المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

في کل سنبلة مائة حبة ...»(١).

وقد يکون بحسب رأي يظهر ويلوح سداده لاول وهلة ويعلم عدم صحنه بالتعقيب کقول عمر بن الخطاب يوم السقيفة : «هيهات لا يجتمع اثنان في قرن»(٢). والقرن بالتحريک الحبل الذي يقرن به البعيران قال ذلک ردا على قول بعض الانصار : «منا امير ومنکم أمير» بينما أن هذا القائل غرضه ان الامارة مرة لنا ومرة لکم لا على ان يجتمع أميران في وقت واحد حتي يصح تشبيهه باجتماع اثنين في قرن. على انه أية استحالة في الممثل به وهو أن يجتمع بعيران في حبل واحد يقرنان به لو أراد هذا القائل اجتماع اميرين في آن واحد فالاستحالة في الممثل نفسه لا في المثل به.

٣ ـ ان يکون التمثيل بحسب الاشتراک بالاسم فقط وقد ينطلي هذا أمره على غير المتنبه المثقف. وهو مغالطة ولکن لا بأس بها في الخطابة حيث تکون مقنعة وموجبة لظن المستمعين بصدقها.

مثاله أن يحبب الخطيب شخصا ويمدحه لان شخصا آخر محبوب ممدوح له هذا الاسم. أو يتشاءم من شخص ويذمه لان آخر له اسمه معروف بالشر والمساويء.

ويشبه ان يکون من هذا الباب قول الارجاني :

يزداد دمعي على مقدار بعدهم

تزايد الشهب اثر الشمس في الافق

فحکم بتزايد الدموع على مقدار بعد الاحبة قياسا على تزايد الشهب بمقدار تزايد بعد الشمس في الافق لاشتراک الدموع والشهب بالاسم اذ تسمي الدموع بالشهب مجازا ولاشتراک الحبيب والشمس بالاسم اذ يسمي الحبيب شمسا مجازا.

__________________

(١) البقرة : ٢١٦.

(٢) الكامل لابن الأثير : ج ٢ ص ٣٢٩.

٤٤١

المبحث الثاني ـ الانواع

ـ ١ ـ

تمهيد

تقدم في الفصل ١٤ من الباب الاول : (١) ان الموضع في اصطلاح هذه الصناعة کل مقدمة من شأنها ان تکون جزءا من التثبيت. وهو غير الموضع باصطلاح صناعة الجدل.

بل ان ما هو بمنزلة الموضع في صناعة الجدل يسمي هنا (نوعا) وهو أي النوع : کل قانون تستنبط منه المواضع أي المقدمات الخطابية.

مثلا يقال لنقل الحکم من الضد الى ضده (نوع) اذ منه تستخرج المواضع الموصلة الى المطلوب الخطابي فيقال مثلا : اذ کان خالد عدوا فهو يستحق الاساءة فأخوه لما کان صديقا يستحق الاحسان. فهذه القضية (موضع) وهي من (نوع) نقل الحکم من الضد الى ضده.

ثم انه لما کان المجادل مضطرا الى احضار المواضع في ذهنه واعدادها لکي يستنبط منها ما يحتاجه من المقدمات المشهورة فکذلک الخطيب يلزمه ان يحضر لديه ويعد الانواع لکي يستنبط منها ما يحتاجه من المواضع (المقدمات المقنعة).

__________________

(١) راجع ص ٤٣٨.

٤٤٢

وکل خطيب في أي صنف من أصناف المفاوضات الخطابية له أنواع خاصة وقواعد کلية تخصه يستفيد منها في خطابه فلذلک اقتضي ان ننبه على بعض هذه الانواع في اصناف الخطابة للاستيناس وللتنبيه على نظائرها کما صنعنا في مواضع الجدل فنقول :

ـ ٢ ـ

الانواع المتعلقه بالمنافرات

تقدم في البحث ١٣ معني (المنافرات) (١) انها التي تثبت مدحا أو ذما اما للاشخاص او للاشياء باعتبار ماهو حاصل في الحال فيقرر الخطيب فضيلته أو نفعه في المدح او يقرر ضدهما في الذم. وانما سميت (منافرات) فلان بها يتنافر الناس ويختلفون وبروم بعضهم قهر بعض بقوله وبيانه.

ومن هذه الناحية تشبه الخطابة الجدل وانما الفرق من وجهين :

١ ـ انه في الخطاية ينفرد الخطيب في ميدانه وفي الجدل يکون الکلام للخصمين سؤالا وجوابا وردا وبدلا.

٢ ـ ان غرض الخطيب أن يبعث المستمعين على عمل الافعال الحسنة والتنفر من الافعال السيئة لا لمجرد المدح والذم والمجادل ليس غرضه الا التغلب على خصمه وليس همه ان يعمل به أحد أولا يعمل. وبالاختصار غرض الخطيب اقناع الغير بفضل الفاضل ونقص المفضول ليعمل على مقتضي ذلک وغرض المجادل ارغام الغير على الاعتراف بذلک.

وبين الاسلوبين بون بعيد فان الاول يتطلب الرفق واللين والاستحواذ

__________________

(١) راجع ص ٤٣٦.

٤٤٣

على مشاعر المخاطب ورضاه والثاني لا يتطلب ذلک فان غرضه يتم حتي لو اعترف الخصم مرغما مقهورا.

اذا عرفت ذلک فعلي الخطيب في المنافرات ان يکون مطلعا على أنواع جمال الاشياء وقبحها. ولکل شيء جمال وقبح بحسبه : ففي الانسان جماله بالفضائل وقبحه بالرذائل وباقي الاشياء جمالها بکمال صفاتها اللائقة بها وقبحها بنقصها.

ثم الانسان مثلا فضيلته ان تکون له ملکة تقتضي فعل الخيرات بسهولة کفضيلة الحکمة والعلم والعدالة والاحسان والشجاعة والعفة والکرم والمروة والهمة والحلم واصالة الرأي. وهذه أصول الفضائل ويتبعها مما يدخل تحتها کالايثار الذي يدخل تحت نوع الکرم أو مما يکون سببا لها کالحياء الذي يکون سببا للعفة أو مما يکون علامة عليها کصبر الامين على تحمل المکارة في سبيل المحافظة على الامانة فان هذا الصبر علامة على العدالة.

واما باقي الاشياء غير الانسان فکمالها بحصول الصفات المطلوبة لمثلها وقد قلنا لکل شيء جمال وقبح بحسبه فکمال الدار مثلا وجمالها باشتمالها على المرافق المحتاج اليها وسعتها وجدة بنائها وملاءمة هندستها للذوق العام وهکذا. وکمال المدنية مثلا وجمالها بسعة شوارعها وتنسيقها ونظافتها وکثرة حدائقها وتهيئة وسائل الراحة فيها والأمن وحسن مائها وهوائها وجدة بناء دورها ... وهکذا.

وعلى الخطيب بالاضافة الى ذلک ان يکون قادرا على مدح ما هو قبيح بمحاسن قد يظن الجمهور أنها مما يستحق عليها المدح والثناء مثل ان يصور فسق الفاسق بانه من باب لطف المعاشرة وخفة الروح. ويصور بلاهة الابله أنها بساطة نفس وصفاء سريرة وقلة مبالاة بأمور الدنيا واعتباراتها. ويصور متتبع عورات الناس الهماز الغماز بانه محب

٤٤٤

للصراحة أو انه لا تأخذه في سبيل قول الحق لومة لائم. ويصور الحاکم المرتشي بأنه يسهل بالرشوة أمور الناس ويقضي حوائجهم ...

وهکذا يمکن تحوير کثير من الرذائل والنقائص الى ما يشبه أن يکون من الفضائل والکمالات في نظر الجمهور. وکذلک على العکس يمکن تحوير جملة من الفضائل الى ما يشبه ان يکون من الرذائل والنقائص في نظر الجمهور کوصف المحافظ على دينه بانه جاف متزمت أو رجعي خرافي أو وصف الشجاع بأن مجنون متهور أو وصف الکريم بأنه مسرف مبذر ... وهکذا. والکثير من هذا يحتاج الى حذلقة وبعد نظر.

واذ عرفت وجوه مقتضيات المدح يمکن ان تعرف بمناسبتها وجوه مقتضيات الذم لانها اضدادها.

ـ ٣ ـ

الانواع المتعلة بالمشاجرات

تقدم معني المشاجرات من انها تتعلق بالحاصل سابقا. وذلک لبيان ما حدث کيف حدث؟ هل حدث على وجه جميل ممدوح أو على وجه مذموم؟

فتکون المشاجرة شکراً أو شکاية أو اعتذاراً أو ندما واستغفاراً.

و (الشکر) انما يکون بذکر محاسن ما حدث وکمالاته انسانا او غير انسان على حسب ما تقدم من البيان الاجمالي عن محاسن الاشياء وکمالاتها في المنافرات فلا حاجة الى اعادته.

وانما الذي ينبغي بيانه ما يختص (بالشکاية) ثم الاعتذار والندم فنقول :

لا تصح الشکاية الا من الظلم والجور. وحقيقة الجور : «هو الاضرار بالغير على سبيل المخالفة للشرع بقصد وارادة».

٤٤٥

والمفصود من (الشرع) ما هو أعم من الشريعة المکتوبة وغير المکتوبة والمکتوبة مثل الاحکام المنزلة الإلهية والقوانين المدنية والدولية وغير المکتوبة ما تطابق عليها آراء العقلاء أو آراء أمة بعينها وکان المعتدي منها أو آراء قطره او عشيرته او نحو ذلک.

فما تطابق عليها آراء الجميع هي المشهورات المطلقة والباقي هي من المشهورات الخاصة. ومثال الاخيرة (النهوة) باصطلاح عرب العراق في العصور الاخيرة فانها عند غير المتحصرين منهم شريعة غير مکتوبة وهي ان للرجل الحق في منع نزوج ابنة عمه من اجنبي فالاجنبي اذا تزوجها من دون رخصة ابن عمها واذنه عدّوه في عرفهم جائرا غاصبا وقد يهدر دمه. وان کان هذا العرف يعد في الشريعة المکتوبة الاسلامية وغيرها ظلما وجورا وان (الناهي) هو الجائر الظالم.

ثم (المحالفة للشرع) اما أن تقع في المال أو العرض أو النفس ثم اما ان تکون على شخص او اشخاص معينين أو تقع على جماعة اجتماعية کالدولة والوطن والامة والعشيرة.

وعلى هذا فينبغي للخطيب المشتکي أن يعرف معني الجور وبواعته واسبابه وما هي الاسباب التي تقتضي سهولته أو صعوبته ومتي يکون عن ارادة وقصد وکيف يکون کذلک. وکل هذه فيها ابحاث واسعة تطلب من المطولات.

واما (الاعتذار) فحقيقته التنصل مما ذکره المتظلم المشتکي ودفع تظلمه. وهو يقع بأحد أمرين :

١ ـ انکار وقوع الظلم رأسا.

٢ ـ انکار وقوعه على وجه يکون ظلما وجورا فان کثيرا من الافعال انما تقع عدلا حسنة وظلما قبيحة بالوجوه والاعتبار اما من جهة القصد واما من جهة اختلاف الشريعة المکتوبة مع الشريعة غير المکتوبة کما مثلناه (بالنهوة).

٤٤٦

واما (الندم) فهو الاقرار والاعتراف بالظلم. وقد يسمي استغفارا. وذلک بأن يلتمس العفو عن العقوبة والتفضل باسقاط ما يلزم من غرامة ونحوها. وللاستغفار والاعتذار أساليب يطول شرحها.

ـ ٤ ـ

الانواع المتعلقة بالمشاورات

لما کانت غاية الخطيب في المشاورة اقناع الجمهور على فعل ماهو خير لهم وفيه مصلحتهم والاقلاع عن المساويء والشرور وما يضرهم ناسب ألا يبحث الا عما يقع تحت اختيارهم من الخيرات والشرور او ما له مساس باختيارهم وان کان في نفسه خارجا عن اختيارهم.

وهذا الثاني کالارض السبخة مثلا فان سوءها وضررها ليس باختيار المزارعين ولا من افعالهم ولکن يمکن أن يکون لها مساس باختيارهم بأن يجتنبوا الزراعة فيها مثلا فيمکن ان يوصي الخطيب بذلک ويدخل في غرضه.

أما ما لا يقع تحت اختيارهم وما ليس له مساس به أصلا فليس للمشاور أن يتعرض له.

والانواع التي تتعلق بالمشاورات على قسمين رئيسين :

(القسم الاول) ما يتعلق بالامور العظام وهي اربعه

١ ـ (الامور المالية العامة) من نحو صادرات الدولة وواردتها وما يتعلق في دخل الامة ومصروفاتها. فالخطيب فيها ينبغي ان يطلع على القوانين التي تخصها وعلى العلوم التجارية والمالية وما له دخل في زيادة الثروة أو نقصها.

٢ ـ (الحرب والسلم). فالخطيب فيه ال يستغني عن معرفة القوانين العسکرية والعلوم الحربية واصول تنظيم الجيوش وقيادتها مع الاطلاع

٤٤٧

على تأريخ الحروب والوقائع وسر نشوبها واخمادها والوسائل اللازمة للهجوم والدفاع وما يتحقق به النصر وما يتمکن به من النجاة من الهزيمة. کما ينبغي ان يکون عارفا بما يثير الغيرة والحمية في نفوس الجنود وما يشجعهم ويثبت عزائمهم ويشحذ هممهم ويهون عليهم الموت في سبيل الغاية التي يحاربون لاجلها. وان يکون عارفا بما يثير في نفوس الاعداء الخوف والرهبة وضعف الهمة واليأس من النصر وتوقع الهزيمة ونحو ذلک مما يسمي في الاصطلاح الجديد (بحرب الاعصاب).

٣ ـ (المحافظة على المدن). والعلوم التي تخصها ولا يستغني الخطيب عن معرفتها هي علوم هندسة البناء والمسح وتنظيم الشوارع وما تحتاجه البلدة في مجاري مياهها وتنويرها وتعبيد طرقها ونظافتها ونحو ذلک.

٤ ـ (الاجتماعيات العامة) کالشرايع والسنن من دينية أو مدنية أو سياسية. ففي المصلحة الدينية مثلا ينبغي للخطيب ان يکون عارفا بالشرويعة السماوية حافظا لآثارها مطلعا على تأريخها ملما بأصول العقائد وفروع تلک الشريعة.

أما لو کان خطيبا في غاية سياسية أو نحوها فينبغي ان يکون خبيرا بما يخصها من قوانين وعلوم وما يکتنفها من تأريخ وحوادث وتقلبات. فالسياسي يحتاج الى العلوم السياسية والخبرة بأمورها والاخلاقي يحتاج الى علم الاخلاق والحاکم والمحامي الى القوانين الشرعية والمدنية.

وعلى الاجمال ان الخطيب في الامور الاجتماعية لا سيما مريد المحافظة على سنة أو دولة يلزم فيه أن يکون اعلم وامهر الخطباء الآخرين وأعرف بنفسيات الجمهور ومصالحهم لان موقفه مع الجمهور من أدق الواقف وأصعبها.

بل هذا الباب باب المشاورة على العموم من أخطر أبواب الخطابة وأشقها فقد يسقط الرجل الديني والسياسي في نظر الجمهور لاتفه

٤٤٨

الاسباب. وکم شاهدنا وسمعنا رئيس دولة أو مرشد قطر أو مرجعا دينيا لفرقة بينما هو في القمة من عظمته اذا به يهوي بين عشية وضحاها من برجه الرفيع محطما لخطأة صغيرة ارتکبها أو لامر فعله أو قاله معتقدا فيه الصلاح فاتهمه الجمهور بالخيانة أو الخطل أو ظنوا فيما عمله أو رآه الفساد والضرر.

والجمهور لا صبر له على کتمان رأيه او تأجيل التعبير عنه الى وقت اخر کما لا يعرف المجاملة والمداراة والمداهنة والمماشاة ولا يفهم البرهان والدليل حينئذ الا القوة تسکته أو السيف يفنبه.

* * *

هذا وانحصر کل ما ينبغي للخطيب في باب الاجتماعيات من معرفة لا يسعه هذا المختصر وکفي ما أشرنا اليه.

ونزيد هنا انه على العموم من أهم ما يلزم له بعد معرفة کل ما يتعلق بفرعه المختص به ان يکون مطلعا على علم الاجتماع وعلم النفس. وأهم من ذلک الخبرة في تطبيقهما وتشخيص نفسيات الجماهير المستمعين له ومعرفة تأريخ من سبقه من القادة والرؤساء والستفادة من تجاربهم منضمة الى تجاربه الشخصية. وأهم من ذلک کله المواهب الشخصية التي أشرنا اليها سابقا فانه کم من خطيب موهوب يبز اعلم العلماء وهو لم يدرس علوم الاجتماع اذ يسوقه ذکاوه وفطرته الى معرفة ما يقتضيه ذلک الاجتماع وما يتطلبه فيستطيع ان يهيمن عليه ويسخره ببيانه ويسخره بأسلوبه.

* * *

(القسم الثاني) الرئيسي : ما يتعلق بالمور الجزئيه

وهي غير محدودة ولا معدودة فلذلک لا يمکن ضبطها وانما يتبع فيها نباهة الخطيب وفطنته. غير أنها تشترک في شيء واحد عام هو طلب صلاح الحال فلذلک من جهة عامة ينبغي للخطيب ان يعرف :

(اولا) معني صلاح الحال مثل ان يقال انه في الانسان استجماع

٤٤٩

الفضائل النفسية والجسمية أوالحصول على الخيرات والمنافع التي بها السعادة في الدنيا والآخرة أو الحصول على الملذات واشباع الشهوات مع محبة القلوب واحترام الناس في الحضور والثناء عليه في الغيبة ... وهکذا على حسب اختلاف الآراء والنظار في معني صلاح حال الانسان.

و (ثانيا) الامور التي بها يتحقق صلاح الحال مثل فضيلة النفس بالحکمة والاخلاق ونحوها مما تقدم ومثل فضيلة البدن بالصحة وقوة العضلات والجمال واعتدال البنية ومثل طهارة الاصل ونباهة الذکر والکرامة والشرف والثروة وکثرة الاتباع والانصار وحسن الحظ ونحو ذلک.

و (ثالثا) طرق اکتساب هذه الامور واحدة واحدة وأحسن الوسائل واسهلها في الحصول عليها. مثل ان يعرف ان الحکمة والمعرفة تحصل بالجد والتحصيل والاخلاص لله والتجرد عن مغريات الدنيا وان الصحة تحصل بالرياضة وتنظيم المأکولات وان الثروة تحصل بالزراعة او التجارة أو الصناعة ... وهکذا.

و (رابعا) الامور النافعة في تحصيل تلک الخيرات والمعينة لوسائلها کالسعي وانتهاز الفرص والتضحية بکثير من الملذات والصدق والامانة. وبعکسها الامور الضارة کالرکون الى الراحة والکسل وايثار اللذة واللهو والبطالة ونحو ذلک.

و (خامسا) ما هو الافضل من الخيرات والانفع وبأي شيء تتحقق الافضلية مثل ان الاعم الشامل أفضل مما هو دونه في الشمول والدائم خير من غير الدائم وما هو أکثر نفعا أحسن مما هو اقل وما يستتبع نفعا آخر انفع مما لا يستتبع ... وهکذا.

* * *

هذه جملة الانواع المتعلقة باصناف الخطابة الثلاثة وهناک أنواع أخري مشترکة يطول الکلام عليها کأنواع ما يعد للاستدراجات وما يتعلق بامکان الامور أضربنا عنها اختصارا.

* * *

٤٥٠

المبحث الثالث التوابع

ـ ١ ـ

تمهيد

تقدم ص ٣٧٢ معني العمود والاعوان وذکرنا هناک أقسام الاعوان من الشهادة والاستدراجات التي هي خارجة عن نفس العمود. وکل ذلک کان من اجزاء الخطابة.

وهناک وراء اجزاء الخطاية أمور خارجة عنها مزينة لها وتابعة ومتممة لها باعتبار مالها من التأثير في تهيئة المستمعين لقبول قول الخطيب. وهي على الاجمال ترتبط کلها بنفس القول والخطابة. فلذلک تسمي (بالتوابع) وتسمي أيضا (التحسينات) و (التزيينات).

وهي ثلاثة أنواع :

(١) ما يتعلق بنفس الالفاظ

(٢) ما يتعلق بنظمها وترتيبها

(٣) ما يتعلق بالاخذ بالوجوه.

ونحن نشير الى هذه الاقسام ونوضحها على حسب هذا الترتيب فنقول :

٤٥١

ـ ٢ ـ

حال الالفاظ

والمراد منها ما يتعلق بهيئة اللفظ مفردا کان أو مرکبا والتي ينبغي للخطيب ان يراعيها. وأهمها الامور الآتية :

١ ـ ان تکون الالفاظ مطابقة للقواعد النحوية والصرفية في لغة الخطيب فان اللحن والغلط يشوه الخطاب ويسقط أثره في نفوس المستمعين.

٢ ـ ان تکون الالفاظ من جهة معانيها صحيحة صادقة بأن لا تشتمل مثلا على المبالغات الظاهر عليها الکذب.

٣ ـ ألا تکون رکيکة الاسلوب ولا متکلفا بها على وجه تخرج عن المحاورة التي تصلح لمخاطبة العامة والجمهور بل ينبغي ان يکون أسلوبها معتدلا على نحو ترتفع به عن رکاکة الاسلوب العامي ولا تبلغ درجة أسلوب محاورة الخاصة الذي لا ينتفع به الجمهور.

٤ ـ ان تکون وافية في معناها بلا زيادة وفضول ولا نقصان مخلّ.

٥ ـ ان تکون خالية من الحشو الذي يفکک نظام الجمل وارتباطها أو يوجب اغلاق الکلام وصعوبة فهمه.

٦ ـ ان يتجنب فيها الابهام والايهام واحتمال اکثر من معني وان کان ذلک مما قد يحسن في الکلام الشعري ويحسن من الکهان الذين يريدون ألا يظهر کذبهم في تنبؤاتهم. ولکنه لا يحسن ذلک من الخطيب الا اذا کان سياسيا حينما يقضي موقفه عليه الفرار من مسؤولية التصريح.

٧ ـ ان تکون معتدلة في الايجاز والاطناب لان الإيجاز قد يخل بالمعني والتطويل يورث الملل. والحالات تختلف في ذلک فقد يکون المستمعون کلهم أو اکثرهم على حال من الذکاء والمعرفة يحسن في

٤٥٢

خطابهم الإيجاز وقد يکون المطلوب يستدعي التأکيد والتکرار والتهويل فيحسن التطويل حتي مع المستمعين الاذکياء. وعلي کل حال ينبغي بل يجب تجنب التکرار الذي لا فائدة فيه في جميع المواقع. وکذلک ايراد الالفاظ المترادفة لا يحسن الاکثار منه.

٨ ـ ان تکون خالية من الالفاظ الغريبة والوحشية وغير المتداولة ومن التعبيرات التي يسمئز منها المستمعون کالالفاظ الفحشية فلو اضطر الى التعبير عن معانيها فليستعمل بدلها الکنايات.

٩ ـ ان تکون مشتملة على المحسنات البديعية والاستعارات والمجازات والتشبيهات فان هذه کلها لها الاثر الکبير في طراوة الکلام وجاذبيته وحلاوته.

ولکن يجب أن يعلم ان الاستعارات والمحسنات ونحوها لا تخلو عن غرابة وبعد على فهم الناس فلا ينبغي الخروج بها عن حد الاعتدال وينبغي أن يراعي فيها الاقرب الى طبع العامة ويفضل منها ما هو مطبوع على المتصنع المتکلف به. ويحسن ان نشبهها بالغرباء في مجالس الاصدقاء فان حضورهم لا يخلو من فائدة ولکنهم لا بد ان يؤثروا ضيقا وانقباضا في نفوس الاصدقاء.

١٠ ـ ان تکون الجمل مزدوجة موزونة المقاطيع. ومعني الوزن هنا ليس الوزن المقصور به في الشعر بل معادلتها على الوجوه الآتية وهي على انحاء متفاوتة متصاعدة :

أ ـ ان تکون مقاطيع الجمل متقاربة في الطول والقصر وان کانت حروفها وکلماتها غير متساوية مثل قوله : «بکثرة الصمت تکون الهيبة وبالنصفة يکثر المواصلون».

ب ـ ان يکون عدد کلمات المقاطيع متساوية نحو : «العلم وراثة کريمة والآداب حلل مجددة».

٤٥٣

ج ـ ان تکون الکلمات بالاضافة الى تساويها متشابهة وحروفها متعاولة نحو : «أقوي ما يکون التصنع في اوائله واقوي ما يکون الطبع في أواخره».

د ـ ان تکون المقاطيع مع ذلک في المد وعدمه متعادلة نحو : «طلب العادة افضل الافکار وکسب الفضيلة انفع الاعمال» فالافکار تعادل الأعمال في المد.

هـ ـ ان تکون الحروف الاخيرة من المقاطيع متشابهة کما لو کانت مسجعة نحو : «الصبر على الفقر قناعة والصبرعلي الذل صراعة».

وأحسن الاوزان في الجمل ان تکون متعادلة مثني أو ثلاث أما ما زاد على ذلک فلا يحسن کثيرا بل قد لا يستساع ويکون من التکلف الممقوت.

ـ ٣ ـ

نظم وترتيب الاقوال الخطابية

کل کلام يشتمل على ايضاح مطلوب خطابيا أو غير خطابي لا بد أن يتألف من جزءين اساسين هما الدعوي والدليل عليها. والنظم الطبيعي يقتضي تقديم الدعوي على الدليل وقد تقتضي مصلحة الاقناع العکس وهذا أمر يرجع تقديره الى نفس المتکلم.

اما الاقوال الخطابية فالمناسب لها على الاغلب بالاضافة الى ذينک الجزءين الاساسيين أن تشتمل على ثلاثة أمور أخري : تصدير واقتصاص وخاتمة. ونحن نبينها بالاختصار :

الاول (التصدير). وهو ما يوضع امام الکلام ومقدمة له ليکون بمنزلة الاشارة والايذان بالغرض المقصود للخطيب والفائدة منه اعداد المستمعين وتهيئتهم الى التوجه نحو الغرض. وهو يشبه تنحنح المؤذن

٤٥٤

قبل الشروع وترنم المغني في ابتداء الغناء. وکذلک کل امر ذي بال يراد منه لفت الانظار اليه ينبغي تصديره بشيء مؤذن به.

والاحسن في الخطابة ان يکون التصدير مشعرا بالمقصود وملوحا له لانه انما يؤتي به لفائدة تهيئة المستمعين لتقبل الغرض المقصود. ولاجل هذا يفتتح خطباء المنبر الحسيني خطاباتهم بالصلاة على الحسين عليه السلام والتظلم له. ويفتتح الکتاب رسائلهم بالبسملة ونحوها وبالسلام والشوق الى المرسل اليه وبما قد يشعر بالمراد کما هو المألوف عند اصحاب الرسائل في العصور المتقدمة.

ولکن ينبغي للخطيب أو الکاتب اذا رأي ان التصدير مما لا بد منه ان يلاحظ فيه أمرين :

١ ـ ألا يفتتح خطابه بما ينفر المخاطبين أو يثير سخطهم کأن يأتي مثلا بما يشعر بالتشاؤم في موضع التهنئة والفرح والسرور أو ما يشعر بالسرور في موضع التعزية والحزن أو يعبر بما يشعر بتعاظمه على المخاطبين ونحو ذلک.

٢ ـ ان يحاول الاختصار جهد الامکان بشرط ان يورده بعبارة مفهمة متينة فان الاطالة في التصدير يضجر المخاطبين فينتقض عليه الغرض قبل الوصول الى مطلوبه الا اذا کان استدراجه لهم يتوقف على الاطالة کما لو أراد أن يذم خصما او فعلا او يثني على نفسه او رأيه.

وعلى کل حال ان التصدير بالکلام المکرر المألوف أو الطالته بالکلام الفارغ من اشنع ما يصنعه بعض الخطباء والکتاب وهو على العجز اکثر منه دليلا على المقدرة کما ان الافضل في الاعتذار ان يترک التصدير اصلا. لانه قد يثير الظن بانه يريد التعلل والتهرب من الجواب والدفاع.

الثاني (الاقتصاص) وهو ما يذکر بيانا على التصديق بالمطلوب وشارحا له بقصة صغيرة تؤيده فان القصة من أروع ما يعين على الاقناع

٤٥٥

ويقرب الغرض الى الاذهان وکأنها من أقوي الادلة عليه لا سيما عند العامة. واصبحت القصة في العصور الاخيرة أدباً وفنا قائما برأسه يستعين بها دعاة الافکار الحديثة لتلقين العامة واقناعهم وان کانت من صنع الخيال والسر ان في طبيعة الانسان شهوة الاستماع الى القصة فيلتذ بها. وذلک لاشباع غريزة حب الاطلاع أو لغير ذلک من غرائزه وقد يعتبرها شاهدا ودليلا باعتبارها تجربة ناجحة.

ثم الخطيب أو الکاتب بعد الاقتصاص ينبغي ان يشرع في بيان ما يريد اقناع الجمهور به.

الثالث (الخاتمة) وهي ان يأتي بملخص ما سبق الکلام فيه وبما يؤذن بوداع المخاطبين من دعاء وتحية ونحوهما حسبما هو مألوف.

ولا شک ان الخاتمة کالتصدير فيها تزيين للقول وتحسين له لا سيما في الرسائل والمکاتبات.

ـ ٤ ـ

الاخذ بالوجوه

المقصود بالاخذ بالوجوه تظاهر الخطيب بأمور معبرة عن حاله ومؤثرة في المستمع على وجه تکون خارجة عن ذات الخطيب وأحواله وخارجة عن نفس الفاظه وأحوالها وتکون بصناعة وحيلة. ولذلک يسمي هذا الامر نفاقا ورياء وليس المقصود به أنه يجب ألا تکون له حقيقة کما قد تعطيه کلمة النفاق والرياء.

وهذا الامر مع فرضه من الامور الخارجة عن ذات الخطيب ولفظه فهو له تعلق بأحدهما فهو لذلک على نوعين :

١ ـ ما يتعلق بلفظه والمقصود به ما يخص هيئة اداء اللفظ وکيفية النطق به فان الخطيب الناجح من يستطيع ان يؤدي ألفاظه باصوات

٤٥٦

ونبرات مناسبة للانفعال النفسي عنده أو الذي يريد ان يتظاهر به ومناسبة لما يريد ان يحدثه في نفوس المخاطبين من انفعالات وان يلقيها بنغمات مناسبة لمقصوده والمعني الذي يريد افهامه للمخاطبين : فيرفع صوته عند موضوع الشدة والغضب مثلا ويخفضه عند موضع اللين ويسرع به مرة ويتأني أخري وبنغمة محزنة مرة ومفرحة أخري ... وهکذا حسب الانفعالات النفسية وحسب المقاصد.

وقد قلنا سابقا في الاستدراجات ان هذه أمور ليس لها قواعد مضبوطة ثابتة بل هي تنشأ من موهبة يمنحها الله تعالي من يشاء من عباده تصقل بالمران والتجربة.

وعلى کل حال ينبغي ان يکون الالقاء معبرا عما يجيش في نفس الخطيب من مشاعر وحالات نفسية أو يتکلفها ومعبرا عما يريد أن يحدثه في نفوس المخاطبين کما ينبغي ان يکون معبرا أيضا عن مقاصده واغراضه الکلامية فان جملة واحدة قد تلقي بلهجة استفهام وقد تلقي نفسها بلهجة خبر من دون احداث أي تغيير في نفس الالفاظ والفرق يحصل بالنغمة واللهجة.

وهذه القدرة على تأدية الکلام المعبر بلهجاته ونغماته ونبراته شرط اساس لنجاح الخطيب اذ بذلک يستطيع ان يمتزج بارواح المستمعين ويبادلهم العواطف ويجذبهم اليه. والقاء الکلام الجامد لا يثير انفعالاتهم ولا تتفتح له قلوبهم ولا عقولهم بل يکون على العکس مملا مزعجا.

٢ ـ ما يتعلق بالخطيب وهو ما يخص معرفته عند المستمعين وهيئته ومنظره الخارجي ليکون قوله مقبولا. وقد تقدم ذکر بعضه في الاستدراجات. وهو على وجهين قولي وفعلي : ـ

أما القولي فمثل الثناء على أو على رأيه واظهار نقصان خصمه أو ما يذهب اليه وتقرير ما يقتضي اعتقاد الخير به والثقة بقوله.

٤٥٧

واما الفعلي فمثل الصعود على مرتفع کالمنبر فان مشاهدة الخطيب لها اکبر الاثر في الاصغاء اليه وملاحقة تسلسل کلامه والانطباع بافکاره وانفعالاته النفسية. ومثل الظهور بمنظر جذاب ولباس مقبول لمثله فان لذلک أيضا أثره البالغ في نفوس المخاطبين. ومثل الاشارات باليد والعين والرأس وحرکات البدن وتقاطيع الوجه وملامحه فان کل هذه تعبر عن الانفعالات والمقاصد اذا أحسن الخطيب اي يضعها في مواضعها. وهکذا کل فعل له تأثير على مشاعر السامعين على نحو ما أشرنا اليه في الاستدراجات.

والعوام أطوع الى الاستعدراجات من نفس الکلام المعقول المنطقي ولهذا السبب تجد أن المتزهد المتقشف يسيطر على نفوسهم وان کان فاسد العقيدة أو غير مرضي القول او سيء التصرفات.

* * *

ثم انه ينبغي ان يجعل من باب الاخذ بالوجوه الذي يستعين به الخطيب على التأثير هو (الشعر) فانه کما سيأتي آکد في التأثير على العواطف وامکن في القلوب. فلا ينبغي ان تفوت الخطيب الاستعانة بالشعر فيمزج به کلامه ويلطف به خطابه لا سيما الامثال والحکم منه ولا سيما ما کان مشهورا لشعراء معروفين.

وسيأتي في البحث الآتي الکلام عن صناعة الشعر.

٤٥٨

الفَصْلُ الرّابع

صناعة الشعر

٤٥٩

تمهيد

ان الشعر صناعة لفظية تستعملها جميع الامم على اختلافها. والغرض الاصلي منه التأثير على النفوس لاثارة عواطفها : من سرور وابتهاج أو حزن وتألم او اقدام وشجاعة أو غضب وحقد أو خوف وجبن أو تهويل أمر وتعظيمه أو تحقير شيء وتوهينه او نحو ذلک من انفعالات النفس.

والرکن المقوم للکلام الشعري المؤثر في انفعالات النفوس ومشاعرها أن يکون فيه تخييل وتصوير اذ للتخييل والتصوير الاثر الاول في ذلک کما سيأتي بيانه فلذلک قيل : ان قدماء المناطقة من اليونانيين جعلوا المادة المقومة للشعر القضايا المتخيلات فقط ولم يعتبروا فيه وزنا ولا قافية.

أما العرب وتبعتهم أمم أخري ارتبطت بهم کالفرس والترک فقد اعتبروا في الشعر الوزن المخصوص المعروف عند العروضيين واعتبروا أيضا القافية على ما هي معروفة في علم القافية وان اختلف هذه الاممم في خصوصياتها. اما ما ليس له وزن وقانية فلا يسمونه شعرا وان اشتمل على القضايا المخيلات.

ولکن الذي صرح به الشيخ الرئيس في منطق الشفا ان اليونانيين کالعرب کانوا يعتبرون الوزن في الشعر(١) حتي أنه ذکر اسماء الاوزان عندهم.

__________________

(١) منطق الشفاء : ج ٤ ص ٢٩.

٤٦٠