المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

الفَصْلُ الثَالِث

صِناعة الخطابة

وهو يقع في ثلاثة مباحث :

(١) في الاصول والقواعد

(٢) في الأنواع

(٣) في التوابع

٤٢١

المبحث الاول ـ الاصول والقواعد

ـ ١ ـ

وجه الحاجة الى الخطابة (١)

کثيرا ما يحتاج المشرعون ودعاة المباديء والسياسيون ونحوهم الى اقناع الجماهير فيما يريدون تحقيقه اذ تحقيق فکرتهم او دعوتهم لاتتم الا برضا الجمهور عنها وقناعتهم بها.

والجمهور لا يخضع للبرهان ولا يقنع به کما لا يخضع للطرق الجدلية لان الجمهور تتحکم به العاطفة أکثر من التعقل والتبصر بل ليس له الصبر على التأمل والتفکير ومحاکمة الادلة والبراهين وانما هو سطحي التفکير فاقد للتمييز الدقيق. تؤثر فيه المغريات وتبهره العبارات البراقة وتقنعه الظواهر الخلابة. ولعدم صبره على التمييز الدقيق نجده اذا عرضت عليه فکرة لا يتمکن من التفکيک بين صحيحها وسقيمها فيقبلها کلها أو يرفضها کلها.

وعليه فيحتاج من يريد التأثير على الجماهير في اقناعهم أن يسلک مسلکا آخر غير مسلک البرهان والجدل المتقدمين فان الذي يبدو أن

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٣٩.

٤٢٢

الطرق العقلية عاجزة عن التأثير على عقائد الناس وتحويلها لعجزها عن التأثير على عواطفهم المتحکمة فيهم.

بل لا يقتصر هذا الامر على الجمهور بما هو جمهور فان کل فرد من أفراد العامة اذا کان قليل الثقافة والمعرفة هو أبعد ما يکون عن الاقتناع بالطريق البرهانية او الجدلية بل اکثر الخاصة المثقفين وان ظنوا في انفسهم المعرفة وحرية الرأي ينجذبون الى الطرق المقنعة المؤثرة على العواطف وينخدعون بها. بل لا يستغنون عنها في کثير من آرائهم واعتقاداتهم بالرغم على قناعتهم بمعرفتهم وثقافتهم التي قد يتخيلون انهم قد بلغوا بها الغاية.

فيجب أن تکون المخاطبة التي يتلقاها الجمهور والعامي وشبهه من نوع لا تکون مرتفعة ارتفاعا بعيدا عن درجة مثله. ولذا قيل : «کلم الناس على قدر عقولهم»(١).

ولم تبق لنا صناعة تناسب هذا الغرض غير صناعة الخطابة فان الاسلوب الخطابي أحسن شيء للتأثير على الجمهور والعامي. وکل شخص استطاع ان يکون خطيبا بالمعني المقصود من الخطابة في هذا الفن فانه هو الذي يستطيع ان يستغل الجمهور والعوام ويأخذ بأيديهم الى الخير او الشر.

فهذا وجه حاجتنا معاشر الناس الى صناعة الخطابة ولزم على من يريد قيادة الجمهور الى الخير ان يتعلم هذه الصناعة وهي عبارة عن معرفة طرق الاقناع.

فان الخطابة انجح من غيرها في الاقناع کما ان الجدل في الالزام انفع.

__________________

(١) الأصل فيه ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال : ما كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قط ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنا معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» روضة الكافي : ص ٢٦٨ ح ٣٩٤.

٤٢٣

ـ ٢ ـ

وظائف الخطابة وفوائدها (١)

مما تقدم نستطيع ان نعرف أن وظائف الخطابة هو الدفاع عن الرأي وتنوير الرأي العام في أي امر من الامور والحض على الاقتناع بمبدأ من المباديء والتحريض على اکتساب الفضائل والکمالات واجتناب الرذائل والسيئات واثارة شعور العامة وايقاظ الوجدان والضمير فيهم. وبالاختصار وظيفتها اعداد النفوس لتقبل ما يريد الخطيب ان تقتنع به.

وبهذا تعرف أن فائدة الخطابة فائدة کبيرة بل هي ضرورة اجتماعية في حياة الناس العامة.

وهي بعد وظيفة شاقة اذ أنها تعتمد بالاضافة الى معرفة هذه الصناعة على مواهب الخطيب الشخصية التي تصقل بالتمرين والتجارب ولا تکتسب بهذه الصناعة ولا بغيرها وانما وظيفة هذه الصناعة توجيه تلک المواهب واعداد مايلزم لمعرفة طرق اکتساب ملکة الخطابة مع المران الطويل وکثرة التجارب. وسياتي التنصيص على حاجة الخطابة الى المواهب الشخصية.

ـ ٣ ـ

تعريف هذه الصناعة وبيان معني الخطابة (٢)

يمکن مما تقدم ان نتصيد تعريف صناعة الخطابة على النحو الآتي حسبما هو معروف عند المنطقيين : «انها صناعة علمية بسببها يمکن اقناع الجمهور في الامر الذي يتوقع حصول التصديق به بقدر الامکان».

__________________

(١) راجع شرح المنظومة : ص ١٠٣.

(٢) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٣٩.

٤٢٤

هذا هو تعريف أصل هذه الصناعة التي غايتها حصول ملکة الخطابة التي بها يتمکن الشخص الخطيب من اقناع الجمهور. والمراد من القناعة هو التصديق بالشيء مع الاعتقاد بعدم امکان ان يکون له ما ينقض ذلک التصديق او مع الاعتقاد بامکان ما ينقضه الا ان النفس تصير بسبب الطرق المقنعة اميل الى التصديق من خلافه. وهذا الاخير هو المسمي عندهم (بالظن) على نحو ما تقدم في هذا الجزء.

ثم انه ليس المراد من لفظ (الخطابة) التي وضعت لها هذه الصناعة مجرد معني الخطابة المفهوم من لفظها في هذا العصر وهو ان يقف الشخص ويتکلم بما يسمع المجتمعين بأي اسلوب کان بل أسلوب البيان واداء المقاصد بما يتکفل اقناع الجمهور هو الذي يقوّم معني الخطابة وان کان بالکتابة أو المحاورة کما يحصل في محاورة المرافعة عند القضاة والحکام.

وهذه الصناعة تتکفل ببيان هذا الاسلوب وکيف يتوصل الى اقناع الناس بالکلام وما لهذا الاسلوب من مساعدات وأعوان من صعود على مرتفع ورفع صوت ونبرات خاصة وما الى ذلک مما سيأتي شرحه.

ـ ٤ ـ

اجزاء الخطابة (١)

الخطابة تشتمل على جزءين : العمود والاعوان.

أ ـ (العمود). ويقصدون بالعمود هنا مادة قضايا الخطابة التي تتألف منها الحجة الاقناعية. وتسمي الحجة الاقناعية باصطلاح هذه الصناعة (التثبيت) على ما سيأتي. وبعبارة أخري : العمود هو کل قول منتج لذاته

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٤١.

٤٢٥

للمطلوب انتاجا بحسب الاقناع. وانما سمي عمودا فباعتبار انه قوام الخطابة وعليه الاعتماد في الاقناع.

ب ـ (الاعوان). ويقصدون بها الاقوال والافعال والهيئات الخارجية عن العمود المعينة له على الاقناع المساعدة له على التأثير المهيئة للمستمعين على قبوله.

وکل من الامرين (العمود والاعوان) يعد في الحقيقة جزءاً مقوما للخطابة لان العمود وحده قد لا يؤدي تمام الغرض من الاقناع بل على الاکثر يفشل في تحقيقه. والمقصود الاصلي من الخطابة هو الاقناع کما تقدم فکل ما هو مقتض له دخيل في تحققه لا بد أن يکون في الخطابة دخيلا وان کان من الامور الخارجة عن مادة القضايا التي تتألف منه الحجة (العمود).

وقولنا هنا : «مقتض للاقناع» نقصد به أعم مما يکون مقتضيا لنفس الاقناع أو مقنضيا للاستعداد له. والمقتضي لنفس الاقناع ليس العمود وحده کما ربما يتخيل بل شهادة الشاهد أيضا تقتضيه مع انها من الاعوان.

وشهادة الشاهد على قسمين شهادة قول وشهادة حال. فهذه اربعة أقسام ينبغي البحث عنها : العمود والشهادة القولية وشهادة الحال والمقتضي للاستعداد للاقناع.

ويمکن فتح البحث فيها بأسلوب آخر من التقسيم بأن نقول :

الخطابة تشتمل على عمود واعوان. ثم الاعوان على قسمين اما بصناعة وحيلة واما بغير صناعة وحيلة. والاول وهو ما کان بصناعة وحيلة ويسمي (استدراجات) فعلي ثلاثة اقسام : استدراجات بحسب القائل او بحسب القول أو بحسب المستمع. والثاني هوما کان بغير صناعة وحيلة يسمي (نصرة) و (شهادة). وهي الشهادة على قسمين

٤٢٦

شهادة قول وشهادة حال. فهذه سنة أقسام :

١ ـ العمود.

٢ ـ استدراجات القائل.

٣ ـ استدراجات بحسب القول.

٤ ـ استدراجات بحسب المستمع.

٥ ـ شهادة القول.

٦ ـ شهادة الحال.

فهذه الستة هي بالاخير تکون أجزاء الخطابه فينبغي البحث عنها واحدة واحدة

ـ ٥ ـ

العمود (١)

(العمود) وقد تقدم معناه يتألف من المظنونات او المقبولات أو المشهورات أو المختلفة بينها. وقد سبق شرح هذه المعاني تفصيلا في مقدمة الصناعات الخمس فلا نعيد.

واستعمال (المشهورات) في الخطابة باعتبار مالها من التأثير على السامعين في الاقناع. ولذا لا يعتبر فيها الا أن تکون مشهورات ظاهرية وهي التي تحمد في باديء الرأي وان لم تکن مشهورات حقيقية. وبهذا تفترق الخطابة عن الجدل اذ الجدل لا يستعمل فيه الا المشهورات الحقيقية. وقد سبق ذلک في الجدل.

وقلنا هناک : «ان الظاهرية تنفع فقط في صناعة الخطابة» وانما قلنا ذلک فلأن الخطابة غايتها الاقتناع ويکتفي بما هو مسهور أو مقبول لدي

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٤١.

٤٢٧

المستمعين وان کان مشهورا في باديء الرأي وتذهب شهرته بالتعقيب اذ ليس فيها رد وبدل ومناقشة وتعقيب على العکس من الجدل المبني على المحاورة والمناقضة فال ينبغي فيه استعمال المشهورات الظاهرية اذ يعطي بذلک مجال للخصم لنقضها وتعقيبها بالرد.

اما المظنونات والمقبولات فواضح اعتبارها في عمود الخطابة.

ـ ٦ ـ

الاستدراجات بحسب القائل

وهي من أقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتکون بصناعة وحيلة. وذلک بأن يظهر الخطيب قبل الشروع في الخطابة بمظهر مقبول القول عندهم. ويتحقق ذلک على نحوين :

١ ـ ان يثبت فضيلة نفسه اذا لم يکن معروفا لدي المستمعين اما بتعريفه هو لنفسه او بتعريف غيره يقدمه لهم بالثناء بان يعرف نسبه وعلمه ومنزلته الاجتماعية أو وظيفته اذا کان موظفا او نحو ذلک.

ولمعرفة شخصية الخطيب الاثر البالغ اذا کانت له شخصية محترمة في سهولة انقياد المستمعين اليه والاصغاء له وقبول قوله فان الناس تنظر الى من قال لا الى ما قيل وذلک اتباعا لطبيعة المحاکاة التي هي من غريزة الانسان لا سيما في محاکاته لمن يستطيع ان يسيطر على مشاعره واعجابه. ولا سيما في المجتمعات العامة فان غرائز الانسان وبالخصوص غريزة المحاکاة تحيا في حال الاجتماع او تقوي.

٢ ـ أن يظهر بما يدعو الى تقديره واحترامه وتصديقه والوثوق بقوله. وذلک يحصل بأمور :

(منها) لباسه وهندامه (١) فاللازم على الخطيب أن يقدر المجتمعين

__________________

(١) الهندام : حسن القد وتنظيم الملابس معرب «أندام» بالفارسية.

٤٢٨

ونفسياتهم وما يقدر من مثله ان يظهر به فقد يقتضي ان يظهر بأفخر اللباس وبأحسن بزة تليق بمثله وقد يقتضي ان يمظهر الزاهد الناسک. وهذا يختلف باختلاف الدعوة وباختلاف الحاضرين. وعلى کل حال ينبغي ان يکون الخطيب مقبول الهيئة عند الحاضرين حتي لا يثير تهکمهم او اشمئزازهم او تحقيرهم له.

و (منها) ملامح وجهه وتقاطيع جبينه ونظرات عينيه وحرکات يديه وبدنه فان هذه أمور معبرة ومؤثرة في السامعين اذا استطاع الخطيب ان يحسن التصرف بها حسبما يريده من البيان والاقناع. وبعبارة اصرح ينبغي ان يکون ممثلا في مظهره فيبدو حزينا في موضع الحزن وقد يلزم له ان يبکي او يتباکي ويبدو مسرورا مبتشا في موضع السرور ويبدو بمظهر الصالح الوثق من قوله المؤمن بدعوته في موضع ذلک ... وهکذا.

وکثير من الواعظين يتأثر الناس بهم بمجرد النظر اليهم قبل ان يتفوهوا وکم من خطيب في مجالس ذکري مصرع سيدالشهداء عليه السلام يدفع الناس الى البکاء والرقة بمجرد مشاهدة هيئته وسمته قبل ان يتکلم.

ـ ٧ ـ

الاستدراجات بحسب القول

وهي أيضا من اقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتکون بصناعة وحيلة. وذلک بأن تکون لهجة کلامه مؤثرة مناسبة للغرض الذي يقصده اما برفع صوته أو بخفضه او ترجيعه او الاسترسال فيه بسرعة او التأني به أو تقطيعه. کل ذلک حسب ما تقتضيه الحال من التأثير على المستمعين.

وحسن الصوت وحسن الالقاء والتمکن من التصرف بنبرات الصوت وتغييره حسب الحاجة من أهم ما يتميز به الخطيب الناجح. وذلک في أصله موهبه ربانية يختص بها بعض البشر من غير کسب غير أنها تقوي

٤٢٩

وتنمو بالتمرين والتعلم کجميع المواهب الشخصية. وليس هناک قواعد عامة مدونة يمکن بها ضبط تغييرات الصوت ونبراته حسب الحاجة وانما معرفة ذلک تتبع نباهة الخطيب في اختياره للتغيرات الصوتية المناسبة التي يجدها بالتجربة والتمرين مؤثرة في المستمعين.

ولاجل هذا يظهر لنا کيف يفشل بعض الخطباء لانه يحاول المسکين تقليد خطيب ناجح في لهجته وإلقائه فيبدو نابيا سخيفا اذ يظهر بمظهر المتصنع الفاشل. والسر ان هذا أمر يدرک بالغريزة والتجربة قبل ان يدرک بالتقليد للغير.

ـ ٨ ـ

الاستدراجات بحسب المخاطب

وهي أيضا من اقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتکون بصناعة من الخطيب. وذلک بأن يحاول استمالة المستمعين وجلب عواطفهم نحوه ليتمکن قوله فيهم ويتهيأوا للاصغاء اليه : مثل ان يحدث فيهم انفعالا نفسيا مناسبا لغرضه کالرقة والرحمة أو القوة والغضب او يضحکهم بنکتة عابرة لتنفتح نفوسهم للاقبال عليه. ومثل أن يشعرهم بأنهم يتخلقون باخلاق فاضلة کالشجاعة والکرم او الانصاف والعدل او ايثار الحق أو يتحلون بالواطنية الصادقة والتضحية في سبيل بلادهم أو نحو ذلک مما يناسب غرضه. وهذا يکون بمدحهم والثناء عليهم أو بذکر سوابق محمودة لهم أو لأبائهم أو اسلافهم.

واذا اضطر الى التعريض بخصومه الحاضرين فيظهر بأنهم الاقلية القليلة فيهم أو يتظاهر بأنه لا يعرف بأنهم موجودون في الاجتماع أو انهم لا قيمة لهم ولا وزن عند الناس.

وليس شيء أفسد للخطيب من التعريض بذم المستمعين أو تحقيرهم

٤٣٠

او التهکم بهم او اخجالهم فان خطابه سيکون قليل الاثر أو عديمه اصلا وان کان يأتي بذلک بقصد اثارة الحمية والغيرة فيهم لان هذه الامور بالعکس تثير غضبهم عليه وکرهه والاشمئزاز من کلامه. ولاثارة الحمية طرق أخري غير هذه. وبعبارة أشمل وادق ان التجاوب النفسي بين الخطيب والمستمعين شرط أساسي في التأثر بکلامه فاذا ذمهم او تهکم بهم بعّدهم عنه وخسر هذا التجاوب النفسي. وهکذا لو اضجرهم بطول الکلام أو التکرار الممل أو التعقيد في العبارة أو ذکر ما لا نفع فيه لهم أو ما الفوا استماعه.

والخطيب الحاذق الناجح من يستطيع ان يمتزج بالمستمعين ويهيمن عليهم بأن يجعلهم يشعرون بأنه واحد منهم وشريکهم في السراء والضراء وبأنه يعطف على منافعهم ويرعي مصالحهم وبأنه يجهم ويحترمهم لا سيما الخطيب السياسي والقائد فيد الحرب.

ـ ٩ ـ

شهادة القول

وهي من أقسام (النصرة) التي ليست بصناعة وحيلة ومن اقسام ما يقتضي نفس الاقناع. وهي تحصل اما بقول من يقتدي به مع العلم بصدقه کالنبي والامام او مع الظن بصدقه کالحکيم والشاعر. واما بقول الجماهير أو الحاکم او النظارة وذلک بتصديقهم للخطيب أو تأييدهم له بهتاف او تصفيق او نحوها. واما بوثائق ثابتة کالصکوک والسجلات والآثار التاريخية ونحوها.

وهذه الشهادة على انها من الاعوان تفيد بنفسها الاقناع. وقد تکون بنفسها عموداً لوصح أخذها مقدمة في الحجة الخطابية وتکون حينئذ من قسم (المقبولات) التي قلنا ان الحجة الخطابية قد تتألف منها.

٤٣١

ـ ١٠ ـ

شهادة الحال

وهي أيضا من أقسام (النصرة) التي ليست بصناعة وحيلة ومن اقسام ما يقتضي نفس الاقناع. وهذه الشهادة تحصل اما بحسب نفس القائل أو بحسب القول.

١ ـ ما هي بحسب القائل : إما لکونه مشهورا بالفضيلة من الصدق والامانة والمعرفة والتمييز أو معروفا بما يثير احترامه أو الاعجاب به أو التقدير لما يقوله ويحکم به کأن يکون معروفا بالبراعة الخطابية أو الشجاعة النادرة او بالثراء الکثير او بالحنکة السياسية أو صاحب منصب رفيع أو نحو ذلک. وقد قلنا ان لمعرفة الخطيب الاثر البالغ في التأثير على المستمعين فکيف اذا کان محبوبا أو موضع الاعجاب أو الثقة. وکلما کبرت سمعة الخطيب وتمکن حبه واحترامه من القلوب من القلوب کان قوله اکثر قبولا وأبعد أثرا.

وإما لکونه تظهر عليه امارات الصدق وان لم يکن معروفا بأنحاء المعرفة السابقة مثل أن تطفح على وجهه اسارير السرور اذا بشر بخير أو علامات الخوف والهلع اذا انذر بشر أو هيئة الحزن اذا حدث عما يحزن ... وهکذا.

ولتقاطيع وجه الخطيب وملامحه ونبرات صوته الاثر الفعال في شعور المستمعين بأن ما يقوله کان مؤمنا به أو غير مؤمن به. والوجه الجامد القاحل من التعبير لا يستجيب له المستمع. ولذا اشتهر ان الکلمة اذاخرجت من القلب دخلت في القلب. وما هذا الالان ايمان الخطيب بما يقول يظهر على ملامح وجهه ونبرات صوته رضي ام ابي فيدرک المستمع ذلک حينئذ بغريزته فيؤثر على شعوره بمقتضي طبيعة المحاکاة والتقليد.

٤٣٢

٢ ـ ما هي بحسب القول : مثل الحلف على صدق قول والعهد أو التحدي کما تحدي نبينا الاکرم صلي الله عليه وآله وسلم قومه أن يأتوا بسورة أو آية من مثل القرآن المجيد واذ عجزوا عن ذلک التجأوا الى الاعتراف بصدقه. ومثل ما لو تحدي الصانع أو الطبيب أو نحوهما خصمه المشارک له في صناعته بأن يأتي بمثل ما يعمل ويقول له : ان عجزت عن مثل عملي فاعترف بفضلي عليک واخضع لقولي.

ـ ١١ ـ

الفرق بين الخطابة والجدل

لما کانت صناعة الخطابة وصناعة الجدل يشترکان في کثير من الاشياء استدعي ذلک التنبيه على جهات الافتراق بينهما لئلا يقع الخلط بينهما :

أما اشتراکهما ففي الموضوع فان موضوع کل منهما عام غير محدود بعلم ومسألة کما قلنا في الجدل : انه ينفع في جميع المسائل الفلسفية والدينية والاجتماعية وجميع الفنون والمعارف. والخطابة کذلک وما يستثني هناک يستثني هنا. ويشترکان أيضا في الغاية فان غاية منهما الغلبة ويشترکان في بعض مواد قضايا هما اذ تدخل المشهورات فيهما کما تقدم.

اما افتراقهما ففي هذه الامور الثلاثة نفسها :

١ ـ في الموضوع فان الخطابة يستثني من عموم موضوعها المطالب العلمية التي يطلب فيها اليقين فان استعمال الاسلوب الخطابي فيها معيب مستهجن اذا کان المخاطب بها الخاصة وان جاز استعمال الاسلوب

__________________

(*) العهد هو الشريعة الخاصة التي يصنعها شخصان او أكثر لا يصح لكل واحد ان يعدل عنها او يتجاوزها.

٤٣٣

الجدلي لالزام الخصم وافحامه أو لتعليم المبتدئين. کما انه على العکس لا يحسن من الخطيب ان يستعمل البراهين العلمية والمسائل الدقيقة لغرض الاقناع.

٢ ـ في الغاية فان غاية الجدلي الغلبة بالزام الخصم وان لم تحصل له حالة القناعة. وغاية الخطابة الغلبة بالإقناع.

٣ ـ في المواد فقد تقدم في الکلام عن العمود بيان الفرق فيها اذ قلنا : ان الخطابة تستعمل فيها مطلق المشهورات الظاهرية وفي الجدل لا تستعمل الا الحقيقية.

وهناک فروق أخري لا يهمنا التعرض لها. وسيأتي في باب اعداد المنافرات التشابه بين الجدل والمنافرة بالخصوص والفرق بينهما کذلک.

ـ ١٢ ـ

ارکان الخطابة (١)

ارکان الخطابة المقومة لها ثلاثة : القائل (وهو الخطيب) والقول (وهو الخطاب). والمستمع.

ثم المستمع ثلاثة اشخاص على الاکثر : مخاطب وحاکم ونظارة وقد يکون مخاطبا فقط.

١ ـ (المخاطب) وهو الموجه اليه الخطاب وهو الجمهور أو من هو الخصم في المفاوضة والمحاورة.

٢ ـ (الحاکم) وهو الذي يحکم للخطيب او عليه اما لسلطة عامة له في الحکم شرعية او مدنية او لسلطة خاصة برضا الطرفين اذ يحکمانه ويضعان ثقتهما به وان لم تکن له سلطة عامة.

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٤١.

٤٣٤

٣ ـ (النظارة) وهم المستمعون المتفرجون الذين ليس لهم شأن الا تقوية الخطيب أو توهينه مثل ان يهتفوا له او يصفقوا باستحسان ونحوه حسبما هو عادة شعبهم في تأييد الخطباء مثل ان يسکتوا في موضع التأييد والاستحسان او يظهروا توهينه بهتاف ونحوه وذلک اذا أرادوا توهينه. والنظارة عادة مألوفة عند بعض الامم الغربية في المحاکمات ولهم تأثير في سير المحاکمة وربما يسمونهم (العدول) أو (المعدلين).

وليس وجود الحاکم والنظارة يلازم في جميع اصناف الخطابة بل في خصوص المشاجرات کما سيأتي.

ـ ١٣ ـ

اصناف المخاطبات (١)

ان الغرض الاصلي لصاحب الصناعة الخطابية على الاغلب اثبات فضيلة شيء ما أو رذيلته أو اثبات نفعه أو ضرره. ولکن لا اي شيء کان بل الشيء الذي له نفع او ضرر للعموم بوجه من الوجوه على نحو له دخالة في المخاطبين وعلاقة بهم.

وهذا الشيء لا يخلو عن حالات ثلاث :

١ ـ ان يکون حاصلا فعلا فالخطابة فيه تسمي (منافرة).

٢ ـ ان يکون غير حاصل فعلا ولکنه حاصل في الماضي فالخطابة فيه تسمي (مشاجرة).

٣ ـ ان يکون غير حاصل فعلا أيضا ولکنه يحصل في المستقبل فالخطابة فيه تسمي (مشاورة). وهي أهم الاصناف.

فالمفاوضات الخطابية على ثلاثة اصناف.

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٤٦.

٤٣٥

١ ـ (المنافرات) المتعلقة بالحاصل فعلا فان قرار الخطيب فضيلته أو نفعه سميت (مدحا) وان قرر ضد ذلک سميت (ذما).

٢ ـ (المشاجرات) وتسمي (الخصاميات) أيضا وهي المتعلقة بالحاصل سابقا. ولا بد أن تکون الخطابة لاجل تقرير وصول فائدته ونفعه أو ما فيه من عدل وانصاف ان کان نافعا ولاجل تقرير وصول ضرره أو ما فيه من ظلم وعدوان. فمن الجهة الاولي تسمي الخطابة (شکرا) اما اصالة عن نفسه أو نيابة عن غيره. وانما سميت کذلک لان تقرير الخطيب يکون اعترافا منه للمخاطبين بفضيلة ذلک الشيء فلا يقع فيه نزاع منهم. ومن الجهة الثانية تسمي الخطابة (شکاية) أما عن نفسه أو عن غيره. والمدافع يسمي (معتذرا) والمعترف به (نادما).

٣ ـ (المشاورات) المتعلقة بما يقع في المستقبل. ولا محالة ان الخطابة حينئذ لا تکون من جهة وجوده أو عدمه فان هذا ليس شأن هذه الصناعة. بل لا بد أن تکون من جهة ما فيه من نفع وفائدة فينبغي أن يفعل فتکون الخطابة فيه ترغيبا وتشويقا واذنا في فعله. أو من جهة ما فيه من ضرر وخسارة فينبغي ألا يفعل فتکون الخطابة فيه تحذيرا وتخويفا ومنعا من فعله.

* * *

فهذه الانواع الثلاثة هي الاغراض الاصلية التي تقع للخطيب وقد يتوصل الى غرضه ببيان أمور تقع في طريقه وتکون ممهدة للوصول اليه ومعينة للاقناع وتسمي (التصديرات) مثل ان يمدح شيئا أو شخصا فينتقل منه الى المشاورة للتنظير بما وقع أو لغير ذلک.

والتشبيب الذي يستعمله الشعراء سابقا في صدر مدائحهم من هذا القبيل فان الغرض الاصلي هو المدح والتشبيب تصدر به القصيدة للتوصل اليه. وکثيرا ما لا يکون الشاعر عاشقا وانما يتشبه به اتباعا لعادة الشعراء.

٤٣٦

وفي هذا العصر يمهد خطباء المنبر الحسيني امام مقصودهم من ذکر فاجعة الطف ببيان أمور تأريخية أو اخلاقية او دينية من موعظة ونحوها. وما ذاک الا لجلب انتباه السامعين او لاثارة شعورهم وانفعالاتهم مقدمة للغرض الاصلي من ذکر الفاجعة

ـ ١٤ ـ

صور تأليف الخطابة (١) ومصطلحاته

قد قلنا في الجدل : ان المعول في تأليف صوره غالبا على القياس والاستقراء وفي الخطابة أکثر مايعول على القياس والتمثيل وان استعمل الاستقراء احيانا. ولا يجب في القياس وغيره عن استعماله هنا ان يکون يقينيا من ناحية تأليفه أي لا يجب أن يکون حافظا لجميع شرائط الانتاج بل يکفي أن يکون تأليفه منتجا بحسب الظن الغالب وان لم يکن منتجا دائما کما لو تألف القياس مثلا على نحو الشکل الثاني من موجبتين کما يقول : فلان يمشي متأنيا فهو مريض فحذفت کبراه الموجبة وهي (کل مريض يمشي متأنيا) مع ان الشکل الثاني من شروطه اختلاف المقدمتين بالکيف.

وکذلک قد يستعمل التمثيل في الخطابة خاليا من جامع حيث يفيد الظن بأن هناک جامعا مثل ان يقال : مر بالامس من هناک رجل مسرع وکان هارباً واليوم يمر مسرع آخر من هنا فهو هارب.

وکذلک يستعمل الاستقراء فيها بدون استقصاء لجميع الجزئيات مثل أن يقال : الظالمون قصير والاعمار لان فلان الظالم وفلان قصير و

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٤٣.

٤٣٧

الاعمار فيعد جزئيات کثيرة يظن معها الحاق القليل بالاعم الاغلب.

وبحسب تأليف صور الخطابة مصطلحات ينبغي بيانها فنقول :

١ ـ (التثبيت). والمقصود به کل قول يقع حجة في الخطابة ويمکن فيه أن يوقع التصديق بنفس المطلوب بحسب الظن سواء کان قياسا أو تمثيلا.

٢ ـ (الضمير). والمقصود به التثبيت اذا کان قياسا. والضمير باصطلاح المناطقة في باب القياس حذفت منه کبراه. ولما کان اللائق في الخطابة ان تحذف من قياسها کبراه للاختصار من جهة ولا خفاء کذب الکبري من جهة أخري سموا کل قياس هنا (ضميرا) لانه دائما أو غالبا تحذف کبراه.

٣ ـ (التفکير). وهو الضمير نفسه ويسمي (تفکيرا) باعتبار اشتماله على الحد الاوسط الذي يقتضيه الفکر.

٤ ـ (الاعتبار). ويقصدون به التثبيت اذا کان تمثيلا فيقولون مثلا : «يساعد على هذا الامر الاعتبار». وهذه الکلمة شايعة الاستعمال عند الفقهاء وما أحسب الا انهم يريدون هذا المعني منها.

٥ ـ (البرهان). وهو کل اعتبار يستتبع المقصود بسرعة فهو غير البرهان المصطلح عليه في صناعة البرهان. فلا تغرنک کلمة البرهان في بعض الکتب الجدلية والخطابية.

٦ ـ (الموضع). والمقصود به هنا کل مقدمة من شأنها ان تکون جزء من التثبيت سواء کانت مقدمة بالفعل أو صالحة للمقدمية. وهو غير الموضع المصطلح عليه في صناعة الجدل. ومعني الموضع هناک يسمي (نوعا) هنا وسيأتي في الباب الثاني.

ولا بأس بالبحث عن الضمير والتمثيل اختصارا هنا :

٤٣٨

ـ ١٥ ـ

الضمير

للضمير شأن خاص في هذه الصناعة فان على الخطيب ان يکون متمکنا من اخفاء کبراه في اقيسته أو اهمالها. ان باقي الصناعات قد تحذف الکبري في اقيستها ولکن لا لحاجة وغرض خاص بل لمجرد الايجاز عند وضوح الکبري أما في الخطابة فان اخفاءها غالبا ما يضطر اليه الخطيب بما هو خطيب لأحد أمور :

١ ـ اخفاء عدم الصدق الکلي فيها مثل أن يقول : «فلان يکف غضبه عن الناس فهو محبوب» فانه لو صرح بالکبري وهي «کل من کف غضبه عن الناس هو محبوب لهم» ربما لا يجدها السامع صادقة صدقا کليا وقد يتنبه بسرعة الى کذبها اذ قديعرف شخصا معينا متمکنا من کف غضبه ومع ذلک لا يحبه الناس.

٢ ـ تجنب ان يکون بيانه منطقيا وعلميا معقداً فلا يميل اليه الجمهور الذي من طبعه الميل الى الصور الکلامية الواضحة السريعة الخفيفة. والسر ان ذکر الکبري يصبغه بصبغة الکلام المنطقي العلمي الذي ينصرف عن الاصغاء اليه الجمهور. بل قد يثير شکوکهم وعدم حسن ظنهم بالخطيب أو سخريتهم به.

٣ ـ تجنب التطويل فان ذکر الکبري غالبا يبدو مستغنيا عنه والجمهور اذا أحس ان الخطيب يذکر مالا حاجة الى ذکره أو يأتي بالمکررات يسرع اليه الملل والضجر والاستيحاش منه. وقد يؤثر فيه ذلک انفعالا معکوسا فيثير في نفوسهم التهمة له في صدق قوله. فلذلک ينبغي للخطيب دائما تجنب زيادة الشرح والتکرار الممل فانه يثير التهمة في نفوس المستمعين وشکوکهم في قولهم وضجرهم منه.

وبعد هذا فلو اضطر الخطيب الى ذکر الکبري کما لو کان حذفها

٤٣٩

يوجب ان يکون خطابه غامضا فينبغي ان يوردها مهملة حتي لا يظهر کذبها لو کانت کاذبة وألا يوردها بعبادة منطقية جافة.

وصنعة الخطابة تعتمد کثيرا على المقدرة في ايراد الضمير أو اهمال الکبري فمن الجميل بالخطيب أن يراقب هذا في خطابه. وهذا ما يحتاج الى مران وصنعة وحذق والله تعالي قبل ذلک هو المسدد للصواب الملهم للمعرفة.

ـ ١٦ ـ

التمثيل

سبق ان قلنا في الفصل ١٤ : ان الخطابة تعتمد على القياس والتمثيل. وفي الحقيقة تعتمد على التمثيل أکثر نظرا الى انه اقرب الى أذهان العامة وأمکن في نفوسهم. وهو في الخطابة يقع على انحاء ثلاثة :

١ ـ أن يکون من اجل اشتراک الممثل به مع المطلوب في معني عام يظن انه العلة للحکم في الممثل به. وهذا النحو هو التمثيل المنطقي الذي تقدم الکلام فيه آخر الجزء الثاني(١).

٢ ـ ان يکون من أجل التشابه في النسبة فيهما کما يقال مثلا : کلما زاد تواضع المتعلم زادت معارفه بسرعة کالارض کلما زاد انخفاضها انحدرت اليها المياه الکثيرة بسرعة.

وکل من هذين القسمين قد يکون الاشتراک والتشابه في النسبة حقيقة وقد يکون بحسب الرأي الواقع کقوله تعالي : «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها کمثل الحمار يحمل اسفارا» (٢) أو کقوله تعالي : «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله کمثل حبة انبتت سبع سنابل

__________________

(١) راجع ص ٣١٥.

(٢) الجمعة : ٥.

٤٤٠