أنصار الحسين

محمّد مهدي شمس الدين

أنصار الحسين

المؤلف:

محمّد مهدي شمس الدين


الموضوع : التراجم
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٨

فالشاعر في رثائه للحسين يذكر قيسا (قيس عيلان بن مضر) ويذكر غنيا (من غطفان ، من قيس عيلان) ويحملهما مسئولية مقتل الحسين ، ويهدد بالانتقام.

* * *

لقد كان ثوار كربلاء جمهورا صغيرا ، بجناحيه من عرب الجنوب وعرب الشمال ، ولكنه كان يمثل النخبة ، فيجب أن نلاحظ أن كثيرا من الثائرين لا يمثلون ـ عدديا ـ أشخاصهم ، أو أسرهم ، وإنما يمثلون ، فيما وراء ذلك ، جماعات كبرى من القبائل.

ولان الثوار يمثلون النخبة فقد كانوا قادرين على السيطرة على الموقف لو قدر للثورة أن تنتصر وتمكنوا من الاستيلاء على الحكم ، وكانوا قادرين ـ إذا لم يتح لهم النصر ـ كما حدث في الواقع ـ أن يفجروا طوفانا من الغضب ضد الحكم المنحرف في قلوب جماهير غفيرة الناس ، وأن يضعوهم على طريق الوعي الحقيقي ، وأن يجعلوا منهم جمهورا يغذي الثورات باستمرار ، وهذا ما حدث في الواقع.

نقدر أن رجال النظام الاموي قد اكتشفوا هذه الحقيقة ، وقرروا أن يواجهوها.

وهذا هو ما يفسر لنا الاسلوب الذي اتبعوه في معالجة الثورة وسحقها بشكل وحشي لا تدعو إليه ضرورة عسكرية ، ولا تقضي به ضرورة الامن.

فقد اتبعت طريقة شاذة وغير مألوفة في قتل عدد من شخصيات الثائرين في الكوفة.

٢٠١

فقد ضربت عنق مسلم بن عقيل ، ثم رمي به من أعلى القصر إلى الارض فتكسرت عظامه ، وضربت عنق هاني بن عروة في السوق بعد أن شد كتافا ، ثم جرا بأرجلهما في سوق الكوفة (١).

وعبد الله بن بقطر رمي به من أعلى القصر فتكسرت عظامه ، وبقي به رمق فذبح (٢).

وقيس بن مسهر الصيداوي أمر عبيد الله بن زياد أن يرمى به من فوق القصر ، فرمي به ، فتقطع فمات (٣).

وفيما بعد ، اتبعت طريقة السحق الوحشي الذي لا يبقى ولا يذر بالنسبة إلى جماعة الثوار الصغيرة في كربلاء. فمع أن العدد محدود للغاية حشد له من القوة العسكرية عدد كبير جدا (٤) ووضع العراق كله في حالة تأهب قصوى ، وحكم العراق كله حكما عرفيا. لقد أرادت السلطة أن تحترز من وقوع أي خطأ يجعل أحدا من هذه العناصر القيادية الخطرة يتسرب من قبضتها.

ثم كانت إجراءات قمع الثورة وسحقها تشتمل على تصرفات شاذة لا

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩ و ٣٩٧ : (... فرأيتهما يجران بأرجلهما في السوق).

(٢) الطبري : ٥ / ٣٩٨.

(٣) الطبري : ٥ / ٣٩٥.

(٤) نعتقد أن عدد الجيش الاموي في كربلاء يتجاوز الاربعة آلاف ، وهو العدد الذي يبدو مقبولا لدى المؤرخين. فقد ورد على لسان الطرماح بن عدي في كلامه مع الحسين حين لقي الحسين في عذيب الهجانات ، قوله : (... وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة اليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه ، فسألت عنهم ، فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ، ثم يسرحون إلى الحسين ... الطبري : ٥ / ٤٠٦) وتذكر كتب المقتل عدة روايات في عدد أفراد الجيش الاموي ، أقر بها إلى تمثيل الحقيقة في نظرنا أن العدد يتراوح بين عشرين وثلاثين ألفا.

٢٠٢

تقضي بها أية ضرورة عسكرية. لقد حوصر الثائرون ، وحيل بينهم وبين أن تصل إليهم أية معونة ، وعذبوا مع أطفالهم ونسائهم وحيواناتهم بالعطش ، ثم قتلوا ، ثم رضت أجسادهم بحوافر الخيل ، ثم قطعت رؤوس العناصر البارزة في المجتمع الاسلامي من الثوار ، ثم سبيت نساؤهم ، والهاشميات منهم بوجه خاص.

لماذا كل هذه الوحشية التي لا لزوم لها على الاطلاق؟

لقد أرادت السلطة أن تجعل هؤلاء الثائرين عبرة لغيرهم ، وأرادت أن تحدث تأثيرا نفسيا محطما في العناصر (الشاذة) في القبائل ، لقد أرادت أنت تحطم المناعة النفسية في البؤر الثورية في كل العرب ، في عرب اليمن ـ وهم الذين كبرت على السلطة ثورتهم وهم المقربون من الدولة وأهل السلطان ـ وفي عرب الشمال.

إن الثائين لم يتصرفوا بروح قبيلة ، ولا بعقلية قبلية ، لقد تصرفوا بوحي من عقيدتهم الاسلامية ، وبذلك أفلتوا من الطوق الذي تستطيع السلطة أن تقودهم به. ربما لم يكن في نية السلطة أن تقسو إلى هذا الحد الوحشي (هذا إذا صدقنا بعض الروايات التي تتحدث عن أن عبيد الله بن زياد قبل ، لبعض الوقت ، أن يفك الحصار ، ويسمح للحسين وصحبه بالتوجه إلى بعض البلاد ، ويعود الامر شورى بين المسلمين وهي روايات نشك في صحتها).

لقد تصرفت السلطة مع الثوار بوحشية تضرب بها الامثال ، فقد اكتشفت أن الثورة اجتذبت بسهولة عناصر قيادية كان يجب أن تكون موالية (زهير بن القين البجلى ، وأمثاله) ، لانها من قمة الهرم الاجتماعي ، من

٢٠٣

((الاشراف) رؤساء القبائل ، وأحس الزعماء القبليون التقليديون أن سلطانهم على قبائلهم سيذهب إذا تعاظم هذا التيار وكتب له النصر ، فتعاونوا مع السلطة بإخلاص كبير ، وحماس شديد ، حفظا لمصالحهم في السلطان والزعامة.

إن الاسلوب الذي اتبعته السلطة مع الثوار لم تدع إليه ضرورة عسكرية ، لقد كان عملا سياسيا يراد منه جعل الثائرين عبرة لغيرهم ، وهو يشبع ـ في الوقت نفسه ـ روح الانتقام والحقد.

٢٠٤

هاشميون طالبيون وعباسيون

لقد فجر الثورة الهاشميون ما في ذلك شك ، ولكن أي الهاشميين فجرها؟

إن وقودها من بني هاشم كان من الطالبيين : من أبناء علي بن أبي طالب ، وجعفر بن أبي طالب ، وعقيل بن أبي طالب. أما العباسيون ، أبناء العباس بن عبد المطلب ، فلم يشترك منهم فيها أحد ، ولا يذكر في أحداثها ، منذ بدأت إلى نهايتها في كربلاء ، أحد من بني العباس ، سوى عبد الله بن عباس حين نصح للحسين بأن لا يخرج إلى العراق ، ثم كلامه ، بعد خروج الحسين ، مع عبد الله بن الزبير ، هذا الكلام الذي ربما يوحي بأن عبد الله بن عباس كان مغيظا ـ لا لان الحسين خرج إلى مصير مفجع ، وإنما لانه ، في مكة ، كان بؤرة الاهتمام من المسلمين ، فكان وجوده حائلا دون ظهور سواه في الحجاز ، فلما خرج خلا الجو لعبد الله بن الزبير (١).

___________________

(١) (... ثم خرج ابن عباس من عنده (الحسين) فمر بعبد الله بن الزبير ، فقال : قرت عينك يا ابن الزبير ، ثم =

٢٠٥

وبعد انتهاء الثورة لا يرد أي ذكر ، أو لا يرد ذكر ذو أهمية ، لاحد من ولد العباس في التعليق على أحداث الثورة وشجبها.

وبعد الثورة قامت ضد النظام الاموي ثورات أشعلت الارض في العراق والحجاز وإيران قادها الهاشميون ، وكانوا دائما طالبيين ، ولم يكن فيه عباسي واحد على الاطلاق.

كان العباسيون ينعمون بجوائز الخلفاء ، وترف العيش ، ويحترق الطالبيون بنار الثورات.

ومع كثرة ما قام به الطالبيون وغيرهم من ثورات دامية فإنهم لم يفلحوا في أن يستولوا على السلطة الكاملة من الامويين ، وأفلح في ذلك العباسيون؟

لماذا؟

يبدو لنا أن العباسيين قرروا أن يعملوا لحسابهم الخاص في وقت مبكر ، ولم تكن علاقتهم بالعلويين منذ البداية إلا علاقة شكلية وانتهازية (١). وقد رفضوا ، لذلك ، باستمرار منذ ثورة الحسين ، أن يساهموا بأي جهد يخدم العلويين في الوصول إلى السلطة ، مستفيدين في الوقت نفسه شعبية من كونهم هاشميين مضطهدين من قبل النظام ، مستفيدين من النظام من كونهم هاشميين لم يشاركوا أبناء عمهم في الثورة

___________________

= قال : يالك من قبرة بمعمر. خلا لك الجو فبيضي واصفري وانقري ما شئت أن تنقري.

هذا حسين يخرج إلى العراق ، وعليك بالحجاز) الطبري : ٥ / ٣٨٤.

(١) نذكر هنا استيلاء عبد الله بن عباس على بيت مال البصرة حين كان واليا عليها من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ونذكر انحياز أخيه عبيد الله بن عباس إلى معسكر معاوية استجابة لاغرائه ، وتركه للامام الحسن بن علي مع أنه كان أحد كبار قادته.

٢٠٦

عليه ، موفرين قوتهم ليستخدموها لحسابهم الخاص.

وقد أفلح العباسيون أخيرا في الاستيلاء على السلطة مستغلين عاملين :

الاول :

أنهم كما ذكرنا استفادوا نفوذا شعبيا من كل الثورات التي قام بها الطالبيون وغيرهم ، وحين تحركوا للدعوة إلى أنفسهم لم يفصح دعاتهم عن هوية المدعو إليه ، وإنما كانت الدعوة إلى الرضا من آل محمد ، وكان الناس يفهمون من هذا التعبير العام أن المدعو إليه رجل علوي لما يتمتع به العلويون من حضور قوي في الذهنية العامة. وكان الدعاة والخواص وحدهم يعرفون الهوية العباسية للمدعو إليه ، وحين جاء الوقت المناسب أعلنوا ما يقال من عهد أبي هاشم بن محمد بن علي بن أبي طالب إلى علي بن عبد الله بن عباس ، وتحويله حقه في السلطة إلى علي هذا (١).

___________________

(١) الرواية الشائعة تاريخيا هي كما يلي : إن الفرقة الكيسانية كانت تعتقد بإمامة محمد بن الامام علي بن أبي طالب (المعروف بابن الحنفية) وأن ولاء الكيسانية انتقل ، بعد وفاة محمد بن الحنفية ، إلى إبنه أبي هاشم عبد الله بن محمد ، وأن أبا هاشم كان فصيحا ، يتمتع بقدرة كبيرة على الاقناع ، فاستدعاه سليمان بن عبد الملك إلى دمشق (أو أن أبا هاشم وفد عليه) فأكرمه وأحسن إليه ، ولكنه عزم على قتله لما أن خافه ، فدس إليه من سمه وهو في طريقه إلى إقليم الشراة سنة ١٨ ه‍.

ولما أحس أبو هاشم بالموت عرج إلى الحميمة (وهي قرية على مقرية على مقربة من العقبة) حيث كان يقيم على بن عبد الله بن عباس وإبنه محمد ، فأوصى إلى علي هدا وإلى اولاده بحقه في الامامة ، وكشف لهم إسم داعي الدعاة (رئيس الدعاة) في الكوفة ، ومن يليه من الدعاة في سائر الاقطار ، وسلمهم كتبا يقدمونها إلى هؤلاء الدعاة. وقد تم هذا في سنة ٩٩ ه‍.

وبذلك انتقل الحق في الخلافة من العلويين إلى العباسين ، وانتقل ولاء الكيسانية إلى هؤلاء أيضا وقد اضطلح بأعباء الدعوة بعد وفاة علي بن عبد الله ابنه محمد بن علي العباسي الذي توفي سنة ١٢٥ ـ وفى عهده دخل أبو مسلم الخراساني في رجال الدعوة. وقد خلف محمد بن علي بن =

٢٠٧

الثاني :

إن العباسيين أباحوا لانفسهم التعاون مع العناصر التي لم يجوز العلويون لانفسهم التعامل معها وهي عناصر الفرق المنحرفة عن الاسلام ، والفرق الايرانية المشكوك في سلامة إسلامها. لقد كان العلويون يتعاونون غالبا مع العناصر العربية والايرانية ذات الاسلام الصافي ، وكانت مواقفهم ضد الجماعات المشكوك في سلامة إسلامها صلبة وواضحة ومبدئية ، الامر الذي حمل هذه الجماعات على أن تلتمس حلفاء آخرين ، وجدتهم في العباسيين.

وهنا يتضح لنا لماذا كان موقف أئمة أهل البيت عليهم السلام منذ الامام زين العابدين علي بن الحسين موقفا سلبيا غالبا من الحركات الثورية التي كان يقوم بها الحسنيون والحسينيون.

ويتضح لنا لماذا رفض الامام أبو عبد الله جعفر الصادق عرض أبي

___________________

= عبد الله العباسي ابنه إبراهيم المعروف بالامام وهو الذي جعل أبا مسلم قائدا للدعوة في خراسان. وقد قبض مروان بن محمد (الحمار) على إبراهيم في الحميمة وسجنه في حران وتوفي سجينا. وكان قد عهد إلى أخيه ـ حين علم بمصيره ـ أبي العباس السفاح بالامامة وأمره بالرحيل مع أهله إلى الكوفة فذهبوا إليها حيث تلقاهم رئيس الدعاة أبو سلمة الخلال ، وأنزلهم في منزل سري ، إلى أن أعلنت الدولة العباسية في ١٢ ربيع الاول سنة ١٣٢ ه‍ ببيعة أبي العباس السفاح.

هذه الرواية موضع شك عندنا ، فهي تثير أسئله لا يمكن الاجابة عليها ، ابتداء بطبيعة العلاقة بين محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم من جهة وبين الفرقة الكيسانية من جهة أخرى ، والغريب أن هذه الفرقة تفقد دورها الكبير في سير الاحداث بمجرد انجاز ما يدعى من تنازل أبي هاشم. ولماذا لم يعهد أبو هاشم بأمره إلى أحد من أبناء علي ، وما هي الاثباتات التي تجعل دعوى العباسيين لهذا التنازل موضع ثقة؟.

٢٠٨

سلمة الخلال كبير الدعاة العباسيين (١) ، أن يسلمه السلطة بعد أن نضجت الدعوة ضد الامويين ، وأعلن أبو مسلم الخراساني ثورته في خراسان (٢)

___________________

(١) أبو سلمة الخلال (حفص بن سليمان) استخلفه بكير بن ماهان في رئاسة الدعاة في الكوفة وكتب إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بذلك ، فكتب محمد إلى أبي سلمة فولاه أمر الدعوة بعد موت بكير بن ماهان.

وكان أبو سلمة مولى لبني الحارث بن كعب ، وقد نشأ بالكوفة واتجر بالخل فلهذا لقب الخلال ، وكان يتمتع بقدرة على الاقناع ، وموهبة ادارية مكنتاه من النجاح في عمله السري ضد الامويين.

ولما قتل ابراهيم بن محمد (الامام) في سجنه في حران ، خاف أخواه (أبو جعفر (المنصور) وأبو العباس (السفاح)) على أنفسهما فخرجا من الحميمة هاربين إلى العراق ، ومعهما بعض رجالات العباسيين فقدموا الكوفة ، ونزلوا على أبي سلمة الخلال ، فأخفاهما في دار أحد رجال الشيعة في الكوفة.

وحين تمت البيعة لابي العباس السفاح (ولى أبا سلمة الداعي جميع ما وراء بابه ، وجعله وزيره ، وأسند إليه جميع أموره ، فكان يسمى وزير آل محمد ، فكان ينفذ الامور من غير مؤامرة) ولكن يبدو أن السفاح اكتشف تغير ميول أبي سلمة السياسية وميله إلى العلويين ، وقد حرضه على قتله أبو مسلم وأبو جعفر المنصور ، وموقف السفاح من قتله غامض ، إلا أنه لا شك في أن لبطانة السفاح يدا كبرى في تدبير قتله على يد أبي مسلم الذي أرسل مروان الضبي ، وكان أحد قواده ، وقال له : (انطلق إلى الكوفة ، فأخرج أبا سلمة من عند الامام أبي العباس ، فاضرب عنقه وانصرف من ساعتك) ففعل الضبي ذلك ، وقد فعل أبو مسلم ما فعله بناء على رغبة السفاح وخاصته ـ الاخبار الطوال : ٣٣٤ و ٣٥٨ ـ ٣٥٩ و ٣٧٠ ـ وغيره. والمسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٢٦٨ و ٢٨٤.

(٢) لا نعرف الدوافع التي حملت أبا سلمة الخلال على أن يحول ولاءه عن العباسيين إلى العلويين قبيل إعلان الدولة العباسية. فحين لجأ أبو جعفر وأبو العباس إلى الكوفة أنزلهما أبو سلمة في دار الوليد بن سعد ووكل بهما مساورا القصاب ويقطينا الابزاري وكانا من كبار الشيعة (شيعة العباسيين؟؟) وعزلهما عن الناس ، وكتب إلى الامام جعفر الصادق ، وعمر الاشرف بن الامام زين العابدين ، وعبد الله المحض ، وأمر رسوله (محمد بن عبد الرحمان بن أسلم) أن يلقى الامام الصادق ، فإن أجابه أبطل الكتابين الآخرين. وإلا لقي عبد الله المحض ، فإن أجابه وإلا لقى عمرا الاشرف.

فقابل الرسول الامام جعفرا ، وسلمه الكتاب فقال الامام (مالي ولابي سلمة ، وهو شيعة لغيري) فقال الرسول اقرأ الكتاب ، فقال الامام لخادمه : ادن السراج مني فأدناه ، فوضع الكتاب على النار حتى احترق ، فقال الرسول : ألا تجيبه؟ فقال الامام قد رأيت الجواب ، عرف صاحبك =

٢٠٩

لقد كان أئمة أهل البيت يدركون بوضوح تام أن القوى التي يعتمد عليها العلويون قوى منهكة ، لا تستطيع أن تقود حركة ثورية ، في رقعة جغرافية واسعة النطاق ، إلى نهاية مظفرة ، ومن ثم فإن حركة ثورية تعتمد على هذه القوى محكوم عليها بالفشل الذي يتعداها ليكون نقمة تنزل بالامة كلها من قبل النظام الاموي.

وكانوا يدركون في مقابل ذلك أن العناصر المؤهلة للقيام بحركة ثورية ناجحة هي عناصر غير إسلامية غالبا ولذا فلم يجوزوا لانفسهم التعامل معها ، وإن كانوا لم يقفوا في وجه حركتها ذات القيادة العباسية ، فقد كان إسقاط النظام الاموي مطلبا تاريخيا وحضاريا لا يمكن الوقوف في وجهه ، وكانوا يدركون أن الاسلام سيذوب كل الجماعات المشبوهة من حيث عقيدتها ، ويدمجها في الامة الاسلامية ، دينا وحضارة.

لقد ثبت أئمة أهل البيت على موقفهم هذا في العهد العباسي ، وأمروا شيعتهم بتجنب المساهمة في هذا النشاط. وكانوا ينصحون بني عمهم من العلويين بتجنب القيام بالثورات ذات المصير المحكوم عليه بالفشل ، دون أن يؤثروا فيهم.

___________________

= بما رأيت ، وقابل رسوله عبد المحض بن الامام الحسن بن علي ففرح بكتاب أبي سلمة وجرى بينه وبين الامام الصادق حوار عاصف حين نهاه الامام عن الركون إلى دعوة أبي سلمة.

ابن قتيبة ، الامامة والسياسة : ٢ / ١٥٢ ـ ١٥٣ و ١٥٥ ـ ١٥٦ ، والمسعودي : مروج الذهب ٣ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ و ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

بل إن ثمة اتهاما يوجه إلى أبي مسلم الخراساني نفسه بأنه حاول استدراج الامام الصادق (ع) إلى الموافقة على تحويل الدعوة إليه ، فقد كتب إلى الامام بقوله : (اني قد أظهرت الكلمة ، ودعوت الناس عن موالاة بني أمية إلى موالاة أهل البيت ، فإن رغبت فلا مزيد عليك) فكتب إليه الامام (ما أنت من رجالي ، ولا الزمان زماني) الملل والنحل :

٢١٠

الشبان والشيوخ

تدل بعض النصوص على أن هذا أو ذاك من شهداء الثورة الحسينية كان من الشبان كالذي نستفيده بالنسبة إلى عبيد الله وعبد الله إبني يزيد ومن أشبه حالهما ، أو تدل على أنه كان من الشيوخ كالذي نستفيده بالنسبة إلى الصحابة ومن عاصرهم كمسلم بن عوسجة وأنس بن الحارث الكاهلي ومن أشبه حالهما. ولكننا لا نستطيع في هذه المرحلة من البحث أن نحصل على رؤية كاملة وتفصيلية لحال كل واحد من الثوار في كربلاء من حيث مرحلة العمر التي كان فيها عندما التزم بالثورة.

وهذه الصعوبة بالذات تواجهنا أيضا بالنسبة إلى جمهور الثورة الكبير الذي بايع مسلم بن عقيل في الكوفة ، فما نسبة الشيوخ فيه وما نسبة الشبان؟.

إن نص أبي مخنف الذي يصور كيف تفرق الناس عن مسلم بن عقيل حين بدأ تحركه في الكوفة بعد القبض على هاني بن عروة ، وهو قوله :

٢١١

(.. إن المرأة كانت تأتي إبنها أو أخاها فتقول : انصرف ، الناس يكفونك ، ويجئ الرجل إلى ابنه أو أخيه ، فيقول : غدا يأتيك أهل الشام ، فام تصنع بالحرب والشر ..؟) (١).

إن هذا النص ، وهو يصور هذا الموقف الانهزامي من تحرك مسلم ابن عقيل ، يوحي إلى الباحث المتأمل أن نسبة عالية من المقاتلين الذين نهضوا مع مسلم بن عقيل كانوا من الشبان ، ففيهم الابناء والاخوة ، وليس فيهم الآباء والازواج.

إننا نعترف بأن هذه الدلالة ليست قاطعة ، ولكنها تجعلنا نميل إلى ترجيح ما تقضي به طبيعة الاشياء ، وهو أن إرادة التغيير غالبا ما توجد في نفوس الشبان دون الشيوخ الذين يميل غالبهم إلى المحافظة ، وإيثار حالة الاستقرار. إلا أننا في حالتنا هذه (الثورة الحسينية) نواجه عاملا استثنائيا يرجح أن تكون الاستجابات للثورة ـ في الكوفة بوجه خاص ـ قد حدثت بنسبة عالية بين الشيوخ وكبار السن ، فهؤلاء قد خبروا بأنفسهم أسلوب الامام علي عليه السلام في الحكم وسياسة الناس وتوزيع الاموال ، وخبروا من بعده بأنفسهم أيضا أسلوب معاوية في الحكم وسياسة الناس ، وسياسته في الاموال ، ورأوا ما بينهما من فروق كبيرة ، وهم ، مع هذه الخبرة المباشرة بهذين الاسلوبين في الحكم ، يعرفون تجاوز معاوية لكثير من أحكام الاسلام ووصاياه ، فهم بحكم هذه الخبرة وهذه المعرفة مؤهلون لان يفهموا ثورة الحسين ، ويتجاوبوا معها أكثر من جيل الشبان الذين لم يعرفوا إلا عهد معاوية ، ولم يعانوا إلا وجها واحدا من التجربة هو

___________________

(١) الطبري ٥ / ٣٧١.

٢١٢

سياسة معاوية فيهم ، وفي بلدهم ، ولا يعرفون من الوجه الآخر إلا أقاصيص ، وهم ، بعد أقل وعيا لمبادئ الاسلام ، وأقل صلة بهامن آبائهم.

ولكن ألا تكون رغبة الشيوخ الطبيعية في الدعة والهدوء أقوى من وعيهم لضرورة التغيير نتيجة لتجربتهم مع علي ومع معاوية.

ثم من أين لنا أن نقول : إن هؤلاء الشيوخ أكثر وعيا من الجيل الجديد لمبادئ الاسلام؟

إن غالب هؤلاء كانوا أعرابا نشأوا في البادية ، وجاءت بهم الفتوح إلى الامصار الجديدة ، وتولى تعليمهم هؤلاء الصحابة الذين كانوا يرافقون الجيوش غازين ومعلمين ، فجيل الشيوخ في سنة ستين للهجرة يغلب عليه كونه على معرفة محدودة بالاسلام ومثله وأخلاقياته العالية ـ هذا إذا استثنينا العبادات وما إليها ـ ، أما جيل الشبان فقد نشأ في هذه الامصار في بيوت مسلمة ، وكان يتلقى في الجمعات وفي حلق المساجد تعاليم الاسلام فيتلقاها في أذهان ونفوس بريئة من رواسب الجاهلية إلى حد بعيد ـ إلا ما اكتسبه من جيل الشيوخ ـ فهو أفضل إسلاما من آبائه بلا شك ، وهو لذلك أكثر قدرة على وعي المبررات الاسلامية لثورة الحسين ، وهو أكثر قدرة على الرفض وعلى الحسم ، ومن ثم فهو مؤهل لان يكون جمهور الثورة.

إننا نرجح أن يكون عنصر الشبان في الثوار هو العنصر الغالب. والمسألة ، بعد ، بحاجة إلى درس أوفى على ضوء النصوص الاساسية والمساعدة ، إن وجدت.

٢١٣

الكوفة والبصرة والحجاز

ليس لدينا إحصاء نعرف منه بصورة دقيقة توزيع رجال الثورة على المواطن الثلاثة (الكوفة ، والبصرة ، والحجاز) فلم تشتمل روايات المؤرخين على ما يدل على المواطن إلا بالنسبة إلى رجال قليلين من الثوار. ولكننا مع ذلك نستطيع أن نرجح أن غالبية الثائرين كانت من الكوفيين ، وكان الباقون من الحجاز والبصرة. فقد كانت الكوفة هي البؤرة الثورية في العالم الاسلامي ، فيها ـ بعد وفاة معاوية ـ طرحت فكرة تغيير النظام ونوقشت على نطاق واسع ، وفيها عقدت الاجتماعات التي تخطط للتغيير ، ومنها انطلق الرسل إلى الحسين يحملون كتب الكوفيين تدعوه إلى أن يتزعم الحركة الجديدة ، وكا الذين بايعوا مسلما من الكوفيين ـ كل هذه الاعتبارات تدعونا إلى الاعتقاد بأن العدد الاكبر من الثائرين كان من الكوفيين.

لقد تميزت الكوفة دائما بأنها أكثر الامصار ثورية واندفاعا ، بينما غلب على البصرة التحفظ والحذر ، واتسم الحجاز بالرغبة في الدعة والسلام.

٢١٤

ولذا فإننا نرجح أن أكثر من شارك في ثورة كربلاء من الحجازيين غير الهاشميين ـ كان من موالي بني هاشم.

لقد خرج الحسين من الحجاز ثائرا على حكم يعرف الجميع ضرورة الثورة عليه ، ومع ذلك لم يخرج معه أحد ، ولم يثر خروجه أي حماس أو اندفاع.

وقد وجه الحسين نداء الثورة إلى أعيان البصرة ورؤسائها (رؤوس الاخماس) والاشراف ... فكل من قرأ ذلك الكتاب من اشراف الناس كتمه ، غير المنذر بن الجارود ، فإنه خشي ـ بزعمه أن يكون دسيسا من قبل عبيد الله ، فجاءه بالرسول من العشية التي يريد صبحيتها أن يسبق إلى الكوفة وأقرأه كتابه ، فقدم الرسول فضرب عنقه ... (١).

كان هذا موقف قيادات البصرة من الثورة. وإذا كان هذا الموقف يبدو طبيعيا إلى حد كبير من رجال لا يريدون أن يفرطوا بمراكزهم في الدولة والمجتمع فإن الامر يبدو أدعى إلى الدهشة حين نلاحظ موقف الشيعة البصريين كما يبدو من خلال النص التالي الذي نقله الطبري عن أبي المخارق الراسبي ، قال : (اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد ـ أو منقذ ـ أياما ، وكانت تشيع ، وكان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه ، وقد بلغ ابن زياد اقبال الحسين ، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق ، قال : فأجمع يزيد بن نبيط الخروج ، وهو من عبد القيس ، إلى الحسين ، وكان له بنون عشرة فقال أيكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٢١٥

له : عبيد الله وعبد الله ، فقال لاصحابه في بيت تلك المرأة : إني قد أزمعت على الخروج وأنا خارج ، فقالوا له : إنا نخاف عليك أصحاب ابن زياد ..) (١).

وسنذكر صورة أخرى عن موقف زعماء البصرة من الشيعة في فصل آخر.

من أين جاء هذا الموقف الحذر عند البصريين ، والذي يتسم باللامبالاة عند الحجازيين ، في مقابل موقف الكوفيين الواضح ، المندفع؟

هل يكون الجواب أن الحجاز بعد أن لم يعد مركزا للخلافة الاسلامية لم يعد يهتم بالنشاط الذي يدور حولها وهي ، على كل حال ، ستكون في الشام أو في العراق ، هذا مضافا إلى سياسة معاوية التي جعلت النخبة الحجازية من قريش وغيرها تغرق في الترف واللهو الذين جعلاها تحاذر من أي نشاط يعرض ترفها للزوال ولهوها للكدر؟

وأن البصريين ، وهم طالما تنازعوا مع قبائل الكوفة حول من له حق جباية الخراج من كورة كذا أو كورة كذا (٢) لم يتحمسوا للمشاركة في ثورة

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٢) كثيرا ما كان يحدث نزاع بين أهل الكوفة وأهل البصرة حول : أي المدينتين أحق بخراج بلد من البلاد المفتوحة. مثلا في سنة ٢٢ ه‍ كتب عمر بن سراقة ـ وإلى البصرة ـ إلى عمر بن الخطاب يذكر له كثرة أهل البصرة وعجز خراجهم عنهم ويسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ما سبذان. وبلغ ذلك أهل الكوفة ، فقالوا لعمار بن ياسر ـ وكان واليا على الكوفة : أكتب لنا إلى عمر ان رامهرمز وايذج لنا دونهم ، لم يعينونا عليهما بشئ ، ولم يلحقوا بنا حتى افتتحناهما .. وكانت خصومة بين المدينتين أنهاهما عمر بن الخطاب ـ الطبري : ٤ / ١٦٠ ـ ١٦٢.

وقد تكررت هذه الخصومات بين الكوفة والبصرة كثيرا ، وعرض لها الطبري في أكثر من موضع من تاريخه.

٢١٦

سيؤدي نجاحها إلى تعزيز مركز الكوفة ، أما إخفاقها فسيجلب الخراب إلى المدينتين؟

وإذا لم يكن الجواب في تفاوت الهموم السياسية والاقتصادية لهاتين المدينتين ، فهل نجده في المناخ الثقافي؟

هل كان المناخ الثقافي للكوفيين يجعلهم أكثر ادراكا ووعيا للانحرافات عند الحاكمين ، وأكثر رغبة في التغيير من الحجازيين والبصريين الذين كانوا أكثر محافظة من الكوفيين.

يبدو أن معاوية بن أبي سفيان قد أدرك هذه الحقيقة ، أدرك هذه الروح الثورية ، ولكنه أدركها في العراق ، وليس في الكوفة وحدها ، فقال في وصيته لابنه يزيد : (وانظر أهل العراق ، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل ، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف) (١).

أيكون العراق في وصية معاوية هوالكوفة؟ هذا ما نرجحه (٢).

وإذا لم يكن الجواب في الانتماء الثقافي فهل يكون في التاريخ القريب الذي يحمل البصريون صورته الدامية في معركة الجمل حين قمع الكوفيون بقيادة الامام علي تمرد البصريين على بيعة الامام بقيادة طلحة والزبير وأم المومنين عائشة؟.

وأخيرا هل يكون الجواب في الانتماء القبلي للسكان في المدينتين.

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٢٣.

(٢) قال عمر بن الخطاب : (العراق بها كنز الايمان ، وهم رمح الله ، يجزون ثغورهم ويكفون الامصار) وهو يعني الكوفة. لاحظ ابن سعد : الطبقات ٦ / ١ وما بعدها.

٢١٧

نحن نعلم أن معظم سكان البصرة كان من ربيعة ومضر ، من عرب الشمال ، وأن معظم سكان الكوفة من قبائل اليمن ، من عرب الجنوب (١). وقد رأينا في فصل سابق أن عرب الجنون يكونون العدد الاكبر من ثوار كربلاء.

نرجح أن تكون جميع هذه العوامل قد اشتركت في صياغة موقف البصريين من الثورة.

لقد كان زعماء البصرة يفكرون بلا شك في مركزهم في الدولة والمجتمع. وطالما تنازع البصريون مع الكوفيين حول حق الفتح لهذا البلد أو ذاك. وكانوا يفكرون بأن أي نجاح للثورة فإنما هو نجاح للكوفة التي ستكون قاعدة الدولة. وكان الكوفيون أكثر وعيا لضرورة التغيير نتيجة للثقافة التي نشأوا في ظلها في عهد الامام علي ونتيجة لشعورهم بالتقصير في القيام بواجبهم في الدفاع عن حكومة الامام علي ونهجه السياسي ، هذا التقصير الذي أدى إلى انتصار معاوية وانتقامه من الكوفة (وهنا نلاحظ أن كثرة عرب الجنوب في الثورة تعود إلى كونهم أكثر وعيا ـ بسبب كونهم في الكوفة ، كانوا أكثر اتصالا بالامام وتأثرا بافكاره وتعاليمه لا إلى أسباب تتصل بالعوامل القبلية) وكان جمهور القبائل البصرية التي اشتركت في معركة الجمل ضد الامام علي يذكره قتلاه ، ويتجاوب مع مشاعره التي تبعثها هذه الذكرى.

___________________

(١) حسن إبراهيم حسن : تاريخ الاسلام ١ / ٥١٧ و ٥١٨. وكانت الكوفة دائما هي التي تحسم أي موقف سياسي. فأهل الكوفة هم (رأس العرب ، جمجمة العرب ، جمجمة الاسلام ، قبة الاسلام ، كان عمر يبدأ بأهل الكوفة ، وبها بيوتات العرب كلها وليست بالبصرة) لاحظ الطبقات ٦ / ١ ـ ٦.

٢١٨

درجة الحالة الثورية

كانت توجد في سنة ستين حالة ثورية في المجتمع الاسلامي في العراق والحجاز وإيران.

هذا ما لا شك فيه.

لقد كان ثمة سخط عارم على الاوضاع ، وكان ثمة توق إلى التغيير.

وكانت المواقف والظواهر التي تعبر عن هذه الحالة الثورية كثيرة ، وكانت أظهر ما تكون في العراق والحجاز. ففي مكة والمدينة والكوفة كانت الادارة الرسمية عاجزة عن السيطرة على الشخصيات البارزة في المجتمع ، وحديث الناس غير المتحفظ عن ضرورة الخروج وتصحيح الاوضاع ، والاستجابة السريعة الكثيفة التي حصل عليها مسلم بن عقيل حين جاء إلى الكوفة ، واضطرار السلطة الرسمية إلى اتخاذ أشد اجراءات الحيطة والحذر والاحتراز. كل هذا يدل على وجود حالة ثورية.

ولكنها كانت حالة ثورية في جهاز نفسي مشلول. إنها ، فيما

٢١٩

يبدو ، كانت حالة إدراك عقلي لضرورة التغيير وإدراك لبؤس الواقع ، لم يبلغ درجة الشعور النفسي المحرك.

يدل على هذا الشلل النفسي في الكوفة قدرة عبيد الله بن زياد على أن يسيطر على الاوضاع في الكوفة بسهولة مثيرة الدهشة ، مع أن الكوفة كانت إلى حين وصوله إليها من البصرة بؤرة التحرك الثوري ، وما رافق ذلك من سرعة انكفاء الناس عن مسلم بن عقيل بعد أن بدأ تحركه ضد عبيد الله حين قبض على هاني بن عروة ، ففي خلال ساعات تخلى الثوار الذين بايعوا مسلما عن قائدهم وعن التزامهم الشرعي والادبي ، فلحق قسم منهم بالسلطة وأعلن ولاءه للنظام ، وحيد آخرون أنفسهم.

ولم تكن روح الثورة ، فيما يبدو ، شاملة في مجتمع الكوفة ، فكثير من الاسر كانت مواقف أفرادها متباينة ، يدلنا على ذلك نص لابي مخنف يصور كيف تفرق الناس عن مسلم بن عقيل بعد أن أعلن الاشراف ، من على شرفات قصر الامارة ، تهديدات النظام الاموي :

(إن المرأة كانت تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجئ الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول : غدا يأتيك أهل الشام ...) (١).

إن روح التواكل : (الناس يكفونك) والاستجابة لها من قبل الثوار ، وروح الخوف : (غدا يأتيك أهل الشام) والاستجابة لها من قبل الثوار ... إن هذه وتلك لا تدلان على حالة ثورية سليمة ، فإن أسر الواقع ، والرغبة في الدعة ولين الحياة ، والمحافظة على وتيرة العيش الهنية. كل أولئك كان يعطل الروح الثورية ، ويحول بينها وبين أن تعمل

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٧١.

٢٢٠