السّقيفة امّ الفتن

الدكتور جواد جعفر الخليلي

السّقيفة امّ الفتن

المؤلف:

الدكتور جواد جعفر الخليلي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الإرشاد للطباعة والنشر
المطبعة: الإرشاد للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٢٠

الباقية ، يستثير علماؤها جهالها ، وينهضون بعد طوال الرقاد ، يهيبون بالناس لأخذ حقهم المسلوب وإقصاء الظلم والاستبداد ، فتقوم الثورات الدينية على الكنيسة ، وبعدها الثورات على ملوكها ، تحطم الأولى تمثال الكنيسة وتهدم الثانية هيبة الملوك وصرحهم الشامخ ، ليقيموا حكومات سموها ديمقراطية تحت سلطة الشعوب مع حفظ حق الفرد ، وأخرى شيوعية تحت سلطة الجماعة مع حق الجماعة ، وقامت ثالثة فاشستيه لتعدل بينهما وتعيد الحكم المطلق بأسماء أخرى ، وثارت بينها الحروب ولازالت سجالا حتى اليوم.

تلك صورة مجملة من حكومات العالم منذ بدء التاريخ الى اليوم ، وكل منها ، سواء كانت مطلقة أو أرستقراطية ، ديمقراطية أو شيوعية ما وفت بالحق لا للفرد ولا للجماعة. بل لا زالت وبالا علينا وسخطا على شعوبها ، وساقت للبشرية باسم الإنسانية أعظم المجازر والويلات ، وجنت على شعوبها أمر ما يجنيه الجاهل والمجنون على نفسه أو العدو على عدوه.

* * *

٢١
٢٢

أنواع الحكومات في العالم

الحكومات على أنواع متعددة ، فمنها : ـ

المطلقة الستبدادية : ورئيس الدولة أو الملك بيده كل السلطات ، ويفعل ما يشاء ، كالحكومات القديمة من الفراعنة والبابليين والاشوريين والرومان والأكاسرة وأمثالهم ، وفيها الحكم وراثي مطلق.

ومنها : الحكومات الدستورية كالحكومات القائمة اليوم ، ومنها :

الملكية الديمقراطية

وهي على الأغلب ذات سلطات ثلاث :

١ ـ السلطة التشريعية : وهي ذات مجلسين ، هما مجلس النواب ومجلس الأعيان ، وفيها تسن أو تعدل أو تبدل القوانين ، وبعد تصديقها من الملك ترسل لتنفيذها إلى السلطات الأخرى.

٢ ـ السلطة القضائية : وهي مركز العدالة والمحاكمات في البلاد بما فيها من درجات وشعب ، وفيها مراكز التظلم وإحقاق الحق وشكاية الشكاة وملاحظفة المجرمين والجناة وإصدار الحكم لتنفيذه.

٢٣

٣ ـ السلطة التنفيذية : وهي الحكومة بما فيها من الوزارات والادوائر الرسمية وغير الرسمية.

والملكية هذه تختلف من حيث نفوذ الملك في السلطات الثلاث ، فمنهم (أي الملوك) من يصدر الأوامر التى يجب تنفيذها من قبل السلطات الثلاث ، وهي جميعا ذات صبغة ظاهرية لا تقوم بأي عمل صغير أو كبير إلا بإرادته ، وليس لها أي قدرة على أي عمل إلا إذا شاء. فهي حكومة دكتاتورية مطلقة في الحقيقة.

وثمة ملكية أخرى ليس لها أي صفة مما مر أعلاه ، سوى المصادقة على القوانيى وذلك والمظهر القديم لتوحيد السلطات ، وليس للملك أي مداخلة غير الصادقة

وهناك ملكية ثالثة يختلف ملكها في حق المداخلة في أمور السلطات ، وهي قائمة على نظام حقوق الفرد ومصالحه في المجتمع.

جمهورية ديمقراطية

وفيها يتمتع رئيس الجمهورية بنفس ما يتمتع به الملك من السلطات.

ومن رؤساء الجمهوريات من فرض نفسه فرضا على الشعب ، وإن ألف تلك السلطات الثلاث وسمي رئيسا ، فهو في الواقع دكتاتور مطلق. وقد يحيط نفسه بأفراد باسم هيئة القيادة أو أمناء الشعب ، بيد أنه لا يجرؤ احدهم على مخالفته في كثير من الأحيان ، فهو إما دكتاتور مطلق أو شبه دكتاتور.

الحكومة الشيوعية

وتختلف عن الأولى من حيث النظام الاقتصادي الجمعي ، وإن كل شئ في الدولة مشاع للجميع ، والخدمة جماعية ، وليس الفرد فيها كما هو في الحكومة

٢٤

الديمقراطية بل مصهور في الجماعة ليس له إلا ما للكل ، والسلطة التشريعية بيد القيادة العليا للمجتمع ، وبيدها كل مقادير الدولة في الداخل والخارج ، وليس للفرد سلطة واسعة في كل شئ خاصة الملكية الفردية وحرية النفس والمال ، فالسلطة بيد عصبة تتحكم بها كما تشاء ، وليس للأكثرية حساب يذكر.

الفاشستية

والفاشستية تحاول أن تجمع بين النظام الديمقراطي والنظام الشيوعي ، فتحفظ للفرد ما له من الحقوق في الدولة الديمقراطية على أن تحده من بعض الجهات ، فتكون الملكيات الواسعة والمرافق العامة للجميع ، وتحت نظر الدولة ، وبهذا التحديد تحافظ الدولة على حقوق المجتع من الناحية الاقتصادية ، فيما تراعي في الوقت نفسه حق الجماعة من الناحية العامة.

وكانت تمثل الحكومات الديمقراطية الملكية وتتزعمها الحكومة البريطانية.

أما الجمهوريات الديمقراطية فتمهلها وتتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الفرنسية.

وكانت تتزعم الحكومات الفاشستية : ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الموسولينية.

فيما تزعمت الدول الشيوعية روسيا (الاتحاد السوفياتي السابق) وجمهورية الصين الشعبية.

الإسلام

وأما الأسلام فقد جاء بنظام جامع لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق .. جاء بنظام يمثل الديمقراطية الواقعية بصورة تشمل الجميع ، فهو يخدم الفرد لأقصى ما

٢٥

يمكن أن يتصوره العقل ويخدم الجماعة بما يلزمها ، وقد راعى حقوق البشر لأقصى ما يمكن أن يتوخاه المفكرون من ذوي الألباب والرؤى الصائبة والآراء المتفوقة. فهو في عمره القصير وضع أسسا اجتماعية واقتصادية وأخلاقية في غاية المتانة ، كما حدد القوانين الحقوقية والجزائية وأصول المعاملات والأحوال الشخصية. ولولا ما شابه من أفعال الانتهازيين المغرضين لأزال كل ما يورث التفرقة والشقاق والنفاق واسس الضعف المادي والمعنوي ، من خلال إيضائه بالبر والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولولا من خالف تلك الشريعة السمحاء وشوهها ، وغير حدود الله في اوامره ونواهيه وسنن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرأينا السلام والعدالة والمحبة تسود البشرية ، ولكنهم طمسوا مبدأ العدالة والرفق والمحبة ، وأحلوا الظلم والجور والإجحاف ، وبدلوا وغيروا.

وطالما تغلب العقل البشري السليم وحكم بالصواب ، صارخا بالناس مبشرا ومنذرا على لسان الحكماء والفلاسفة والأنبياء والرسل وقادة البشر ، ذوي المنطق الصائب والإرادة المحكمة ، متأثرين بما شاهدوه من الانحطاط العقلي والانجراف الى الرذيلة ، والظلم والاستهتار وتدهور الفكر الإنساني إلى وهدات الجهل والتعاسة ، فخطبوا الجماهير ، وأوضحوا لهم سبل الحياة وجاهدوا وضحوا في سبيل العدالة وإرجاع الفرد إلى وعيه وصوابه ، فخلفوا تراثا من النظم المقدسة وسموا بالعقل البشرى ما خلد ذكراهم ، كسقراط وإفلاطون والفارابي وابن سينا ، وبوذا وكونفوشيوس ، وحكماء من الأغريق والإسلام والهند والصين ، ومن الأنبياء كإبراهيم عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام وأخص منهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فحدد سقراط الفضيلة ، والدولة المثلى ، ووضع تلميذه إفلاطون جمهوريته ، وكان الذي حثهم هو انحطاط الدولة وتغلب الرعاع باسم الديمقراطية ، تسيرها شهواتهم ، صدعوا بهذه الأفكار لإيجاد دولة مثلى يسعد فيها هذا البشر المتسافل الى

٢٦

الهوة السحيقة والى المفاسد ، وأشادوا شريعة ومنهجا يقوده إلى السعادة والسلام. واعتقد سقراط ، أن اجتماع الجماهير من الرعاع يزيدهم تدهورا وفسادا ، ويصبح ذلك بلاء إذا استثار أحدهم بقدرته الخطابية هياج الجماهير ، ومثله بالطبل الفارغ ، وحدد المستبد ، بقوله واصفا إياه أنه ذلك الفرد الذي يعمل في يقظته ، كل ما يعمله بوحي غرائزه في نومه.

.. ذلك نظر سقراط الذي حكمت الدولة عليه حنقا بالموت ، فأوحى ذلك لتلميذه إفلاطون هذه النوازع والمثارات لوضع جمهوريته التي بحث فيها ما وراء الطبيعة والآداب والفلسفة ، كما بحث عن أنواع الدولة ، فتكلم عن الأرستقراطية واعتبرها أرقاها ، كما بحث عن الديمقراطية والدكتاتورية وعن الشيوعية ومبادئ الاشتراكية واليوجينية وعلم النفس.

افلاطون

ولد افلاطون سنة ٤٢٧ قبل الميلاد من أبوين أرستقراطيين ، لهذا نجده أرستقر اطي الشرب رغم تأثره بالمحيط وبمجتمعه وتربيته وتعليمه. فجمهوريته جمهورية ارستقراطية. دمع أنه ينتقد الشعر والكهنوت والأساطير ، فهو شاعر ، وقد اضطر لحفظ جمهوريته من الانقلابات أن يستحل درج الأساطير التي تحفظ العامة من الشقاق والانتفاضة على حكومته الجمهورية الأرستقراطية ، ونعثر في جمهوريته على الشيوعية والاشتراكية والتعليم الحر والتحليل النفسي ، وما قاله روسو بالعود الى الطبيعة وما أورده نيتشه وبعض الكتاب في الأدب والارستقراطية ، وبرغسن في التعليم الحر والدافع الحيوي وغيرهم. حتى قال أمرسن أن أفلاطون هو الفلسفة ، والفلسفة هي إفلاطون ، فاحرقوا الكتب فكلها من هذا الكتاب.

وتتألف جهوريته من عشرة كتب في خمسة أقسام :

٢٧

١ ـ بحثه في الأول عن العدالة.

٢ ـ الكتاب الثاني والثالث والرابع يبحث عن أركان الدولة ، وتعليم طبقة الحكام. وبه يحدد المقصود من العدالة في الدولة تجاه الأفراد.

٣ ـ الكتاب الخامس والسادس والسابع بحث فيه عن الشيوعية والحكام وأصول تعليمهم ومدارجهم.

٤ ـ الكتاب الثامن والتاسع بحث فيه عن تدهور الحكومة وأدوارها حتى ينتهى لأعنفها ، وفيها الاستبداد الكامل وذلك ضد العدالة.

٥ ـ النتيجة وخلود النفس وجزاء الفضيلة يوم الدينونة.

وقد بدأ أفلاطون بالعدالة وحددها بقوله : انها «قيام كل فرد بالعمل الذي يحسنه والخاص به» ، وإن الدولة المثلى بنظره هي الدولة الارستقراطية التي تحكمها طبقة حكام تعلموا تعليما عاليا ممتازا بعد مرورهم باختبارات طويلة واستطاعوا وبرهنوا على إدراكهم لمبادئ الدولة ، وعلى رأس الجميع رئيس الكل المبرز عليهم في العلم والإدارة والشجاعة والقدرة الفكرية وكل شئ.

وقسم افلاطون الدولة الي ثلاث طبقات كالجسم الانساني ، فكما أن الجسم الانساني ينقسم الى ثلاثة أقسام : العقلي ، والحماسي ، والشهوي ، فمثله الدولة. فالعقلي يقابل القسم الأرقى في الدولة ، أي منبع الحكم والمنطق والرأى الصائب ، وهم الحكام ، وعلى رأسهم أقدرهم علما وإرادة واجتهادا وشجاعة وتجربة وغيرها من معنوية ومادية.

والحماسي يقابله رجل الحرب والشجاعة وهو الجيش وما يتبعه.

والشهوي هو باقي الطبقات ، عدا الأولين ، من تجار ومهندسين وأطباء وفنيين وعمال وغيرهم.

٢٨

وجمهوريته تقوم على أساس الاختصاص ، وقيام كل بعمله وعدم مداخلة أحدهم في شؤون الآخر ، على أن يكون العنصر العقلي هو المسيطر الأعلى على الجميع ، وأقدرهم هو الزعيم الأعلى ، وأن يكون هو الحكيم الأقدر والفيلسوف الأعلى وأكثرهم علما وأوسعهم فكرا ، وبهذا فقط تسير الأمور على فطرتها ويقوم كل واحد حق قيام بما أسندله بكفاءة ومقدرة.

وقد وضع لذلك حلولا عملية :

أولها : تربية وتعليم العامة بعزل الأطفال دون سن العاشرة لهذا الغرض ، وضبط الكبار عن المفاسد ، والاهتمام منذ البداية بنشاط الجسم والفكر بالرياضة والموسيقى ، والتعويد على الحرية الفكرية والنفسية ، لذا فهو يمنع التعليم الإجباري للابتعاد عن الشعور بالحقارة ، فهو يرى ذلك بالتشويق والتحبيب ، ويرى وجوب دعم القوانين الأدبية بسلطة كامنة عن طريق الدين والإيمان بالله بالرجاء والعطف والتضحية. وبعد السادسة عشر امتحانهم في أمور نظرية وعمومية ، فمن سقط في امتحانه كان من الطبقة الأدنى وهم الكتاب والصناع والفلاحون ، ثم التعليم لعشره سنين أخرى يليها امتحان أصعب ، فمن رسب فهو من الطبقة الثانية وهم مساعدو الحكام وضباط الجيش ، ولإقصائهم عن الطبقة الأولى كي لا يتحدوا ويشكلوا خطرا على الدولة باعتبارهم الأكثرية بانتفاضة أوثورة ، يجب إقناعهم نفسيا ودينيا أن ذلك من الله ولن يتغير ، وأجاز ذلك التلقين ، ولو عن طريق الأساطير والقصص.

ومن نجح دخل في الفلسفة ، وتعلم علوم ما وراء الطبيعة ، والحكمة في الحكم لخمس سنوات ، وبعدها تميز الحقائق وراء الصدر ، وبعد الخمس سنوات يتعلمون تطبيق هذا المذهب على شؤون الناس ، فيكون مجموع السنين ٣٥ سنة ، يكونون بها فلاسفة نظريا قد أبصروا شمس الحقيقة ، وبعدها عليهم التوغل في الظلمات ، تلك

٢٩

الظلمات التي يعيش فيه سواد الناس والأشياء لتطبيق النظريات على الحقائق ، وخوض معمعة الحياة العملية ، والمنافسات الموجودة بين مختلف طبقات التجار والصناع وغيرهم ، وأخذ العبرة مما يرونه من تنافس ومشاحنات وتصادم واحتيال ومكر ، ومعاشرتهم إياهم بالكسب والمعاملات ، وذلك لمدة خمس عشرة سنة ، وهي آخر محك ، وفيها يعرف الفائز من الخاسر ، والناجح من الراسب بعد بلوغ الخمسين. وقد أتقن الحكمة نظريا وعلميا ، وعنده أن هؤلاء غايته المنشودة من حكام الدولة المثلى ، ولنبذ الانتخابات والانتخابات المزيفة يصبح هؤلاء الرجال حكام الدولة ، يتقلدون زمام الحكم دون أن يكون لإخوانهم من طبقات الشعب الأخرى رأي في ذلك ، باعتبار عدم قدرتهم على انتخاب الأصلح لإدراة الدولة ، لعدم معرفتهم حقيقة الشخص المنتخب والمزايا اللازمة له ، ومنع اندفاعهم تحت تأثير الخطب لتوليد هياج وحماس مصطنع في المجتمع ، هكذا يريد أفلاطون أن يكون التهذيب والعلم والحكمة والتجربة الواقعية هي المسيطرة.

ومتى بلغ الحكام هذا المقدار من التهذيب فهم لا يتقيدون بقانون مدون بل يعملون حسب مقتضيات الحال ، وهم يقتصرون على إدارة الدولة بما فيها دون المداخلة فيما لا يخصهم من مهنة وصنعة ، فهم المشرعون وهم الحكام والمنفذون.

وقد أشار افلاطون الى الأصالة والوارثة :

١ ـ فهو لم يسمح بالتعاقب والتوالد إلا من أبوين سالمين ، سلامة جسمية وعقلية ونفسية.

٢ ـ ويدعو إلى حياة الفطرة والبساطة.

٣ ـ وأن يكون القسم العقلي سواء في الفرد أو الدولة هو المسيطر على الباقين.

٤ ـ ويعتبر العدالة هي القوة المنظمة لا القوة المجردة ، وليست حق الأقوى بل

٣٠

هي الاتساق والتعادل بين القوى لحق المجموع.

كما يقسم الحكومات الى خمس :

١ ـ الأرستقراطية : ويمثلها الرجل الأرستقراطي ، وهو الفرد المثالي الأعلى في سدادة الرأى والعلم والحكمة والعدالة والقيادة.

٢ ـ التيوغراسية : وتكون عند تفوق العنصر الحماسي وإخضاعه بقية العناصر وهي الحكومة العسكرية ، وتقابل الفرد الحماس أو الغضب.

٢ ـ الاوليفاركية : وهي وليدة التيموغراسية ، حينما يطغى حب الثروة حتى يصبح أساس الجدارة.

٤ ـ الديمقراطية : وهي حكومة الرعاع الفقراء الثائرين على أصحاب الثروة باسم المساواة في الحقوق ، وتتسم بالاستباحة والفوضى ، حيث يطغى فيها الرعاع حتى على العلماء والأدباء والحكماء ، والأولاد على الآباء ، والتلامذة على المعلمين والمربين ، والصغار على الشيوخ ، والخدم على السادة ، فلا يقام لهم وزن باسم المساواة.

ولا تفرق بين الوطنيين والدخلاء ، ومن خصائصها سحق المقدسات والازدراء بالشرائع والنظم.

٥ ـ الاستبدادية : وتكون بيد الانتهازيين عند الغلبة على الرعاع من غير الطبقة الأولى.

والانتهازي هو بطل الجماهير المختار في الأحزاب ، يعارض من انتهازيين آخرين مثله ، حتى إذا ما غلب على أمره ولو لأحد وعاد ثانية لسبب ما بعد إقصائه ، عاد أقوى وأكثر شراسة على خصومه مما مضى ، وأحاط نفسه بحراس خوف الاعداء ، بادئا بالقضاء على منافسيه كفرد مستبد عنيد.

٣١

وخلالها ينشغل عن أصدقائه ومعاضديه فيرون منه قلة الاكتراث ، وهم الذين أيدوه ، فيخلق بينهم جوا تتخلله الريبة ، فيحاول التخلص من هؤلاء الأخيرين الذين أيدوه من قبل حتى بلغ ما بلغ ، وعندها يقضي على الفاسد والمصلح ويتحول للعامة ويجردهم من السلاح.

ويصف افلاطون هذا المستبد بأنه أردأ رجل ، وهو من كانت حالته في اليقظة مطابقة لمثله الأعلى في النوم ، ولأنه أشد شرا فهو أشد شقاء ، يتساوى في نظره الصديق والعدو. فهو بؤرة الدولة الاستبدادية ، ودولته أشقى الدول ، وعلى نقيضه الرجل الاستقراطي فدولته أسعد الدول.

وقد رأى افلاطون أن المرأة والثروة هما أسباب الاختلاف ، لذا نراه جعل النساء مشاعة بين الحكام ومنعهم من جمع الثروة ولهم التمتع بما يريدون.

كما رأى ان سبب الحروب هو كثرة السكان فقال بتحديد النسل ، ولأسباب اقتصادية ، فقال بالاحتراز من التجارة الخارجية وماتثيره من منازعات ، ويتحقق هذا اليوم في المنازعات الدولية الاقتصادية.

المقارنة بين جمهورية افلاطون والاسلام

نرى أن أفلاطون نص على بضعة أمور تكاد تكون أساسا لجمهوريته ، وأهمها :

١ ـ العدالة ، فقال : إن العدالة هي قيام كل فرد بما أودع فيه وما يحسنه ، إن العدالة ليست القوة المجردة بل هي القوة المنظمة ، وليست هي حق الأقوى ، بل الاتساق والتعادل بين القوى لحق المجموع.

٢ ـ وحينما قسم الجسم البشري ، وقسم الدولة الى ثلاث قوى : العقلي ،

٣٢

الحماسي ، والشهوي ، وضع القسم العقلي في المنزلة العليا الذي يحكم جميع الأقسام ، وهو الذي يقابل أرقى الأقسام في الدولة ، مقر العلم والحكمة والمنطق والرأي الصائب ، والذي محص وجرب الأمور ، ويستمد الجميع منه الرأى ، وهو المشرع والحاكم والمنفذ ، وبهذا يسود السلام والعدالة ، وتسير الأمور على فطرتها سعيدة مرضية كما يسعد الجسم بسمو العقل وحكمه ، وبدونه تختل الموازين ، كما نراه في الجسم الذي تلعب به الشهوات أو يستثيره الغضب والحماقة.

٣ ـ اعتبر الأصالة والسلامة والاستقامة في الأفراد شرطا للتوالد.

٤ ـ يجب أن تتمتع جمهوريته بالحياة الفطرية والبساطة.

٥ ـ يعتبر سلامة الجسم والعقل من أهم الشروط في جمهوريته.

٦ ـ جعل الحكمة والعلم والفلسفة في القمة للحكم. واعتبر الاستبداد وحكومة العوام الرعناء الجهال باسم الديمقراطية أتعس الحكومات. وكان يحاول الابتعاد عن الانتخابات المزيفة.

حكومة الطبيعة أو الفطرة

اعرف نفسك تعرف ربك

دعا افلاطون الى الحياة إلفطرية البسيطة ، ونرى الاسلام يدعو الى حياة الفطرة والبساطة ، وسمعنا الجمل أعلاه تتردد من الأفواه ونسبوها الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الى حكيم أو إمام ، ومهما كان فإن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها ، وهي أن للطبيعة قوانين نعرف بعضها وسميناها بالقوانين الطبيعة من كمياوية وفيزياوية ، كما أن هناك قوانين للحيوان والنبات والجماد نجهل أكثرها ، وأن هناك قوانين تخص كل جسم حي في حياته الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، وهناك قوانين تشد أصر أخرى تعاضدها ، مقابل أخرى تخالفها وتناقضها.

٣٣

وإن في كل جسم حي حكومة خاصة به كما لجسم الانسان. وحيث إن الأنسان أقرب لنفسه ، والحديث يقول : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، كانت تلك حقيقة ثابتة ، لذا نبحث فيها لنرى بعض الأسرار. ودمع أني بحثته في كتابي «الحكومة العالمية المثلى» بحثا مسهبا ، إلا أنه وبغية الوصول الى ما أتوخاه من تقريب الموضوع لفكر القارئ الكريم أبحثه هنا بصورة موجزة ، فأقول :

الإنسان

أبدع حكومة عالمية مثلى توجد في جسم الإنسان ، فالبدن الإنساني كحكومة قائمة بذاتها ، أفرادها الخلايا وجماعاتها في الأنسجة والعضلات وأعضاء البدن ، ومنظماتها ذات تخصص كل في فنه ، لها مميزاتها وخواصها وأعمالها ومراكزها الثابتة ، كل منها يقوم بخدمة المجموع ، والمجموع لخدمة الأفراد ، تشدها رابطة مشتركة ، وصلة وثيقة ، وسير فطري طبيعي لكل ما يدور في عالمها الجسمي ذي القوى البدنية والمعنوية ، يشد بعضها بعضا ، لا ينقصها في حياتها شئ ، فهي كاملة ، بديعة الاتفاق بمنظماتها وصلاتها وأعمالها ودفاعها وهجومها وتدابيرها الوقائية وسعيها الدائب في إدامة الحياة الفردية والحياة الجماعية ، والحجيرات والخلايا في البدن الانساني تشابه الأفراد في المجتمع البشري ، وكما ان كل حجيرة وخلية لها أهميتها بالنسبة للجهاز الذي تعمل فيه فكذلك المرء له أهميته بالنسبة للمجال الذي يعمل به ، فحجيرة المخ والمخيخ ، وحجيرة القلب والكبد والكلية تختلف أهمية عن بعضها ، كما تقل عنها أهمية حجيرات أعضاء الحركة في الأطراف ، وهكذا حجيرات أجهزة البصر والسمع والذوق تقابلها حجيرات أقل أهمية ، تلك هي حجيرات البشرة والأنسجة الواقية في الجانب الوحشي من البدن الإنساني ، ورب مجموعة من حجيرات المخ والمخيخ أو عضلة القلب والتنفس تبلغ من الأهمية بمكان تتوقف عليه إدامة الحياة ،

٣٤

في حين لا يكون ذلك في الأطراف والزوائد

ومثل هذا نجده في المجتمع البشرى بالنسبة لمكانتهم ، وقد أحاطت الطبيعة كل عضو وما يحتويه من الحجيرات المهمة على قدر أهميتها بحصون واقية لمكانتها ومركزها المهم في المجتمع القائمة فيه ، لذا نرى كيف صانت الطبيعة المخ بطبقات الشحوم والأغشية والعظام ومثله المخيخ ، ويليه القلب والغدد الصماء ، حتى بإمكاننا إن نقدر أهمية كل عضو وما يحويه من حجيرات بدرجة الاهتمام والحفاوة والصيانة والوقاية التي أحاطت به الطبيعة هذا القسم ، وتركت له الفرص الكاملة للقيام بأعماله بعيدا عن المخاطرات والمزعجات ، كما نرى في الأنسجة الواقعة في الجانب الوحشي للبدن ، أخص منها العضلات فالبشرة ، بما تشمل من الحجيرات هي أقل أهمية من الأولى.

وفي ذلك عبرة وعظة يلزمنا رعايتها في مواضع الشبه من المجتمع الانساني ، ثم تخصص كل حجيرة من العضو وكل عضو حسب مكانته وأهميته وما خص به ووضع له وما يقوم به من الأعمال بالنسبة له ولعضوه من جهة ، والرابطة المشتركة بينه وبين بقية الأعضاء الأخرى ودرجة مساعدة الواحد للآخر ، أو في حالة حدوث اختلال بسيط أو كبير كيف تهتم به المراكز الحساسة بالدرجة المناسبة لتلافي النقص ، متحملة كل منها على قدرها من هذه المعونة والعناء ، من جهة أخرى.

فما من حجيرة في حجيرات البدن الانساني إلا ونجد له محلا للتطبيق في المجتمع البشري ، فأفراد المجتمع البشري ينقسمون حسب الأهمية إلى مجموعات كبيرة وصغيرة ، عالمة وجاهلة ، وفيه مختلف الطبقات والزمر والتخصصات ، لكل منها مقام ودرجة في المجتمع الإنساني ، ولكل مكانه كما وجدنا ذلك في الحجيرات ، وكما أن حجيرات أنسجة الدماغ لا يمكن تعويضها بحجيرات وأنسجة عضلة الكبد ، وهذه بدل أنسجة المثانة ، وتلك بأنسجة الجهاز العصبي ، فكذلك لا يمكن ذلك في

٣٥

المجتمع البشري.

فإن تعويض قسم من عضو على أثر تلفه بصدمة لابد أن يسد بأنسجة مشابهة ، وبغير ذلك يرفضه العضو ، وربما عاد عليه بالفساد ، إذ ما للرأس يصلح به الرأس وما للأطراف يسد ويجبر به الأطراف ، وإذا حصل غير ذلك فمعناه ارتباك وفساد خاص وعام ، بل تدهور وخراب قد لا يمكن بعد حين ترميمه. وهذا عينه يحصل في المجتمع البشري ، لذا يلزم تطبيقة ورعايته ، وفي الواقع يكفي وضع فرد في غير محله لإيجاد علة تختلف في الدرجة من بسيطة إلى عظيمة وقد تكون فاحشة على المجتمع تكفي لتدميره.

ولقد دلت التجارب الطبية والعمليات الجراحية على صدق هذا القول في عالم الجسم ، كما دلت الاوضاع الاجتماعية والعلمية على صحة ذلك أيضا في عالم الاجتماع ، وما أكثر الشواهد الطبية والاجتماعية حتى لتجد تدهور وانهيار بل قل موت الجسم لوضع فاسد في أحد أعضائه وتدهور مجتمع وانهياره على أثر وضع عضو في غير محله ، وهذا الفساد والتدهور يعود لدرجة أهمية مركز هذا العضو في الجسمين ، سيان الإنساني أو المجتمع البشري.

أليست هذه مقارنة صحيحة ومستدلة؟ ألسنا نعترف بهذا؟

ولذا ومن خلال هذه المقارنة لابد من تطبيق ما تعلمناه من الجسم البشري على الجسم الاجتماعي الانساني.

أهمية أجهزة البدن

ربما إذا فقدت كلية من البدن عشنا بكلية واحدة ، أو عين عشنا بعين واحدة وتحملنا هذه الخسارة ، ولكن بفقدان القلب لا يمكن مواصلة الحياة ، وأعظم منه المخ

٣٦

والمخيخ ، أو حتى فقدان مراكز خاصة منها.

فما هي المراكز المشابهة للقلب والمخ والمخيخ في جسم الجامعة البشرية؟

ليس هناك فقدان بالشكل الأكمل في جسم الجامعة البشرية كما هو في البدن الانساني ، إلا إذا اعتبرنا انهيار القوى المعنوية والاجتماعية أو تدهور الدولة واضمحلالها ، أو القضاء على العلوم والفنون في الدولة بما فيها العلماء والحكماء والأدباء وأمثال ذلك ، مصداقا له.

وإن القضاء على طبقة معناه فقدان طبقة مشابهة في الجسم الإنساني ، ففقدان القلب في الجسم الإنساني يناسبه القضاء على مجموعة من أجهزة المجتمع الانساني وضرورياته ، كمراكز المواصلات والمؤن ومنابع الدفاع والمقاومة والتغذية والتهوية والمياه وما شاكل ، ولكن باختلاف وهو أن الجسم البشري لا يقضى عليه تماما مثل الجسم الانساني إلا بالقضاء على تمام افراده ، إلا إذا اعتبرنا الموت في كليهما إنما هو موت معنوي لا موت مادي فحسب.

وهنا نتساءل هل بالإمكان الاستفادة من أنسجة غير مشابهة في غير محلها؟ إن عدم التشابه يختلف بالدرجة ، فقد يتقارب وقد يتباعد ، فأنسجة المخ بالنسبة لأنسجة القلب وهذه بالنسبة لعضلات الحركة ، وأنسجة العضلات لأنسجة الأعصاب وهذه بالنسبة لأنسجة الفرد الصماء ، فترميم قسم لعضلة من مشابهة لها ممكن ، ولكن لا يمكن وضع قسم من عضلة القلب لترميم عضلة الساعد أو الشفة ، أو وضع قسم من عضلة الكلية لترميم قسم من الكبد.

وأما إذا ابتعدنا أكثر ، وقلنا هل يمكننا الاستفادة من عضلات الجسم عامة لترميم قسم من المخ أو المخيخ؟ فهو ما لا يمكن تصوره أبدا في الحال الحاضر ، وبالتالي فإن اصلاح عضو بغير المناسب له قد يؤدي الى فساده ودماره ، ومثل هذا تماما يحدث في المجتمعات البشرية المطلوب إصلاحها.

٣٧

حكومة الطبيعة

فجعل شئ في غير موضعه معناه الإفساد ، وحتى إنه أحيانا لو وضعت ـ بحكم الاضطرار ـ عضلة شيخ في عملية جراحية لترميم عضلة شاب ، وإن تشابهت من حيث النوع ، لا يخلو من عيوب ، لأن عضلة الشيخ أقل عمرا وأضعف طاقة من عضلة الشاب ، وربما كان العكس أجدى ، أي وضع عضلة شاب محل عضلة شيخ أو قلب شاب محل قلب شيخ ، بالنظر لقوة ومقاومة عضلة الشاب وقابليته لحياة أطول ، هذا إلى مراعاة أمور أخرى كالتشابه في نوع الدم وغيره والخصال التي توجد بين الأقارب ، فإن مراعاة ذلك وتطبيقه في المقارنة بين الفرد البشري والمجموع البشري له آثاره القيمة وشأوه البالغ ، وهو درس بليغ في شتى نواحي الحياة يمكن الاستفادة منه لمديات قصوى وواسعة ، وربما أدى الى ابتكارات مهمة وعميقة.

انظر إلى حكمة الله في الطبيعة ، ومثل هذا تجده في البشر طبيعيا وغريزيا في بعض الموارد ..

فأي نقص في عضو ـ ولو تناهى في الصغر ـ وأي اختلال فيه يترك استنفارا وكدرا في كافة الحجيرات وأعضاء الجسم لا تنفك حتى ترممه وتعيد إصلاحه. وإذا أردنا إصلاح عضو ما في البدن فإنما نريد أن نعيد النظام والسعادة إلى جميع البدن المضطرب لما يجده في عضوه من ألم ، وهكذا نظرتنا للجماعة البشرية المشتركة بالحس والشعور.

إن البدن كله بما فيه على أهبة واستعداد وعلم بأدنى ألم وسرور يصيب أي جزء منه حتى القسم المعنوي ، وعندئذ يهب لإصلاحه ، وهذا الشعور حقيقة واقعية يلزم تطبيقها في الجامعة البشرية.

وقد يصيب البدن داء أو عاهة أو شئ يفقده جانبا منه ، فتراه في حالة متهيجة لإعادته ، فإن كان نقصا فلا بد لإكمال سعادته من رفع النقص واعادة صحته

٣٨

واعتداله ، وإن دخل فيه شئ لا بد من إزالته حتى يعود سالما. وقد يحدث كلاهما ، لذاترى البدن يدوم اضطرابه حتى يعود الوضع الطبيعي الى حالته السابقة ، ومثله الفسخ والرض الحاصل في المفصل ، لذا تراه متورما متألما لا يقر له قرار وترى الجسم كله في اضطراب وألم حتى إعادته إلى حالته العادية ، ولا ننسى ما يحدثه ذلك من ضعف وإعياء وإنهاك لجميع البدن.

وهذا عينه يحدث للجامعة البشرية في الحوادث المشابهة ، وقد تطول هذه العلة على المرء حتى تراه وتشاهده وهو بائس منهك وليس له بد سوى إعادة الشئ لمحله أو إزالة الشئ المزاحم عنه أو كلاهما ، ويكفي لاضطراب شعب من أدناه إلى أقصاه وضع رجل في غير مركزه ، أو إدخال رجل في مكان غير مكانه ، وكلما كان هذا المركز والمكان مهما كانت الصدمة أعظم وأقسى.

وقد يسبب ذلك النقص أو الزيادة في الجسم عيوبا في جهات أخرى من البدن ، تبقى على مرور الزمان تحتاج إلى الاصلاح وإن أصلح العيب الأول ، وله مشابهات في جسم المجتمع البشرى ، فإذا توفقنا لإرجاع الشئ إلى أصله أو إخراج الشئ الغريب منه ، كان من الضروري إصلاح الاختلالات الحاصلة على أثر الصدمة الواردة.

وهناك أمر بالغ الأهمية ، وهو تشخيص الداء والأدواء ، وتشخيص العواقب والآثار التي حدثت له على مرور الأيام والسنين ، ومهم جدا نوع العلاج في كل منها بعد التشخيص.

وهذا عينه يحصل في الجامعة البشرية. وكلما طال الأمد ، صعب العلاج للآثار السيئة التي خلفتها المدة وما أولدته من الانحرافات.

وربما اعتاد البشر خلال المدة الماضية على علاجات لرفع إلمه ، وهذه نفسها تخلق فيه عاهات كأداء حتى بعد زوال أو إصلاح الداء الأصلي ، كإعادة العضو

٣٩

المتفسخ إلى محله وزوال الألم ، لكن بعده يبقى اعتياده على تناول المورفين المخدر ، وهذا ربما لم يكن أقل شدة بل كان أشد عند الترك من نفس الصدمة الأصلية ، وتلك نفسها في المجتمع البشري.

لم يتوصل البشر بعد لدرجة صغيرة من الكمال المخلوق في إنسان ، بل ولا في أدنى الحيوانات والحشرات ، وهو بحاجة لبحث مستمر للسلوك الطبيعي والاستفادة من مكنوناته ومدخراته وكنوزه الثمينة التي يحملها كل إنسان لتطبيقها تطبيقا حسنا ، ومنها نشر الحقائق وأتباعها والجد للوصول الى الحقيقة ، حتى إذا شعر المجتمع بالألم لإصلاحه وضع الدواء الطبيعي له ، وأن يعلم أن سروره الحقيقي وشقاءه الواقعي إنما يتوقف على سعادة وشقاء مجموعه كما في البدن الإنساني ، وأن يكون كالبدن الإنساني ، ليس فيه كذب ولا رياء ولا خداع ، بل كل حقيقة ، وكله سرعة فائقة أسرع من لمح البصر فيمايخص العلم بوقوع الحادث وفيما يخص علاجه ، فأنت إن قربت أدنى حرارة أو آلة واخزة إلى أدنى حيوان انتقل حالا لضم الطرف ثم الشروع حالا لترميم ما خرب ، هكذا يجب في المجتمع.

هذه مقارنة تعرفنا حكمة الطبيعة وإتقانها ومدى جهلنا ، وأي جهل اعظم من أن نطلب السعادة عن طريق الشقاء.

وتمتاز الحجيرات بعضها عن بعض بالنسبة للمركز الذي تشغله في الجسم. وبمقدار أهمية الوظيفة التي تؤديها يحافظ عليها ، وتصان بتلك النسبة. فحجيرات المخ تحاط ـ لأهميتها ـ بقشرة شحمية وتليها أغشية وعظام ، كما تختلف من حيث غذائها ومدة حياتها بالنسبة لحجيرات البشرة ، فبقدر ما تسديه للجسم من خدمة يكون مقامها وشأنها ، والمحافظة عليها أكثر ومدة حياتها أطول ، كلما سمت وارتفعت بخدماتها ، ويقدم لها غذاء على قدر مجهودها.

هكذا يصنع لمن يجب أن يناط إليه المركز الأعلى لقيادة الأمة ، وكيف يجب أن

٤٠