المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

المبحث الثاني ـ المواضع

ـ ١ ـ

معني الموضع (١)

للتعبير (بالموضع) أهمية خاصة في هذه الصناعة فينبغي ان نتقن جيدا معني هذه اللفظة قبل البحث عن احکامه فنقول :

الموضع باصطلاح هذه الصناعة هو الاصل او القاعدة الکلية التي تتفرع منها قضايا مشهورة.

وبعبارة ثانية أکثر وضوحا الموضع : کل حکم کلي تنشعب منه وتتفرع عليه احکام کلية کثيرة کل واحد منها بمثابة الجزئي بالاضافة الى ذلک الکلي الاصل لها وفي عين الوقت کل واحد من هذه الاحکام المتشعبة مشهور في نفسه يصح ان يقع مقدمة في القياس الجدلي بسبب شهرته.

ولا يشترط في الاصل (الموضع) أن يکون في نفسه مشهورا فقد يکون وقد لا يکون. وحينما يکون في نفسه مشهورا صح ان يقع کالحکم المنشعب منه مقدمة في القياس الجدلي فيکون موضعا باعتبار ومقدمة باعتبار آخر.

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٠٤.

٤٠١

مثال الموضع قولهم : «اذا کان أحد الضدين موجودا في موضوع کان ضده الآخر موجودا في ضد ذلک الموضوع». فهذه القاعدة تسمي موضعا لانه تنشعب منها عدة احکام مشهورة تدخل تحتها مثل قولهم : «اذا کان الاحسان للاصدقاء حسنا فالاساءة الى الاعداء حسنة أيضا» وقولهم : «اذا کانت معاشرة الجهال مذمومة فمقاطعة العلماء مذمومة» وقولهم : «اذا جاء الحق زهق الباطل» وقولهم : «اذا کثرت الاغنياء قلّت الفقراء» ... وهکذا. فهذه الاحکام وأمثالها احکام جزئية بالقياس الى الحکم الاول العام وفي نفسها احکام کلية مشهورة.

(مثال ثان للموضع) : قولهم : «اذا کان شيء موجودا في وقت أو موضع أو حال أو موضوع او نافع أو جميل فهو مطلقا ممکن أو نافع أو جميل» فهذه القاعدة تسمي موضعا لانه تنشعب منها عدة احکام مشهورة مثل ان يقال : «اذا کذب الرجل مرة فهو کاذب مطلقا» و «اذا کان السياسي يذيع السر في بيته فهو مذيع للسر مطلقا» و «اذا صبر الانسان في حال الشدة فهو صابر مطلقا» و «اذا ملک الانسان العقار فهو مالک مطلقا» ومثل ان يقال : «اذا أمکن الطالب ان يجتهد في مسألة فقهية فالاجتهاد ممکن له مطلقا» و «اذا کان الصدق نافعا في الحال الاعتيادية فهو نافع مطلقا» و «اذا حسنت مجاملة العدو في حال اللقاء فهي حسنة مطلقا» ... وهکذا تتشعب من ذلک الموضع کثير من أمثال هذه الاحکام المشهورة التي هي من جزئياته.

وأکثر المواضع ليست مشهورة وانما الشهرة لجزئياتها فقط. والسر في ذلک :

١ ـ ان تصور العام أبعد عن عقول العامة من تصور الخاص فال بد أن تکون شهرة کل عام أقل من شهرة ما هو أخص منه. لأن صعوبة التصور

٤٠٢

تستدعي صعوبة التصديق. وهذه الصعوبة تمنع الشهرة وان لم تمنعها فانها تقللها على الاقل.

٢ ـ ان العام يکون في معرض النقض اکثر من الخاص لان نقض الخاص يستدعي نقض العام العام ولا عکس. ولهذا يکون الاطلاع على کذب العام أسهل وأسرع.

ولاجل التوضيح نجرب ذلک في الموضع الاول المذکور آنفا :

فانا عند ملاحظة الاضداد نجد ان السواد والبياض مثلا من الاضداد مع أنهما معا يعرضان على موضوع واحد وهو الجسم لا ان البياض يعرض على نوع من الجسم مثلاو السواد يعرض على ضده کما يقتضيه هذا الموضع.

اذن هذا الموضع کاذب لا قاعدة کلية فيه. فانظر کيف اطلعنا بسهولة على کذب هذا العام.

اما الاحکام المشهورة المنشعبة منه کمثال الاحسان الى الاصدقاء والاساءة الى الاعداء فان النقض المتقدم للموضع لا يستلزم نقضها لما قلناه أن نقض العام لا يستدعي نقض الخاص. مثلا نجد امتناع تعاقب الضدين مثل الزوجية والفردية على موضوع واحد بأن يکون عدد واحد مرة زوجا ومرة فردا فکون بعض اصناف الاضداد کالبياض والسواد يجوز تعاقبهما على موضوع واحد لا يستلزم ان يکون کل ضدين کذلک فجاز أن يکون الاحسان والاساءة من قبيل الزوجية والفردية لا من قبيل السواد والبياض.

وحينئذ يجب ملاحظة جزئيات هذا الحکم المنشعب من الموضع فاذا لاحظناها ولم نعثر فيما بينها على نقض له ولم نطلع على مشهور آخر يقابله فلا بد أن يکون في موضع التسليم ولا يلتفت الى الاضداد الاخري الخارجة عنه.

٤٠٣

والخلاصة ان کذب الموضع لا يستکشف منه کذب الحکم المنشعب منه المشهور.

ـ ٢ ـ

فائدة الموضع وسر التسمية

وعلى ما تقدم يتوجه السؤال عن الفائدة من المواضع في هذه الصناعة اذا کانت الشهرة ليست له!

والجواب : ان الفائدة منه هي أن صاحب هذه الصناعة يستطيع ان يعد المواضع ويحفظها عنده أصولا وقواعد عامة ليستنبط منها المشهورات النافعة له في الجد ل عند الحاجة للابطال او الاثبات. واحصاء المواضع (القواعد العامة) أسهل وأجدي في التذکر من احصاء جزئياتها (المشهورات المنشعبة منها).

ولذا قالوا ينبغي للمجادل ألا يصرح بالموضع الذي استنبط منه المشهور بل يحتفظ به بينه وبين نفسه حتي لا يجعله معرضا للنقض والرد لأن نقضه ورده کما تقدم أسهل واسرع.

ومن أجل هذا سمي الموضع موضعا لانه موضع للحفظ والانتفاع والاعتبار.

وقيل : انما سمي موضعا لانه يصلح ان يکون موضع بحث ونظر. وهو وجيه أيضا. وقيل غير ذلک ولا يهم التحقيق فيه.

ـ ٣ ـ

اصناف المواضع (١)

جميع المواضع في المطالب الجدلية انما تتعلق باثبات شيء لشيء

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ٢٠٦.





٤٠٤

أو نفيه عنه أي تتعلق بالاثبات والابطال. وهذا على اطلاقه مما لا يسهل ضبطه واعداد المواضع بحسبه. فلذلک وجب على من يريد اعداد المواضع وضبطها ليسهل عليه ذلک أن يصنفها ليلاحظ في کل صنف ما يليق به من المواضع ويناسبه.

والتصنيف في هذا الباب انما يحسن بتقسيم المحمولات حسبما يليق بما في هذه الصناعة. وقد بحث المنطقيون هنا عن اقسام المحمولات بالاسلوب المناسب لهذه الصناعة وان اختلف عن الاسلوب المعهود في بحث الکليات.

ونحن لاجل ان نضع خلاصة لابحاثهم وفهرسا لمباحثهم في هذا الباب نسلک طريقتهم في التقسيم فنقول :

ان المحمول إما أن يکون مساويا للموضوع في الانعکاس (*) وإما ان لا يکون :

و (الاول) لا يخلو عن أحد امرين :

(أ) ان يکون دالا على الماهية. والدال على الماهية أحد شيئين حدّ او اسم. والاسم ساقط عن الاعتبار هنا لان حمله على الموضوع حمل لفظي لا حقيقي فلا يتعلق به غرض المجادل. فينحصر الدال على الماهية في (حدّ) فقط.

(ب) ان لا يکون دالا على الماهية. ويسمي هنا (خاصة) وقد يسمي أيضا (رسما) لانه يکون موجبا لتعريف الماهية بتمييزها عما عداها.

و (الثاني) لا يخلو أيضا عن احد امرين :

(أ) ان يکون واقعا في طريق ما هو. ويسمي هنا (جنسا). والجنس

__________________

(*) معنى مساواة المحمول للموضوع في الانعكاس انه يصدق المحمول كليا على جميع ما أمكن ان يصدق عليه الموضوع ، ويصدق لموضوع كليا على جميع ما أمكن ان يصدق عليه المحمول.

٤٠٥

 بهذا الاصطلاح يشمل الفصل باصطلاح باب الکليات اذ لا فائدة تظهر في هذا الفن بين الجنس والفصل.

وانما کان الفصل من أقسام ما ليس بمساو للموضوع فلانه بحسب مفهومه وذاته بالقوة يمکن ان يقع على الاشياء المختلفة بالحقيقة وان کان فعلا لا يقع الا على الأشياء المتفقة الحقيقة فان الناطق مثلا لا يقع فعلا الا على افراد الانسان ولکنه بالقوة وبحسب مفهومه يصلح للصدق على غير الانسان لو کان له النطق فلا يمتنع فرض صدقه على غير الانسان. فلم يکن مفهوما مساويا للانسان. وبهذا الاعتبار يسمي هنا (جنسا).

(ب) ان لا يکون واقعا في طريق ما هو ويسمي (عرضا). والعرض شامل للعرض العام وللعرض الذي هو أخص من الموضوع اذ أن کلا منهما غير مساو للموضوع کما انه غير واقع في جواب ما هو.

وعلى هذا فالمحمولات اربعة : حد وخاصة وجنس وعرض. اما (النوع) فلا يقع محمولا لانه اما أن يحمل على الشخص أو على الصنف ولا اعتبار بحمله على الشخص هنا لان موضوعات مباحث الجدل کليات. واما الصنف فحمل النوع عليه بمثابة حمل اللوازم لان النوع ليس نوعا للصنف فيدخل النوع من هذه الجهة في باب العرض.

وعليه فالنوع بما هو نوع لا يقع محمولا في القضية. بل انما يقع موضوعا فقط.

اذا عرفت اقسام المحمولات على النحو المتقدم الذي يهم الجدلي فاعلم انه لا يتعلق غرض المجادل في مقام المخاصمة في أن محموله في مطلوبه أي قسم منها فان کل غرضه ان يتوصل الى اثبات حکم او ابطاله اما انه جنس أو خاصة او أي شيء آخر فليس ذلک يحتاج اليه.

وانما الذي يحتاج اليه قبل المخاصمة والمجادلة أن يعد المواضع

٤٠٦

لاستنباط المشهورات التي تنفعه عند المخاصمة. واعداد هذه المواضع في هذه الصناعة يتوقف على تفصيل المحمولات حسب تلک الاقسام ليعرف لکل محمول ما يناسبه من المواضع.

وعليه فالمواضع منها ما يخص الحد مثلا فينظر لاجل اثباته في انه يجب أن يکون موجودا لموضوعه وانه مساوله وانه واقع في طريق ما هو وانه قائم مقام الاسم في الدلالة على الموضوع.

ومنها ما يخص الخاصة فينظر لاجل اثباتها في انها يجب ان تکون موجودة لموضوعها وانه مساوية له وانه غير واقعة في طريق ما هو ... وهکذا باقي اقسام المحمولات.

فتکون المواضع على ما تقدم اربعة اصناف :

ثم ان هناک مواضع عامة للاثبات والابطال لا تخص أحد المحمولات الأربعة بالخصوص وتنفع في جميع المحمولات. وتسمي (مواضع الاثبات والإبطال). فيضاف هذا الصنف الى الاصناف السابقة فتکون خمسة.

ثم لاحظوا ان کثيرا ما يهم الجدلي اثبات ان هذا المحمول أشد من غيره أو أضعف او اولي وغير اولي. وهذا انما يصح فرضه في الاعراض الخاصة لانها هي التي تقبل التفاوت. فزادوا صنفا سادسا وسموه (مواضع الأولي والآثر) ثم لاحظوا أنه قد يتوجه نظر الجدلي الى بحث آخر وهو اثبات الاتحاد بين الشيئين اما بحسب الجنس او النوع او العارض أو الوجود فسموا المواضع في ذلک (مواضع هو هو).

وعلى هذا فتکون المواضع سبعة وتفصيل هذه المواضع يحتاج الى فن مستقل لا تسعه هذه الرسالة المختصرة. على ان کل مجادل مختص

٤٠٧

بفن کالفقيه والمتکلم والمحامي والسياسي لا بد أن يتقن فنه قبل ان يبرز الى الجدال فيطلع على ما فيه من مشهورات ومسلمات وما يقتضيه من المشهورات. فلا تکون له کبير حاجة الى معرفة المواضع في علم المنطق وتخصيرها من طريقه.

ولاجل ألا نکون قد حرمنا الطالب من التنبه للمقصود من المواضع نذکر بعض المواضع لبعض الاصناف السبعة المتقدمة ونحيله على الکتب المطولة في هذا الفن اذا أراد الاستزاده فنقول.

ـ ٤ ـ

مواضع الإثبات والإبطال (١)

مواضع الاثبات والابطال نفعها عام في جميع المحمولات کما تقدم واثبات وابطال الاعراض داخلة في هذا الباب أيضا. واشهر المواضع في هذا الباب عدّوها عشرين موضعا وما ذکرناه من أمثلة المواضع فيما سبق هي من مواضع الاثبات والابطال. ونذکر الان مثالا واحدا غيرها وهو :

ان العارض على المحمول عارض على موضوعه فيمکن ان تثبت عروض شيء للموضوع بعروضه لمحموله وتبطل عروضه للموضوع بعدم عروضه لمحموله فمثلا يقال : الجمهور عاطفي. فالجمهور موضوع وعاطفي محمول. وهذا المحمول وهو العاطفي يوصف بانه تقوي فيه طبيعة المحاکاة فيثبت من ذلک ان الجمهور يوصف بأنه تقوي فيه طبيعة المحاکاة.

ويقال أيضا : السياسي نفعي. ثم ان هذا المحمول وهو النفعي يوصف بانه يقدم منفعته الخاصة على المصلحة العامة. فيثبت أن السياسي يقدم منفعته الخاصة على المصلحة العامة.

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٠٩.

٤٠٨

ويقال أيضا : الصادق عادل. ثم ان هذا المحمول وهو العادل. لايوصف بکونه ظالما أي لا يعرض عليه الظلم. فيبطل بذلک کون الصادق ظالماً.

ومعني هذا الموضع انک تستنبط من مشهورين مشهورا ثالثا. والمشهوران هما حمل المحمول على موضوعه واتصاف المحمول بصفة کالمثالين الاولين فتستنبط المشهور الثالث وهو حمل صفة المحمول على الموضوع. أو المشهوران هما حمل المحمول على موضوعه وعدم اتصاف المحمول بصفة کالمثال الاخير فتستنبط منهما المشهور الثالث وهو ابطال اتصاف الموضوع بتلک الصفة.

ـ ٥ ـ

مواضع الأولي والآثر (١)

اصل هذا الباب ترجيح شيء واحد من شيئين بينهما مشارکة في بعض الوجوه. والالفاظ المستعملة المتداولة في التفضيل هي کلمة آثر واولي وافضل واکثر وأزيد واشد واشرف واقدم وما يجري مجري ذلک. وما يقابل کل واحد منها مثل الانقض والاخس والاقل والأضعف وهکذا. ولکل من کلمات التفضيل هذه خصوصية يطول الکلام في شرحها.

وانما يحتاج الى المواضع في هذا الباب ففي الامور التي لا يظهر فيها التفاضل لاول وهلة والا فما هو ظاهر التفاضل في مثل ان الشمس اکثر ضوءا من القمر يکون ايراد المواضع لاثباته حشوا ولغوا.

وکثيرا ما يقع التنازع بين الناس في تفضيل شخص على شخص

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢١٤.

٤٠٩

او شيء على شيء من مأکولات وملبوسات ومسکونات ومراتب ووظائف واخلاق وعادات ... وهکذا

والتنازع تارة يکون من هوالافضل مع الاتفاق على وجه الفضيلة کأن يتنازع شخصان في أن حاتم الطائي اکثر کرما ام معن بن زائدة مع الاتفاق بينهما على أن الکرم فضيلة وانه قد اتصفا بها معا. ومثل هذا النزاع انما يتوقف على ثبوت حوادث تأريخية تکشف عن الافضلية وليس على هذا الفن.

وأخري يکون النزاع في وجه الافضلية کأن يتنازعا في أنه ايهما اولي بأن يوصف بالکرم مع الاتفاق على ان معناً مثلا يجود بفضل ما له وحاتما يجود بکل ما يملک ومع الاتفاق أيضا على ان ما جاد به معن اکثر بکثير في تقدير المال مما جاد به حاتم. وحينئذ يکون النزاع في العبرة في الافضلية بالکرم هل هو بمقدار العطاء فيکون معن افضل من حاتم أو بما يتحقق به معني الايثار فيکون حاتم افضل.

ويمکن ان يتمسک القائل الاول بموضع في هذا الباب وهو (ان ما يفيد خيرا أکثر فهو آثر وأولي بالفضل) فيکون معن افضل. ويمکن ان يتمسک القائل الثاني بموضع آخر فيه وهو «ان ما ينبعث من تضحية أکثر بالحاجة والنفس فهو آثر وأولي بالفضل» فيکون حاتم افضل. فهذان موضعان من هذا الباب يمکن أن يستدل بهما الخصمان المتجادلان.

هذا اقصي ما أمکن بيانه من المواضع. وعليک بالمطولات في استقصائها ان أردت ومن الله تعالي التوفيق.

٤١٠

المبحث الثالث ـ الوصايا

ـ ١ ـ

تعليمات للسائل (١)

تقدم في الباب الاول من هو (السائل). وعليه لتحصيل غرضه وهو الحصول على اعتراف (المجيب) أن يتبع التعليمات الثلاثة الآتية :

١ ـ ان يحضر لديه قبل توجيه السؤال الموضع او المواضع التي منها يستخرج المقدمة المشهورة اللازمة له.

٢ ـ أن يهييء في نفسه قبل السؤال أيضا الطريقة والحيلة التي يتوسل بها لتسليم المجيب بالمقدمة والتشنيع على منکرها.

٣ ـ لما کان من اللازم عليه ان يصرح بما يضمره في نفسه من المطلوب الذي يستلزم نقض وضع الخصم فليجعل هذا التصريح آخر مراحل أسئلته وکلامه بعد أن يأخذ من الخصم الاعتراف والتسليم بما يريد ويتوثق من عدم بقاء مجال عنده للانکار.

هذه هي الخطوط الاولي الرئيسة التي يجب ان يتبعها السائل في مهمته.

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٢٥.

٤١١

ثم لاخذ الاعتراف طرق کثيرة ينبغي ان يتبع احدي الوصايا الآتية (*) لتحقيقها :

١ ـ ألا يطلب من أول الامر التسليم من الخصم بالمقدمة اللازمة لنقض وضعه. وبعبارة ثانية : ينبغي ألا يقتحم الميدان في الجدل في أول جولة بالسؤال عن نفس المقدمة المطلوبة له. والسر في ذلک ان المجيب حينئذ يکون في مبدأ قوته وانتباهه فقد يتنبه الى مطلوب السائل فيسرع في الانکار ويعاند.

٢ ـ واذا انتهي به السؤال عن المطلوب فلا ينبغي أيضا أن يوجه السؤال رأسا عن نفس المطلوب خشية ان يشعر الخصم فيفرّ من الاعتراف بل له مندوحة عن ذلک باتباع أحد الطرق او الحيل (**) الآتية : ـ

(الاولى) أن يوجه السؤال عن امر أعم من مطلوبه فاذا اعترف بالاعم ألزمه قهرا بالاعتراف بالاخص بطريقة القياس الاقتراني.

(الثانية) ان يوجه السؤال عن أمر أخص فاذا اعترف به فبطريقة الاستقراء يستطيع ان يلزم خصمه بمطلوبه.

(الثالثة) ان يوجه السؤال عن أمر يساويه فاذا اعترف به فبطريقة التمثيل يتمکن من إلزامه اذا کان ممن يري التمثيل حجة.

(الرابعة) ان يعدل عن السؤال عن الشيء الى السؤال عما يشتق منه

__________________

(*) ان الناس ليختلفون كثيراً في اخلاقهم وامزجتهم : فمنهم الخجول احيى ، والوقح الصلف ، وبينهما درجات كثيرة. ومنهم الصبور الجلد على الكلام والجدل ، والضعيف المستخذي ، وبينهما درجات كثيرة أيضاً. ومنهم اللبق اللسن ، والعي المتلعثم ، وبينهما درجات. ومنهم المعتد برأيه المتصلب لعقيدته ، والمقلد المطواع لغيره ، وبينهما درجات. وكل واحد من هذه الاصناف له شان يخصه في طريق المجادلة ينبغي على السائل ان يلاحظه ، بعد ان يعرف. منزلة خصمه بين هذه المنازل ، حتى يتبع أية طريقة من الطرق الآتية التي تناسبه. ومن هنا قيل في المثل المشهور : «لکل مقام مقال».

(**) لا ضير في اتباع مثل هذه الحيل في مخاصمة ذوي العناد والاستكبار على الحق.

٤١٢

مثل ما اذا اراد ان يثبت ان الغضبان مشتاق للانتقام فقد ينکر الخصم ذلک لو سئل عنه فيدعي مثلا ان الاب يغضب على ولده ولا يشتاق الى الانتقام منه فيعدل الى يقول له : اذن الغاضب مشته للانتقام.

(الخامسة) ان يقلب السؤال بما يوهم الخصم ان يريد الاعتراف منه بنقيض ما يريد کما لو أراد مثلا اثبات ان اللذة خير فيقول : أليست اللذة ليست خيرا؟ فهذا السؤال قد يوهم المخاطب انه يريد الاعتراف بنقيض المطلوب فيبادر عادة الى الاعتراف بالمطلوب اذا کان من طبعه العناد لما يريده السائل.

ولکل من هذه الحيل الخمس مواضع قد تنفع فيها احداها ولا تنفع الاخري. فعلي السائل الذکي أن يختار ما يناسب المقام.

٣ ـ ألا يرتب المقدمات في المخاطبة ترتيبا قياسيا على وجه يلوح للخصم انسباقها الى المطلوب بل ينبغي ان يشوش المقدمات ويخل بترتيبها فيراوغ في الوصول الى المطلوب على وجه لا يشعر الخصم.

٤ ـ ان يتظاهر في سؤاله أنه کالمستفهم الطالب للحقيقة المقدم للانصاف على الغلبة بل ينبغي ان يلوح عليه الميل الى مناقضة نفسه وموافقة خصمه لينخدع به الخصم المعاند فيطمئن اليه. وحينئذ يسهل عليه استلال الاعتراف منه من حيث يدري ولا يدري.

٥ ـ ان يأتي بالمقدات في کثير من الاحوال على سبيل مضرب المثل أو الخبر ويدعي في قوله ظهور ذلک وشهرته وجري العادة عليه ليجد الخصم ان جحدها أمام الجمهور مما يوجب الاستخفاف ووالاستهانة له فيجبن عن انکارها.

٦ ـ ان يخلط الکلام بما لا بنفع في مقصوده ليضيع على الخصم ما يريده من المقدمة المطلوبة بالخصوص. والافضل ان يجعل الحشو حقا

٤١٣

مشهورا في نفسه فانه يضطر الى التسليم به اذا سلم به امام الجمهور قد يندفع مضطرا الي التسليم بما هو مطلوب انسياقا مع الجمهور الذي يفقد على الاکثر قوة التمييز.

٧ ـ ان من الخصوم من هو مغرور بعلمه معتد بذکائه فلا يبالي ان يسلم في مبدأ الامربما يلقي عليه من الاسئلة ظنا منه بأن السائل لا يتمکن من أن يظفر منه بتسليم ما يهدم وضعه وبأنه يتمکن حينئذ من اللجاج والعناد. فمثل هذا الشخص ينبغي للسائل ان يمهد له بتکثير الاسئلة عما لا جدوي له في مقصوده حتي اذا الستنفذ غاية جهده قد يتسرب اليه الملل والضجر فيضيع عليه وجه القصد او يخضع للتسليم.

٨ ـ اذا انتهي الى مطلوبه من الاستلزام لنقض وضع الخصم فعليه ان يعبر عنه بأسلوب قوي الاداء لا يشعر بالشک والترديد ولا يلقيه على سبيل الاستفهام فان الاستفهام هنا يضعف أسلوبه فيفتح به للخصم مجالا لإنکار الملازمة او إنکار المشهور فيرجع الکلام من جديد جذعا. وقد يشق عليه ان يوجه هذه المرة اسئلة نافعة في المقصود فيغلب على أمره.

٩ ـ ان يفهم نفسية الجماعات والجماهير من جهة انها تنساق الى الاغراء وتتأتر ببهرجة الکلام حتي يستغل ذلک للتأثير فيها والمفروض ان الغرض الاصيل من الجدل التغلب على الخصم امام الجمهور. وينبغي له أن يلاحظ افکار الحاضرين ويجلب رضاهم باظهار أن هدفه نصرتهم وجلب المنفعة لهم ليسهل عليه ان يجرهم الى جانبه فيسلموا بما يريد التسليم به منهم. وبهذا يستطيع ان يقهر خصمه على الموافقة للجمهور في تسليم ما سلموا به لان مخالفة الجمهور فيما اتفقوا عليه أمامهم يشعر الانسان بالخجل والخيبة.

١٠ ـ وهو آخر وصايا السائل اذا ظهر على الخصم العجز عن جوابه وانقطع عن الکلام فلا يحسن منه ان يلح عليه او يسخر منه او يقدح فيه

٤١٤

بل لا يحسن أن يعقبه بکل کلام يظهر مغلوبيته وعجزه فان ذلک قد يثير الجمهور نفسه ويسقط احترامه عندهم فيخسر تقديرهم من حيث يريد النجاح والغلبة.

ـ ٢ ـ

تعليمات للمجيب(١)

إن (المجيب) کما قدمنا مدافع عن مهاجمة خصمه (السائل). والمدافع غالبا اضعف کفاحا من المهاجر وأقرب الى المغلوبية لان المبادأة بيد المهاجم فهو يستطيع ان ينظم هجومه بالاسئلة کيف يشاء ويترک منها ما يشاء. والمجيب على الاکثر مقهور على مماشاة السائل في المحاورة.

وعلى هذه فمهمة المجيب أشق وأدق واللازم له عدة طرق مترتبة يسلکها بالتدريج اولا فأولا فان لم يسلک الاول أخذ بالثاني وهکذا. وهي حسب الترتيب :

اولا ـ ان يحاول الالتفات على السائل بأن يحور الکلام ان استطاع فيعکس عليه الدائرة بتوجيه الاسئلة مهاجما ولا بد أن السائل له وضع يلتزم به يخالف وضع المجيب. فينقلب حينئذ المهاجر مدافعا والمدافع مهاجما. وبهذه الطريقة يصبح أکثر تمکنا من الاخذ بزمام المحاورة بل يصبح في الحقيقة هو السائل.

ثانيا اذا عجز عن الطريقة الاولي وهي الالتفاف يحاول ارباک السائل واشغاله بأمور تبعد عليه المسافة کسبا للوقت کيما يعد عدته للجواب الشافي مثل ان يجد في اسئلته لفظا مشترکا فيستفسر عن معانيه

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ص ٢٢٩.

٤١٥

ليترکه يفصلها ثم يناقشه فيها. أو هو يتولي تفصيلها ليذکر أي المعاني يصح السؤال عنه وايها لا يصح. وفي هذه قد تحصل فائدة أخري فانه بتفصيل المعاني المشترکة قد تنبثق له طريقة للهرب عما يلزمه به السائل بان يعترف مثلا بأحد المعاني الذي لا يلزم منه نقض وضعه.

ثالثا اذا لم تنجح الطريقة الثانية وهي طريقة الاشغال والارباک يحاول ان استطاع الامتناع من الاعتراف بما يستلزم نقض وضعه. وينبغي ان يعلم انه لا ضير عليه بالاعتراف بالمشهورات اذا کان وضعه مشهورا حقيقيا لانه غالبا لا ينتج المهشور الا مشهورا فال يتوقع من المشهورات ان تنتج ما يناقض وضعه المشهور.

وليس معني الهرب من الاعتراف ان يمتنع من الاعتراف بکل شيء يلقي عليه. فان هذه الحالة قد تظهره امام الجمهور بمظهر المعاند المشاغب فيصبح موضعا للسخرية والنقد بل يحاول الهرب من الاعتراف بخصوص ما يوجب نقض وضعه.

رابعا ـ اذا وجد ان الطريقة الثالثة لا تنفع وهي طريقة الهرب من الاعتراف (وذلک عندما يکون المسؤول عنه الذي يحذر من الاعتراف به مشهورا مطلقا لأن العناد في مثله أکثر قبحا من الالتزام به) فعليه الا يعلن عن انکاره له صراحة لانه لو فعل ذلک في مثله فهو يخسر امام الحاضرين کرامة نفسه وفي نفس الوقت يخسر وضعه الملتزم له. فلا مناص له حينئذ من اتباع أحد طريقين :

(الاول) أن يعلن الاعتراف. ولا ضير عليه لفي ذلک لأنه ان دل على شيء فانما يدل على ضعف وضعه الذي يلتزمه لا على قصور نفسه وعلمه. وهذا وان کان من وجهة يکشف عن قصور نفسه اذ يلتزم بما لا ينبغي الالتزام به ولکن ينبغي له لتلافي ذلک في هذا الموقف (وهو ادق المواقف التي تمر على المجيب المنصف المحب للحق والفضيلة) أن يعلن

٤١٦

انه طالب للحق ومؤثر للانصاف والعدل له أو عليه. وهذا لعله يعوض عما يخسر من المحافظة على وضعه بالاحتفاظ على سمعته وکرامته.

(الثاني) اذا وجد انه يعز عليه اعلان الاعتراف فان آخر ما يمکنه ان يفعله أن يتلطف في اسلوب الامتناع من الاعتراف وذلک بأن يوري في کلامه او يقول مثلا : ان اصحاب هذا المذهب الذي التزمه لا يعترفون بذلک فيلقي تبعة الانکار على غيره. او يقول : کيف يطلب مني الاعتراف وانا بعد لم اوضح مقصودي فيؤجل ذلک الى مراجعة او مشاورة أو نحو ذلک من اساليب الهرب من التصريح بالانکار او من التصريح بالاعتراف.

خامسا ـ بعد أن تعز عليه جميع السبل من الهرب من الاعتراف ويعترف بالمشهور فانه يبقي له طريق واحد لا غير. وهو مناقشة الملازمة بين المشهور المعترف به وبين نقض وضعه بأن يلحق المشهور مثلا بقيود وشرائط تجعله لا ينطبق على مورد النزاع او نحو ذلک من الاساليب التي يتمکن بها من مناقشة الملازمة. وهذا مرحلة دقيقة شاقة تحتاج الى علم ومعرفة وفطنة.

ـ ٣ ـ

تعليمات مشترکة للسائل والمجيب (١)

أو آداب المناظرة

(اولا) ان يکون ماهرا في عدة اشياء :

١ ـ في ايراد عکس القياس بأن يتمکن من جعل القياس الواحد اربعة اقيسة بحسب تقابل التناقض والتضاد.

٢ ـ في ايراد العکس المستوي وعکس النقيض ونقض المحمول

__________________

(١) راجع جوهر النضيد : ص ٢٣٠.

٤١٧

والموضوع فان هذا يفيده في التوسع بايراد الحجج المتعددة على مطلوبه أو ابطال مطلوب غيره.

٣ ـ في ايراد مقدمات کثيرة لاثبات کل مطلوب من مواضع مختلفة وکذلک ابطاله. الى غير ذلک من اشياء تزيد في قوة ايراد الحجج المتعددة.

(ثانيا) ان يکون لسنا منطقيا يستطيع أن يجلب انتباه الحاضرين وانظارهم نحوه ويحسن ان يثير اعجابهم به وتقديرهم لبراعته الکلامية.

(ثالثا) ان يتخير الالفاظ الجزلة الفخمة ويتجنب العبارات الرکيکة العامية ويتقي التمتمة والغلط في الالفاظ والاسلوب للسبب المتقدم.

(رابعا) ألا يدع لخصمه مجال الاستقلال بالحديث فيستغل اسماع الحاضرين وانتباههم له لان استغلال الحديث في الاجتماع مما يعين على الظهور على الغير والغلبة عليه.

(خامسا) ان يکون متمکنا من ايراد الامثال والشهواهد من الشعر والنصوص الدينية والفلسفية والعلمية وکلمات العظماء والحوادث الصغيرة الملائمة. وذلک عند الحاجة طبعا. بل ينبغي ان يکثر من ذلک ما وجد اليه سبيلا فانه يعينه کثيرا على تحقيق مقصوده والغلبة على خصمه. والمثل الواحد قد يفعل في النفوس ما لا تفعله الحجج المنطقية من الانصياع اليه والتسليم به.

(سادسا) ان يتجنب عبارة الشتم واللعن والسخرية والاستهزاء ونحو ذلک مما يثير عواطف الغير ويوقظ الحقد والشحناء. فان هذا يفسد الغرض من المجادلة التي يجب ان تکون بالتي هي أحسن.

(سابعا) ألا يرفع صوته فوق المألوف المتعارف فان هذا لا يکسبه الاضعفاً ولا يکون الا دليلا على الشعور بالمغلوبية بل الذي يجب عليه ان يلقي الکلام قوي الاداء لا يشعر بالتردد والارتباک والضعف والانهيار وان اداه بصوت منخفض هاديء فان تأثير هذا الاسلوب اعظم بکثير من تأثير

٤١٨

أسلوب الصياح والصراخ.

(ثامنا) ان يتواضع في خطاب خصمه ويتجنب عبارات الکبرياء والتعاظم والکلمات النابية القبيحة.

(تاسعا) ان يتظاهر بالاصغاء الکامل لخصمه ولا يبدأ بالکلام الا من حيث ينتهي من بيان مقصوده فان الاستباق الى الکلام سؤالا وجوابا قبل ان يتم خصمه کلامه يربک على الطرفين سير المحادثة ويعقد البحث من جهة ويثير غضب الخصم من جهة أخري.

(عاشرا) ان يتجنب (حد الامکان) مجادلة طالب الرياء والسمعة ومؤثر الغلبة والعناد ومدعي القوة والعظمة فان هذا من جهة يعديه بمرضه فينساق بالاخير مقهورا الى ان يکون شبيها به في هذا المرض. ومن جهة أخري لا يستطيع مع مثل هذا الشخص ان يتوصل الى نتيجة مرضية في المجادلة.

ولو اضطر الى مجادلة مثل هذا الخصم فلا ضير عليه ان يستعمل الحيل في محاورته ويغالطه في حججه بل لا ضير عليه في استعمال حتي مثل الاستهزاء والسخرية واخجاله.

و (الوصية الاخيرة) لکل مجادل مهما کان ألا يکون همه الا الوصول الى الحق وايثار الانصاف وان ينصف خصومه من نفسه ويتجنب العناد بالاصرار على الخطأ فانه خطأ ثان بل ينبغي ان يعلن ذلک ويطلبه من خصمه بالحاح حتي لا يشذ الطرفان عن طلب الحق والعدل والانصاف.

وهذا أصعب شيء يأخذ الانسان به نفسه فلذلک عليه ان يستعين على نفسه بطلب المعونة من الله سبحانه فان تعالي مع التقين الصابرين.

٤١٩
٤٢٠