السّقيفة امّ الفتن

الدكتور جواد جعفر الخليلي

السّقيفة امّ الفتن

المؤلف:

الدكتور جواد جعفر الخليلي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الإرشاد للطباعة والنشر
المطبعة: الإرشاد للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٢٠

يحافظ على مركزه بنظر افلاطون أحكم الحكماء والتي تتمركز فيه أصالة السلامة ، ومن تكون تربيته أرفع ، وقد مارس الإدارة واعتمدت عليه النخبة العالمة من الأمة لا الرعاع.

وهل تجد غير علي عليه‌السلام فهو رغم صغره ، الأسبق للإيمان والأتقى والأعلم والأشجع والأحلم والأعدل والأحب لله ولرسوله والأقرب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من لحمه لحمه ودمه دمه بل نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آيات المباهلة والطهارة والولاية ، وكما يعرف ذلك بمراجعة الوقائع كيوم خيبر وحديث الطير (١).

وإذا عدنا لحكومة الطبيعة في الجسم الإنساني ففيه حقيقة ناصعة ، وهي إننا عندما نفقد عضوا فعلينا إبداله بعضو يحاكيه ومن جنسه بحيث يحمل نفس صفاته ومميزاته ، فمن هو أقرب من علي عليه‌السلام ليشغل محل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أثبتت آية المباهلة (تعالوا ندع أبناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ...) (٢) إن عليا نفس محمد ، وفيه آية الولاية (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (٣). له عليه‌السلام نفس صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنزلته ، وقد أيدتها الأحاديث ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه باب علمه وأعلم وأتقى الأمة ، وقد وصى به رسول الله في حديث الثقلين : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا» ، وحديث المنزلة «إن عليا مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ، والأحاديث الكثيرة الجمة التي قال في بعضها : علي مني وانا من علي ، لحمه لحمي ودمه دمي. وكم كرر صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله بلزوم

__________________

(١) تجد اسناد ما ذكرنا في علي عليه‌السلام الجزء الأول والثاني اسنادا مستمده من الصحاح والمسانيد والمؤلفات لأهم ائمة المذاهب ورجالاتهم ، راجع الجزء في الأول والثاني من موسوعتها هذه لنرى اسناد ما ذكرناه.

(٢) آل عمران ، ٦١.

(٣) سوره المائدة ، الآية : ٥٥.

٤١

اتباعه إن شئتم أن لا تضلوا ، وكم قال إنه أخي ووزيري ، فهل هناك من هو أولى وأنسب من علي عليه‌السلام ليحل محل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مادة ومعنى ، وقد نزلت فيه الآيات المارة الذكر وغيرها حتى بلغت الثلثمائة آية.

فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحيد بين قومه الذي تتزعزع اثر موته الأمة ، وهذا ما نطقت به الآية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل افأن فلأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ...) (١).

وحفظا من هذا الانقلاب والانهيار إلى الضلال ، فقد دلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهداهم إلى السبيل القويم الذي إن تمسكوا به ما كانوا ليضلوا أبدا ، وهو التمسك بالثقلين ، واتباع أخيه في حديث الغدير ، وقبله يوم الدار وغيرها وغيرها! (٢).

__________________

(١) سورة ... ، الآية ....

(٢) الرضوي : حديث الثقلين دلالته على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام : لاقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه ، ومن البديهي أن صدور آية مخالفة للشريعة سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة ، تعتبر افتراقا عن القرآن في هذا الحال وإن لم يتحقق انطباق عنوان المعصية عليها أحيانا كما في الغافل ، والساهي. والمدار في صدق عنوان الافتراق عنه عدم مصاحبته لعدم التقيد بأحكامه وإن كان معذورا في ذلك ، فيقال فلان ـ مثلا ـ افترق عن الكتاب وكان معذورا في افتراقه عنه ، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتى يردا على الحوض. انظر : «الأصول العامة للفقه المقارن ، ص ١٦٦.

ومن خطبة للإمام الحسن السبط عليه‌السلام ـ من خطبته فيما خص الله به أهل البيت عليهم‌السلام ـ قال :

وأقسم بالله لو تمسكت الأمة بالثقلين لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، ولأكلوا نعمتها خضراء من فوقهم ومن تحت أرجلهم من غير اختلاف بينهم إلى يوم القيامة ، قال الله عز وجل (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم). (سورة المائدة الآية ٦٦)

وقال عز وجل : (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون). (سورة الأعراف ، الأية ٩٦) =

٤٢

__________________

= انظر الروائع المختارة من خطب الامام الحسن السبط ص ٥٨ ط مصر.

وقال الكاتب المصري صالح الورداني :

لقد ترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمة الكتاب ، وربط هذا الكتاب بآل البيت عليهم‌السلام بزعامة الامام علي عليه‌السلام فمن التزم بالكتاب التزم بآل البيت عليهم‌السلام. ومن حاد عن الكتاب حاد عن آل البيت عليهم‌السلام.

إن ربط الكتاب بالإمام يضفي المشروعية على كل خطوات الإمام ومواقفه ، فهو قد اختير من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكون مفسر هذا الكتاب والمعبر عنه والناطق بلسانه. انظر السلف والسياسة ص ١١٢ ط أولى عام ١٩٩٦ دار الجسام ـ القاهرة.

وقال العلامة المحقق الثبت السيد حامد حسين اللكهنوي طاب ثراه :

دلالة الحديث على عصمة الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام :

١ ـ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر فيه باتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، وحاشاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمر باتباع الخاطئين والمخالفين للكتاب والسنة.

٢ ـ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرنهم بالكتاب وأمر باتباعهما معا ، فكما أن الكتاب منزه من كل باطل ، فأهل البيت عليهم‌السلام كذلك.

٣ ـ لأنه جعل التمسك بهم مانعا من الضلال كالكتاب ، ومن كان جائزا عليه الضلال لا يكون مانعا منه ...

٤ ـ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صرح بعدم الافتراق بين الكتاب والعترة ، أي فإنهم لا يخالفونه في وقت من الأوقات.

٥ ـ لأنه صرح في بعض طرقه بقوله : «هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض» وهذا تخصيص بعد تعميم ... انتهى كلامه طاب ثراه. عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الاطهار : ٢ / ٤٤ حديث الثقلين قسم السند.

وقال الله تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر : ٧.

وقال الكاتب المصري الاستاذ صالح الورداني :

ركائز الاسلام النبوي :

ـ القرآن ..

ـ آل البيت ..

القرآن : لقد أوصى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة بالقرآن وخص عليه في روايات ومواضع كثيرة =

٤٣

فهل تعجب بعد هذا إذا وجدت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضطربة ، مشتتة ، مستضعفة لا تستقر على حال ، وكيف ترجو فيها خيرا وقد بدأت بغصب منصب خليفته وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين وجبت طاعتهم والصلاة عليهم تسع مرات في اليوم ، أي في كل تشهد!

هل تعجب من انخذال الامة ، ونفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخيه ووصيه وخليفته يقتل

__________________

= كانت آخرها حجة الوداع ، حيث أوصى الأمة بضرورة التمسك بالكتاب والعترة آل البيت عليهم‌السلام ...

يروي البخاري عن طلحة قال :

سألت عبد الله بن أبي أوفى ، أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : لا ، فقال : كيف كتب على الناس الوصية؟ أمر بها ولم يوص؟ فقال : أوصى بكتاب الله. البخاري ، كتاب فضائل القرآن باب ١٨.

ويروى أن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه .. البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب ٢١.

ويروي مسلم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله في خطبة الوداع :

.. كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به.

فحث على كتاب الله ، ورغب فيه .. انظر مسلم كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي عليه‌السلام.

ومثل هذه الروايات التي تشير إلى أن القرآن كان موجودا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان الصحابة يتناولونه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد برز من بينهم من هو ماهر فيه ، ملتزم به ، يحفظه عن ظهر قلب.

وعلى رأس هؤلاء كان الإمام علي عليه‌السلام ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ...

وروي عن ابن مسعود قوله : والله الذي لا إله غيره ما انزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت. المرجع السابق. ويلاحظ أن هذه الرواية جاءت على لسان الإمام علي عليه‌السلام بنفس النص. انظر طبقات ابن سعد ٢ / ٣٣٨.

إلا أن أبا بكر حين قام بجمع القرآن لم يستعن إلا بزيد بن ثابت وحده.

وعثمان حين ألزم الامة بمصحف واحد اختار مصحف حفصة الذي كان قد جمعه أبو بكر ، ولم يختر مصحف الإمام عليه‌السلام أو ابن مسعود ، أو أبي بن كعب أو ابن عباس ، ولم يستعن بأي من هؤلاء لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان ، حتى أنه كان هناك مصحف لدى عائشة أيضا لم يستعن به. انظر البخاري. وكتاب تاريخ القرآن. وفصل «القرآن» من كتابنا : «الخدعة».

٤٤

مظلوما ويسب على المنابر بعد كل صلاة عيد ، وهل تعجب وذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستضعفون بعد موته ثم يقتلون ويقطعون ويسلبون ويحرقون ويسبون ويسمون ، وهل تستغرب قتل صحابة رسول الله بعد تعذيبهم (١)! وهل تستغرب منع تدوين سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديثه قهرا وقسرا ، حتى يمر الزمان ويقضى على النخبة من الصحابة وهم تحت كابوس من الضغط ، ولا يطيق أحدهم أن ينبس ببنت شفة ولا يسمح له بالخروج من المدينة إلا تحت أوامر صارمة (٢) ، وهل تستغرب أن تستباح مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتضرب كعبة المسلمين بالمنجنيق ، ويقتل فيها الآمنون ، وهل تستغرب أن تستبيح أم المؤمنين قتل مئات بل ألوف الصحابة والمسلمين قبل شروع القتال وبعده في حرب الجمل ، وهل تعجب من شخص يجلس مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسمي نفسه خليفته تم يحلل حرامه ويحرم حلاله ، وما لا يحصى ولا يعد من المنكرات!

ألا تعجب إذا رأيت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نفسه منكرا! ، ألا تعجب وأنت ترى وتسمع نسبة فضائل علي عليه‌السلام وذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأعدائه وأعدائهم وتزييف وتحريف الحقائق على رؤوس الاش هاد! ، ألا تعجب ومال الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين يبذل في غير سبيل الله ، بل في سبيل المنكرات والموبقات! ، أتريد بعد هذا خبرا لأمة محمد والمظالم تترى على محبيه ومحبي آله وذراريه وهم أهل الكتاب والسنة وهم المخلصون من شيعة محمد وآله!

ألم يجر ذلك في زمن بني أمية؟ ووضع حجره الأساس في زمن أبي بكر وعمر

__________________

(١) باسم الردة كمالك ابن النويرة وصحبه ، وسيأتي ذكرهم في هذا الجزء ، وما وقع للصحابه في زمن عثمان ، وما فعلته أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير في البصرة في حرب الجمل ، وسيأتي تفصيل ذلك في الجزء الخامس.

(٢) سيأتي ذلك في هذا الكتاب والكتاب الرابع في عهد عمر.

٤٥

وعثمان برفع بني سفيان وتقويتهم؟ لا والله لن ندرك العز ولن نبلغ السلام الدائم إلا باتباع كتاب الله وتطبيقه تطبيقا صحيحا ، واتباع سنة محمد وآله عليهم‌السلام واتباع خطاهم حذو النعل بالنعل ، واتباع صحابته المخلصين الذين لا تأخذهم في الله عزوجل ورسوله وآله عليهم‌السلام لومة لائم ، أولئك الذين اتبعوا أوامر الله ونواهيه ورفض كل من غير وبدل نصوص القرآن وسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومناهجه ، وسحق ومحق ما تركوه من مخلفاتهم المنكرة وبدعهم الضالة وسننهم الباطلة وعاداتهم المستهجنة ، وقد أوضحت كل شئ لمن أعطي المنطق الصائب والرأي الثاقب ، لمن حملت طيات قلبه الإيمان واليقين بحكمة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودين الاسلام المبين وقرآنه المجيد ، ولم يلبس الحق بالباطل وأخلص لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تأخذه العزة بالأثم أو لومة لائم ، ولم تغلب عليه العصبية الجاهلية والنفس الأمارة بالسوء والعادات المزرية التي خلفتها السنون والأحقاب ، على يد أعداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعداء آل بيت النبوة عليه‌السلام ، ومن هو اشد عداوة كآل أمية وآل مروان ، ومن أسند لهم ذلك الملك وهيأه لهم ، ومن سار على هداهم وهدى أئمة السوء والمنحرفين عن الصراط المستقيم والمنجرفين إلى هوة الضلال السحيقة.

٤٦

علم التربية

يهتم علماء التربية اليوم في بانتخاب الافراد ، والأفراد يتمايزون بينهم في نواح ثلاث :

١ ـ الوارثة : وقد اعتقدوا وثبت علميا أن الصفات الخلقية والخلقية تنتقل للأبناء والأحفاد من الآباء والأمهات والاجداد والجدات بالتوارث ، كما تنتقل للأبناء والأحفاد أيضا الصفات المكتسبة ، ومما ينتقل الكثير من الأمراض التناسلية والأمراض الروحية والنفسية والاجتماعية وكثير من الطباع والأخلاق ، فترى على الأغلب في العوائل الواحدة أن الصفات الحميدة والفضائل والمحاسن أو عكسها المساوئ تنتقل إلى الأبناء مثلما تنتقل لهم التقاطيع والأشكال والملامح ، وكثيرا ما يعرف من ملامح الأبناء نسبهم إلى العائلة. وطالما عرف الأبناء لسلوكهم وسيمائهم بالنسبة لآبائهم القريبين أو البعيدين ، وكما تنتقل بعض المزايا الحسنة من حب الخير والبر والاحسان ، تنتقل مثلها السيئة كالشراسة والتعدي والإجحاف والمساوئ الأخرى ، وكما ترى في البعض انتقال العقول السليمة والأذواق الحميدة ترى مثلها في غيرهم انتقال الشذوذ والانحرافات الخلقية كالسفه والجنون.

لذا ترى في كثير من العائلات التي تبغي التزويج سواء لأولادهم أو لبناتهم أنهم يطلبون قرناء سالمين من الانحرافات الوراثية في آباء القرناء وأجدادهم ، وعلى

٤٧

الغالب يبحثون عن السلامة ودرجة الأفراد من حيث المستوى الفكري وعدم وجود عاهة نفسية أو روحية أو عقلية في أفراد العائلة الخاطبة إذا كانت مخطوبة منها أو المخطوبة منها إذا كانت خاطبة ، حذار انتقال تلك العاهة إلى ابنائها.

٢ ـ التربية : تشمل هذه التربية البيتية والتعاليم المدرسية من الأم والأب والأجداد والإخوة والأقارب الذين يعيشون معهم ، والتعليم عند المعلمين وآرائهم ودرجة تأثير هؤلاء المربين والمعلمين على هؤلاء الناشئة في سلوكهم البيتي والاجتماعي والصفات الأخلاقية والعادات الاجتماعية من الحسنات والسيئات المنتقلة للمتعلمين.

٢ ـ المحيط : ويقصد به البيئة التي يقضي فيها هؤلاء الأطفال والصبيان والشباب بقية فراغهم عند مختلف الجماعات ، كالأصدقاء ومحلات النزهة واللعب والاستمتاع والمجالس والتجارة والاكتساب والجيران والأماكن التي يمرون فيها في الذهاب والإياب ، والذين يسرحون ويمرحون معهم وأصدقاء آبائهم وبقية العائلة.

ونستطيع أخيرا أن نعرف الأشخاص بعد مرورهم في هذه الأدوار ، من طرز سلوكهم وآرائهم وأعمالهم وبيعهم وشرائهم ودرجة ثقافتهم ونوعها ، وأعظم من ذلك نستطيع أن نقدر من نوع الوراثة والتربية والمحيط حياة الناشئة وسلوكها الأدبي والأخلاقي والاجتماعي.

فشتان بين من نشأ في أحضان النزاهة والفضيلة وكرم الاخلاق وتربى على يد أعظم مرب في البشرية وأسماهم خلقا وأرفعهم مثلا ، ذلك الصادق الأمين محمد ٦ ومن أبوين موحدين (١) كريمين وبين غيره من الناس.

__________________

(١) أسناد إيمان أبي طالب وزوجته.

٤٨

ذلك علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، الذي امتاز بإيمانه وأجداده ومكانته العائلية ومحيطه الجليل وتربيته الفذة على يد أرقى البشر وأصدقهم وأحكمهم وأرفعهم نفسا وأعظمهم خلقا ، مدينة العلم والحكمة الذي اختار له من أقرب الناس وأشجعهم واطوعهم وأحبهم له ناصرا ومعينا وأخا ووزيرا ووصيا وخليفة ، فجعله باب علمه وحكمته ، وجعل ذريته من ذريته وذرية صفيته الزكية الطاهرة ، بل جعله نفسه وأمين سره ، ودربه على شؤون الخلافة في حياته ، في الحل والترحال والحرب والسلام ، فكان القائد المبرز والمدير المحنك عند استخلافه في المدينة ، وسفيره في تلاوة سورة البراءة على أهل مكة ، وواليه على أهل اليمن ، وهاديهم ومعلمهم ، ومرشدهم الوحيد الذي كان مفخرة وعزا للمسلمين ، أينما وجهه فتح الله على يده.

ناصر الله ورسوله وحصن المسلمين ، وركن الإيمان وقاهر الجبابرة وقاتل الفجرة ومذل المشركين ، يعسوب الدين وقائد الغر المحجلين ، وحبيب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي جعله جل شأنه نفس رسوله وطهره وزوجته ونبيه من الرجس ، وأنزل فيه الآيات البينات ، وكرم وجهه من الشرك وكل رذيلة وخسة ، وعصمه من أية زلة وخطيئة ، محطم الأصنام والذاب عن دينه ورسوله بالحسام. من مثله وقد نصبه علما منذ صباه ولما يبلغ الحلم؟ من مثله في وراثته من آبائه وأجداده؟ ومن مثله في تربيته وقيامه وقعوده وتعليمه منذ الطفولة والصبا مع رسول الله وخاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ والذي كان غوثه ومدركه وفاديه بنفسه ، فهو حبيبه ومدربه ، من مثله يافعا وشابا؟ (١)

فهو أحكم الحكماء الذي نص عليه افلاطون ليتزعم جمهوريته ، إذ هو نخبة النخبة بين الأعوان والأنصار والأقرباء الأطهار وأبو السلالة الكرام الأبرار.

وهو في حكومة الطبيعة والفطرة البشرية والجسم الإنساني نفس رسول

__________________

(١) راجع الجزء الأول والثاني من موسوعتنا هذه.

٤٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لحمه ودمه ونفسه وروحه ، وعلمه وحكمته وخصاله وصفاته ووارثه ووصيه ، بما نزل به من الوحي من الله ونطق به كتابه المؤيد في سوره وآياته وبما أبداه النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه فقال : هو مني بمنزلة هارون من موسى ، وذريته ذريته ، وهو نفسه وأخوه ووصيه وحبيبه وعيبة علمه وأبو ذريته ، وهو الذي قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ستقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل (١) ، الذي قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، وخطب القوم مشيرا لصدره : هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢). وهو من حيث الوراثة والتربية والمحيط نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفس منزلته.

نفس الآباء والمربين ، نفس الخلق والصفات والمكارم والأمجاد ، فقد امتدحه الله في كتابه وأشاد به وطهره من الرجس كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعبر عنه في آية المباهلة بنفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل له حق الولاية كرسول الله في آية الولاية وجعله مثله في غدير خم ، مولى كل مؤمن ومؤمنة ، من أحبه أحبه الله ورسوله ومن أبغضه أبغضه الله ورسوله ، ومن نصره نصره الله ورسوله ، وهو أحب خلق الله لله في حديث الطير ، وأخيرا هو صاحب المكرمات ، وأبو الفضائل ، من لا يجاريه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد قط ، ومن يستطيع أن يملأ مكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويسد الثلم الذي أحدثه موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ إلا هو وحده طبق حكم الحكماء ورأى العلماء ، والحقائق الصادقة والتجارب الناطقة ، ليس سواه.

فهل يجوز لمن نشأ على الشرك طفلا وصبيا ويافعا وشابا وكهلا ، وأتى ما أتاه القوم من المنكرات من الظلم والتعدي ووأد البنات ولعب القمار وشرب المسكرات وعبادة الأوثان ، وتخلق بأخلاق القوم واختلطت بلحمه ودمه وكل جوارحه

__________________

(١) راجع الجزء الأول والثاني من موسوعتنا هذه.

(٢) من خطبة في نهج البلاغة.

٥٠

وروحه ومازجت صفاته وأخلاقه ، وهو لا يزال يميل للقوم المشركين ، وكان يحتسيها حتى فتح مكة ويرثي قتلى بدر من المشركين ويقرب الصلاة سكرانا (١) ، وهو لا يأبه بأوامر الله وسنن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيرغم وصي رسول الله على بيعته ويجلبه حاسر الرأس حافي القدمين مهددا بالقتل ليبايعه قهرا وقسرا (٢) ، وهو لا ينازعه خوف الفتنة ، ولا يخاصمه حذر الشقاق ، سوى قوله أنا عبد الله وأخو رسوله ، ليذكرهم بالحقائق عسى أن يرعووا.

ولكن هيهات .. وهم الذين يعرفون عصمة آل البيت عليهم‌السلام ، وقد جمعوا الحطب لحرق داره وفيها البتولة بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصديقة الطاهرة عليها‌السلام وريحانتا رسول الله الحسن والحسين عليهما‌السلام سيدا شباب أهل الجنة ، ولا يكتفون بذلك حتى يضغطوا الزهراء بين الحائط والباب ويسقطوا جنينها ويضربوها ، وبعدها يسلبون نحلتها فدكا على خلاف حدود الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، ويقصون عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل هاشمي من أية ولاية ، ويأتون بأولاد الطلقاء والمشركين لولاية المسلمين.

من يقبل ذلك؟

هذا .. ثم يرجون أن يسلم جسم الأمة والدين ويسود الأمن والطمأنينة أركان الدولة! كيف يكون ذلك وقد اختل الجسم وأبدل المخ والمخيخ والقلب وأعظم أجهزة بدن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يخالف ويناقض ذلك العضو؟ لهذا نرى جسم الأمة

__________________

(١) اسناد شربهم للخمرة.

(٢)

وقولة لعلي قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

لبئس هذه المفخرة لشاعر النيل حافظ ابراهيم.

(٣) طالع هذا الجزء.

٥١

مضطربا تعمه الآلام وتسوده الأمراض ، منهك القوى ، مفكك العرى ، لم يقر له قرار ولم يذق طعم السعادة ، وكيف يكون ذلك وقد انتهجت الأمة غير النهج ، وسلكت غير السبيل الذي خطه لها رسولها الأكرم وقائدها الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قال ابن أبي الحديد «إن عليا عليه‌السلام كان أولى بالأمر وأحق لا على وجه النصرة بل على وجه الأفضلية ، فإنه أفضل البشر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحق بالخلافة من جميع المسلمين» (١).

كما أخرج الشيخ سليمان البلخي الحنفي في الباب الأربعين من ينابيع المودة عن مناقب الخوارزمي ومحمد بن يوسف الكنجي الشافعي في الباب الثاني من كفاية الطالب ، وكلاهما مسندان عن محمد بن منصور عن طريق الإمام أحمد بن حنبل «ما جاء لاحد من أصحاب رسول الله من الفضائل مثلما جاء لعلي بن أبي طالب».

__________________

(١) ص ٤٦ من شرح نهج البلاغة

٥٢

ـ اللائحة الأولى ـ

إن أبا بكر جلس مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان جلوسه يطابق الموازين الشرعية ، وإن له الأهلية للأسباب التالية :

١ ـ ان الأمة أجمعت على خلافة أبي بكر وبايعته ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا تجمع أمتي على ضلال أو على خطأ».

٢ ـ إن أبا بكر شيخ وعلي عليه‌السلام رغم توفر الشروط فهو شاب.

٣ ـ لا تجتمع النبوة والملك في أهل بيت واحد ، كما قاله الخليفة الثاني : عمر.

٤ ـ إن عليا والهاشميين وجميع الصحابة بايعوا أبا بكر طوعا ، ولو كان غير محق ، فلماذا بايعوه؟

٥٣
٥٤

ـ اللائحة الثانية ـ

الجواب على الاعتراض :

أولا ـ الإجماع على خلافة أبي بكر :

هل صح الأجماع (١)؟ وهل يصح مثل هذا الإجماع بعد النصوص الأكيدة على خلافة علي عليه‌السلام من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

من انتخب عمر!

لماذا لم يترك أبو بكر ذلك لإجماع الأمة؟

من انتخب عثمان وكيف ساغ لعمر أن يعطي زمام الأمة إلى ستة أفراد؟

وما الذي سوغ له الأمر بقتل المخالفين؟ (٢)

__________________

(١) لم يحصل إجماع ، وأقر هذا الجميع. راجع تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٥٧ ، وصحاح مسلم ، والبخاري ، والفخر الرازي. وقد حاج الصحابة أبا بكر في ذلك فهم سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة الأسلمي وخالد ابن سعيد بن العاص الأموي أبو الهيثم وحذيفة بن ثابت وأبو أيوب الأنصاري وأبي بن كعب وسهل بن حنيف وأخوه عثمان. ونرى كل من أبى البيعة من المهاجرين والأنصار سموهم بالروافض لأنهم رفضوا بيعة أبي بكر وقالوا لا يحق له ذلك وإن الحق لعلي عليه‌السلام. راجع تاريخ البلاذري وابن حجر العسقلاني.

(٢) راجع الكتاب الرابع من موسوعتنا في عمر.

٥٥

نبدأ بالسؤال الأول : هل صح الإجماع على انتخاب أبي بكر؟

نتساءل أولا كيف بدأ الانتخاب؟ وكيف وقع الاختيار على أبي بكر دون غيره؟ وهل حضرت الأمة بأجمها هذا الانتخاب وانتخبت؟ وهل كان صحابة رسول الله من المهاجرين والانصار والهاشميين حاضرين وانتخبوا أبا بكر؟

وكيف حضر أبو بكر وهو جندي محارب تحت إمرة شاب لم يبلغ العشرين من العمر ، هو أسامة بن زيد بن حارثة المرسل على رأس جيش المسلمين للحرب؟

ونتساءل أكثر لتوضيح الأمر ، فنقول :

ألم يجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جيش أسامة بنفسه وحثه على السير حثيثا قبل وصول خبره للإعداد؟

فلماذا تأخر الجيش حتى اضطر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان للعن من تخلف عن جيش اسامة قائلا : «اللهم العن من تخلف عن جيش أسامة».

ومن كان يضم الجيش من المهاجرين والأنصار؟

ألم يضم أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح ، والنخبة الباقية من المهاجرين والأنصار؟ ولا بد لنا من الجواب وكيف تحمل المتخلفون هذا اللعن؟ وكيف تخلفوا رغم إصرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأسراع في المسير؟ ما كانت غايتهم من هذا التأخير؟ أحقا ان تأخرهم قلقا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه مريض؟ أم بسبب أن اميرهم شاب وهم يأنفون من هذه القيادة؟ وهل يسوغ لهم الاعتراض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وقد جاء وخطبهم وبين لهم أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وهو بعد في حالة الصحة ، ومع ذلك تخلفوا ، وخلقوا الاعاذير حتى لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتخلفين كما مر ، فكيف يسوغ لمن لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لعنه

٥٦

الله ان يتقلد زمام امور المسلمين؟ بل وأعظم من ذلك ما اعترض عليه أسامة نفسه (١) يوم سمع أن أبا بكر نصبه عمر وأبو عبيدة خليفة ، بقوله «إنكم تحت إمرتي بأمر رسول الله ، فمن خول لكم الانفصال وأن تأتوا بمن هو تحت إمرتي بأمر رسول الله وتنصبون أميرا علي؟ أم من خول له ذلك؟».

لنترك ذلك ونعود لنرى كيف انتخب أبو بكر وقد كان خارج المدينة ، ثم وقد دخل المدينة وذهب مع بني هاشم والصحابة المشغولين بتغسيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجهيزه مع علي عليه‌السلام ، فأين هو والحضور في السقيفة؟ وإذا اجبنا على ذلك بأن عمر الذي كان يعلم بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعلم بغياب أبي بكر ، وكان يتحدى كل من يقول مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويهدده بالقتل ويقول بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمت ، وأنه كموسى حينما ذهب إلى ربه وأنه سيعود ، هو الذي جاء إلى دار رسول الله ولغت نظر أبي بكر وحده دون غيره إلى أن الأنصار اجتمعوا لانتخاب أمير منهم ، وفي الطريق يستصحبون معهم أبا عبيدة الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، أكان ذلك عفوا ، أم أمرا مدبرا؟

لقد ظهر من النتائج التي أعقبت ذلك في زمن أبي بكر وعمر أن الأمر كان مدبرا بين الأربعة تدبيرا أكيدا وبعيدا ، يوم قال عمر وهو يريد أن يحيك أمر الشورى : لو كان أحد الاثنين حاضرا لما أودعها للشورى ، يريد بذلك أبا عبيدة أو سالما مولى أبي حذيفة ، أولئك الذين اتفقوا على اغتصاب الخلافة ودبروا المكيدة وجاءوا بام الفتن وقلبوها ملوكية. هكذا توزع المكيدة والتدبير من قبلها وبعدها المناصب العالية لأبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ، كما ظهر من التدابير المشتركة من أبي بكر وعمر وأتباعهم ، ومن النساء كأم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين حفصة ومن عاضدهن ...

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٥٦.

٥٧

«إن عائشة ألقت ليلتها الفتنة بين الأوس والخزرج ، بقولها للأوس إن الخزرج يحيكون ويدبرون الأمر لانتخاب خليفة منهم ، وقالت للخزرج إن الأوس يريدون انتخاب خليفة منهم ، فألقت الغيرة والحسد والتنافس بينهم ، وصباحا يبادرون رغم مرض زعيم الخزرج إلى سقيفة بني ساعدة لانتخاب أمير ، وفي نفس الليلة تحرض بني هاشم لتجهيز وتغسيل وتكفين ودفن رسول الله ، وهي تدري أن الصحابة الموالين لآل بيت الرسالة سوف لا يفارقونهم ، وهكذا دبروا الأمر بليل فاغتنموا انشغال الهاشميين والصحابة الخصوصيين المعارضين لهم ، أشغلوهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوقعوا النزاع بين الأوس والخزرج ، وجاوا على تدبير مكيدة في وقت بلغ الحسد والحقد غايته بين الأنصار ، وأماط أبو بكر اللثام عن أول فتنة في الإسلام ، مشيدا بالمهاجرين ، وأنهم الأمراء والأنصار وانهم الوزراء ومد يده ليبايع أبا عبيدة أو عمر ، فبادر الاثنان لبيعته ، وأعقبهم قلة من الأوس حقدا على الخزرج وتلاهم بقية الأوس ، وخشية أن يحصل الأوس على الحطوة بادر قسم من الخزرج لمثل ذلك ، وكاد أن يقع الخصام بين الخزرج وعمر لولا مداخلة أبي بكر وسياسته ، ثم مبادرتهم للخروج بعد الاطمئنان على عملهم يستجلبون الآخرين ، كل من وجدوا في الطريق خمطوه ووضعوا يده بيد أبي بكر ليبايع معلنين أنه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان فارس ذلك كله عمر ، وبعدها إرسال الرسل لمن يعرفون ، تارة بالاستعطاف وأخرى بالتطميع وأخرى بالتخويف والتهديد ، كانوا وقد تناسوا آنذاك دين محمد ووصية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتاب الله وما ورد يوم الغدير وغيره في علي عليه‌السلام لا يهمهم غير الملك ، وقد دل ما أحدثوه من القتل والسلب والنهب والسبي باسم الردة والشرك على ذلك ، وما كان يهمهم استعمال القوة والقسوة والظلم لكل من خالفهم أو حتى ظنوا أنه سيخالفهم ، وهكذا نرى الفتك بمالك ابن نويرة وقتله وأفراد عشيرته ونهبهم وسلبهم وسبيهم والتجاوز على إعراضهم ، هذا وقد ثبت لعمر رضي‌الله‌عنه أنهم مسلمون ، وأن خالدا واتباعه قتلوا مسلمين وتجاوزوا على أعراضهم ، وأراد إقامة

٥٨

الحد على خالد للقتل والزنا ، بينما نرى إبا بكر يعارضه ويبدل الحد بالرضى ، وأعظم من ذلك يعطي خالدا وساما ويلقبه بسيف الله ، دون أن يهتم باستنكار عمر صاحبه وبقية المسلمين وشهود القضية من أن خالدا قتل مسلما ونزا على زوجته ، وهذا ما دعا بعمر أن يقول في أبي بكر «إنه لج فيه شيطانه» وقد أثبتنا ذلك في هذا الكتاب في قضية مالك وشكايته.

وأعظم من ذلك إحاطة بيت فاطمة ، بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها : «إن فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله» ، وقال تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) (١). (٢)

فهم أغضبوها وأرهبوها وأمرضوها وأسقطوا جنينها ، حتى ماتت وهي غضبى عليهم ، نعم .. وسلبوا نحلتها «فدكا» ، وقد ثبت للجميع غصب فدك ولم يستطع أبو بكر إثبات ما تقوله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» ، نعم .. لقد ثبتت وصحت دعواها ، كما ثبت تجاوز غاصبها ووضعه الحديث كاذبا وتزييفه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأشد من ذلك الغصب غصب الخلافة التي نص عليها الكتاب والسنة في علي عليه‌السلام ، ولعلي وحده وأولاده عليه‌السلام من بعده ، وبعدها ماذا؟ نعم .. بعدها جلب علي عليه‌السلام حاسر الرأس حافي القدمين قسرا إلى أبي بكر وهو يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله ، مهددين إياه بالقتل إن لم يبايع أبا بكر.

__________________

(١) سورة ...... ، الآية .......

(٢) الرضوي : أخرج البخاري عن ابن مخرجة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبها. صحيح البخاري بحاشية السندي ، ط عيسى البابي الحلبي : ٢ / ٣٠٨ باب مناقب فاطمة عليها‌السلام

٥٩

ونراه يلقي بنفسه على قبر رسول الله باكيا قائلا ما قاله هارون لموسى «يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني» ، وهم الذين بايعوه في غدير خم قبل شهرين وهنؤوه بالخلافة والامامة.

وهل انتهى هذا الأمر إلى هنا وحسب؟ لا أبدا .. لقد أرادوا قتله مرة أخرى يوم أوصى أبو بكر خالد بن الوليد أن يقتل عليا حينما يتشهد أبو بكر في صلاته ، بيد أن أبا بكر ندم وهو في الصلاة ، فتكلم قبل التشهد قائلا ثلاث مرات «لا يفعلن خالد ما أمرته به» ، ثم ينهى صلاته ، فأصحبت تلك سنة لجواز التكلم في الصلاة لأن خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك.

انظر إلى المنكرات المتتالية ، والمخالفة لكل ما أمر به الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعدها ماذا؟

إقصاء علي وآل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ولاية حتى شبر واحد وتولية ألد أعدائهم من الطلقاء ، ومن أولئك الذين وترهم علي عليه‌السلام في حربهم يوم كانوا مشركين ولا زالوا يبطنون الشرك والبغض لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، ولم يكتفوا بهذا بل مهدوا لهم سبيل الملك والظلم ، ويقص التاريخ لنا ما جنوه على آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القتل والسبي والنهب ، وشيعتهم ومواليهم وصحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومدينته وكعبة المسلمين ، هكذا أسس أساس الظلم لآل بيت الرسالة وحرف الاسلام ودس فيه النفاق والشقاق والتفرقة والبغضاء والعداء ، حتى أصبح الاسلام على ما هو عليه اليوم.

لو تصفحنا الانتخابات في العالم حتى الزائفة منها لم نجد مثل ذلك الانتخاب في سقيفة بني ساعدة قط ، تم بيد ثلاثة أو أربعة والأمة الإسلامية بما فيهم من الصحابة المقربين وآل بيت الرسالة عليه‌السلام وجيش المسلمين على أبواب المدينة بما

٦٠