أنصار الحسين

محمّد مهدي شمس الدين

أنصار الحسين

المؤلف:

محمّد مهدي شمس الدين


الموضوع : التراجم
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٨

وقد عمل النبي صلى الله عليه وآله على تغيير ظاهرة الاسماء الجاهلية بطريقتين.

الاولى : إصدار التوجيهات العامة باختيار الاسماء الاسلامية ، القرآنية وغيرها.

الثانية : تغيير أسماء بعض الاشخاص من الرجال والنساء ، ولكنه لم يتوسع في الطريقة الثانية ، لان تغيير الاسماء على نطاق واسع يربك العلاقات الاجتماعية ، ويدخل اختلالا خطيرا على سلاسل الانساب التي كان العرب يعنون بها عناية فائقة.

على ضوء ما تقدم : إذا أخذنا في الاعتبار أنه في سنة ستين للهجرة كان جمهور السملمين العرب يتكون من الجيل الثاني في الاسلام مع بقايا من الجيل الاول ، يتضح لنا أنه لم تكن قد سنحت بعد الفرصة أمام الاسماء الجديدة لتنتشر وتحل محل الاسماء القديمة ، على الخصوص الاسماء ذات المنشأ غير العربي كما هو الشأن بالنسبة إلى سليمان.

وعلى العكس من المسلمين العرب ، فإن هذا النوع من الاسماء كان شائعا إلى حد ما بين المسلمين غير العرب (الموالي) ، والمتأثرين منهم بالثقافة اليونانية أو المنتمين إلى العالم اليوناني البيزنطي بشكل خاص ، وذلك لان الاسماء التي وردت في القرآن والسنة كانت مألوفة لديهم في عالمهم الثقافي القديم.

وقد اشتملت الزيارة المنسوبة إلى الناحية على إسم (سليمان) مرة واحدة ، ولكنه ورد فيها إسما لاحد الموالي هو (سليمان مولى الحسين) وبهذا تكون الزيارة المنسوبة إلى الناحية متوافقة ، من هذه الجهة ، مع

١٨١

الظاهرة الثقافية الاسمية السائدة في الفترة المبحوث عنها ، ويكون إسم (سليمان مولى الحسين) فيها متوافقا مع طبيعة الاشياء ، وليس إسما شاذا كما هو الشأن في (سليمان) الذي ورد إسما لخمسة أشخاص يفترض أنهم من العرب في الزيارة الرجبية. ونلاحظ هنا ، بهذه المناسبة ، أن الزيارة الرجبية لم تشتمل على إسم (سليمان مولى الحسين).

إن اشتمال الزيارة الرجبية على هذا الاسم الشاذ في المحيط الاسلامي العربي في الفترة التاريخية والمبحوث عنها إسما لخمسة رجال نقطة ضعف في الزيارة الرجبية.

* * *

هذه الامور التي ذكرناها تدعونا إلى اعتبار الزيارة الرجبية مصدرا ثانوي القيمة لاسماء شهداء كربلاء ، ولا يمكن ، لهذا ، الاعتماد عليها في الاسماء التي انفردت بها دون بقية المصادر ، بل لا بد من ضم مصدر آخر إليها بالنسبة إلى أي إسم من الاسماء التي وردت فيها ، بعد التأكد من أن هذا المصدر لم يستند إليها.

وتكون الزيارة المنسوبة إلى الناحية مصدرا أساسا لاسماء الشهداء لقدمها من جهة ، ولسلامتها من المآخذ التي ذكرناها على الزيارة الرجبية من جهة أخرى.

١٨٢

القسم الثاني

الدلالات

١٨٣
١٨٤

النخبة

لا تسعفنا المصادر ، إلا بالقدر الضئيل الذي لا يغني ، بالمعرفة المباشرة بالمواقع الاجتماعية لشهداء كربلاء وبسمات حياتهم الشخصية. فإذا استثنينا الرجال القليلين الذين نعرف بصورة تفصيلية مباشرة أنهم كانوا شخصيات اجتماعية ذات شأن في قبائلهم وفي مجتمعهم تبقى الكثرة العظمى من الشهداء في الظل من حيث مواقعهم الاجتماعية ، لاننا لا نعرف عنهم إلا أسماءهم.

ولكننا نعرف استنادا إلى بعض النصوص أن أكثر الشهداء لم يكونوا نكرات اجتماعية من غمار الناس ، بل كانوا من الرجال ذوي الشأن في أوساطئهم الاجتماعية ، ونعرف أنهم كانوا يمثلون نوعية خاصة كان الناس ينظرون إليها باحترام كبير ، وبعواطف تتفاوت بين الحب والكراهية.

تدلنا على ذلك كلمة عمرو بن الحجاج الزبيدي (١) التي نهي فيها الجنود الامويين عن قتال المبارزة مع الثوار قائلا :

___________________

(١) من شخصيات الكوفة الموالية للنظام الاموي. كان أحد المقربين من زياد بن سمية واشترك في الايقاع بحجر بن عدي الكندي وكان أحد الشهود عليه ، وكان من جلساء عبيد الله بن زياد ، =

١٨٥

(ويلكم يا حمقاء ، مهلا ، أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ..) (١).

إن (فرسان المصر) في مجتمع محارب ، وهو ما كانه المجتمع العربي الاسلامي في ذلك الحين ، تعبير يعني الشخصيات البارزة في المجتمع ، فقد كان التفوق في الحقال العسكري أحد أفضل السبل لتبوء مركز إجتماعي مرموق يبعث على الاحترام ، بل لقد كانت هذه الصفة خليقة بأن تجعل الناس يغضون النظر عما قد يكون في الرجل من خلال معيبة في نظر المجتمع (٢).

و(أهل البصائر) (٣) تعبير يعنى به الواعون الذين يتخذون مواقفهم

___________________

= وهو أحد ثلاثة رجال استدرجوا هاني بن عروة إلى ابن زياد بعد انكشاف أمر مسلم بن عقيل ، وكانت أخته روعة زوجة لهاني بن عروة. كان في كربلاء على رأس القوة التي منعت الحسين وأصحابه من ماء الفرات وكان على ميمنة الجيش الاموي في كربلاء ، وهو أحد حملة الرؤوس إلى عبيد الله بن زياد ـ وقد كان أحد الذين كتبوا إلى الحسين يدعونه للقدوم إلى الكوفة : (.. فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند).

الطبري : ٥ / ٢٧٠ و ٣٤٩ و ٣٥٣ و ٣٦٤ ـ ٣٦٥ و ٣٦٧ و ٦٢٢ و ٦٥٦.

(١) الطبري : ٥ / ٤٣٥.

(٢) إن التفوق في الحقل العسكري كان خليقا بأن يبعث على تجاوز النظرة المتحيزة ضد صفة العجمة عند الموالي ، وأن يبعث على احترام المولى وتقديره ، لاحظ الكامل : ٣ / ٣١٦ ـ ٣١٧.

(٣) من المؤكد أن هذا التعبير مصطلح ثقافي إسلامي يعني : الفئة الواعية للاسلام على الوجه الصحيح ، والملتزمة به في حياتها بشكل دقيق ، بحيث تتخذ مواقف مبدئية من المشكلات التي تواجهها في الحياة والمجتمع ، ولا تقف على الحياد أمام هذه المشكلات وإنما تعبر عن التزامها النظري بالممارسة اليومية لنضال ضد الانحرافات.

ويبدو لنا من دراسة مستعجلة لهذا المصطلح أنه ولد في الثقافة الاسلامية في وقت مبكر ، وبالتحديد حين بدأت قوى الانحراف تنشر مفاهيمها وأساليبها وتجمع لنفسها الانصار. ولذا نجد أنه كثير الورود في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي أسفرت قوى الانحراف في عهده عن وجهها واضطرته لخوض المعارك الفكرية والعسكرية معها ، وإذا كان قد عجز عن دحرها =

١٨٦

عن قناعات تتصل بالمبدإ الاسلامي ، ولا تتصل بالاعتبارات النفعية.

___________________

= عسكريا وتحطيمها بشكل نهائي ، واخراجها من دائرة الحياة الاسلامية ، فإنه قد أفلح في فضحها ، وبيان زيفها على الصعيد الفكري.

لقد ورد هذا المصطلح في خطب أمير المؤمنين علي ، وكتبه وكلماته القصار للتعبير عن الفئة الواعية في مقابلة غير الواعين ، ولبيان موقف الفئة الواعية من الاغراءات ، أو للتعبير عن موقف الانسان غير الواعي من الاغراءات والمخاوف.

فقد ورد مثلا في كتاب منه إلى معاوية بن أبي سفيان ، قوله :

(وأرديت جيلا من الناس كثيرا خدعتهم بغيك ، وألقيتهم في موج بحرك .. فجاروا عن وجهتهم ونكصوا على أعقابهم ، ... وعولوا على أحسابهم ، إلا من فاء من أهل البصائر ، فإنهم فارقوك بعد معرفتك ، وهربوا إلى الله من موازرتك) نهج البلاغة ـ باب الكتب ـ رقم النص : ٣٢. ومما قاله عز الدين بن أبي الحديد في شرحه تعليقا على هذا النص :

((وعولوا على أحسابهم) أي لم يتعتمدوا على الدين ، وإنما أردتهم الحمية ونخوة الجاهلية فاخلدوا إليها وتركوا الدين ، ثم استثنى قوما فاءوا ...) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٣٢ ـ ١٣٣.

وورد في خطبة له يومئ فيها إلى الملاحم ويصف فئة من أهل الضلال :

(وطال الامد بهم ليستكملوا الخزي ، ويستوجبوا الغير ، حتى إذا اخلو لحق الاجل ، واستراح قوم إلى الفتن ـ لم يمنوا (أهل البصائر) على الله بالصبر ، ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق ، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء ، حملوا بصائرهم على أسيافهم ، ودانوا لربهم بأمر وأعظمهم).

وهو يعني الجاهليين من جهة والمسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله من جهة أخرى.

وقال ابن أبي الحديد في شرحه تعليقا إلى هذا النص.

(.. حتى إذا ألقى هؤلاء السلام إلى هذه الفئة عجزا عن القتال ، واستراحوا من منابذتهم بدخولهم في ضلالتهم وفتنتهم ... أنهض الله هولاء ، العارفين الشجعان فنهضوا (وحمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم ... يعني أنهم أظهروا بصائرهم وعقائدهم للناس وكشفوها ، وجردوها من أجفافها ، فكأنها شئ محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف ...) شرح نهج البلاغة : ٩ / ١٢٩ ـ ١٣١.

إن قوله : (حملوا بصائرهم على أسيافهم) يعني في لغتنا الحاضرة : المواقف المبدئية المعلنة والنضال في سبيلها.

ومن النصوص التي وردت في نهج البلاغة عن أهل البصائر قوله عليه السلام في خطبة من خطب الملاحم.

(قد انجابت السرائر لاهل البصائر ووضحت محجة الطريق لخابطها ...)

ومن ذلك قوله في خطبة يصف فيها النحلة والجرادة.

١٨٧

وإذن فنحن أمام نوعية من الشخصيات تمثل النخبة الواعية للاسلام في المجتمع الاسلامي في ذلك الحين ، وهي تستمد تفردها وتفوقها من فضائلها الشخصية ومن وعيها الاسلامي والتزامها بمواقفها المبدئية ، على خلاف الزعماء القبليين التقليديين الذين يستمدون قوتهم من الاعتبارات القبلية المحضة. وإن كانت هذه النخبة الواعية تضم رجالا كثيرين جمعوا إلى فضائلهم ووعيهم الاسلامي ولاء قبائلهم لاشخاصهم.

ومن هذا الذي قدمناه في بيان مقومات هذه النخبة يتضح أنها تمثل النقيض الاجتماعي للنخبة القبلية التقليدية التي كانت تدير سياسة القبائل ، وتتعامل مع النظام الاموي ، وتحصل على اعترافه الرسمي بزعامتها. وإذا كان لهذه النخبة التقليدية جمهورها الكبير ، فإن النخبة الواعية لم تكن بلا جمهور ، وإن كنا نرجح أنه صغير الحجم بالنسبة إلى الجمهور التقليدي.

___________________

= (ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة ...).

ومن ذلك قوله يخاطب أصحابه :

(... فانفذوا على بصائركم ، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم ، فوالذي لا إله إلا هو اني لعلى جادة الحق ، وإنهم لعلى مزلة الباطل ...)

ومن ذلك قوله في دعاء.

(اللهم انك آنس الآنسين لاوليائك .. تشاهدهم في سرائرهم ، وتطلع عليهم في ضمائرهم وتعلم مبلغ بصائرهم ...).

ومن ذلك قوله في إحدى كلماته القصار :

(... الاماني تعمي أعين البصائر ...).

وورد هذا المصطلح في كلمة للمهدي العباسي قالها لوزيره الربيع علق بها على موقف أحد الثوار في عهده وصلابته وثباته : (أما ترى قلة خوفه وشدة قلبه ، هكذا تكون والله أهل البصائر)) مقاتل الطالبيين : ٤١٨.

١٨٨

ولا شك في أن السلطة وأعوانها من الزعماء التقليديين كانوا يعرفون خطورة هذه النخبة ، فهي نخبة لا يمكن التعامل معها بالوسائل التقليدية ، ولا يمكن شراء ولائها خلافا لقناعاتها المبدئية ، لانها (من أهل البصائر) وهي بما تملك من رصيد قبلي ـ على قلته ـ قادرة على التأثير في جمهور القبائل ، ولا يقلل من خطورة هذا التأثير أنه محدود ، فجميع بدايات التغيرات الكبرى تكون محدودة ، ولذا فالنخبة الواعية من هذه الجهة تمثل خطرا كبيرا ، ولذا فقد كان هم السلطة الكبير هو القضاء بسرعة قياسية على الثورة وعلى قوتها الصغيرة المكونة من هؤلاء الرجال قبل أن تمتد بها الايام فتحمل كثيرا من (أهل البصائر) واتباعهم على إعلان موقفهم الايجابي من الثورة ، وتمكنهم من اللحاق بها.

وقد كان الزعماء التقليديون يدركون بلا شك أن هذه النخبة من أهل البصائر تكون في حال نجاحها خطرا على مراكزهم ، ولذا فقد ساعدوا السلطة بإخلاص على تنفيذ خطتها في تصفية الثائرين جسديا ، وجعلهم عبرة لغيرهم.

والموضوع بحاجة إلى تتبع في النصوص النبوية وغيرها ليعرف تاريخ تكون هذا المصطلح ودخوله في البنية الثقافية للانسان المسلم

وربما كان هذا المصطلح قد تولد من مصطلح سابق عليه ورد صفة لبعض الصحابة وهو (أهل النية) فقد ورد صفة لابي الدرداء (عويمر بن زيد الخزرجي) : (... وكان أبو الدرداء من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل النية منهم) الطبقات / ٧ / قسم ٢ / ص ١١٧ ط ليدن أوفست.

وربما يكون المعني بأهل النية : أهل الاخلاق والصفاء النفسي.

١٨٩

العرب والموالي

علينا ، حين ندرس علاقة الموالي بالثورة الحسينية ودلالات هذه العلاقة ، نستبعد موالي الحسين وعلي ، فإن صلة هولاء بالثورة صلة طبيعية نابعة من كون أوليائهم قادتها ، ولذا فهي علاقة لا يمكن أن تكون فيها دلالة على موقف الموالي بوجه عام ، ولا تصلح منطلقا لتفسير هذا الموقف. إن حقل البحث في هذه المسألة هو موالي غير الهاشميين الذين دخلوا في الثورة بشكل أو بآخر ، فإن مشاركة هؤلاء يمكن أن تكون ذات دلالة إذا بلغت مستوى معينا من الكثافة والتنوع.

وإذا لاحظنا نسبة الموالي في القوة الصغيرة الثائرة مع الحسين فسنجد أنها نسبة ضئيلة لا تبلغ عشرة لمئة من مجموع الثائرين ، وذلك لاننا إذا استبعدنا موالي الحسين يبقي لدينا من الموالي ، في نطاق الاسماء التي وصلت إلينا ستة رجال هم : (جون مولي أبي ذر الغفاري ، وزاهر مولي عمرو بن الحمق الخزاعي ، وسالم مولي بني المدنية الكلبي ، وسالم مولى عامر العبدي ، وسعد بن عبد الله مولى عمرو بن خالد الازدي ، وشوذب مولى شاكر بن عبد الله الهمداني الشاكري).

١٩٠

ولو كانت ظاهرة وجود الموالي في الثورة الحسينية تتوقف عند مشاركة العدد المحدود منهم في معركة كربلا والفوز بالشهادة لما كانت لذلك أية دلالة ذات قيمة تاريخية ، ولكن ظاهرة وجود الموالي في الثورة الحسينية وعلاقتهم بها تتعدى هذا القدر المحدد إلى مجالات أوسع منه بكثير فثمة بعض الاشارات قبل عاشوراء وبعدها ، تدل على وجود صلة ما ، لعلها كبيرة جدا ، بين الموالي وبين الثورة الحسينية. وربما كان لها دلالات عظيمة القيمة على بدايات دور الموالي الخطير والكبير في توجيه حركة التاريخ في العالم الاسلامي.

من هذه الاشارات أن عبيد الله بن زياد ، حين أراد أن يتجسس على مسلم بن عقيل لم يستخدم في هذه المهمة عربيا ، وإنما (دعا مولى له يقال له معقل فأعطاه ثلاثة آلاف ، وقال له : إذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة ، فأعلمه أنك رجل من أهل حمص ..) (١).

ومن هذه الاشارات أن السيدة الارملة التى لجأ مسلم بن عقيل إلى منزلها بعد أن فشلت حركته وتفرق عنه الناس ، وهي السيدة طوعة. كانت مولاة لمحمد بن الاشعث (٢). وقد أدخلت مسلم بن عقيل إلى منزلها بمجرد أن عرفت إسمه ، دون أن تبدي أي حذر مما قد تجر عليها استضافته عندها من متاعب ، وقد أخفته وهي تعلم بأنه مطلوب من السلطة.

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٤٨ و ٣٦٢ ، وهذا في رواية عمار الدهني وأبي مخنف ، وأما في رواية عيسى بن يزيد الكناني فإن هذا المولى لم يكن لابن زياد ، وإنما كان مولى لبني تميم ـ الطبري : ٥ / ٣٦٠.

(٢) الطبري : ٦ / ٣٧١.

١٩١

هل يدل اختيار عبيد الله بن زياد لمهمة التجسس على مسلم بن عقيل رجلا من الموالي ، بدل أن يختار لهذه المهمة رجلا عربيا على أن النظام الاموي كان يقدر أن الموالي كانوا يضمرون التعاطف مع حركة الثورة ورجالها ، وأن ثمة صلات خفية بين الثورة وجماعات من الموالي تحمل الثائرين على الوثوق بمن لا يعرفونه من الموالي معرفة مؤكدة ، أكثر مما لو كان هذا الذي لا يعرفونه عربيا من الشام لا سبيل إلى التوثق من شخصيته؟ (إذ لا سبيل لدرس رجل عراقي يسهل اكتشافه بالتقصي عنه في قبيلته) وهل تدل استجابة مسلم بن عوسجة للجاسوس دون حذر (١) على صدق تقدير النظامر الاموي لحقيقة العلاقة بين الموالي وبين الثورة؟

وهل تدل استجابة السيدة طوعة لطلب مسلم بن عقيل وإخفائه في منزلها ، بعد أن أعلمها بأن أهل الكوفة قد خذلوه ، على أنها قد تصرفت استجابة لموقف نفسي إيجابي من الثورة حال بينها وبين أن تفكر في عواقب تصرفها؟

لا نملك أجوبة حاسمة على هذه التساؤلات ، وإن كنا نرجح أن الاعتبارات السياسية والاجتماعية في ذلك الحين تدعونا إلى تقديم أجوبة موافقة وإيجابية.

فنحن نعلم أن الموالي كانوا على علاقة وثيقة بالامام علي بن أبي طالب ، ناشئة من سياسة الامام العادلة التي ساوتهم بغيرهم من المسلمين وقد نقم بعض زعماء القبائل على هذه العلاقة ، فقال الاشعث بن قيس

___________________

(١) تقدم ذكره في تعداد الشهداء ، كان يأخذ البيعة للامام الحسين ، وكان أمينا على الاموال في حركة مسلم بن عقيل في الكوفة.

١٩٢

للامام علي : (يا أمير المؤمنين : غلبتنا هذه الحمراء على قربك) (١)

ومن المؤكد أن هؤلاء كانوا ، في أيام يزيد بن معاوية ، لا يزالون يتذكرون أن حياتهم في السنين القليلة لخلافة الامام علي بن أبي طالب كانت أكثر رخاء واستقرارا وكرامة من حياتهم في ظل حكم معاوية بن أبي سفيان الذي عاملهم نظامه باحتقار شديد ، والذي كان يفضل أن يقتل بطريقة ما نصفهم خشية من تزايد عددهم وما يستتبع هذا من مشكلات سياسية (٢).

ولا شك في أن طبيعة الاشياء في هذه الحالة بأن يغتنم الموالي أية فرصة سانحة للخروج من وضعهم السئ الذي صاروا إليه بعد الامام علي.

ولو لم يبادر عبيد الله بن زياد إلى القضاء على حركة مسلم بن عقيل القصيرة الاجل ، ولو أتيح للثورة أن تستمر أياما على الاقل قبل أن يقضي عليها ، لتكشف لنا دور الموالي بدرجة أوضح مما لدينا الآن ، ولرأينا في غالب الظن ، أن وجودهم في الثورة كان أكثف مما يعكسه لنا ما بقي من تاريخ الثورة. وأن مساهمتهم فيما كانت واسعة.

لقد كان العرب ، قادتهم وأشرافهم ، يتحركون نحو الثورة بدافع من الحماس الديني والوعي عند القليل منهم ، وبدافع من استعادة السلطان من الشام ، وإعادة الكوفة إلى مركزها القديم العظيم عند أكثريتهم.

___________________

(١) الحمراء : هو الاسم القديم الذي أطلق على الفرس المسلمين ، ثم أطلق على الروم المسلمين.

(٢) المبرد : الكامل : ٢ / ٦٢

١٩٣

وكان الموالي يتحركون نحو الثورة بدافع من الرغبة في تغيير واقعهم السئ بواقع عاشوه في أيام الامام علي ، مع وجود قلة فيهم ، يمثلها الشهداء منهم ، تحركت نحو الثورة بدافع من وعي صادق ومصيب لحقيقة الاسلام ، وإدراك لما يمثله النظام الاموي من انحرافات.

على أن ما حدث بعد ثورة الحسين بسنوات قليلة يكشف عن عمق صلة الموالي واتساعها ، فعندما نهض المختار بن أبي عبيد الثقفي (١) في الكوفة رافعا شعارات حماية المستضعفين ، والاخذ بثارات الحسين وأهل البيت الآخرين ، التف حوله العرب والموالي معا ، وقد تخلت عنه بعد ذلك الاكثرية العظمى من العرب لانها رفضت سياسته المالية والاجتماعية بالنسبة إلى الموالي ، فإن هؤلاء الموالي قد ثبتوا معه إلى النهاية الاليمة في وجه الحكم الزبيري الذي لم يكن أقل فظاظة وتمييزا بين الناس من الحكم الاموي (٢).

نستطيع أن نقول : إن الموالي في سنة ستين للهجرة كانوا في

___________________

(١) قاد أبوه معركة الجسر ، عند البويب في النخيلة ، التي خسرها المسلمون أمام تفوق الفرس ، وقتل في المعركة. كانت زوجة المختار عمرة بنت النعمان بن بشير الانصاري ، قتلها مصعب بن الزبير بعد القضاء على ثورة المختار. وكان للمختار بيت في الكوفة نزل فيه مسلم بن عقيل ، وكان له بالقرب من الكوفة ضيعة.

أعلن المختار ثورته في الكوفة صباح الاربعاء ١٣ ربيع الاول سنة ٦٦ ه‍ (١٨ تشرين الاول ـ أكتوبر سنة ٦٧٥ م) وقضي على الثورة بقتل المختار في الكوفة مع فريق انتحاري من أصحابه في يوم ١٤ رمضان سنة ٦٧ ه‍ (٣ نيسان ـ ابريل سنة ٦٨٧ م) وكان عمر المختار حين قتل سبعا وستين سنة.

(٢) أرسل المختار ـ إلى المدينة ـ بالاتفاق مع عبد الله بن الزبير ـ جيشا قوامه ثلاثة آلاف كلهم من الموالي تحت إمرة شرحبيل بن ورس الهمداني ليشتركوا في مقاومة أهل الشام ، مع جيش ابن الزبير المؤلف من ألفي جندي بقيادة عياش (عباس) بن سهل بن سعد الانصاري. ولكن عياشا هذا دبر للجيش الحليف ـ بالاتفاق مع عبد الله بن الزبير ـ مذبحة قضت عليه.

١٩٤

بدايات وعيهم لواقعهم السئ بالنسبة إلى ما يضمنه لهم الاسلام من مركز كريم مساو لمركز الانسان العربي في الدولة الاسلامية ، كما كانوا في بدايات وعيهم لقدرتهم إذا أتيحت لهم قيادة تترجم آلامهم ومطامحهم إلى أفعال. وقد أنضجت ثورة الحسين وعيهم لواقع حياتهم ولحقوقهم بحكم كونهم مسلمين ، كما أنضجت وعيهم لذاتهم باعتبارهم قوة كبرى في المجتمع الاسلامي قادرة على التغيير.

وقد انطلقت ثورة المختار بن أبي عبيد الثقفي ، فشهد المجتمع الاسلامي العربي من خلالها قوة الموالي الجديدة تحارب بعنف من أجل المبادئ النبيلة التي تؤمن بها القيادة الحاكمة على مستوى الشعارات ، ولا تأبه لها عند الممارسة اليومية لشؤون الحكم. وقد حاول المختار مخلصا تطبيق الصيغة الاسلامية للمساواة بين العرب والموالي ـ وكان ذلك في صالحه ـ ولكنه فشل بسبب تعصب زعماء القبائل وقصر نظرهم فاضطر المختار إلى الاعتماد على الموالي مع قلة من العرب الواعين.

ومع أن هذا الانشطار الذي حل بجمهور الثورة في العراق بين المسلمين العرب والمسلمين غير العرب قد هيأ الفرص أمام ابن الزبير للقضاء على الثورة ، إلا أنه منذ ذلك الحين بدا التغيير العميق الواسع النطاق الذي بلغ ذروة تعاظمه في استيلاء العباسيين على الخلافة الاسلامية.

١٩٥

عرب الشمال وعرب الجنوب

يغلب على الثوار غير الهاشميين أنهم من اليمن ، من عرب الجنوب.

وربما كان هذا مؤشرا إلى أن الذين بايعوا مسلم بن عقيل كان أكثرهم من عرب الجنب. لقد كانوا ـ فيما يبدو ـ يمثلون القسم الاكبر من جمهور الثورة.

ولعل من مؤشرات ذلك أن مسلم بن عقيل تحول ـ حين جاء عبيد الله بن زياد إلى الكوفة من بيت المختار بن أبي عبيد الثقفي وهو من مضر (عرب الشمال) إلى منزل أحد كبار زعماء عرب الجنوب في الكوفة (عروة بن هاني المرادي).

ولعل من أعظم المؤشرات دلالة على ذلك أيضا أن عبيد الله بن زياد حين أراد إلقاء القبض على مسلم بن عقيل بعد فشل حركته في الكوفة اختار الجنود الذي أرسلهم لهذه المهمة من عرب الشمال ، من قيس ، ولم يكن فيهم أحد من عرب الجنوب ، من اليمن ، على الاطلاق ، وإن

١٩٦

كان قد جعل عليهم قائدا من اليمن ، هو عبد الرحمن بن الاشعث (١).

وإذا كانت حركة مسلم بن عقيل ، في الكوفة قد تميزت بهذه الظاهرة اليمنية فإننا نلاحظ أمرا عظيم الدلالة بالنسبة إلى الامام الحسين عندما أعلن رفضه لبيعة يزيد بن معاوية في الحجاز.

فعندما عزم الحسين على الخروج من المدينة إلى مكة ، ثم عندما عزم على الخروج من مكة إلى العراق ، وفي طريقه إلى العراق ، تلقى نصائح من رجال متنوعي العقلية والاتجاهات تجمع على أمر واحد هو أن يتوجه الحسين ـ بدلا من العراق ـ إلى اليمن.

تلقى هذه النصيحة من أخيه محمد بن الحنفية عشية توجهه من المدينة إلى مكة ، فقال محمد بن الحنفية للحسين من جملة كلام :

(.. تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك الذي نحب ، وإن تكن الاخرى خرجت إلى بلاد اليمن ، فإنهم أبصار جدك وأبيك وأخيك ، وهم أرق وأرأف قلوبا ، وأوسع الناس بلادا ، وأرجحهم عقولا ..) (٢).

وتلقاها من عبد الله بن عباس في مكة ، فقد قال له عبد الله في حوار جرى بينهما :

(.. فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن ، فإن بها حصونا

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٧٣

(٢) الخوارزمي : مقتل الحسين : ١ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

١٩٧

وشعابا ، وهي أرض عريضة طويلة ، ولابيك فيها شيعة ، وأنت عن الناس في عزلة) (١).

وتلقاها من الطرماح بن عدي الطائي وذلك حين لقيه في عذيب الهجانات وقد جاء دليلا لاربعة نفر من أهل الكوفة لحقوا بالحسين بعد مقتل مسلم بن عقيل : (٢)

(.. فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع ، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ ... فأسير معك حتى أنزلك القرية ، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طئ ، فوالله لا تأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طي رجالا وركبانا) (٣).

بل إننا نجد هذه الظاهرة (اليمنية) تستمر إلى ما بعد كربلاء ، وبعد يزيد بن معاوية لتنشر ظلها على الاحداث.

فقد خلع أهل الكوفة ـ بعد موت يزيد بن معاوية ـ ولاية بني أمية وإمارة ابن زياد ، وأرادوا أن ينصبوا لهم أميرا إلى أن ينظروا في أمرهم :

(فقال جماعة : عمر بن سعد بن أبي وقاص يصلح لها ، فلما هموا بتأميره أقبل نساء من همدان وغيرهن من نساء كهلان والانصار وربيعة والنخع حتى دخلن المسجد الجامع صارخات باكيات معولات يندبن

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ ، والخوارزمي : مقتل الحسين : ١ / ٢١٦

(٢) الاربعة هم جابر بن الحارث (جنادة بن الحارث) السلماني ، وعمرو بن خالد الصيداوي ، ومجمع بن عبد الله العائذي ، وعائذ بن مجمع.

(٣) الطبري : ٥ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦ ، والخوارزمي : مقتل الحسين : ١ / ٢٣٨.

١٩٨

الحسين ويقلن أما رضي عمر بن سعد بقتل الحسين حتى أراد أن يكون أميرا علينا على الكوفة ، فبكى الناس ، وأعرضوا عن عمر. وكان المبرزات في ذلك نساء همدان) (٣).

* * *

هذه الظاهرة (اليمنية) في الثورة الحسينية تدفعنا إلى الملاحظة التالية ، وهي : أن نسبة الزيادة في عرب الجنوب بالنسبة إلى عرب الشمال في القوة الثائرة في كربلاء ، وإن كانت محدودة جدا ، فإنها ، مع ذلك ، تصلح أن تكون علامة قيمة على أصالة الثورة الحسينية من الناحية العقيدية والمبدئية ، فمع أن معاوية منذ اكتشف أن مضر ، منحرفة عنه ، أخذ يعتمد في دولته على العنصر اليمني ، وكذلك من بعده إبنه يزيد ، وأمه يمنية من كلب ، ـ مع هذا نجد أن نسبة عرب اليمن في الثورة أكبر من نسبة عرب الشمال.

إن الثورة عمل سياسي ، وقد كان من الطبيعي جدا أن يتم هذا العمل السياسي وفقا لاصول العمل السياسي التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك ، وذلك بأن تكون الثورة جمهورها من خلال منطق الصراع القبلي ، وأن تتعامل مع هذا الجمهور من خلال هذا المنطق ، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك ، فقد تكون جمهور الثورة على مهل نتيجة لوعي الواقع على ضوء المبدأ الاسلامي ، وقد تعاملت الثورة مع هذا الجمهور من خلال قناعاته العقيدية لا من خلال غرائزه القبلية.

هل يعني هذا أن عرب الشمال كانوا بعيدين عن الثورة؟ من المؤكد

___________________

(١) مروج الذهب : ٣ / ٩٣.

١٩٩

أن هذا الاستنتاج لا صحة له على الاطلاق ، ومن المؤكد أن عرب الشمال كانوا يكونون من جمهور الثورة عنصرا كبيرا ، وإن كنا لا نستطيع أن نجد في الثورة ظاهرة (مضرية) أو ظاهرة (عدنانية) ، بل نلاحظ أن بعض النصوص يشير إلى دور بارز قامت به بعض عناصر عرب الشمال ، وهم القيسيون ، في مساندة السلطة لقمع الثورة الحسينية.

نذكر في هذا المجال بما تقدم من أن القوة التي قبضت على مسلم بن عقيل كانت من قيس (١). وثمة نص شعري عظيم القيمة يضئ الموقف القبلي ، فهو يبين أن قيسا هي الغريم الاكبر مسؤولية في قتل الحسين : قال سليمان بن قته المحاربي التابعي (٢) من جملة شعر له في رثاء الحسين :

وإن قتيل الطف من آل هاشم

أذل رقاب المسلمين فذلت

وعند غني قطرة من دمائنا

سنجزيهم يوما بها حيث حلت

إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها

وتقتلنا قيس إذا النعل زلت (٣)

___________________

(١) الطبري : ٥ / ٣٧٣ ، وجاء في النص (... وإنما كره (ابن زياد) أن يبعث معه (مع ابن الاشعث) قومه (كنده) لانه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل) وهذا الاستنتاج من أبي مخنف يجعل اختيار الجنود من قيس ناشئا من عوامل إدارية محضة. ونلاحظ أن شمر بن ذي الجوشن أحد أبرز رجال الامويين في كربلاء ـ كان قيسيا.

(٢) سليمان بن قته المحاربي من التابعين ، مولى ل‍ (تيم قريش) ، المعارف ـ لابن قتيبة : ٤٨٧ ـ ومحارب قبيلة من فهر بن مالك بن النضر بن كنانة الذي تنتسب إليه قبائل قريش كلها. ومن فهر : الضحاك بن قيس الفهري ، زعيم القيسية في معركة مرج راهط ضد اليمنية بزعامة مروان بن الحكم في الصراع على الخلافة بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية وانتهت المعركة بهزيمة القيسية ، التي بايعت عبد الله بن الزبير بعد ذلك ، ومقتل الضحاك بن قيس الفهري.

(٣) المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد) : الكامل ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاتة ـ مطبعة نهضة مصر (غير مؤرخة) ١ / ٢٢٣.

٢٠٠