أنصار الحسين

محمّد مهدي شمس الدين

أنصار الحسين

المؤلف:

محمّد مهدي شمس الدين


الموضوع : التراجم
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٨

ـ ١ ـ

من الابعاد التي لم تدرس في ثورة الحسين عليه السلام بعدها البشري ـ إذا صح التعبير ـ نعني بذلك ما يعود إلى رجالها الذين أججوا نارها ، واستشهدوا فيها ـ لا من حيث إخلاصهم لها ، وإيمانهم بها ، فقد صدقوا ذلك بالموت ـ بل من حيث انتماؤهم القبلي ، وعنصرهم البشري ، وموطنهم الجغرافي ، والحالة الاجتماعية ، والاعمار ، وغير ذلك مما يتصل بالوضع الشخصي لكل واحد منهم.

ويدخل في حقل هذه الدراسة أيضا أولئك الذين كانوا من رجال الثورة أو من جمهورها ، وفاتتهم لسبب أو لآخر فرصة المساهمة فيها حين نشبت دون أن يتبدل ولاؤهم لها.

إن دراسة هذا البعد من أبعاد الثورة الحسينية ضرورية لتحقيق هدفين :

٢١

الاول :

معرفة (الدرجة) التي بلغتها (الحالة الثورية) في المجتمع الاسلامي آنذاك ، وذلك من حيث العمق والاصالة ، ومن حيث الانتشار.

الثاني :

معرفة مدى مساهمة استشهاد رجال الثورة في كربلاء وغيرها في تأجيج نار الثورات التي تفجرت فيما بعد من حيث أن الانتماء القبلي أو الاقليمي المعين ـ مثلا ـ لهذا الثائر أو ذاك قد سبب أن تحدث شهادته تغييرا ما في ولاء بعض الرجال والجماعات للسلطة ، فنقلتهم إلى جو الثورة أو حيدت مواقفهم على الاقل.

وقد درسنا في كتابنا (ثورة الحسين : ظروفها الاجتماعية وآثارها الانسانية) تأثير الثورة الحسينية في تفجير ما تلاها من ثورات من حيث تأثير الثورة في ذهنية الامة بشكل عام كعنصر ثقافي جديد دخل في تصورات الامة ، ولم ندرس تأثير الثورة المباشر من خلال شخصيات رجالها ، وانتمائهم ، ومواقعهم في حياة مجتمعاتهم القبلية ومواطنهم الجغرافية.

إن هؤلاء الرجال ، حين يدرسون على هذا النحو ، سيكونون نوافذ نطل منها على مجتمعهم فنعرف الكثير من خفاياه مما لا تسعفنا النصوص المباشرة في معرفة شئ منه.

* * *

ولكن المادة الاساسية لهذه الدراسة تكاد أن تكون مفقودة. فإن الاخباريين والمؤرخين لم يعنوا برواية وتسجيل أسماء الرجال والنساء

٢٢

والجماعات ممن شارك في هذه الثورة بشكل أو بآخر. أو حاول أن يشارك فيها وحالت الظروف بينه وبين ذلك ـ وقبائلهم ومواطنهم الجغرافية ، وأعمارهم. ولا نكاد نعرف شيئا ذا قيمة عن الاوساط الاجتماعية التي خرج منها كثير من هؤلاء الثوار أو غالبيتهم.

نعاني هذا الفقر في المعلومات بالنسبة إلى غير الهاشميين من الشهداء ، أما الهاشميون فإن المؤرخين حفظوا لنا أسماء الشهداء منهم ، والمؤرخون يختلفون فيما بينهم في بعض الاسماء ، ولكن الامر بالنسبة إليهم ، على كل حال ، أفضل مما نواجهه بالنسبة إلى الشهداء من غير الهاشميين.

ربما يكون الوهج الساطع الذي يشع من شخصية الامام الحسين ، والظل الكبير الذي تتركه هذه الشخصية العظيمة في نفس الباحث مسؤولين إلى حد ما عن إهمال المؤرخين والاخباريين لتزويدنا بالمادة الاساسية لهذه الدراسة على نحو أفضل.

ولذا فإن محاولة تجميع المادة الاساسية لهذه الدراسة تواجه صعوبات جمة تنشأ من قلة المعلومات ، وتشتتها وغموضها أحيانا ، وتناقضها في أحيان أخرى. ولذا فلا بد من كلمة نقولها عن المصادر.

ـ ٢ ـ

إن المصادر التي من شأنها أن توفر مادة هذه الدراسة هي :

١ ـ كتب الرجال الموضوعة لمعرفة حال رواة الحديث من حيث وثاقتهم ودرجتها ، أو عدمها. وقد عني علماء الرجال بذكر هؤلاء الشهداء ، ربما بسبب ما يتمتعون به من مركز معنوي كبير في الذهنية

٢٣

الاسلامية نشأ نتيجة لشهادتهم في سبيل الحق ، وإلا فلم يرد لاكثرهم ذكر في سند أية رواية.

٢ ـ كتب التاريخ ، لما تشتمل عليه من ذكر بعض الشهداء على نحو مقصود ، بسبب ما يتمتع به المذكور من مركز خاص ، أو عرضا خلال حكاية حادث أو تصوير موقف من المواقف. كما أنها مصدر رئيسي للاحداث المتصلة بهؤلاء الشهداء وخصومهم.

٣ ـ كتب المقاتل ، وهي كتب وضعها علماء أو متأدبون من الشيعة الامامية ، وهي عادة مقصورة على رواية تاريخ الثورة الحسينية وملابساتها منذ بدايتها حتى النهاية.

٤ ـ كتب الادب القديمة ، وهي ذات قيمة ثانوية فيما يبدو ، على الاقل فيما يتعلق بهذه المرحلة من مراحل الدراسة.

* * *

من كتب الرجال سنعتمد على الكتب التالية :

١ ـ كتاب الرجال لمحمد بن عبد العزيز الكشي ـ توفي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ـ (منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات ـ كربلاء العراق / غير مؤرخة).

٢ ـ كتاب الرجال ـ لابي العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس النجاشي ـ توفي سنة ٤٠٥ ه‍ (مركز نشر كتاب ـ مطبعة مصطفوي ـ طهران / غير مؤرخة).

٣ ـ كتاب الرجال ـ للشيخ محمد بن الحسن الطوسي ـ توفي سنة

٢٤

٤٦٠ ه‍ تحقيق وتعليق السيد محمد صادق بحر العلوم ـ المطبعة الحيدرية ـ النجف : ١٣٨١ = ١٩٦١ م).

٤ ـ معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة لسيدنا الاستاذ السيد أبو القاسم الخوئي ، وهو من أحدث الكتب المؤلفة في الرجال ومن أكثرها شمولا ولدينا منه تسعة مجلدات. انتهى طبع الجزء التاسع منه في اليوم التاسع عشر من شهر ربيع الثاني عام ١٣٩٤ في مطبعة الآداب في النجف الاشرف.

* * *

ومن كتب التاريخ سنعتمد بشكل أساسي على محمد بن جرير الطبري في كتابه (تاريخ الرسل والملوك) ـ طبعة دار الكتب ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (الجزء الخامس المطبوع سنة ١٩٦٣ م) وقد آثرناه على غيره من الموسوعات لانه يتيح للباحث فرصة معرفة سند الرواية ، والتأكد من أنها رواية شاهد عيان ، كما يتيح للباحث فرصة المقارنة والترجيح لما يغلب فيه من نقل عدة روايات للحادث الواحد.

ولا شك أن الحاجة ستقضي بالرجوع إلى مصادر أخرى لمقارنة بعض المعلومات ، ولزيادة التوثيق. للمقارنة والتوثيق سنرجع إلى الكتب التالية :

١ ـ الاخبار الطوال لابي حنيفة الدينوري ـ توفي سنة ٢٨٢ ه‍ ـ تحقيق عبد المنعم عامر ـ سلسلة (تراثنا) نشر وزارة الثقافة والارشاد القومي ، سنة ١٩٦٠ م.

٢٥

٢ ـ تاريخ اليعقوبي ، لاحمد بن أبي يعقوب ، توفي سنة ٢٩٢ ه‍ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف سنة ١٣٨٤ ه‍ = ١٩٦٤ م

٣ ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر ، لابي الحسن علي بن الحسين المسعودي ، توفي سنة ٣٦٤ ه‍ ـ تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ـ مطبعة السعادة بمصر ـ الطبعة الثانية ، سنة ١٣٦٧ ه‍ = ١٩٤٨ م

وربما رجعنا في حالات نادرة إلى تاريخ ابن الاثير الجزري (الكامل في التاريخ) الجزء الثالث ، نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ الطبعة الثانية ، سنة ١٣٨٧ ه‍ = ١٩٦٧ م. كذلك ربما دعت الحاجة أثناء البحث إلى الاستعانة ببعض كتب الادب في شأن بعض الرجال أو الاحداث.

* * *

ومن كتب المقاتل سنعتمد على الكتب التالية :

١ ـ الارشاد ـ للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان المتوفي سنة ٤١٣ ه‍ ـ منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها في النجف الاشرف ، سنة ١٣٨١ ه‍ = ١٩٦٢ م.

٢ ـ مقتل الحسين ـ لابي المؤيد الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم المتوفي سنة ٥٦٨ ه‍ (الجزءان الاول والثاني) مطبعة الزهراء في النجف سنة ١٣٦٧ ه‍ = ١٩٤٨ م.

والخوارزمي يروي أخباره في هذا الكتاب غالبا من عن تاريخ ابن

٢٦

أعثم ، أبي محمد أحمد ، التوفي سنة ٣١٤ ه‍ ، وإذن فهي في مستوى روايات الطبري وأخباره تتسم بالموضوعية واللغة الدقيقة غالبا ، كما أنها ذات محتوى عاطفي معتدل.

٣ ـ مقاتل الطالبيين ـ لابي الفرج الاصفهاني ، علي بن الحسين بن محمد القرشي الاموي المرواني ، المتوفي سنة ٣٥٦ ه‍ ، شرح وتحقيق السيد أحمد صقر ـ القاهرة ـ دار إحياء الكتب العربية.

٤ ـ مناقب آل أبي طالب ـ لمحمد بن علي بن شهر اشوب السروي المازندراني المتوفي سنة ٥٨٨ ه‍ ، (الجزء الرابع) المطبعة العلمية ـ بقم ـ إيران غير مؤرخة.

٥ ـ مثير الاحزان ـ للشيخ نجم الدين محمد بن جعفر (ابن نما) الحلي المتوفي سنة ٦٤٥ ه‍ ـ منشورات المطبعة الحيدرية في النجف ـ ١٣٦٩ ه‍ = ١٩٥٠ م.

٦ ـ اللهوف في قتل الطفوف ـ لعلي بن موسى بن محمد بن طاووس ، المتوفي سنة ٦٦٤ ه‍ ـ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف / غير مؤرخة.

٧ ـ بحار الانوار ـ لشيخ الاسلام محمد باقر المجلسي ، توفي سنة ١١١١ ه‍ (الجزءان : ٤٤ ، ٤٥) من الطبعة الجديدة ـ المطبعة الاسلامية ١٣٨٥ منشورات المكتبة الاسلامية بطهران ـ إيران.

وقد اعتمدنا على هذا الكتاب لانه ينقل نصوص مؤلفين في المقاتل متقدمين عليه.

٢٧

٨ ـ زيارة للحسين عليه السلام منسوبة إلى الامام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام تشتمل على أسماء كثير من الشهداء من الهاشميين وغيرهم. رواها المجلسي في البحار. (ج ٤٥ ص ٦٥ ـ ٧٣) عن كتاب الاقبال للسيد ابن طاووس وذكر أنها صدرت ، سنة ٢٥٢ ه‍.

ونحن نشك في نسبتها إلى الامام الثاني عشر عليه السلام ، ولكنها مع ذلك نص تاريخي قديم يعتمد عليه من الناحية التاريخية ، وسنشير إليها في ثنايا البحث بكلمة (الزيارة).

١٠ ـ زيارة للحسين ذكر السيد ابن طاووس في كتابه (الاقبال) تضمنت زيارة للشهداء تشتمل على أسمائهم. وهي فيما يبدو من إنشاء السيد ابن طاووس وقد ذكرها المجلسي في بحار الانوار (ج ١٠١ ص) (٣٤١ ٣٤٠).

وسنشير إليها في ثنايا البحث بكلمة (الرجبية) لانها رويت ليزار بها الحسين والشهداء في أول يوم من شهر رجب. وهي أقل قيمة. كوثيقة تاريخية ـ من سابقتها لتأخير ابن طاووس عن عصر صدور الزيارة الاولى (توفي ابن طاووس سنة ٦٦٤ ه‍) فهي متأخرة عن الزيارة الاولى أربعة قرون أو أكثر. وهما مختلفتان في بعض الاسماء ، وسنثبت الزيارتين في آخر هذا الكتاب مع بيان موارد اختلافها ودراسة وافية عنهما.

١١ ـ أعيان الشيعة (الجزء الرابع ، القسم الاول) للسيد محسن الامين ـ الطبعة الثالثة ـ مطبعة الانصاف ، بيروت ، سنة ١٣٨٠ ه‍ ـ ١٩٦٠ م.

٢٨

وينبغي أن ننوه بأن السيد محسن الامين هو الوحيد من بين المؤلفين في الموضوع الذي استقصى أسماء الشهداء من الهاشميين وغيرهم ، وأثبت أسماءهم في الصفحات (١٣٥ ـ ١٣٨) من الجزء المذكور أعلاه ، وإن لم يسلم عمله ، في رأينا ، من مأخذ الوقوع في التصحيف ، كما ذكر أسماء بعض من لم يقتل في المعركة. وسنثبت في هذا البحث ما ذكره في أعيان الشيعة مع ملاحظاتنا عليه.

وثمة كتب أخرى في المقتل أطلعنا عليها من خلال كتاب (بحار الانوار) المذكور أعلاه.

ـ ٣ ـ

ولا بد لنا من أن نقول هنا كلمة عن كتب (المقتل).

نحن نرى أن أكثر هذه الكتب أجدر بأن يكون مرجعا في شأن الثورة الحسينية من كتب التاريخ العام.

فهي ـ من جهة ـ خاصة بحكاية وقائع هذه الثورة ، ولذا فهي أحفل من كتب التاريخ العام بالاحداث وتفاصيلها ، فإن كتب التاريخ العام تعطي ، غالبا ، أهمية متساوية لكل ما ترويه.

وهي ، من جهة ثانية ، من وضع رجال ينظرون إلى الثورة الحسينية بعاطفة الحب والتقديس ، وهي جزء نابض بالحياة من تاريخهم ، وهم يعتمدون في حكايتهم لاحداثها على مصادر ذات صلة حميمة بالثورة (أئمة أهل البيت ، الرجال والنساء الذين رافقوا الثورة منذ بدايتها حتى نهايتها في كربلا) هؤلاء الذين لم يتصل بهم رواة التاريخ العام الذين كانوا غالبا على اتصال وثيق بالسلطان يمنعهم من الاعتماد في رواياتهم

٢٩

على هؤلاء. أو كان على الاقل يدفعهم إلى الحذر في نقل صورة الاحداث كما يعكسها نساء الثوار وأبناؤهم وأصحابهم.

كما أن مؤلفي كتب التاريخ العام كانوا ، غالبا ، على اتصال بالسلطان ، أو أنهم يؤيدون وضعا سياسيا يتعارض مع مضمون الثورة ، وربما ينسجم بشكل أو بآخر مع وضع جلاديها ، فلم يكونوا ، بطبيعة الحال قادرين ، أولم يكونوا يريدون تسجيل الاحداث من وجهة نظر مصادر الثائرين أنفسهم ـ هذه المصادر قد اتصل بها رواة من الشيعة ، رجال ونساء ، كان تشيعهم حافزا لهم على تقصي كل تفصيل دقيق وكل حادث كبير يتصل بالثائرين وإنجازهم في كربلاء. على أننا نبادر ، مع ذلك ، فنقول إنه حتى هؤلاء لم ينقلوا كل ما حدث ، فلقد ضاع الكثير ، وطمس الكثير.

من نماذج ذلك رواية عمار الدهني (١) عن الامام الباقر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ، وقد أوردها الطبري. فهي رواية نعتقد أن عمارا أو من بعده من الرواة قد تلاعبوا فيها ، فأضافوا إليها بعض الافكار التي ترضي السلطة (مثلا : أن الحسين طلب اثناء مفاوضته مع عمربن سعد أن يرسله إلى يزيد بن معاوية يضع يده في يده ويرى فيه رأيه) وحذفوا منها ، واختصروا بعض المعالم الرئيسة فيها ، كما لا يبعد أن يكون الطبري نفسه قد تسامح في إثبات بعض أجزائها (٢).

___________________

(١) عمار بن خباب. أبو معاوية ، الدهني البجلي ، الكوفي. عده الشيخ في الرجال من أصحاب الامام الصادق وذكره في الفهرست (المطبعة الحيدرية ـ النجف / الطبعة الثانية) ص ١٤٤ ، وقال : (له كتاب ذكره ابن النديم) وصفه ابن حجر في التقريب بأنه صدوق يتشيع ، توفي سنة : ١٣٣ ه‍.

(٢) تتسم الرواية بالتدفق والحركة وقصر الجمل ، تختزل كثيرا من المواقف الهامة. وقد اثبتها =

٣٠

لهذا وذاك نعتبر كتب المقتل أجدر من كتب التاريخ العام بالاعتماد عليها فيما يتصل بالتاريخ الشخصي للثوار ، بل إنها ـ لهذا وذاك أيضا ـ أجدر من كتب التاريخ العام بالاعتماد عليها فيما يتصل بتاريخ الثورة نفسه.

نقول هذا معترفين بأن ثمة مأخذا على كثير من كتب المقتل فيما يتصل بالاحداث ، فإن الحماس والحب قد يدفعان في بعض الحالات إلى تدوين أخبار معينة دون أن تنال حظها من التحقيق ، وربما يكون بعض هذه الاخبار مجرد استنتاجات وآراء شخصية كونها لنفسه بعض الرواة والمؤلفين ، فجاء كاتب متأخر عنه اعتبرها تاريخا وأثبتها على أنها أحداث واقعة. كما أن بعض كتاب المقتل في بعض الحالات يعمم رؤيته للموقف فيعبر عنها باطلاق أوصاف معينة على رجال الثورة أو أعدائها ، ويعبر عن مجموع الموقف بعبارات عاطفية. وأكثر ما توجد هذه الظاهرة في كتب المتأخرين من مؤلفي المقتل.

ومهما يكن فإن على الباحث أن يلتزم الاسلوب العلمي الصارم في النقد والاختيار.

ولكن العدل يقتضينا أن نقول إن المصادر التاريخية الاخرى ـ غير

___________________

(١) الطبري في تاريخه في ثلاث قطع (٥ /) ومن الغريب أن ابن نما الحلي اعتمد في مقتله (مثير الاحزان) على هذه الرواية وأثبت منها الفقرة التي فيها أن الحسين طلب أن يمضي إلى يزيد يرى فيه رأيه (مثير الاحزان ، ص ٣٦) مع أن طبيعة الاشياء تكفي لتكذيب صدور هذا العرض من الحسين ، هذا بالاضافة إلى نص نقله المؤرخون ، ومنهم الطبري ، عن عقبة بن سمعان ـ وهو شاهد عيان في موقع يتيح له الاطلاع التام على حقيقة الاحداث ، فقد كان مولى للرباب زوجة الحسين ـ يكذب فيه هذه الاشاعة التي نرجح أنها من دس الامويين والعباسيين ليشوهوا صورة الحسين الناصعة في الذهنية الاسلامية (الطبري / ٥).

٣١

كتب المقتل ـ مما كتبه مؤلفون من غير الشيعة عن تاريخ هذه الثورة لا تسلم من مآخذ كبيرة أيضا.

ففيما يتعلق برجال الثورة نلاحظ أن الاخباريين والمؤلفين لم يظهروا عناية خاصة بهم ، ولم يذكروا لنا واحدا منهم عن قصد لذكره ، وإنما ذكروا أولئك الذين تمر أسماؤهم عرضا في سياق الاخبار التي ينقلونها.

وفيما يتعلق بأحداث الثورة. نلاحظ أنهم في كثير من الحالات لا يحرصون على الدقة والتفصيل فيما ينقلون من أحداثها (نستثني من ذلك أبا مخنف). وقد يقال : إنهم عاملوها كغيرها من أحداث تلك الفترة ، ولعل هذا القول صحيح ، ولكنهم كانوا يعلمون ويحسون أن هذه الثورة ليست كغيرها من أحداث تلك الفترة ، فقد كانت مؤشرا كبيرا لتغير كبير في حياة المسلمين ، وقد وضعتهم على منعطف جديد تماما في حياتهم. وكان على هؤلاء المؤرخين ـ لهذا السبب ـ أن يحتفلوا لروايتها أكثر من غيرها ، وأن لا يفوتهم تسجيل كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد.

على أننا لا نستطيع أن نقبل القول بأنهم عاملوها كغيرها أحداث التاريخ ، بل نرى أنهم عاملوها بدرجة أقل من العناية ، متأثرين بالاتجاه السياسي الذي كان لا يشجع على رواية أحداثها ، بل يحرص على طمس تلك الاحداث ، لئلا تتفاعل في المجتمع وتؤدي إلى تغيير بعض المواقف السياسية.

وهذا الامر فيما يتصل بالامويين واضح ، ونرى أنه كذلك فيما يتصل بالعباسيين.

فإن هؤلاء وإن كانوا يعتبرون الثورة إحدى إنجازاتهم التاريخية

٣٢

باعتبارهم هاشميين (يلاحظ أنه لم يشترك فيها أحد من بني العباس) ، وهم يعلمون أنهم مدينون للثورة بالكثير من الاوضاع والعوامل التي أوصلتهم إلى السلطة ، بل لقد كانت روحها وشعاراتها وذكرياتها من العوامل المباشرة في ذلك. مع هذا كله نرى أنهم كانوا يقفون منها موقفا سلبيا ، لانهم كانوا يعلمون أن ذكرياتها وايحاءاتها يمكن أن تكون خطرا عليهم من حيث نظرة الناس إلى شرعية توليهم للسلطة ، وذلك بما تدعو إليه من إعطاء السلطة لآل علي من بني هاشم ، وتتضح أسباب حذر العباسيين من الثورة الحسينية بصورة أكثر إذا لا حظنا أن تحركات الحسنيين الثورية لم تنقطع بعد استقرار دولة بني العباس.

* * *

كان لابد من هذه الكلمة عن كتب المقتل ، ليتبين الوضع الحقيقي لهذه الكتب من حيث صلاحها لتكون مصادر تاريخية لهذه الثورة. وهي كلمة لا تفي بما يجب أن تناله هذه الكتب عناية ، فكتب المقتل تصلح أن تكون موضوعا لدراسة علمية واسعة وعميقة تشتمل على تاريخ نشوء هذا النوع من كتابة التاريخ ، وتطوره ، ومنهجه ، ومحتوياته ، ونوعيات المؤلفين ، والاسلوب الذي كتب به ، وتطور هذا الاسلوب خلال العصور ، وعلاقة هذا الاسلوب بلغة الكتابة في المجالات الاخرى ، واللغات التي كتبت بها (العربية ، والفارسية ، والتركية ، والاردية ، وغيرها) والمحتوى الشعري لهذه الكتب التي بدأت ـ فيما نحسب ـ بأبي مخنف ولم تنته بعد ، فالكتابة في مقتل الحسين كانت ولا تزال موضوعا يثير الرغبة لدى الكثيرين ، ولذا فإن الدارس لهذا الموضوع سيجد مادة غنية وغزيرة ومتنوعة لبحثه ممتدة في جميع العصور الاسلامية ومنتشرة في

٣٣

جميع الاوساط والمجتمعات الاسلامية منذ القرن الهجري الاول إلى عصرنا هذا في نهاية القرن الرابع عشر الهجري.

ولن تكون دراسة كهذه مقصورة على الكتب المؤلفة في مقتل الحسين ، وإن كانت الكتب المؤلفة في هذا الموضوع أكثرها عددا وأشدها تنوعا ، بل إنها تتسع لتشمل مؤلفات أخرى ، فثمة مؤلفون كثيرون كتبوا في (مقتل علي) (مقتل زيد) (مقتل عثمان) (مقتل حجر ابن عدي) ، وغير ذلك ، ويجد الباحث أسماء عشرات من كتب المقتل في موضوعات مختلفة. وربما كانت هذه الكتابات ، إلى جانب الحديث والسيرة ، إحدى المراحل الهامة التي تطورت إليها كتابة التاريخ العام عند المسلمين.

٣٤

القسم الاول

الرجال

كم هم؟ ومن هم؟

٣٥
٣٦

مقدمة

كان قد اجتمع إلى الحسين (مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه) (١).

وحدد الخوارزمي عدد هؤلاء يوم خرج الحسين من مكة :

(.. وفصل من مكة يوم الثلاثاء ، يوم التروية ، لثمان مضين من ذي الحجة ومعه إثنان وثمانون رجلا من شيعته ، ومواليه ، وأهل بيته) (٢).

وربما لا يكون هذا التقدير الذي ذكره الخوارزمي عمن رواه دقيقا.

___________________

(١) الشيخ المفيد ، الارشاد : ٢١٨.

(٢) الخوارزمي ، مقتل الحسين : ١ / ٢٢٠. ذكر بعضهم هذا العدد عن الخوارزمي على أنه أحد الاقوال في عدد أصحاب الحسين في كربلاء. ونلاحظ أن هذا العدد هو لمن صحب الحسين عند خروجه من مكة ، وليس من المؤكد أنه بقي ثابتا إلى اليوم العاشر من المحرم. وذكر المجلسي (بحار الانوار : ٤٤ / ٣١٣) نقلا عن أمالي الصدوق أن الحسين (سار في أحد وعشرين من أصحابه وأهل بيته) ولا يمكن أن نقبل هذه الرواية. لان طبيعة الاشياء تقضي برفضها ، ولان من الثابت أن عدد بني هاشم وحدهم يبلغ هذا المقدار أو يتجاوزه.

٣٧

ونحن على أي حال لا نملك تقديرا صحيحا لعدد كل فئة من شيعته ، ومواليه ، عند خروجه من مكة.

وقال أبو مخنف :

(.. لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيد ، فقالوا له : انصرف أين تذهب! فأبى عليهم ومضى ، وتدافع الفريقان ، فاضطربوا بالسياط ، ثم إن الحسين وأصحابه امتنعوا امتناعا قويا ، ومضى الحسين عليه السلام على وجهه) (١).

وقال الدينوري :

(.. ولما خرج الحسين اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند ، فقال : إن الامير يأمرك بالانصراف ، فانصرف ، وإلا منعتك ، فامتنع الحسين ، وتدافع الفريقان ، واضطربوا بالسياط. وبلغ ذلك عمرو بن سعيد ، فخاف أن يتفاقم الامر ، فأرسل إلى صاحب شرطته يأمره بالانصراف) (٢).

وإذن ، فقد بذلت محاولة رسمية ، تتسم بالعنف ، للحيلولة بين الحسين وبين (الخروج) من مكة ، ولكنها باءت بالفشل (٣).

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٨٥.

(٢) الاخبار الطوال : ٢٤٤.

(٣) كلمة (خرج) لا تعني مجرد المغادرة ، لانها اكتسبت منذ انشقاق (الخوارج) على الامام علي في صفين مدلولا رافضا تمرديا ذا نكهة خاصة ، لم يكن محبوبا في العراق بوجه خاص ، وقد =

٣٨

قال أبو مخنف :

(كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة ، مقتل عبد الله بن بقطر ، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدري أنه قد أصيب ... فأتى ذلك الخبر حسينا وهو بزبالة ، فأخرج للناس كتابا فقرأ عليهم.

(بسم الله الرحمن الرحيم) : أما بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل ، وهاني بن عروة ، وعبد الله بن بقطر ، وقد خذلتنا شعيتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام).

(فتفرق الناس عنه تفرقا ، فأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة (١). وإنما فعل ذلك لنه ظن أنما اتبعه

___________________

حاول رجال النظام اسباغ هذا المفهوم على ثورة الحسين منذ بداية المواجهة ، فعبيد الله بن زياد ـ على سبيل المثال ـ في أول خطبة خطبها في الكوفة ، بعد وصوله إليها من البصرة ، يطلب إلى موظفي الادارة الحكومية في الكوفة أن يكتبوا له من في عشائرهم ، من الحرورية وأهل الريب (الطبري : ٥ / ٣٥٩) والحرورية ـ كما نعلم إسم ثان للخوارج أطلق عليهم منذ معركة حروراء. ويقول ابن زياد لهاني بن عروة بعد القبض عليه وضربه ، حين أراد أن يستولي على سلاح أحد الشرطة ليدافع عن نفسه : (أحروري سائر اليوم ، أحللت بنفسك ، قد حل لنا قتلك ـ الطبري : ٥ / ٣٦٧).

وقد عرض العلامة الدكتور أسعد علي معنى للخروج في محاضرة ألقاها في قاعه الجمعية الخيرية الثقافية في الشياح بمناسبة عاشوراء وذلك مساء يوم الاثنين ـ ٢٠ / ١ / ١٩٧٥ ، وذلك عند الحديث عن كتاب الامام الحسين إلى أخيه محمد بن الحنفية ، وفيه (إني لم أخرج أشرا ، ولا بطرا .. وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي ..) قال الدكتور أسعد علي في محاضرته : (فالخروج يعني تجاوز القول إلى الفعل ، عبر عن هذا التجاوز التنفيذي بفعل وصل فيه فاعله ، وبصيغة التقرير الذي يؤكد ما حصل فعلا : (خرجت)).

(١) في رواية الطبري عن أبي مخنف : (من المدينة) ونرجح أن هذا خطأ ، فأثبتنا نص ابن الاثير : ٣ / ٢٧٨.

٣٩

الاعراب لانهم ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون علام يقدمون ، وقد علم أنهم إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه) (١).

وقال الدينوري :

(وقد كان صحبه قوم من منازل الطريق فلما سمعوا خبر مسلم ، وقد كانوا ظنوا أنه يقدم على أنصار وعضد ، تفرقوا عنه ، ولم يبق معه إلا خاصته) (٢).

وإذن فقد بقي رجال الثورة الحقيقيون وحدهم بعد أن انجلى الموقف وتبين المصير.

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٩٩ ٣٩٨ ، وابن الاثير : ٣ / ٢٧٨.

(٢) الاخبار الطوال : ٢٤٨. ويبدو أنه قد كان يسود في تلك الايام ، حتى في أوساط الخاصة من الناس ، الاعتقاد بأن أمر الخلافة سيصير إلى العلويين أو ـ إلى الهاشميين بوجه عام ، ففي حديث لبطة بن الفرزدق الشاعر أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال له حين أخبره لبطة بلقائه للحسين حين خروجه من مكة : (ويلك ، فهلا اتبعته ، فوالله ليملكن ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه. قال (لبطة). فهممت والله أن الحق به ، ووقع في قلبي مقالته ، ثم ذكرت الانبياء وقتلهم فصدني ذلك عن اللحاق بهم. قال : وكان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الامر وينتظرونه في كل يوم وليلة. قال : وكان عبد الله بن عمرو يقول : لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يظهر هذا الامر ـ الطبري : ٥ / ٣٨٧ ٣٨٦). نلاحظ أن داعي الاتباع هو الامل في أن يملك الحسين. ولعل كثيرين من هؤلاء الذين اتبعوه من الاعراب قد تأثروا في اتباعهم له بهذا الاعتقاد : أنه لا بد أن يملك ، وأنه (لا يجوز السلاح فيه وفي أصحابه) فلما اكتشفوا ـ نتيجة لمقتل من أخبر الحسين بأنهم قتلوا ـ أن السلاح يجوز في أصحابه ، تفرقوا عنه.

وهذا الخبر مروي في مقتل الخوارزمي (١ / ٢٢٢) بصورة أخرى ، وفيه : (أما أنه لا يحيك فيه السلاح).

ونعتقد أنه قد سقطت من الخبر في الروايتين بعض الحلقات الهامة التي تصور بعض الاعتقادات الشعبية في ذلك الحين ، وتأثير العامل السحري في مواقف الناس.

وقد عاش لبطة ابن الفرزدق حتى خرج علي أبي جعفر لمنصور مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن (قتيل باخمرى) وجعله ابراهيم من قواده ، وقد قتل بعد مقتل إبراهيم ـ مقاتل الطالبيين : ٣٦٩.

٤٠