المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

خلي الانسان وعقله المجرد وحسّه ووهمه ولم تحصل له اسباب الشهرة الآتية فانه لا يحصل له حکم بهذه القضايا ولا يقضي عقله او حسه او وهمه فيها بشيء.

ولا ينافي ذلک أنه بنفسه يمدح العادل ويذم الظالم ولکن هذا غير الحکم بتطابق الآراء عليها (١). وليس کذلک حال حکمه بأن الکل أعظم من الجزء کما تقدم فانه لو خلي ونفسه کان له هذا الحکم.

وعلى هذا فيکون الفرق بين المشهورات (٢) واليقينيات مع ان کلا منها تفيد تصديقا جازما أن المعتبر في اليقينيات کونها مطابقة لما عليه الواقع ونفس الامر المعبر عنه بالحق واليقين والمعتبر في المشهورات مطابقتها لتوافق (٣) الاراء عليها اذلا واقع لها غير ذلک. وسيأتي ما يزيد هذا المعني توضيحا.

لذلک ليس المقابل للمشهور هو الکاذب (٤) بل الذي يقابله الشنيع وهو الذي ينکره الکافة او الاکثر. ومقابل الکاذب هو الصادق.

اقسام المشهورات (٥) :

اعلم ان المشهورات قد تکون مطلقة وهي المشهورة عند الجميع وقد تکون محدودة وهي المشهورة عند قوم دون قوم کشهرة امتناع التسلسل عند المتکلمين (*). وتنقسم أيضا الى جملة أقسام بحسب اختلاف اسباب الشهرة. وهي حسب الاستقراء يمکن عد اکثرها کما يلي :

__________________

(١) عليهما ، ظ ـ أي المدح والذم.

(٢) بالمعنى الأخص.

(٣) والمعتبر في المشهورات توافق الآراء عليها ، ظ.

(٤) لأن المشهور لا واقع لها وراء توافق الآراء يطابقه حتى يكون صادقا.

(٥) أي تقسيمات المشهورات.

(*) وتنقسم أيضا إلى : حقيقية وظاهرية وشبيهة بالمشهورات. وسيأتي بيانها في صناعة الجدل ـ المبحث السابع من الباب الأول ـ كما سيأتي هناك زيادة توضيح عن المشهورات.

٣٤١

١ ـ الواجبات القبول

وهي ما کان السبب في شهرتها کونها حقاً جلياً فينطابق من أجل ذلک على الاعتراف بها جميع العقلاء کالاوليات والفطريات ونحوهما. وهي التي تسمي بالمشهورات بحسب المعني الأعم کما تقدم من جهة عموم الاعتراف بها.

٢ ـ التأديبات الصلاحيه

وتسمي المحمودات والآراء المحمودة. وهي ما تطابق عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامة للحکم بها باعتبار أن بها حفظ النظام وبقاء النوع کقضية حسن العدل وقبح الظلم. ومعني حسن العدل أن فاعله ممدوح لدي العقلاء ومعني قبح الظلم أن فاعله مذموم لديهم. وهذا يحتاج الى التوضيح والبيان فنقول :

إن الانسان اذا أحسن اليه أحد بفعل يلائم مصلحته الشخصية فانه يثير في نفسه الرضا عنه فيدعوه ذلک الى جزائه واقل مراتبه المدح على فعله. اذا أساء اليه أحد بفعل لا يلائم مصلحته الشخصية فانه يثير في نفسه السخط عليه فيدعوه ذلک الى التشفي منه والانتقام واقل مراتبه ذمّه على فعله.

وکذلک الانسان يصنع اذا أحسن أحد بفعل يلائم المصلحة العامة من حفظ النظام الاجتماعي وبقاء النوع الانساني فانه يدعوه ذلک الى جزائه وعلى الاقل يمدحه ويثني عليه وان لم يکن ذلک الفعل يعود بالنفع (١) لشخص المادح وانما ذلک الجزاء لغاية حصول تلک المصلحة العامة التي تناله بوجه. واذا أساء احد بفعل لا يلائم المصلحة العامة ويخل بالنظام

__________________

(١) غير مستقيم.

٣٤٢

وبقاء النوع فان ذلک يدعو الى جزائه بذمه على الأقل وان لم يکن يعود ذلک الفعل بالضرر على شخص الذام وانما ذلک لغرض دفع المفسدة العامة التي يناله ضررها بوجه (١).

وکل عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذم لغرض تحصيل تلک الغاية العامة. وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذم لأجل تحصيل المصلحة العامة تسمي (الآراء المحمودة) والتاديبات الصلاحية. وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء. وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعا بما في ذلک من مصلحة عامة.

وهذا هو معني التحسين والتقبيح العقليين اللذين وقع الخلاف في اثباتهما بين الاشاعرة والعدلية فنفتهما الفرقة الاولي واثبتتهما الثانية. فاذ يقول العدلية بالحسن والقبح العقليين يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة التي تطابقت عليها الآراء لما فيها من التأديبات الصلاحية وليس لها واقع وراء تطابق الآراء (*).

والمراد من (العقل) اذ يقولون إن العقل يحکم بحسن الشيء او قبحه هو (العقل العملي) ويقابله (العقل النظري). والتفاوت بينهما إنما هو بتفاوت المدرکات فان کان المدرک مما ينبغي أن يعلم مثل قولهم (الکل أعظم من الجزء) الذي لا علاقة له بالعمل (٢) يسمي ادراکه (عقلاً نظرياً) وان کان المدرک مما ينبغي أن يفعل ويؤتي به اولا يفعل مثل حسن العدل وقبح الظلم يسمي ادراکه (عقلا عمليا).

ومن هذا التقرير يظهر کيف اشتبه الامر على من نفي الحسن والقبح في استدلال لهم على ذلک بأنه لو کان الحسن والقبح عقليين لما وقع

__________________

(١) غر مستقم.

(*) راجع عن توضيح هذا البحث كتاب (اصول الفقه) للمولف في مبحث الملازمات العقلية ، ففيه غنى للطالب ان شاء الله تعالى.

٣٤٣

التفاوت بين هذا الحکم وحکم العقل بأن الکل اعظم من الجزء لان العلوم الضرورية لا تتفاوت. ولکن لا شک بوقوع التفاوت بين الحکمين عند العقل.

وقد غفلوا في استدلالهم اذ قاسوا قضية الحسن والقبح على مثل قضية الکل اعظم من الجزء. وکأنهم ظنوا أن کل ما حکم به العقل فهو من الضروريات مع ان قضية الحسن والقبح من المشهورات بالمعني الاخص ومن قسم المحمودات خاصة والحاکم بها هو العقل العملي. وقضية الکل اعظم من الجزء من الضروريات الاولية والحاکم بها هو العقل النظري. وقد تقدم الفرق بين العقلين کما تقدم الفرق بين المشهورات والضروريات. فکان قياسهم قياسا مع الفارق العظيم والتفاوت واقع بينهما لا محالة ولا يضر هذا في کون الحسن والقبح عقليين فانه اختلط عليهم معني العقل الحاکم في مثل هذه القضايا فظنوه (١) شيئا واحدا کما لم يفرقوا بين المشهورات (٢) واليقينيات فحسبوهما شيئا واحدا مع انهما قسمان متقابلان.

٣ ـ الخلقيات

وتسمي الآراء المحمودة أيضا وهي حسب تعريف المنطقيين ما تطابق عليها آراء العقلاء من أجل قضاء الخلق الانسان بذلک کالحکم بوجوب محافظةالحرم او الوطن وکالحکم بحسن الشجاعة والکرم وقبح الجبن والبخل.

والخلق ملکة في النفس تحصل من تکرر الفعال الصادرة من المرء

__________________

(١) يظهر منه : أن العقل العملي غير العقل النظري ، ولكنه قد مر منه في الصفحة السابقة : أن التفاوت بينهما إنما هو بتفاوت المدركات.

(٢) بالمعنى الأخص.

٣٤٤

على وجه يبلغ درجة يحصل منه الفعل بسهولة کالکرم فانه لا يکون خلقا للانسان الا بعد أن يتکرر منه فعل العطاء بغير بدل حتي يحصل منه الفعل بسهولة من غير تکلف.

(أقول) : هکذا عرفوا الخلقيات والخلق. فجعلوا السبب في حصول الشهرة فيها هو الخلق بهذا المعني باعتباره داعيا للعقل العملي الى ادراک أن هذا مما ينبغي فعله او مما ينبغي ترکه. ولکنا اذا وقفنا نجد أن الاخلاق الفاضلة غير عامة عند الجمهور بل القليل منهم من يتحلي بها مع انه لا ينکر أن الخلقيات مشهورة يحکم بها حتي من لم يرزق الخلق الفاضل فان الجبان يري حسن الشجاعة ويمدح صاحبها ويتمناها لنفسه اذا رجع الى نفسه وأصغي اليها ولکنه يجبن في موضع الحاجة الى الشجاعة وکذلک البخيل والمتکبر والکاذب. ولو کان الخلق بذلک المعني هو السبب للحکم فيها لحکم الجبان بحسن الجبن وقبح الشجاعة والبخيل بقبح الکرم وحسن الامساک والکذاب بقبح الصدق وحسن الکذب ... وهکذا.

والصحيح في هذا الباب أن يقال : إن الله تعالي خلق في قلب الانسان حسّاً وجعله حجة عليه يدرک به محاسن الافعال ومقابحها وذلک الحسّ هو (الضمير) بمصطلح علم الاخلاق الحديث وقد يسمي بالقلب او العقل العملي او العقل المستقيم او الحسّ السليم عند قدماء الاخلاق. وتشير اليه کتب الاخلاق عندهم.

فهذا الحسّ في القلب او الضمير هو صوت الله المدوّي (١) في دخيلة نفوسنا يخاطبها به ويحاسبها عليه. ونحن نجده کيف يؤنب مرتکب الرذيلة ويقرّ عين فاعل الفضيلة. وهو موجود في قلب کل انسان وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند الستجوابها عن الافعال فهي تشترک جميعا في التميير بين الفضيلة والرذيلة وان اختلفت في قوة هذا التمييز وضعفه

__________________

(١) دوى الرعد : صوت.

٣٤٥

کسائر قوي النفس اذ تتفاوت في الافراد قوة وضعفا.

ولأجل هذا کانت (الخلقيات) من المشهورات وان کانت الاخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر بل هي من خاصة الخاصة.

نعم الاضغاء الى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على کل انسان الا بالانقطاع الى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته واهوائه. کما أن الخلق عامة لا يحصل له وان کان له ذلک الاصغاء الا بتکرر العمل واتخاذه عادة حتي تتکوّن عنده ملکة الخلق التي يسهل معها الفعل. وبالاخص الخلق الفاضل فان افعاله التي تحققه تحتاج الى مشقة وجهاد ورياضة لانها دائما في حرب مع الشهوات والرغبات. وليس الظفر الا بعد الحرب.

٤ ـ الانفعاليات

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب انفعال نفساني عام کالرقة والرحمة والشفقة والحياة والانفة والحمية والغيرة ونحو ذلک من الانفعالات التي لا يخلو منها انسان غالبا.

فتري الجمهور يحکم مثلا بقبح تعذيب الحيوان لا لفائدة وذلک اتباعاً لما في الغريزة من الرقة والرحمة. بل الجمهور بغريزيه يحکم بقبح تعذيب ذي الروح مطلقا وان کان لفائدة لو لا أن تصرف عنه الشرايع والعادات.

والجمهور يمدح من يعين الضعفاء والمرضي ويعني برعاية الايتام والمجانين لانه مقتضي الرحمة والشفقة کما يحکم بقبح کشف العورة لانه مقتضي الحياء ويمدح المدافع عن الاهل والعشيرة او الوطن والأمة لأنه مقتضي الحمية والغيرة ... الى غير ذلک من الاحکام العامة عند الناس.

٥ ـ العاديات (١)

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب جريان العادة عندهم کاعتيادهم

__________________

(١) العادة في العرف تستعمل بمعنى مرادف للخلق ، ولكن في الاصطلاح هنا بمعنى الرسم.

٣٤٦

احترام القادم بالقيام والضيف بالضيافة والرجل الديني او الملک بتقبيل يده فيحکمون لاجل ذلک بوجوب هذه الاشياء لمن يستحقها

والعادات العامة کثيرة. وقد تکون عادة لأهل بلد فقط أو قطر او أمة أو جميع الناس فتختلف لأجلها القضايا التي يحکم بها حسب العادة فتکون مشهورة عند أهل بلد او قطر او أمة غير مشهورة عند غيرهم بل يکون المشهور ضدها.

والناس يمدحون المحافظ على العادات ويذمون المخالف المستهين بها. سواء کانت العادات سيئة او حسنة فنراهم يذمون من يرسل لحيته اذاکانوا عتادوا حلقها ويذمّون الحليق لانهم اعتادوا ارسالها. ونراهم يذمون من يلبس غير المألوف لمجرد انهم لم يعتادوا لبسه.

ومن أجل ذلک نري الشارع حرّم (لباس الشهرة) (١) والظاهر ان سر التحريم ان لباس الشهرة يدعو الى اشمئزاز الجمهور من اللابس وذمهم له. واهم أغراض الشارع الالفة بين الناس وتقاربهم واجتماع کلمتهم. وورد عنه (رحم الله امرءاً جبّ الغيبة عن نفسه) (٢).

کما ورد في الشريعة الاسلامية المطهرة ان منافيات المروّة مضرة في العدالة کالاکل حال المشي في الطريق العام او السوق والجلوس في الاماکن العامة کالمقاهي (٣) لشخص ليس من عادة صنفه ذلک. وما منافيات المروّة الا منافيات العادة المألوفة.

٦ ـ الاستقرائيات

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب استقرائهم التام او الناقص کحکمهم

__________________

(١) راجع الوسائل ٣ : ٣٥٤ ، الباب ١٢ من أبواب الملابس.

(٢) لم نعثر عليه في كتب الأحاديث.

(٣) جمع المقهى : المكان الذي تشرب فيه القهوة.

٣٤٧

بان تکرار الفعل الواحد ممل وان الملک الفقير لا بد أن يکون ظالما الى کثير من امثال ذلک من القضايا الاجتماعية والاخلاقية والاخلاقية ونحو

وکثيراً ما يکتفي عوام الناس وجمهورهم بوجود مثال واحد أو اکثر للقضية فتشتهر بينهم عندما لم يقفوا على نقض ظاهر لها کتشاؤم الاوربيين من رقم (١٣) لان واحداً منهم او أکثر اتفق له ان نکب عندما کان له هذا الرقم وکتشاؤم العرب من نعاب الغراب وصيحة البومة کذلک. ومثل هذا کثير عند الناس.

٤ ـ الوهميات (١) (٢)

والمقصود بها القضايا الوهمية الصرفة. وهي قضايا کاذبة الا أن الوهم يقضي بها قضاء شديد القوة فلا يقبل ضدها وما يقابلها حتي مع قيام البرهان على خلافها. فان العقل يؤمن بنتيجة البرهان ولکن الوهم يعاند ولا يزال يتمثل ما قام البرهان على خلافه کما ألفه ممتنعا من قبول خلافه.

ولذا تعدّ الوهميات من المعتقدات (٣) :

ألا تري أن وهم الاکثر يستوحش من الظلام ويخاف منه مع ان العقل لا يجد فرقا في المکان بين ان يکون مظلما أو منيرا فان المکان هو المکان في الحالين وليس للظلمة تأثير فيه يوجب الضرر أو الهلاک.

__________________

(١) للوهم إطلاقان :

١ ـ احتمال وقوع النسبة أولا وقوعها احتمالا ضعيفا. ويقابله الظن.

٢ ـ قوة بها تدرك المعاني المضافة إلى المحسوسات.

(٢) راجع الحاشية : ص ١١٣ ، وشرح الشمسية : ص ١٦٩ ، وشرح المنظومة : ص ١٠١.

(٣) وهي من الجهل المركب.

٣٤٨

ويخاف أيضا من الميت وهو جماد لا يتحرک ولا يضر ولا ينفع ولو عادت اليه الحياة فرضا فهو انسان مثله کما کان حيا وقد يکون من أحب الناس اليه.

ومع توجه النفس الى هذه البديهة العقلية ينکرها الوهم ويعاند فيستولي على النفس فقد تضطرب من الظلمة ومن الميت لان البديهة الوهمية أقوي تأثيرا على النفس من البرهان.

ولاجل ان يتضح لک هذا الامر جرب نفسک واسأل اصدقاءک : کيف يتمثل لاحدکم في وهمه دورة شهور السنة؟ تأمل ما أريد ان أقول لک. فان الانسان على الاکثر لا بد أن يتوهم دورة شهور السنة أو ايامها بشکل محسوس من الاشکال الهندسية (تأمل في نفسک جيدا) انه لا بد ان نتوهم هذه الدورة على شکل دائرة منتظمة او غير منتظمة او مضرسا بعدد الشهور أو شکلا مضلعا متساوي الاضلاع أو غير منتظم في اضلاع اربعة او اکثر او اقل. مع ان السنة ودورة ايامها وشهورها من المعاني المجردة غير المحسوسة. وهذا واضح للعقل غير ان الوهم اذا خطرت له السنة تمثلها في شکل هندسي وهمي يخترعه في ايام طفولته من حيث لا يشعر ويبقي وهمه معاندا مصرا على هذا التمثل الکاذب. ولعلم الانسان بکذب هذا الوهم وسخافته قد يخجل من ذکره لغيره ولکنه لا ينفک عنه في سرّه. وانما أذکر هذا المثال لان يسير لا خطر في ذکره وهو يؤدي الغرض من ذکره.

والسر في ذلک ان الوهم تابع منقاد للحس ومکبل به فما لا يقبله الحسّ لا يقبله الوهم الا لابسا ثوب المحسوس وان کانت له قابلية ادراک المجردات عن الحس کقابليته لادراک المحسوسات(١).

__________________

(١) لا يخفى عليك : أن الوهم إنما يدرك المعاني المضافة إلى المحسوسات لا المحسوسات ، فما يدركه معان مجردة عن الحس مطلقا.

٣٤٩

فاذا کانت احکام الوهم جارية في نفس المحسوسات فان العقل يصدقه فيها فيتطابقان في الحکم کما في الاحکام الهندسية ومثل ما اذا حکم الوهم بأن هذين الجسمين لا يحلان في مکان واحد بوقت واحد فان العقل أيضا يساعده فيه لحکمه بأن کل جسمين مطلقا کذلک فيتطابقان.

واذا کانت احکامه في غير المحسوسات وهي التي نسميها بالقضايا الوهمية الصرفة فلا بد أن تکون کاذبة لا صرار الوهم على تمثيلها على نهج المحسوسات. وهي بحسب ضرورة العقل ليست منها کما سبق في الامثلة المتقدمة فان العقل هو الذي ينزع عنها ثوب الحس الذي أضفاه عليها الوهم.

ومن امثلة ذلک حکم الوهم بأن کل موجود لا بد ان يکون مشاراً اليه وله وضع وحيز. ولا يمکنه ان يتملثه الا کذلک حتي انه يتمثل الله تعالي في مکان مرتفع علينا وربما کانت له هيئة انسان مثلا. ويعجز أيضا عن تمثيل القبلية والبعدية غير الزمانية ويعجز عن تمثيل (١) اللانهائية فلا يتمثل عنده کيف انه تعالي کان وليس معه شيء حتي الزمان وأنه سرمدي لا اول لوجوده ولا آخر. وان کان العقل حسبما بسوق اليه البرهان يستطيع ان يؤمن بذلک ويصدق به تصديقا لا يتمثل في النفس لأن الوهم له السيطرة والاستيلاء عليها من هذه الجهة.

فان کان الوهم مسيطرا على النفس على وجه لا يدع لها مجالا للتصديق بوجود مجرد عن الزمان والمکان فان العقل عندما يمنعها من تجسيمه وتمثيله کالمحسوس تهرب النفس من حکم العقل وتلتجيء الى أن تنکر وجوده رأسا شأن الملحدين.

__________________

(١) أي : تصوير.

٣٥٠

ومن أجل هذا کان الناس لغلبة الوهم على نفوسهم بين مجسم وملحد. وقلّ من يتنور بنور العقل ويجرد نفسه عن غلبة اوهامها فيسمو بها الى ادراک ما لا يناله الوهم. ولذا قال تعالي في کتابه المجيد : (وما اکثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (١) فنفي الايمان عن أکثر الناس. ثم هؤلاء المؤمنون القليلون قال عنهم : (وما يؤمن أکثرهم بالله الا وهم مشترکون) (٢) يعني انهم في حين ايمانهم هم مشرکون. وما ذلک الا لانهم لغلبة الوهم انما يعبدون الاصنام التي ينحتونها بأوهامهم والا کيف يجتمع الايمان والشرک في آن واحد اذا اريد بالشرک من الآية معناه المعروف وهو العبادة للاصنام الظاهرية.

والخلاصة ان القضايا الوهمية الصرفة التي نسميها (الوهميات) هي عبارة عن احکام الوهم في المعاني المجردة عن الحسّ. وهي قضايا کاذبة لا ظل لها من الحقيقة ولکن بديهة الوهم لا تقبل سواها. ولذلک يستخدمها المغالط في اقيسته کما سيأتي في (صناعة المغالطة). الا ان العقل السليم من تأثير الوهم يتجرد عند ولا يخضع لحکمه فيکشف کذب احکامه للنفس.

٥ ـ المسلمات (٣)

وهي قضايا حصل التسالم بينک وبين غيرک (٤) على التسليم بأنها صادقة سواء کانت صادقة في نفس الامر أو کاذبة کذلک او مشکوکة (٥).

__________________

(١) يوسف : ١٠٣.

(٢) يوسف / ١٠٦.

(٣) راجع الحاشية : ص ١١٢ ، وشرح الشمسية : ص ١٦٨ ، والقواعد الجلية : ص ٤٠١.

(٤) أي : المخاطب ، فإن المقوم لكون القضية من المسلمات اعتراف المخاطب بها.

(٥) لا يخفى أنها ليست قسيما للصادقة والكاذبة ، اللهم إلا أن يراد بالصادقة متيقن الصدق وبالكاذبة متيقن الكذب.

٣٥١

والطرف الآخر ان کان خصما فان استعمال المسلمات في القياس معه يراد به افحامه(١). وان مستر شدا فإنه يراد به ارشاده واقناعه ليحصل له الاعتقاد بالحق بأقرب طريق عندما لايکون مستعدا لتلقي البرهان وفهمه.

ثم ان المسلمات إما (عامة) سواء کان التسليم بها من الجمهور عندما تکون من المشهورات او کان التسليم بها من طائفة خاصة کأهل دين أوملّة او علم خاص. وخصوص هذه المسلمات في علم خاص تسمي (الاصول الموضوعة) لذلک العلم عندما يکون التسليم بها عن مسامحة على سبيل حسن الظن من المتعلّم بالمعلّم. وهذه الاصول الموضوعة هي مباديء ذلک العلم التي تبتني عليها براهينه وان کان قد يبرهن عليها في علم آخر واما اذا کان التسليم بها من المتعلم من باب المجاراة (٢) مع الاستنکار والتشکيک بها کما يقع ذلک في المجادلات فتسمي حينئذ بـ (المصادرات).

وإما (خاصة) اذا کان التسليم بها من شخص معين وهو طرفک الآخر في مقام الجدل والخاصمة کالقضية التي تؤخذ من اعترافات الخصم ليبتني عليها الاستدلال في ابطال مذهبه او دفعه.

٦ ـ المقبولات (٣)

وهي قضايا مأخوذة ممن يوثق بصدقه تقليدا اما الأمر سماوي. کالشرايع والسنن المأخوذة عن النبي والامام المعصوم عليهم السلام وامام لمزيد عقله

__________________

(١) أفحمه : أسكته بالحجة ، في خصومة أو غيرها (أقرب الموارد).

(٢) جاراه : جرى معه ، وافقه (أقرب الموارد).

(٣) راجع شرح شمسية : ص ١٦٨.

٣٥٢

وخبرته کالمأخوذات من الحکماء وافاضل السلف والعلماء الفنيين من آراء في الطب أو الاجتماع او الاخلاق او نحوها وکأبيات تورد شواهد لشاعر معروف وکالامثال السائرة التي تکون مقبولة عند الناس وان لم تؤخذ من شخص معين وکالقضايا الفقهية المأخوذة تقليدا عن المجتهد.

ان هذه القضايا وأمثالها هي من أقسام المعتقدات. والاعتقاد بها قد يکون على سبيل القطع او الظن الغالب ولکن على کل حال منشأ الاعتقاد بها هو التقليد للغير الموثوق بقوله کما قددمنا. وبهذا تفترق عن اليقينيات والمضنونات.

وقد تکون قضية واحدة يقينية عند شخص ومقبولة عند شخص آخر باعتبارين کما قد تکون من المشبهات او المسلمات باعتبار ثالث أو رابع ... وهکذا.

٧ ـ المشبهات

وهي قضايا کاذبة يعتقد بها لأنها تشبه اليقينيات او المشهورات في الظاهر فيغالط (١) فيها المستدل غيره لقصور تمييز ذلک الغير بين ما هو هو وبين ما هو غيره او لقصور نفس المستدل او لغير ذلک.

والمشابهة اما من ناحية لفظية مثل ما لو کان اللفظ مشترکا أو مجازا فاشتبه الحال فيه واما من ناحية معنوية مثل ما لو وضع ما ليس بعلة علة ونحو ذلک. وتفصيل اسباب الاشتباه يأتي في (صناعة المغالطة) لأن مادة المغالطة هي المشبهات والوهميات. وأهمها المشبهات.

__________________

(١) غالطه : أوقعه في الغلط (أقرب الموارد).

٣٥٣

٨ ـ المخيلات (١) (٢)

وهي قضايا ليس من شأنها ان توجب تصديقا الا انها توقع في النفس تخييلات (٣) تؤدي الى انفعالات نفسية من انبساط في النفس او انقباض ومن استهانة بالامر الخطير او تهويل او تعظيم للشيء اليسير ومن سرور وانشراح او حزن وتألم ومن شجاعة واقدام او جبن واحجام. (٤)

وتأثير هذه القضايا (التي هي مواد صناعة الشعر کما سيأتي) في النفس ناشيء من تصوير المعني بالتعبير تصويرا خياليا خلاباً وان کان لا واقع له (٥).

وکلما استعملت المجازات والتشبيهات والاستعارات وأنواع البديع في مثل هذه القضايا کانت أکثر تأثيرا في نفس لأن هذه المزايا تضفي على الالفاظ والمعاني جمالا يستهوي المشاعر ويثير التخيلات. واذا انضم اليها الوزن والقافية أو التسجيع والازدواج زاد تأثيرها. ثم يتضاعف الاثر اذا کان الصوت المؤدي لها رقيقا ومشتملا على نغمة موسيقية مناسبة للوزن ونوع التخييل.

کل ذلک يدل على د «المخيلات ليس تأثيرها في النفس لأجل کونها تتضمن حقيقة يصدق بها بل حتي لو علم کذبها فان لها ذلک التأثير المنتظر منها. وما ذلک الا لأن التصوير فيها للمعني مع ما ينضم اليه من

__________________

(١) بصيغة الفاعل بشهادة ما ذكره في تفسيرها ، أو بصيغة المفعول ، فإن هذه القضايا أمور موجودة في الخيال أيضا.

(٢) راجع شرح الشمسية : ص ١٦٩.

(٣) أي صورا خيالية ـ في مقابل الحسية والوهمية والعقلية ـ كانت غائبة عن الذاكرة.

(٤) أحجم عن الشئ : كف ، نكص هيبة ، بالفارسية (عقب نشيني).

(٥) حتى قيل أحسن الشعر أكذبه. وراجع كشكول البهائي : ج ١ ، ص ٣٩٧ (من أشعر الناس).

٣٥٤

مساعدات هو الذي يستهوي النفس ويؤثر فيها. وسيأتي تفصيل ذلک في صناعة الشعر.

وبهذا ينتهي ما أردناه من الکلام على مواد الاقيسة في هذه المقدمة. ولا بد قبل الدخول في الصناعات الخمس من بيان الحصر فيها وبيان فائدتها على الاجمال فنقول :

اقسام الاقيسه بحسب الماده

تقدم في التمهيد لهذا الباب أن القياس (١) بحسب اختلاف المقدمات من حيث المادة وبحسب ما تؤدي اليه من نتائج وبحسب اغراض تأليفها ينقسم الى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة.

بيان ذلک : إن القياس (٢) بحسب اختلاف المقدمات من جهة کونها بقينية أو غير يقينية اما ان يفيد تصديقاً واما تأثيراً آخر غير التصديق من التخيل والتعجب ونحوهما.

ثم (الاول) إما ان يفيد تصديها جازما لا يقبل احتمال الخلاف او تصديقا غير جازم يجوز فيه الخلاف أي (ظنيا). ثم ما يفيد تصديقا جازما اما أن يعتبر فيه ان يکون تأليفه لغرض ان ينتج حقا أم لا. ثم ما يعتبر فيه انتاج الحق إما ان تکون النتيجة حقا واقعا اما لا.

فهذه خمسة أنواع (٣) :

١ ـ ما يفيد تصديقا جازما وکان المطلوب حقا واقعا وهو (البرهان) والغرض منه معرفة الحق من جهة ما هو حق واقعاً.

__________________

(١ و ٢) الأولى أن يعبر بالحجة بدل القياس ، لأن الذي يعتبر فيه كونه بصورة القياس إنما هو بعضها ، وهو البرهان فقط.

(٣) راجع شرح الشمسية : ١٦٨ و ١٩٧ ، وشرح المنظومة : ص ٨٧٠ ، واللمعات (منطق نوين) : ص ٣٣ ، وشرح الإشارات : ص ٢٨٨.

٣٥٥

٢ ـ ما يفيد تصديقا جازما وقد اعتبر فيه ان يکون المطلوب حقا ولکنه ليس بحث واقعا. وهو (المغالطة).

٣ ـ ما يفيد تصديقا جازما ولکن لم يعتبر فيه أن يکون المطلوب حقا بل المعتبر فيه عموم الاعتراف او التسليم (١) وهو (الجدل). والغرض منه افحام الخصم والزامه.

٤ ـ ما يفيد تصديقا غير جازم. وهو (الخطابة) والغرض منه اقناع الجمهور.

٥ ـ ما يفيد غير التصديق من التخيل والتعجب ونحوهما وهو (الشعر) والغرض منه حصول الانفعالات النفسية.

ثم ان البحث عن کل واحد من هذه الصناعات الخمس او القدرة (٢) على استعمالها عند الحاجة يسمي (صناعة) فيقال : صناعة البرهان وصناعة المغالطة ... الخ.

والصناعة (٣) اصطلاحا ملکة نفسانية وقدرة مکتسبة يقتدر بها على استعمال أمور لغرض من الاغراض صادرا ذلک الاستعمال عن بصيرة بحسب الامکان کصناعة الطب والتجارة والحياکة مثلا. ولذا من يغلط في اقيسته لا عن بصيرة ومعرفة بموقع الغلط لا يقال ان عنده صناعة المغالطة بل من عنده الصناعة هو الذي يعرف أنواع المغالطات ويميز بين القياس الصحيح من غيره ويغالط في اقيسته عن عمد وبصيرة.

والصناعة على قسمين علمية وعلمية وهذه الصناعا ت الخمس من الصناعات العلمية النافعة وسيأتي في البحث الآتي بيان فائدتها.

__________________

(١) وهو اعتراف المخاطب ، لأن المقوم للتسليم هو اعتراف المخاطب.

(٢) يشير إلى أن الصناعة تطلق على معينين : العلم والفن.

(٣) بالمعنى الثاني وهو الفن.

٣٥٦

فائده الصناعات الخمس على الاجمال

اما منافع هذه الصناعات الخمس والحاجة اليها فان صناعتي البرهان والمغالطة تختص فائدتهما على الاکثر بمن يتعاطي العلوم النظرية ومعرفة الحقائق الکونية ولکن منفعة صناعة البرهان له فبالذات کمعرفة الأغذية في نفعها لصحة الانسان ومنفعة صناعة المغالطة له فبالعرض کمعرفة السموم في نفعها للاحتراز عنها.

واما الثلاث الباقية فان فائدتها عامة للبشر وتدخل في اکثر المصالح المدنية والاجتماعية. واکثر ما تظهر فائدة صناعة الجدل لأهل الاديان وعلماء الفقة وأهل المذاهب السياسية لحاجتهم الى المناظرة والنقاش.

واکثر ماتظهر فائدة صناعتي الخطابة والشعر للسياسيين وقواد

٣٥٧

الحروب ودعاة الاصلاح لحاجتهم الى اقناع الجمهور ورضاهم وبعث الهمم فيهم وتحريض الجنود والاتباع على الاقدام والتضحية. بل کل رئيس وصاحب دعوة حقة او باطلة لا يستغني عن استعمال هذه الصناعات الثلاث للتأثير على أتباعه ومريديه ولتکثير أنصاره.

ومن العجب اهمال اکثر المؤلفين في المنطق بحث هذه الصناعات تفريطا بغير وجه مقبول الا اولئک الذين ألفوا المنطق مقدمة للفلسفة فان من حقهم ان يقتصروا على مباحث البرهان والمغالطة کما صنع صاحب الاشارات والحاج هادي السبزواري في منظومته اذ لا حاجة لهم في باقي الصناعات.

وأهم ما يحتاج اليه منها ثلاث : البرهان والجدل والخطابة. وقد ورد في القرآن الکريم الترغيب في استعمال الاساليب الثلاثة في الدعوة الالهية وذلک قوله تعالي : «وادع الى سبيل ربک بالحکمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»(١) فان الحکمة هي البرهان والموعظة الحسنة من صناعة الخطابة ومن آداب الجدل ان يکون بالتي هي احسن.

هذا کل ما أردنا ذکره في المقدمة. وقد آن الشروع في بحث هذه الصناعات في خمسة فصول. وعلى الله التکلان.

__________________

(١) النحل : ١٢٥.

٣٥٨

الفَصْلُ الأوّلُ

صناعة البرهان

٣٥٩

ـ ١ ـ

حقيقه البرهان

ان العلوم الحقيقية التي لا يراد بها الا الحق الصراح لا سبيل لها الا سبيل البرهان لانه هو وحده من بين أنواع القياس الخمسة يصيب الحق ويستلزم اليقين بالواقع. والغرض منه معرفة الحق من جهة ما هو حق سواء کان سعي الانسان للحق لاجل نفسه ليناجيها به وليعمر عقله بالمعرفة أو لغيره لتعليمه وارشاده الى الحق.

ولذلک يجب على طالب الحقيقة ألا يتبع الا البرهان وان استلزم قولا لم يقل به أحد قبله.

وقد عرفوه (١) بأنه : «قياس مؤلف من يقينيات ينتج يقينا بالذات اضطرارا» وهو نعم التعريف سهل واضح مختصر.

ومن الواضح أن کل حجة لا بد ان تتألف من مقدمتين والمقدمتان قد تکونان من القضايا الواجبة القبول وهي اليقينيات التي مرّ ذکرها وقد لا تکونان منها بل تکون واحدة منهما أو کلتاهما من انواع القضايا الاخري السبع التي تقدم شرحها في مقدمة هذا الباب.

__________________

(١) راجع شرح الشمسية : ص ١٦٧ ، وشرح المطالع : ص ٣٣٣ والجوهر النضيد : ص ١٦٩ ، وشرح الإشارات : ص ٢٨٩.

٣٦٠