دروس موجزة في علمي الرجال والدراية

الشيخ جعفر السبحاني

دروس موجزة في علمي الرجال والدراية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨

الدرس السادس والعشرون

تصحيح أسانيد الشيخ

في التهذيب والاستبصار

قد عرفت أنّ الشيخ صدّر الحديث بأسماء من أخذ من كتبهم ، وذكر طرقه إليهم في آخر الكتاب وهؤلاء ـ أعني : الذين ذكر طريقه إليهم ـ تسعة وثلاثون شيخاً. خمسة وعشرون من طرقه صحيح ، والباقي غير معتبر.

وأمّا الذي ترك الشيخ ذكر سنده إليهم في خاتمة الكتابين ، فربما يبلغ عددهم تسعة وعشرين شيخاً فيبلغ عدد المشايخ سبعين شيخاً ، وقد أوجب هذا اضطراباً في اعتبار أحاديث الكتابين ، حيث صار ذلك سبباً لعدم اعتبار أحاديث أكثر من صُدِّر الحديث بأسمائهم.

ثمّ إنّ المحقّقين من المتأخّرين حاولوا تصحيح أسانيد الشيخ بوجوه مختلفة ، نذكر منها وجهين :

الأوّل : الرجوع إلى الفهارس

خلاصة هذا الوجه هو الرجوع إلى فهرست الشيخ أوّلاً ، وطرق من تقدّمه عصراً ثانياً ، أو عاصره ثالثاً.

١٤١

أمّا الأوّل : فلأنّ للشيخ في الفهرست طرقاً إلى أرباب الكتب والأُصول الذين أهمل ذكر طريقه إليهم ، فبالرجوع إلى الفهرست يعلم طريق الشيخ إلى أصحاب تلك الكتب التي لم يذكر سنده إليهم في المشيخة أو كان معلولاً بالضعف والجهالة.

وأمّا الثاني : فبالرجوع إلى مشيخة الفقيه للشيخ الصدوق ، ورسالة الشيخ إلى غالب الزراري ( المتوفّى عام ٣٦٨ هـ ) إذا كان لهما سند إلى الكتب التي لم يذكر سنده إليها في التهذيب ، لكن إذا وصّلنا سند الشيخ إلى هؤلاء يحصل ـ بالنتيجة ـ السند إلى أصحاب هذه الكتب.

أمّا الثالث : فبالرجوع إلى طريق النجاشي فإنّه كان معاصراً للشيخ مشاركاً له في أكثر المشايخ كالمفيد ، والحسين بن عبيد اللّه الغضائري ، وأحمد بن عبدون الشهير بابن الحاشر ، فإذا علم رواية النجاشي للأصل والكتاب عن طريق أحد هؤلاء ، كان ذلك طريقاً للشيخ أيضاً.

هذا هو الوجه الأوّل وهو الرائج بين علماء الرجال المتأخّرين.

الثاني : التعويض عن الطريق الضعيف

إنّ المتتبّع الخبير الشيخ محمد الأردبيلي ( المتوفّـى عام ١١٠١ هـ ) أحد تلامذة العلاّمة المجلسي قد قام بتأليف كتابين في الرجال :

أ. جامع الرواة : وهو كتاب مبتكر في موضوعه ، يلتقط في ترجمة الرواة جملة من الأسانيد عن الكتب الأربعة وغيرها ، ويجعلها دليلاً على التعرّف على شيوخ الراوي وتلاميذه وطبقته وعصره ، وقد طبع وانتشر وكان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي قدس‌سره يُثني عليه كثيراً.

١٤٢

ب. تصحيح الأسانيد : وهو بعد غير مطبوع ، ولم نقف عليه إلى الآن ، لكن ذكر المؤلّف مختصره وديباجته في آخر كتاب « جامع الرواة ». (١)

وقد حاول المؤلّف في هذا الكتاب تصحيح أسانيد الشيخ في « الفهرست » و « الاستبصار » بغير الطريق المذكور وإليك نصّ كلامه :

إنّي لمّا راجعت إليهما رأيت أنّ كثيراً من الطرق المورودة فيهما معلول على المشهور ، بضعف أو إرسال ، أو جهالة.

وأيضاً رأيت انّ الشيخ رحمه‌الله ربما بدأ في أسانيد الروايات بأُناس لم يذكر لهم طريقاً أصلاً ، لا في المشيخة ولا في « الفهرست » ، فلأجل ذلك رأيت من اللازم تحصيل طرق الشيخ إلى أرباب الأُصول والكتب ، غير الطرق المذكورة في المشيخة و « الفهرست » ، حتى تصير تلك الروايات معتبرة.

فلمّا طال تفكّري في ذلك وتضرّعي ، أُلقي في روعي أن أنظر في أسانيد روايات التهذيبين ، فلمّا نظرت فيها وجدت فيها طرقاً كثيرة إليهم غير ما هو مذكور في المشيخة والفهرست ، أكثرها موصوف بالصحة والاعتبار ، فصنّفت هذه الرسالة وذكرت فيها جميع الشيوخ المذكورين في المشيخة والفهرست ، وذيّلت ما فيهما من الطرق الضعيفة أو المجهولة بالإشارة إلى ما وجدت من الطرق الصحيحة أو المعتبرة مع تعيين موضعها ، وأضفت إليهم من وجدت له طريقاً معتبراً ولم يذكر طريقه فيهما. (٢)

ولزيادة التوضيح نقول : إنّه روى الشيخ في « التهذيب » روايات عن عليّ بن

__________________

١. لاحظ : الجزء الثاني من جامع الرواة : الفائدة الرابعة من خاتمته ، الصفحة ٤٧٣ ، ونقله المامقاني في خاتمة التنقيح.

٢. لاحظ ما ذكره المؤلف في الفائدة الرابعة من خاتمة كتابه « جامع الرواة » ، الصفحة ٤٧٣ ـ ٤٧٥. وما ذكرناه ملخّص ما أورده المحقّق البروجردي في تصديره لكتاب « جامع الرواة » : ١ / ٢٦٦.

١٤٣

الحسن الطاطري بدأ بذكر اسمه في أسانيده. مثلاً روى في كتاب الصّلاة هكذا : عليّ بن الحسن الطاطري قال : حدّثني عبد اللّه بن وضّاح ، عن سماعة بن مهران قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « إيّاك أن تصلّي قبل أن تزول ، فإنّك تصلّي في وقت العصر خير لك أن تصلّي قبل أن تزول ».

وقال في المشيخة : وما ذكرته عن عليّ بن الحسن الطاطري فقد أخبرني به أحمد بن عبدون ، عن عليّ بن محمّد بن الزبير ، عن أبي الملك أحمد بن عمر بن كيسبة ، عن عليّ بن الحسن الطاطري.

وهذا الطريق ضعيف بجهالة اثنين منهم : ابن الزبير وابن كيسبة ، ومقتضاه عدم اعتبار تلك الروايات الّتي يبلغ عددها إلى ثلاثين حديثاً في « التهذيب ».

وأمّا المحاولة ، فهي أنّا إذا رأينا أنّ الشيخ روى في باب الطّواف أربع روايات بهذا السند : موسى بن القاسم ، عن علي بن الحسن الطاطري ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان ، ثمّ وقفنا على أمرين :

١. إنّ موسى بن القاسم ـ أعني : من صدّر به السند ـ ثقة.

٢. طريق الشّيخ إليه صحيح ، فعند ذلك يحصل للشّيخ طريق صحيح إلى الطّاطري ، لكن لا عن طريقه إليه في المشيخة ولا في الفهرست ، بل عن طريقه في المشيخة إلى موسى بن القاسم.

ولأجل ذلك يقول الأردبيلي في مختصر تصحيح الأسانيد : وإلى علي بن الحسن الطاطري ، فيه عليّ بن محمّد بن الزبير في المشيخة والفهرست ، وإلى الطّاطري صحيح في التّهذيب في باب الطواف.

وهذا يعطي أنّ موسى بن القاسم ليس راوياً لهذه الروايات الأربع فقط ، بل راو لجميع كتاب الطاطري عنه ، فيعلم من ذلك أنّ الشيخ روى كتاب الطاطري

١٤٤

تارة بسند ضعيف ، وأُخرى بسند معتبر ، وبذلك يحكم بصحّة كلّ حديث بدأ الشيخ في سنده بالطاطري.

وقس على ذلك سائر الطرق الّتي للشيخ في الكتابين إلى المشايخ الّذين لم يذكر سنده إليهم في المشيخة ولا في الفهرست ، أو ذكر لكنّه ضعيف عليل ، وبهذا التتبّع يحصل له طرق صحيحة أنهاها صاحب الكتاب إلى خمسين وثمانمائة طريق تقريباً ، وعدد المعتبر منها قريب من خمسمائة طريق.

هذه خلاصة المحاولة وقد نقده المحقّق البروجردي بما يلي :

نقد السيد البروجردي

إذا روى موسى بن القاسم عن عليّ بن الحسن الطاطري ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان ، فهو يحتمل من جهة النقل من كتب المشايخ وجوهاً :

١. يحتمل أنّ موسى بن القاسم أخذ الحديث عن كتاب الطاطري ، وحينئذ روى موسى هذا الحديث وجميع كتاب الطاطري ، وبذلك يحصل للشيخ طريق صحيح إلى كتاب الطاطري ، وهذا هو الذي يتوخّاه المتتبّع الأردبيلي.

٢. يحتمل أنّ موسى بن القاسم أخذ الحديث عن كتاب درست بن أبي منصور وروى هذا الكتاب عنه بواسطة الطاطري.

٣. يحتمل أنّ موسى أخذ الحديث عن كتاب ابن مسكان ، وروى هذا الكتاب عنه بواسطة شخصين : الطاطري ، ودرست بن أبي منصور.

وعلى الاحتمالين الأخيرين ، يحصل للشيخ الطوسي طريق صحيح إلى كتاب درست بن أبي منصور ، وكتاب ابن مسكان ولا يحصل طريق صحيح إلى نفس

١٤٥

كتاب الطاطري الّذي هو الغاية المتوخّاة.

والحاصل : أنّه إذا كان طريق التهذيب إلى أحد المشايخ الّذين صدّر الحديث بأسمائهم وأخذ الحديث من كتبهم ، ضعيفاً ، فلا يمكن إصلاحه بما إذا وقع ذلك الشيخ في أثناء السند ، وكان طريقه إليه طريقاً صحيحاً ، لأنّ توسط الشيخ ( الطاطري ) في ثنايا السند لا يدلّ على أخذ الحديث عن كتابه ، بل من الممكن كون الحديث مأخوذاً عن كتاب شيخه ، أعني : درست بن أبي منصور ؛ أو شيخ شيخه ، أعني : ابن مسكان.

وهذا الاحتمال قائم في جميع ما استنبطه في أسانيد التهذيبين.

تمرينات

١. إذا كان طريق الشيخ في المشيخة إلى أصحاب الكتب ضعيفاً أو غير مذكور ، فهل يمكن تصحيح السند بالرجوع إلى الفهارس؟

٢. ما هو المراد من التعويض عن الطريق الضعيف الذي اقترحها الشيخ محمد الأردبيلي في تصحيح سند الشيخ إلى أصحاب الكتب؟

٣. اذكر نقد السيد المحقّق البروجردي لهذه المحاولة؟

١٤٦

الدرس السابع والعشرون

المصطلحات الرجالية

قد اصطلح علماء الحديث والرجال ألفاظاً في التزكية والمدح ، وألفاظاً في الجرح والذم ، لابدّ من الإشارة إليها وتبيين المراد منها ، فلنذكر مايدل على التزكية والمدح ثمّ نعقّبها بما يدلّ على خلافها.

إنّ الألفاظ الدالّة على التزكية بين صريح وغير صريح ، فنذكر من القسمين مايلي:

١. ثقة

وهذه اللفظة كثيرة التداول في الكتب الرجالية لاسيما في رجال النجاشي وفهرست الشيخ ومن بعدهما.

ذهب الشهيد الثاني إلى أنّ المراد منه هو العدل ، قال : إنّ هذه اللفظة « ثقة » وان كانت مستعملة في أبواب الفقه أعمّ من العدالة ، لكنّها هنا لم تستعمل إلاّ بمعنى العدل ، وقد يتفق في بعض الرواة ، أن يكرر في تزكيتهم لفظة « الثقة » وهو يدلّ على زيادة المدح. (١)

__________________

١. شرح الدراية : ٦٧.

١٤٧

وأمّا ما هو وجه العدول من لفظ « عدل » إلى لفظ « ثقة » فهذا ما أجاب عنه بهاء الدين العاملي وقال : إنّهم يريدون بقولهم « فلان ثقة » : عدل ضابط ، لأنّ لفظة الثقة من الوثوق ولا وثوق بما يتساوى سهوه مع ذكره ، وهذا هو السرُّ في عدولهم عن قولهم « عدل » إلى قولهم « ثقة ». (١)

والظاهر منهما انّه بمعنى العدل بالمعنى المتفق عليه بين الفريقين ، وأمّا دلالتها على كونه « إمامياً » فهذا ما ذهب إليه ابن صاحب المعالم والمحقّق البهبهاني.

قال ابن صاحب المعالم : إذا قال النجاشي ثقة ، ولم يتعرض لفساد المذهب ، فظاهره أنّه عدل إمامي ، لأنّ ديدنه التعرّض للفساد ، فعدمه ظاهر في عدم ظفره ، لشدّة بذل جهده وزيادة معرفته. (٢)

وقال المحقّق البهبهاني : إنّ الرواية المتعارفة المسلّمة المقبولة أنّه إذا قال : « عدل إمامي نجاشيّاً كان أو غيره » أو فلان « ثقة » يحكمون بمجرّد هذا القول انّه عدل إمامي ، لأنّ الظاهر من الرواة ، التشيّع والظاهر من الشيعة حسن العقيدة ، أو لأنّهم وجدوا منهم أنّهم اصطلحوا ذلك في الإمامية وإن كانوا يطلقون على غيرهم مع القرينة. (٣)

يلاحظ عليه : بأنّ هذه اللفظة من الألفاظ المتداولة بين الرجاليين من الخاصّة والعامّة ، وليس لعلمائنا فيه اصطلاح خاص ، ولو كان المذهب داخلاً في مفهوم الثقة ، يلزم أن يكون مشتركاً لفظياً بين الفريقين.

والذي يدلّ على ذلك هو انّ النجاشي يصف كثيراً من فاسدي المذهب

__________________

١. مشرق الشمسين : ٢٩٦ ، ضمن كتاب الحبل المتين.

٢. مقباس الهداية : ٢ / ١٤٨ ، الطبعة الحديثة.

٣. التعليقة : ٥.

١٤٨

بالوثاقة في كلتا الحالتين قبل رجوعه إلى المذهب وبعده ، ولا يرى فساد المذهب منافياً للوثاقة ، ولنذكر نماذج :

١. يقول في حقّ أحمد بن الحسن بن إسماعيل بن ميثم التمّار : قال أبو عمرو الكشّي : كان واقفاً ، وذكر هذا عن حمدويه ، عن الحسن بن موسى الخشاب ، قال : أحمد بن الحسن واقفي ، وقد روى عن الرضا عليه‌السلام وهو على كلّ حال ثقة صحيح الحديث ، معتمد عليه ، له كتاب النوادر. (١)

٢. ويقول في حقّ سماعة ، المعروف بالوقف : روى عن أبي عبد اللّه وأبي الحسن عليهما‌السلام مات بالمدينة ، ثقة ثقة. (٢)

ومن سبر الأُصول الرجالية الخمسة وما ألّف بعدها ككتاب « معالم العلماء » لابن شهر آشوب ، ورجال ابن داود وغيرهما يقف على أنّ صحّة المذهب غير مأخوذة في مفهوم الثقة ، وإلاّ لزم الالتزام بالمجاز في الموارد التي ذكرنا وغيرها ، وهو كما ترى ، إذ لا يشكّ الإنسان أنّه استعمل فيها وفي غيرها بمناط واحد.

وعلى كلّ تقدير ، فالقول بأنّ وصف النجاشي الراوي بالوثاقة ظاهر في كونه إمامياً إلاّ أن يصرّح بفساد مذهبه ، ليس أمراً قطعياً.

نعم إذا قال : ثقة في الحديث ، فلا يدلّ على كونه عدلاً ، بل على كونه صادقاً في حديثه. ذلك لأنّ النجاشي كثيراً ما يقيّد الوثاقة ، ويقول : الحسين بن أحمد بن المغيرة كان عراقياً ، مضطرب المذهب ، وكان ثقة فيما يرويه. (٣)

ويقول في حقّ علي بن محمد بن عمر بن رَباح القلاّء : كان ثقة في الحديث ، واقفاً في المذهب ، صحيح الرواية. (٤)

__________________

١. رجال النجاشي : ١ / ٢٠١ برقم ١٧٧.

٢. رجال النجاشي : ١ / ٤٣١ برقم ٥١٥.

٣. رجال النجاشي : ١ / ١٩٠ برقم ١٦٣.

٤. رجال النجاشي : ٢ / ٨٦ برقم ٦٧٧.

١٤٩

وحصيلة الكلام : انّه إذا أطلق ثقة يتبادر منه أنّه عدل بالمعنى المتفق بين العامة والخاصة ، نعم ذهب بعضهم إلى أنّ معناها كونه عدلاً بضميمة المذهب ، كما عليه ابن صاحب المعالم والمحقّق البهبهاني.

نعم لو قال : « ثقة في الحديث » فهو بمعنى كونه متحرّزاً عن الكذب.

٢. عين

يقال تارة : عين ، وأُخرى : عين من الأعيان ، والمراد منها خيار القوم وأفاضلهم وأشرفهم. (١) تشبيهاً لها بالعين التي هي من أشرف الأعضاء.

واحتمل المحقّق البهبهاني كونها بمعنى الميزان باعتبار صدق الراوي كما كان الصادق عليه‌السلام يسمّي أبا الصباح بالميزان لصدقه (٢) ، ولكنّه بعيد لأنّ العين تستعار للميل في الميزان لا لنفس الميزان على ما في المفردات. (٣)

وفي اللسان العين في الميزان : الميل.

٣. وجه

ربما يطلق : وجه ، وأُخرى وجه من وجوه الطائفة ، وفي اللسان : يقال فلان وجه القوم ، كقولهم : عينهم ورأسهم ، ووجه الاستعارة نفس ما مرّ في العين.

لا شكّ في دلالة اللّفظين « العين والوجه » على المدح الكثير.

نعم إنّ في دلالتهما على تزكية الراوي وجهين :

الأوّل : انّه يفيد المدح الكثير ، خصوصاً إذا قال : عين من الأعيان ، أو وجه من وجوه أصحابنا.

__________________

١. لسان العرب : مادة عين ، يقول : وأعيان القوم : أشرافهم وأفاضلهم ؛ ويقول أيضاً : عين المتاع : خياره.

٢. تعليقة الوحيد على منهج المقال : ١٠٤.

٣. المفردات : مادة عين.

١٥٠

الثاني : انّه يدلّ على التعديل ، اختاره الرجالي الكبير الميرزا محمد الاسترآبادي (١) ، والمحقّق الداماد. (٢)

والحقّ انّه يفيد المدح التام إلاّ أن تدلّ القرينة على خلاف ذلك.

٤. ممدوح

ولاريب في إفادته المدح في الجملة ، لا الوثاقة ، ولا كونه إمامياً ، الموجب لصيرورة الحديث حسناً.

فإنّ للمدح أسباباً مختلفة ؛ منها ما به دخل في قوّة السند ، وصدق القول ، مثل صالح وخيّر ؛ ومنه مالا دخل له فيهما ، ككونه متواضعاً ، محبّاً لأهل العلم. (٣)

٥. من أولياء أمير المؤمنين عليه‌السلام

ولاريب في دلالته على المدح المعتدّ به الموجب لصيرورة السند من أقسام القوي إن لم يثبت كونه إمامياً ، ويكون السند من قبيل الحسن إن ثبت كونه إمامياً.

وربّما يشعر كونه عادلاً بقرينة المقام كقولهم في حقّ سليم بن قيس : من أولياء أمير المؤمنين.

٦. صاحب سرِّ أمير المؤمنين عليه‌السلام

وقد ورد في قول كميل للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ألستُ صاحبَ سرّك.

فكون الرجل صاحب السرِّ ، مرتبة فوق مرتبة العدالة.

____________

١. مقباس الهداية : ٢ / ٢١٠.

٢. مقباس الهداية : ٢ / ٢١٠.

٣. مقباس الهداية : ٢ / ٢١٢ بتصرف يسير.

١٥١

٧. من مشائخ الإجازة أو هو شيخ الإجازة

ولاريب في إفادته المدح المعتدّ به ، وأمّا في دلالته على الوثاقة فقد مرّ بيانه. (١)

٨. شيخ الطائفة أو من أجلاّئها أو معتمدها

إنّ دلالة كلّ منها على المدح المعتد به ظاهرة لا ريب فيها ، وقال المحقّق البهبهاني : إنّ فيها إشارة إلى الوثاقة ، مضافاً إلى الجلالة.

ونظيره قولهم : شيخ القميّين وفقيههم ومرجعهم ورئيسهم. فربما يستفاد منها التعديل ، لأنّ الطائفة لا ترجع إلاّ لمن عرف دينه وأمانته.

٩. لا بأس به

وهو يفيد مطلق المدح ، وأمّا استفادة الوثاقة بمعنى العدالة فلا يدلّ عليها.

١٠. مضطلع بالرواية

لا ريب في إفادته المدح لكونه كناية عن قوّته وقدرته عليها ، كأنّه قويت ضلوعه بحملها ، وأمّا التوثيق فلا.

١١. خاصي

وهو يفيد المدح وانّه شيعي.

١٢. متقن

ولا شكّ انّه يفيد المدح ، أي أتقن أخذ الرواية ونقلها.

__________________

١. الدرس الثامن.

١٥٢

١٣. ثَبت

وهو على وزن حسن يدلّ على ثبوت التثبّت في الحديث ودوامه ، إذ لا ينقل إلاّ عن اطمئنان واعتقاد ، ورجل ثبت : أي متثبّت في الأمر.

١٤. يحتجّ بحديثه

وهو يدلّ على المدح.

١٥. صدوق أو محل الصدق

وهو يفيد المدح المعتدّ به دون العدالة.

١٦. يُكتب حديثه أو يُنظر في حديثه

كلاهما يفيدان المدح المعتدّ به ، لدلالتهما على كون الراوي محل اعتناء واعتماد. نعم لا يفهم منه التوثيق.

١٧. شيخ أو جليل

وهو يفيد المدح المعتدّ به.

١٨. صالح الحديث أو نقيّه

وكلاهما يدلاّن على المدح المعتدّ به.

١٩. مسكون إلى روايته

ويدلّ على المدح المعتدّ به ، بل نهاية قوّة روايته.

٢٠. ديّن

وهو يدلّ على المدح المعتدّ به ، المقارب للتوثيق ، فإنّ المراد منه الملتزم

١٥٣

بأحكام الدين ولايطلق إلاّ على من كان ملتزماً بجميع أحكام الدين ، ومن كان كذلك فهو عادل.

٢١. كثير المنزلة

أي عالي الرتبة ، وهو من ألفاظ المدح المعتدّ به ، لقولهم عليهم‌السلام : « اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنّا ». (١)

إلى غير ذلك من الألفاظ المشيرة إلى العدالة أو المدح ، وبقيت هناك ألفاظ أُخرى يعلم حكمها بالإمعان فيما ذكرنا.

تمرينات

١. ما هو المراد من لفظ « الثقة » في الكتب الرجالية؟

٢. إذا قيل انّ الثقة في مصطلح الرجاليّين ترادف « العدل » ، فما هو دليل القائل؟

٣. ما هو المراد من توصيف الراوي بأنّه عين ، وجه؟

٤. اذكر سائر المصطلحات التي تدلّ على مدح الراوي.

__________________

١. الكافي : ١ / ٥٠ ، الحديث ١٣.

١٥٤

الدرس الثامن والعشرون

في ألفاظ الذمّ والقدح

قد تعرّفت على ألفاظ المدح والتعديل ، وإليك بعض ما يستعمل في حقّ الرواة من ألفاظ الذم والقدح.

منها : ما يدلّ على فسقه ، كالألفاظ التالية :

١. كذّاب.

٢. وضّاع للحديث.

٣. يختلق الحديث.

٤. ليس بصادق.

٥. ليس بعادل.

إلى غيرها.

ومنها : ما يشعر بفساد العقيدة ، كالألفاظ التالية :

٦. غال.

٧. ناصبي.

٨. فاسد العقيدة.

٩. ملعون.

١٥٥

١٠. خبيث.

١١. رجس.

ومنها : ما يدلّ على الطعن فيه ، كالألفاظ التالية :

١٢. متّهم.

١٣. ساقط ( أي حديثه ساقط ).

١٤. متروك ( أي يترك حديثه ).

١٥. ليس بشيء.

١٦. لا يعتدّ به.

١٧. لا يعتنى به.

١٨. ضعيف ، وهو يدلّ على سقوط روايته وإن لم يكن في تلك الشدّة والغلظة. وأمّا إفادته القدح في نفس الرجل ، فلا ، لأعميّة الضعف من الفسق ، لأنّ أسباب الضعف عندهم كثيرة كقلّة الحفظ ، أو سوء الضبط ، أو الرواية عن الضعفاء والمجاهيل ، أو عن فاسدي العقيدة.

١٩. مضطرب الحديث.

٢٠. منكر الحديث.

٢١. ليّن الحديث ، أي يتساهل في روايته من غير الثقة.

٢٢. ساقط الحديث.

٢٣. متروك الحديث.

٢٤. ليس بنقيّ الحديث.

٢٥. يعرف حديثه وينكر.

وربّما يفسّر بأنّ بعض أحاديثه معروف ، وبعضها منكر لا يوافق الكتاب

١٥٦

والسنّة ، وربّما يفسّر بغير ذلك. (١)

٢٦. غُمِز عليه في حديثه.

٢٧. واهي الحديث.

٢٨. ليس بمرضي الحديث.

٢٩. مرتفع القول.

المراد انّه من أهل الارتفاع والغلو ، فيكون ذلك جرماً حينئذ لذلك.

٣٠. متّهم بالكذب أو الغلو أو نحوهما من الأوصاف القادحة ولاريب في إفادته الذم ، بل جعله في البداية من ألفاظ الجرح.

٣١. مخلّط أو مختلط في الحديث.

والأوّل ظاهر انّه مخلط في اعتقاده. روى الشيخ عن إسماعيل الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل يحبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا يبرأ من عدوّه؟ ... فقال عليه‌السلام : « هذا مخلّط ». (٢)

والثاني بمعنى مضطرب الحديث ، وليس بنقيّه ، وما أشبه ذلك.

إكمال

إنّ اقتصار علماء الرجال في استكشاف عدالة الراوي على لفظي « ثقة » أو « عدل » صار سبباً إلى عدّ أحاديث كثير من مشايخ الشيعة وعدولهم ممّن لم يُنص على عدالتهم ووثاقتهم في عداد الحسان ، وإليك بعض النماذج :

أ. إبراهيم بن هاشم ، فبما انّه لم ينص على وثاقته يعدّ كلّ حديث ورد هو في

__________________

١. لاحظ : تنقيح المقال : ١ / ١٩٢ ، قسم المقدمة ، الفائدة الرابعة.

٢. تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨ ، الحديث ٩٧.

١٥٧

سنده من الحسان ، ولكن يمكن أن يقال باستفادة العدالة من القرائن الدالّة على العدل ، ولنذكر من باب المثال ما ذكروه في حقّ إبراهيم بن هاشم ، قالوا :

« إنّه أوّل من نشر حديث الكوفيّين بقم » وهذه الجملة يستكشف منها حسن ظاهره في مجتمع القميّين ، إذ النشر متوقّف على علمه أوّلاً ، وتلقّي القميّين عنه ثانياً ، ورواية عدّة من أجلاّء القميّين عنه ثالثاً.

فقد روى عنه محمد بن الحسن الصفار ( المتوفّى عام ٢٩٠ هـ ) ، وسعد بن عبداللّه بن أبي خلف الأشعري ( المتوفّى عام ٣٠١ أو ٢٩٩ هـ ) ، وعبد اللّه بن جعفر الحميري الذي قدم الكوفة سنة تسع وتسعين ومائتين ، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ( المتوفّى عام ٣٤٣ هـ ) ، ومحمد بن علي بن محبوب ، ومحمد بن يحيى العطار ، وأحمد بن إسحاق القمّي ، وعلي بن بابويه ، وغيرهم من الذين رووا عنه وقبلوا منه وحفظوا وكتبوا وحدّثوا بكلّ ما أخذوا عنه.

أو ليس كلّ هذا يلازم كون ظاهر إبراهيم ظاهراً مأموناً وكونه معروفاً عندهم باجتناب الكبائر وأداء الفرائض؟ إذ لو كان فيه بعض ، لاستبان ; لأنّ نشر الحديث لا ينفك عن المخالطة المظهرة لكلّ خير وسوء ، ولو كان فيه بعض ذلك لم يجتمع هؤلاءعلى التلقّي منه ، والتحدّث عنه ، فهذه العبارة مع هذه القرائن تفيد العدالة.

أضف إلى ذلك انّه كان يعيش في عهد أحمد بن محمد بن عيسى رئيس القميّين في عصره ، وهو الذي أخرج أحمد بن محمد بن خالد من قم لروايته عن الضعفاء ; أو ليست هذه القرائن بمنزلة قول النجاشي : « ثقة » أو « عدل » أو « ضابط »؟ وبذلك يظهر انّ قولهم حسنة إبراهيم بن هاشم أو صحيحة ، لا وجه له ، بل المتعيّن هو الثاني.

١٥٨

ويدلّ على ذلك أيضاً انّ كثيراً من الأصحاب قد اشتهروا بالعدالة والوثاقة مع أنّه لم يرد فيهم إلاّ الإطراء والمدح اللازم لحسن الظاهر ، فلو جعلنا حسن الظاهر كاشفاً عن ملكة العدالة والوثاقة ، فليكن كاشفاً في كافة الرواة لا في جماعة خاصة.

هذا هو النجاشي يعرّف زرارة بن أعين ، بقوله : شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدّمهم وكان قارئاً ، فقيهاً ، متكلماً ، شاعراً ، أديباً ، قد اجتمعت فيه خصال الفضل والدين ، صادقاً في ما يرويه. (١)

ب. وقال في ترجمة أبان بن تغلب : عظيم المنزلة في أصحابنا ، لقي علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد اللّه عليهم‌السلام وروى عنهم ، وكانت له عندهم منزلة وقدم. (٢)

ج. وقال في ترجمة بريد بن معاوية ما هذا لفظه : وجه من وجوه أصحابنا وفقيه أيضاً ، له محل عند الأئمّة. (٣)

د. وقال في ترجمة البزنطي : لقي الرضا وأبا جعفر عليهما‌السلام ، وكان عظيم المنزلة عندهما. (٤)

هـ. وعرّف ثعلبة أبا إسحاق النحوي بقوله : كان وجهاً في أصحابنا ، قارئاً ، فقيهاً ، نحويّاً ، لغويّاً ، راوية ، وكان حسن العمل ، كثير العبادة والزهد. (٥)

و. وعرّف أحمد بن محمد بن عيسى بقوله : شيخ القمّيّين ووجههم

__________________

١. رجال النجاشي : ١ / ٣٩٧ ، برقم ٤٦١.

٢. رجال النجاشي : ١ / ٧٣ برقم ٦.

٣. رجال النجاشي : ١ / ٢٨١ برقم ٢٨٥.

٤. رجال النجاشي : ١ / ٢٠٢ برقم ١٧٨.

٥. رجال النجاشي : ١ / ٢٩٤ برقم ٣٠٠.

١٥٩

وفقيههم. (١)

ز. وعرّف شيخه الحسين بن عبيد اللّه بن الغضائري بقوله : شيخنا رحمه‌الله. (٢)

ح. كما عرّف أبا يعلى الجعفري خليفة الشيخ المفيد بقوله : متكلّم. (٣)

وحصيلة الكلام : انّه يجب على المستنبط رفض التقليد والخوض في تراجم الرواة والاستشهاد بكلمات الرجاليّين أوّلاً والقرائن الدالّة على مدى منزلة الرجل من الصدق والعدل ثانياً ، وغير ذلك من الأوصاف التي لها مدخلية في الاحتجاج.

تمرينات

١. اذكر بعض المصطلحات الدالّة على الذمّ والقدح.

٢. ما هو المراد من قولهم : مرتفع القول أو مخلِّط أو مختلط؟

٣. هل يقتصر في كشف عدالة الراوي على وصف الرجاليّين له بالثقة والعدل ، أو هناك طريق آخر؟

__________________

١. رجال النجاشي : ١ / ٢١٦ برقم ١٩٦.

٢. رجال النجاشي : ١ / ١٩٠ برقم ١٦٤.

٣. رجال النجاشي : ٢ / ٢٣٣ برقم ١٠٧١.

١٦٠