدمة كتابه مروج الذهب أنه قد اعتمد على رصيد ضخم من المراجع التاريخية وكتب الانساب والجغرافيا ، لكنه نادرا ما يذكر في صلب كتابه مصدره الخاص لما ينقله من أحداث. بالنسبة إلى الرواية موضوع البحث : نحتمل أن المسعودي وقع ضحية التباس وتصحيف بين (خمسة) و(خمسمائة).

٤٤

كربلاء ... فنزل وضرب ابنتيه ، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل) (١).

وقد أورد ابن نما الحلي هذا العدد ، إلا أن الرواية عنده تختلف في التأقيت عن رواية عمار ، فرواية عمار تؤقت العدد بساعة النزول في كربلاء ، وقد كان ذلك في اليوم الثاني من المحرم (٢) ، وابن نما يؤقت العدد في اليوم العاشر من المحرم عند التعبئة ، قال : (.. وعبا الحسين أصحابه ، وكانوا خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل) (٣) ، وكذلك الحال عند ابن طاووس وقد صرح بإسناد الرواية إلى الامام الباقر (٤).

ونحن نرجح أن ابن نما ـ كابن طاووس قد استند إلى رواية عمار الدهني هذه ، وليس لديه مصدر آخر غيرها ، وأن اختلافهما عن رواية عمار في التأقيت ناشئ من عدم دقتهما في قراءة الرواية.

إن عمار الدهني قد تلقي الرواية من أوثق المصادر وهو الامام الباقر ، والمفروض أنه قد تلقي صورة حية ودقيقة لما حدث ، فقد طلب الحديث بقوله (حدثني عن مقتل الحسين كأني حضرته) ولذا فإن مما يبعث على الدهشة أن نجد في الرواية تحريفا منكرا لوقائع التاريخ ، فهي تخالف ، من عدة وجوه ، بعض الحقائق الهامة المتصلة بمعركة كربلاء ، ونرجح أن ذلك ناشئ من تلاعب الرواة بها كما ذكرنا آنفا ، إلا أن هذا لا يمنع من قبول العدد الوارد في هذه الرواية بصورة مبدئية.

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٨٩.

(٢) الطبري ى : ٥ / والخوارزمي : ١ / ٢٣٧

(٣) مثير الاحزان : ٣٩.

(٤) اللهوف في قتلى الطفوف : ٤٢.

٤٥

ونلاحظ أن رواية عمار تتفق من حيث الزمان والمكان مع رواية المسعودي التى طرحناها.

الرواية الثالثة :

رواية الحصين بن عبد الرحمان عن سعد بن عبيدة ، قال : (إن أشياخا من أهل الكوفة لوقوف على التل يبكون ويقولون : أللهم أنزل نصرك ، قال : قلت : يا أعداء الله ألا تنزلون فتنصرونه! قال : فأقبل الحسين يكلم من بعث إليه ابن زياد ، قال : وإني لانظر إليه وعليه جبة من برود ، فلما كلمهم انصرف ، فرماه رجل من بني تميم يقال له عمر الطهوي بسهم فإني لانظر إلى السهم بين كتفيه متعلقا في جبته ، فلما أبوا عليه رجع إلى مصافه ، وإني لانظر إليهم ، وإنهم لقريب من مائة رجل ، فيهم لصلب علي بن أبي طالب عليه السلام خمسة ، ومن بني هاشم ستة عشر ، ورجل من بني سليم حليف لهم ، ورجل من بني كنانة حليف لهم ، وابن عمر بن زياد) (١).

إن هذه الرواية منقولة عن شاهد عيان هو (سعد بن عبيدة) ، ويبدو أنه كان مع عمر بن سعد وأنه كان مقربا منه ، فهو يقول في رواية أخرى : (إنا لمستنقعون في الماء مع عمربن سعد) (٢) ، بينما تشتمل الرواية موضوع البحث على ملاحظة تدل على أنه كان متعاطفا مع الامام الحسين ومع الثورة : (.. قلت يا أعداء الله ألا تنزلون فتنصرونه ..) (٣).

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

(٢) الطبري : ٥ / ٣٩٣.

(٣) ويبدو أن هذه الظاهرة كانت موجودة بالنسبة إلى الكثيرين ، فهم متعاطفون مع الثورة ، ولكنهم يقفون عمليا ضدها ، وهذه الظاهرة تصورها بدقة كلمة الفرزدق للحسين عند ما لقيه : (قلوب =

٤٦

والرواية ، من حيث العدد ، تتفق بوجه عام مع رواية أكثر تحديدا هي رواية الخوارزمي المتقدمة عن عدد من خرج مع الحسين من مكة وأنه كان اثنين وثمانين رجلا. وكررها الخوارزمي بصيغة التمريض : (قيل) ، في حديثه عن اليوم العاشر من المحرم (١) ، كما ورد هذا العدد في مصادر أخرى لم نطلع عليها بطريق مباشر.

ويبدو أن هذه الرواية ، من حيث المكان والزمان ، تصور الموقف في اليوم العاشر من المحرم قبيل المعركة. وربما كانت تصور الموقف بعد نشوب المعركة (بعد الحملة الاولى مثلا) ، فإن الصورة الواردة فيها عن عمر الطهوي الذي رمي الحسين بسهم بعد أن فرغ من كلامه وانصرف إلى مصافه ، لم ترد في رواية أخرى من الروايات التي نقلت فيها خطب الحسين وكلماته مع الجيش الاموي ، كذلك صورة هؤلاء الذين يبكون ويدعون.

الرواية الرابعة :

رواية أبي مخنف عن الضحاك بن عبد الله المشرقي ، قال : (... فلما صلى عمر بن سعد الغداة ... وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء ، خرج فيمن معه من الناس .... وعبأ الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا) (٢).

___________________

= الناس معك وسيوفهم مع بني أمية) إن هذا من مظاهر ما سنشير إليه في فصل (الدلالات) عن وجود حالة ثورية في جهاز نفسي مشلول.

(١) مقتل الحسين ٢ / ٤.

(٢) الطبري : ٥ / ٤٢٢ وفي ٤٣٦ كرر أبو مخنف ذكر عدد الفرسان.

٤٧

إن أبا مخنف يتمتع بسمعة جيدة من حيث دقته وصدقه في أخباره التاريخية. وقد نقل أبو مخنف هذه الرواية بواسطة واحدة عن أحد أصحاب الحسين الذين قاتلوا معه إلى أن بقي من أصحابه رجلان ـ كما سنعرض لذلك فيما يأتي ـ وهو الضحاك بن عبد الله المشرقي ، وهو ، فيما يبدو ، رجل صارم وعملي ودقيق جدا ، فحين طلب الحسين منه النصرة أجابه إلى ذلك مشترطا أن يكون في حل من الانصراف عنه حين لا يعود قتاله مفيدا في الدفع عن الحسين ، وقد أجابه الحسين إلى شرطه فاشترك الضحاك في المعركة بصدق. إن هذه الملاحظة تبعث على الوثوق بدقته.

وهذه الرواية ، من حيث العدد والتأقيت والمكان ، تتفق مع روايات مؤرخين آخرين معاصرين للطبري أو متقدمين عليه.

منهم أبو حنيفة الدينوري ، قال : (... وعبا الحسين عليه السلام أيضا أصحابه ، وكانوا اثنين وثلاثين فارسا وأربعين راجلا) (١).

والدينوري يرجع إلى مصدر آخر غير مصدر أبي مخنف في روايته هذه.

ومنهم اليعقوبي ، قال : (. وكان الحسين في اثنين وستين أو اثنين وسبعين رجلا من أهل بيته وأصحابه) (٢).

وثمة روايات لكتاب متأخرين توافق هذا العدد أهمها في نظرنا رواية

___________________

(١) الاخبار الطوال : ٢٥٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٣٠.

٤٨

الخوارزمي ، قال : (ولما أصبح الحسين عليه السلام. عبأ أصحابه ، وكان معه إثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا) (١).

ومنهم الشيخ المفيد (٢).

* * *

هذه هي الروايات الرئيسة في الموضوع.

ونلاحظ ، قبل أن نذكر تقديرنا الخاص في المسألة ، أن عدد الاصحاب لم يكن ثابتا في جميع المراحل ، منذ الخروج من مكة إلى ما بعد ظهر اليوم العاشر من المحرم في كربلاء ، وإنما كان العدد متقلبا ، بدأ عند الخروج من مكة بالعدد الذي ذكره الخوارزمي (اثنين وثمانين رجلا) ثم ازداد العدد كثيرا في الطريق ، ثم تقلص حتى عاد إلى العدد الاول ، وربما يكون قد نقص عنه قليلا ، ثم ازداد بنسبة صغيرة قبيل المعركة نتيجة لقدوم بعض الانصار ، وتحول بعض جنود الجيش الاموي إلى معسكر الحسين.

وتقديرنا الخاص نتيجة لما انتهى بنا إليه البحث هو أن أصحاب الحسين الذين نقدر أنهم استشهدوا معه في كربلاء من العرب والموالي يقاربون مئة رجل أو يبلغونها وربما زادوا قليلا على المئة (٣).

___________________

(١) مقتل الحسين : ٢ / ٤. والخوارزمي يروي غالبا عن تاريخ ابن أعثم ، أبو محمد أحمد ، المتوفي سنة ٣١٤ وهذه الرواية عن هذا المؤرخ ، فتكون إذن ، رواية في مستوى رواية الطبري.

(٢) الارشاد : ٢٣٣.

(٣) إن الاسماء التي انتهى بحثنا في هذه الدراسة إلى اعتبارها دالة على رجال تاريخيين تطمئن النفس بكونهم استشهدوا مع الحسين في كربلاء تبلغ واحدا وثمانين إسما فيهم ثلاثة موالي للامام الحسين. وقد ذكر ابن شهر اشوب ٤ / ١١٣ أن ممن قتل في الحملة الاولى عشرة من موالي الحسين واثنان من

٤٩

ولا نستطيع أن نعين عددا بعينه ، لانه لا بد من افتراض نسبة من الخطأ تنشأ من تصحيف الاسماء ، ومن عدم دقة الرواة الذين نقلوا لاحداث وأسماء رجالها ، ولكن نسبة الخطأ المفترضة ليست كبيرة قطعا.

وهذه النتيجة تتوافق إلى حد كبير مع الروايات التي تصور ما حدث في الحملة الاولى من القتال.

قال الخوارزمي في روايته عن أبي مخنف :

(.. فلما رموهم هذه الرمية قل أصحاب الحسين عليه السلام ، فبقي في هؤلاء القوم الذين يذكرون في المبارزة. وقد قتل ما ينيف على خمسين رجلا) (١).

والذين ذكرهم ابن شهر اشوب يبلغون أربعين رجلا (٢).

فإذا لا حظنا إلى جانب هذا أن هؤلاء الذين يذكرون في المبارزة يبلغون أربعين رجلا تقريبا ، نكون قد قربنا من النتيجة التي أدى بنا إليها البحث.

وهنا ينبغي أن نعي أن التفاوت أمر مقبول ومعقول ، لان الرواة في جميع رواياتهم عن عدد أصحاب الحسين لم يتبعوا مبدأ الاحصاء وإنما اتبعوا طريقة التقدير المستند إلى الروية البصرية.

___________________

= موالي أمير المؤمنين علي ، فيبقي منهم تسعة ، ولا نستطيع الجزم بأن جميع الاسماء التسعة وعشرين التي وردت في الجدول الثاني لرجال وهميين ، بل نطمئن أن في هذه الاسماء عددا صغيرا لرجال تاريخيين وإن كنا لا نستطيع تمييز هذه الاسماء بأعيانها.

(١) الخوارزمي : مقتل الحسين ٢ / ٩. وبحار الانوار : ٤٥ / ١٢١ نقل ذلك عن محمد بن أبي طالب الموسوي.

(٢) المناقب : ٤ / ١١٣.

٥٠

وينبغي أن نعي أيضا أن عدد هذه القوة الصغيرة كان متقلبا نتيجة لكون بعض عناصرها (الموالي خاصة) ربما كانت تظهر ثم تختفي في مهمات خاصة.

إذا أخذنا في اعتبارنا هذه الامور نرى أن النتيجة التي تضمنها هذا البحث فيما يأتي منه عن عدد أصحاب الحسين من غير الهاشميين نتيجة على جانب كبير من الدقة والصواب.

وأخيرا نلاحظ ، قبل أن نجاوز هذه المسألة إلى تقويم الروايات الاساسية ، أننا الآن نواجه حالة مكتملة ، فقد استشهد هؤلاء الرجال بأجمعهم في غالب الظن ، بينما يعبر شهود العيان في رواياتهم عن حالة في طريقها إلى الاكتمال ، فقد كان هؤلاء الرجال لا يزالون أحياء في الوقت الذي تحكي عنه الروايات ، ولنا أن نفترض أن بعضهم ، في بعض الروايات ، لم يرزق الشهادة.

* * *

إذا استبعدنا رواية المسعودي للاعتبارات التي ذكرناها عند عرض الرواية ، تبقى الروايات الثلاث الاخرى.

وهذه الروايات تشترك في أنها تستند إلى رواية شهود العيان الذين كانوا في ساحة المعركة ، ولكنها تختلف فيها بينها في تقدير عدد أصحاب الحسين فالتفاوت بين رواية أبي مخنف وبين رواية عمار الدهني يبلغ النصف تقريبا ، والتفاوت بين رواية عمار ورواية الحصين يبلغ الثلث تقريبا.

إلا أننا ، مع ذلك ، نميل إلى قبول الروايات الثلاث لاعتبارين :

٥١

الاول : أننا نستبعد كثيرا أن يدخل الكذب في هذه الروايات من حيث العدد ، مهما كانت مواقف المخبرين الذهنية والعاطفية من الثورة.

الثاني : أن هذه الروايات لا تعبر عن العدد في موقف واحد ، وباعتبار واحد للرجال لينفي بعضها بعضا ، وإنما تعبر عن العدد في موقفين ، وباعتبارين أو اعتبارات ثلاثة للرجال.

فرواية عمار الدهني عن أبي جعفر تعكس الموقف حين النزول في كربلاء في اليوم الثاني من المحرم ، وبين هذا التاريخ والتاريخ الذي تعبر عنه روايتا الحصين وأبي مخنف تسعة أيام حدثت فيها بعض التقلبات في عدد الرجال ، فقد تخلى بعضهم عن متابعة الصحبة ، وانضم آخرون إلى الاصحاب ، وذهب بعض إلى البصرة وغيرها برسائل من الحسين.

كما أن هذه الرواية (رواية عمار الدهني) ، فيما نقدر ، تعبر عن العدد الكلي للرجال الذين كانوا في هذا اليوم مع الحسين : موالي وعربا هاشميين ، وغير هاشميين بالاضافة إلى عنصر الخدم من الرقيق وغيره ممن لا يعدون في المحاربين ـ وهم موضوع بحثنا ـ ونقدر أنه كان مع الحسين عدد من هؤلاء تقضي طبيعة الامور بأن يكون موجودا.

نقول هذا مع التأكيد على إمكانية وجود خطأ محدود في التقدير نتيجة لاستناد الراوي في تقديره إلى الرؤية البصرية لا إلى الاحصاء.

ورواية الحصين بن عبد الرحمن تعكس الموقف في اليوم العاشر من المحرم قبيل نشوب القتال ، وتعبر عن عدد المحاربين ، هاشميين وعربا وموالي ، أي أن عنصر الخدم خارج عن نطاق الصورة التي تعكسها هذه الرواية. ونقدر أنهم كانوا يزيدون على المئة قليلا ، وليسوا قريبا من مئة

٥٢

كما تقول الرواية ، يحملنا على هذا التقدير إمكانية أن الرواية تعكس الموقف قبل تعبئة الحسين أصحابه وآله ميمنة وميسرة وقلبا ، وإن بعض الرجال كان لا يزال بعيدا عن بصر الراوي ، وأن الرواية يظن استنادا إلى رؤيته البصرية ولا يستند إلى الاحصاء ، كما نؤكد أن ثمة من شبان الهاشميين من استشهد فيما بعد ، ولم يكن ، في الوقت الذي تحكي عنه الرواية ، ظاهرا في الموقف عند الصباح ، بسبب صغر سنه.

ورواية أبي مخنف والروايات المواقفة لها تعكس الموقف بصراحة بعد التعبئة ، وهي ، في تقديرنا ، تعبر عن عدد أصحاب الحسين من المحاربين العرب غير الهاشميين ، فهي لا تشمل الهاشميين ولا الموالي ، ولا الخدم.

وثمة نص للمسعودي يحملنا على هذا الرأي بالنسبة إلى رواية أبي مخنف. فهو يقول : (.. وقتل معه (مع الحسين) من الانصار أربعة وباقي من قتل معه من أصحابه ـ على ما قدمنا من العدة ـ من سائر العرب) (١) ، وكان قد قال قبل ذلك عن عدة من قتل مع الحسين : (وكان جميع من قتل مع الحسين في يوم عاشوراء بكربلاء سبعة وثمانين منهم إبنه علي بن الحسين الاكبر) (٢). وإذن فلا بد أن يكون هذا العدد غير شامل للموالي ، فهو يقول عن غير الانصار إنهم من سائر العرب ونحن نعلم أنه قد استشهد من الموالي مع الحسين عدد كبير لم يدخلهم في عداد القتلى لاعتبارات تتصل بالعقلية العنصرية التي كانت سائدة بدرجات

___________________

(١) مروج الذهب : ٣ / ٧١.

(٢) نفس المصدر.

٥٣

متفاوتة عند الناس في ذلك الحين (١). وإذا اخرجنا الهاشميين من العدد الذي ذكره المسعودي للقتلى يبقى منهم عدد مقارب للعدد الذي ورد عند أبي مخنف ، وقلنا أنه لا يشمل الهاشميين ولا الموالي. هذا مع افتراض نسبة من الخطأ في التقدير تنشأ من الاعتماد على الرؤية ، وإن كانت النسبة المفترضة ضئيلة جدا لاعتبارين.

الاول : إن الراوي هو الضحاك بن عبد الله المشرقي ، أحد أصحاب الحسين ، فهو في مركز من يستطيع الوصول إلى أقصى دقة في التقدير.

الثاني : أن هذا التقدير يعكس الموقف في حالة التعبئة وحالة التعبئة في عدد محدود تعطي قدرة أكثر على التحديد.

إن العدد الذي تشتمل عليه هذه الرواية هو اثنان وسبعون فرسانا ورجاله ، والعدد الذي انتهى بنا البحث إليه في هذه الدراسة هو مئة تزيد قليلا أو تنقص قليلا فإذا أخرجنا منه عشرين رجلا من الموالي : عشرة من

___________________

(١) هذه العقلية تصورها نصوص شعرية كثيرة وحكايات حفلت بها كتب الادب العربي القديم ، ومن أدلها على هذه العقلية ما جرى مع سوار بن عبد الله بن قدامة قاضي البصرة وأميرهما لابي جعفر المنصور ـ فقد جاءه أعرابي من بني العنبر فقال : (إن أبي مات وتركني وأخا لي ـ وخط خطين في الارض ـ ثم قال : وهجينا ـ (أخ أمه أمة) وخط خطا ناحية ـ فكيف نقسم المال؟ فقال سوار : أها هنا وارث غيركم؟ قال : لا ، قال : المال بينكم أثلاثا ، فقال : لا أحسبك فهمت عني؟ أنه تركني وأخي وهجينا لنا ، فقال سوار : المال بينكم أثلاثا ، قال : فقال الاعرابي : يأخذ الهجين كما آخذ وكما يأخذ أخي! قال : أجل! فغضب الاعرابي. قال : ثم أقبل على سوار فقال : تعلم والله أنك قليل الخالات بالدهناء ..) المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد) : الكامل ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاته ـ مطبعة نهضة مصر / ج ٢ ص ٤٨ ـ إن الولادة من أمة نسخت صلة الاخوة هنا وإذا كانت القصة موضوعة فإنها تصور العقلية التي كانت سائدة في القرن الثاني الهجري ، ولذا فليس غريبا ألا يحسب الشهداء من الموالي في كربلاء في سنة ستين للهجرة.

٥٤

موالي الحسين ، وإثنان من موالي علي ، وثمانية آخرون يبقى ثمانية وسبعون رجلا من العرب غير الهاشميين ، هذا قبل أن يتحول الحر بن يزيد الرياحي ووعلى هذا فإن نسبة الخطأ في نتيجتنا أو في رواية أبي مخنف محدودة جدا. وهذا التفاوت مألوف في مثل هذه الحالات.

* * *

تبقي ـ بالنسبة إلى عدد أصحاب الحسين ـ بعض المسائل.

من هذه المسائل مسألة تنشأ من رواية نقلها السيد بن طاووس في مقتله المسمى (اللهوف على قتلى الطفوف) وهي :

(.. وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة (ليلة العاشر من المحرم) ولهم دوي كدوي النحل ، ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد ، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد إثنان وثلاثون رجلا) (١).

إننا نقف من هذه الرواية موقف الشك :

أولا : لان حدثا كهذا كان يجب أن يلفت نظر الرواة الآخرين ، فهو

___________________

(١) مقتل الحسين = اللهوف في قتل الطفوف : ... ، وذكرها المجلسي في بحار الانوار : ٤٤ / ٣٩٤ ، كما ذكر السيد الامين في أعيان الشيعة : ٤ / قسم أول / ١١٠ ، ونقدر أنه أخذها عن كتاب اللهوف أيضا أما ابن نما الحلي فقال في كتاب مثير الاحزان / ٣٨ : (فجاء إليهم جماعة من أصحاب عمر بن سعد) وذكر المرحوم السيد عبد الرازق المقرم توفي سنة ١٣٩١ ه‍ = ١٩٧٢ م) في كتابه الموسوم (مقتل الحسين الطبعة الرابعة ـ مطبعة الآداب ـ النجف / هامش صفحة ٢٦٠) أن الرواية موجودة أيضا في مصدرين آخرين هما : سير أعلام النبلاء للذهبي ج ٣ ص ٢١٠ ، ولم نتحقق من ذلك لعدم وجود الكتاب المذكور عندنا ، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٢١٠ ، ومن المؤكد أن المرحوم المقرم أخطأ في هذه النسبة إلى اليعقوبي لان هذا لم يذكر هذه الرواية في أي موضع من كتابه التاريخي.

٥٥

حدث شديد الاثارة في مثل الموقف الذي نبحثه ، ولهذا فقد كان لا بد أن ينقله رواة آخرون. إن عدم نقله عن رواة آخرين مباشرين يبعثنا على الشك في صدق الرواية.

وثانيا : إن هذا العدد (اثنان وثلاثون) عدد كبير جدا بالنسبة إلى أصحاب الحسين (ع) القليلين ، ولذا فقد كان يجب أن يظهر لهم أثر في حجم القوة الصغيرة التي كانت مع الحسين في صبيحة اليوم العاشر من المحرم ، على اعتبار أنهم انحازوا إلى معسكر الحسين في مساء اليوم التاسع ، مع أننا لا نجد لهم أي أثر في التقديرات التي نقلها الرواة.

لهذا وذاك نميل إلى استبعاد هذه الرواية من دائرة بحثنا في عدد أصحاب الحسين (ع) ، ونرجح أن الرواية ـ على تقدير صدقها ـ لا تعني ، كما يراد لها ، أن هؤلاء الرجال قد انحازوا إلى معسكر الحسين وقاتلوا معه ، وإنما تعني أن هؤلاء الرجال ـ نتيجة لصراع داخلي عنيف بين نداء الضمير الذي يدعوهم إلى الانحياز نحو الحسين والقتال معه ، وبين واقعهم النفسي المتخاذل الذي يدفع بهم إلى التمسك بالحياة الآمنة في ظل السلطة القائمة ـ قد (حيدوا) أنفسهم بالنسبة إلى المعركة ، فاعتزلوا معسكر السلطة ، ولم ينضووا إلى الثوار.

ويبدو أنه قد حدثت حالات كثيرة من هذا القبيل ، منها حالة مسروق ابن وائل الحضرمي الذي كان يطمح إلى أن يصيب رأس الحسين (فأصيب به منزلة عند عبيد الله بن زياد) ، ولكنه تخلى عن القتال وترك الجيش عندما رأى ماحل بابن حوزة عندما دعا عليه الحسين (ع) ، وقال

٥٦

لمحدثه : (لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا) (١).

وربما كان هؤلاء ـ على تقدير صدق الرواية ـ هم أولئك الرجال التافهون الذين قال الحصين بن عبد الرحمن عنهم أنهم كانوا وقوفا على التل يبكون ، ويقولون : (اللهم أنزل نصرك).

* * *

ومن المسائل المتصلة بعدد أصحاب الحسين مسألة الرؤوس وعددها :

تجمع الروايات على عدد شبه ثابت للرؤوس التي قطعت بعد نهاية المعركة ، وأرسلت إلى الكوفة ثم أرسلت إلى الشام ، فهذا العدد يتراوح بين سبعين رأسا وخمسة وسبعين رأسا.

فقد قال أبو مخنف في روايته عما حدث بعد قطع رأس الحسين عليه السلام ، عن قرة بن قيس التميمي ، وهو شاهد عيان من الجيش الاموي : (.. وقطف رؤوس الباقين ، فسرح باثنين وسبعين رأسا) (٢).

وقال الدينوري :

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٤٣١ ، ولاحظ الحوار بين أيوب بن مشرح الخيواني وبين أبي الوداك في الطبري : ٥ / ٤٣٧.

(٢) الطبري : ٥ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦ ، ومثير الاحزان : ص ٦٥ ، وفيه (نظفت) وكذا في اللهوف في قتلى الطفوف ، ص : ٦٠ والظاهر أن إحدى الكلمتين تصحيف عن الاخرى ، وربما تكونان معا تصحيفا عن (قطعت).

٥٧

(وحملت الرؤوس على أطراف الرماح وكانت اثنين وسبعين رأسا) (١).

وقال الشيخ المفيد :

(.. وسرح عمر بن سعد من يومه ذلك ، وهو يوم عاشوراء ، برأس الحسين (ع) مع خولى بن يزيد الاصبحي وحميد بن مسلم إلى عبيد الله بن زياد ، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فقطعت ، وكانوا اثنين وسبعين رأسا) (٢).

وروي المجلسي في البحار عن محمد بن أبي طالب الموسوي : (.. إن رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأسا) (٣).

هذا فيما يتعلق بقطع الرؤوس. وأما فيما يتصل بتوزيع الرؤوس على القبائل :

روى أبو مخنف :

(.. فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الاشعث ، وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن ، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا ، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس ، وجاءت مذحج

___________________

(١) الاخبار الطوال : ٢٥٩ ، وفي تعداد توزيع الرؤوس على القبائل ـ كما سيأتي ـ يبلغ العدد عند الدينوري خمسة وسبعين رأسا.

(٢) الارشاد : ٢٤٣.

(٣) بحار الانوار : ٤٥ / ٦٢ ، واللهوف : ٦٠.

٥٨

بسبعة أرؤس ، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس ، فذلك سبعون رأسا) (١).

ونلاحظ على أبي مخنف أنه قال في روايته الآنفة : (فسرح بإثنين وسبعين رأسا).

وروى الد ينوري.

(.. وحملت الرؤوس على أطراف الرماح ، وكانت اثنين وسبعين رأسا ، جاءت هوازن منها بإثنين وعشرين ، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا مع الحصين بن نمير ، وجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا مع قيس بن الاشعث ، وجاءت بنو أسد بستة رؤوس مع هلال بن الاعور ، وجاءت الازد بخمسة رؤوس مع عيهمة بن زهير ، وجاءت ثقيف بإثني عشر رأسا مع الوليد بن عمرو) (٢).

ونلاحظ على الدينوري أنه قال عن مجموع الرؤوس أنه اثنان وسبعون مع أن مجموع حصص القبائل كما ذكرها يبلغ خمسة وسبعين.

وروي محمد بن أبي طالب الموسوي.

(.. فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الاشعث ، وجاءت هوازن بإنثي عشر رأسا وصاحبهم شمر ، وجاءت بنو أسد بستة

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٤٦٨ ٤٦٧ ، وقد قبل ابن شهر اشوب هذه الرواية فيما يبدو ، لانه نقلها عن أبي مخنف في كتابه (المناقب : ٤ / ١١٢) ، دون أي اعتراض.

(٢) الاخبار الطوال : ٢٥٩.

٥٩

عشر رأسا ، وجاءت مذحج بسبعة رؤوس ، وجاءت سائر الناس بثلاثة عشر رأسا) (١).

ونلاحظ أن هذه الرواية تشتمل على أقل الاعداد في هذه المسألة فمجموع عدد الرؤوس فيها يبلغ واحدا وستين رأسا.

قد يقال بوجود دلالتين لعدد الرؤوس : إحداهما دلالته على عدد أصحاب الحسين ، وثانيتهما دلالته على عدد القتلى.

وإذا صح هذا فإنه ينقض نظريتنا في عدد أصحاب الحسين ، بل إنه ينقض كل الروايات الواردة في هذا الشأن ، فمن المعلوم أن الرؤوس كانت للهاشميين وغيرهم ، وعلى هذا ينبغي أن يكون عدد أصحاب الحسين من غير الهاشميين أقل من خمسين رجلا.

ولكننا لا نرى لعدد الرؤوس أية دلالة من هذه الجهة ، فإن قطع الرؤوس وحملها إلى الكوفة والشام إجراء إنتقامي ذو محتوى سياسي ، أو عمل سياسي ذو صفة إنتقامية ، وهو خاضع لاعتبار سياسي معين سنتناوله بالدرس في فصل آت إنشاء الله تعالى.

على أننا نلفت النظر إلى الاختلاف في عدد الرؤوس بين الروايات (٦١ أو ٧٠ أو ٧٢ أو ٧٥ أو ٧٨) وعند الراوي الواحد (أبو مخنف : ٧٢ و ٧٠) (الدينوري : ٧٢ و ٧٥).

ونلفت النظر أيضا إلى اختلاف الرواة في توزيع الرؤوس على القبائل.

___________________

(١) بحار الانوار : ٤٥ / ٦٢.

٦٠