المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤
٣٢١

الباب السادس

الصناعات الخمس

٣٢٢
٣٢٣

تمهيد

تقدم أن للقياس (١) مادة وصورة. والبحث عنه يقع من کلتا الجهتين. وما تقدم في (الباب الخامس) کان بحثا عنه من جهة صورته أي هيئة تأليفه على وجه لو تألف القياس بحسب الشروط التي للهيئة وکانت مقدماته (أي مواده) مسلمة صادقة کان منتجا لا محالة أي کانت نتيجته صادقة تبعا لصدق مقدماتها. ومعني ذلک أن القياس اذا احتفظ بشروط الهيئة فان مقدماته لو فرض صدقها فان صدقها يستلزم صدق النتيجة.

ولا يبحث هناک عما اذا کانت المقدمات صادقة في أنفسها ام لا بل انما يبحث عن الشروط التي بموجبها يستلزم صدق المقدمات صدق النتيجة على تقير فرض صدق المقدمات.

وقد حل الآن الوفاء بما وعدناک به من البحث عن القياس من جهة مادته. والمقصود من المادة مقدماته في انفسها مع قطع النظر عن صحة تأليفها بعضها مع بعض. وهي تختلف من جهة الاعتقاد بها والتسليم

__________________

(١) واضح ، أن الاستقراء والتمثيل لهما مواد أيضا ، ولكن لعله لم يبحث عن موادهما ، لاحتمال بسبب أن صورتهما ليست مفيدة لليقين ، فكان البحث عن موادهما خاليا عن الفائدة.

(٢) لا يخفى عليك : أنه بحث عن الحجة من ناحية مادتها ، ولما كان القياس قسما من الحجة أمكن أن يكون بحثا عن القياس من هذه الناحية أيضا.

٣٢٤

بصدقها وعدمهما وان کانت صورة القياس واحدة لا تختلف : فقد تکون القضية التي تقع مقدمة مصدّقا بها وقد لا تکون. والمصدّق بها قد تکون يقينية وقد تکون غير يقينية على التفصيل الذي سيأتي.

وبحسب اختلاف المقدمات وبحسب ما تؤدي اليه من نتائج وبحسب اغراض تأليفها ينقسم القياس الى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة. والبحث عن هذه الاقسام الخمسة أو استعمالها هي (الصناعات الخمس) فيقال مثلا : صناعة البرهان وصناعة الجدل ... وهکذا.

وقبل الدخول في بحثها واحدة واحدة تذکر من باب المقدمه انواع القضايا المستعملة في القياس وأقسامها. او فقل حسب الاصطلاح العلمي (مباديء الاقيسة). ثم نذکر بعد ذلک الصناعات في خمسة فصول :

٣٢٥

المقدمه

في مبادئ الاقيسه (١)

سبق أن قلنا في تصدير الباب الخامس : أنه لا يجب في کل قضية أن تطلب بدليل وحجة بل لا بد من الانتهاء في الطلب الى قضايا مستغنية عن البيان والقامة الحجة.

والسر في ذلک ان مواد الاقيسة سواء کانت يقينية او غير يقينية إما أن تکون في حد نفسها مسغنية عن البيان واقامة الحجة بمعني انه ليس من شانها ان تکون مطلوبة بحجة وإما ان تکون محتاجة الى البيان. ثم هذه الاخيرة المحتاجة لا بد أن ينتهي طلبها الى مقدمات مستغنية بنفسسها عن البيان والاّ لزم التسلسل في الطلب الى غير النهاية. أو نقول : انه يلزم من ذلک الاّ ينتهي الانسان الى علم أبدا ويبقي في جهل الى آخر الآباد. والوجدان يشهد على فساد ذلک.

وهاتيك المقدمات المستغنية عن البيان تسمى (مباديء المطالب) أو (مباديء الاقيسة). وهي ثمانية اصناف : يقينيات ، ومظنونات

__________________

(١) لا يخفى عليك : أنه لابد من التعبير بمبادئ الحجة ، فإن كلا من الجدل والخطابة والشعر والمغالطة يمكن أن يكون من التمثيل أو الاستقراء ، كما يمكن أن يكون من القياس.

(٢) والمراد به أصول اليقينيات وهي البديهيات ، وإلا فاليقينيات قد لا تكون مستغنية عن البيان.

٣٢٦

ومشهورات ، ووهميات ، ومسلمات ، ومقبولات ، ومشبهات ، ومخيلات. ونذكرها الآن بالتفصيل :

١ ـ يقينيات

تقدم في أول الجزء الاول (١) ان لليقين معنيين : اليقين بالمعنى الاعم وهو مطلق الاعتقاد الجازم ، واليقين بالمعنى الاخص وهو الاعتقاد المطابق للواقع الذي لا يحتمل النقيض لا عن تقليد. والمقصود باليقين هنا (٢) هو هذا المعنى الاخير ، فلا يشمل الجهل المركب ولا الظن ولا التقليد وان كان معه جزم.

توضيح ذلك ان اليقين بالمعنى الاخص يتقوم من عنصرين (٣) :

(الاول) أن ينضم الى الاعتقاد بمضمون القضية اعتقاد ثان ـ اما بالفعل او بالقوة القريبة من الفعل ـ أن ذلك المعتقد به لا يمكن نقضه. وهذا الاعتقاد الثاني هو المقوم لكون الاعتقاد جازماً أي اليقين بالمعنى الاعم.

و (الثاني) أن يكون هذا الاعتقاد الثاني لايمكن زواله. وانما يكون كذلك اذا كان مسببا عن علته الخاصة الموجبة له فلا يمكن انفكاكه عنها.

__________________

(١) ص ١٧.

(٢) راجع الحاشية : ص ١١١ ، وشرح الشمسية : ص ١٦٦ ، وشرح المنظومة : ص ٨٨ ، والقواعد الجلية : ص ٣٩٤.

(٣) أقول : بل من عناصر ثلاثة :

الأول : اليقين بالمعنى الأعم ، وهو الاعتقاد الجازم.

الثاني : كونه مطابقا للواقع ، لا جهلا مركبا

الثالث : ثباته وعدم إمكان زواله بأن لا يكون عن تقليد.

وإنما ذهب المصنف إلى تقويه من عنصرين ، من جهة أن اليقين بالمعنى الأعم عنده هو ما كان مطابقا للواقع ، وأن الجهل المركب ليس عنده من العلم. وقد مر ما فيه.

٣٢٧

وبهذا يفترق عن التقليد لأنه ان كان معه اعتقاد ثان فان هذا الاعتقاد يمكن زواله لأنه ليس عن علة توجبه بنفسه ، بل انما هو من جهة التبعية للغير ثقة به وايماناً بقوله فيمكن فرض زواله ، فلا تكون مقارنة الاعتقاد الثاني للاول واجبة في نفس الامر.

ولاجل اختلاف سبب الاعتقاد من كونه حاضراً لدى العقل او غائباً يحتاج الى الكسب ... تنقسم القضية اليقينية الى بديهية ، ونظرية كسبية تنتهي لا محالة الى البديهيات ، فالبديهيات ـ اذن ـ هي اصول اليقينيات ، وهي على ستة انواع بحكم الاستقراء : اوليات ومشاهدات وتجربيات ومتواترات وحدسيات وفطريات.

١ ـ الاوليات (١)

وهي قضايا يصدّق بها العقل لذاتها أي بدون سبب خارج عن ذاتها بأن يکون تصور الطرفين مع توجه النفس الى النسبة بينهما (*) کافيا في الحکم والجزم بصدق القضية فکلما وقع للعقل أن يتصور حدود القضية الطرفين على حقيقتها وقع له التصديق بها فورا عندما يکون متوجها لها. وهذا مثل قولنا «الکل أعظم من الجزء» و «النقيضان لا يجتمعان».

وهذه (الاوليات) منها ما هو جلي عند الجميع اذ يکون تصور الحدود حاصلا لهم جميعا کالمثالين المتقدمين ومنها ما هو خفي عند بعض لوقوع الالتباس في تصوّر الحدود ومتي ما زال الالتباس بادر العقل الى الاعتقاد الجازم.

__________________

(١) راجع شرح الشمسية : ص ١٦٧ ، وشرح المنظومة : ص ٨٩ ، والنجاة : ص ٦٤ ، والتحصيل : ص ٩٦.

١ ـ تقدم في الجزء الاول بيان معنى توجه النفس والحاجة اليه. وهذا البحث عن معنى التوجه وأسبابه وضرورته من مختصات هذا الكتاب التي لم يسبق اليها سابق فيما نعلم بهذا التفصيل.

٣٢٨

ونحن ذاکرون هنا مثالا دقيقا على ذلک مستعينين بنباهة الطالب الذکي على ايضاحه. وهو قولهم «الوجود موجود» فان بعض الباحثين اشتبه عليه معني موجود اذ يتصور أن معناه (انه شيء له الوجود) فقال : لا يصح الحکم على الوجود بأنه موجود والا لکان للوجود وجود آخر وهذا الآخر أيضا موجود فيلزم ان يکون له وجود ثالث ... وهکذا فيتسلسل الى غير النهاية. لأجله أنکر هذا القائل اصالة الوجود وذهب الى الصالة الماهية

ولکن نقول : ان هذا الزعم ناشيء عن الغفلة عن معني (موجود) فانه قد يتضح للفظ موجود معني آخر اوسع من الأول. وهو المعني المشترک الذي يشمله ويشمل معني ثانيا وهو مالا يکون الوجود زائدا عليه بل کونه موجودا هو بعينه کونه وجودا لا أن له وجود آخر وذلک بان يکون معني موجود منتزعا من صميم ذات الوجود لا باضافة وجود آخر زائد عليه. فانه يقال مثلا ـ : الانسان موجود وهو صحيح ولکن باضافة الوجود الى الانسان ويقال أيضا : الوجود موجود. وهو صحيح أيضا ولکن بنفسه لا باضافة وجود ثان اليه وهو أحق بصدق الموجود عليه. کما يقال : الجسم أبيض باضافة البياض اليه. ويقال : البياض أبيض ولکنه بنفسه لا ببياض آخر وصدق الابيض عليه أولي من صدقه على الجسم الذي صار أبيض بتوسط اضافة البياض اليه.

وعلي هذا يکون المشتق منتزعا من نفس الذات المتصلة بدلا من اضافة شيء خارج عنها اليها. فتکون کلمة ابيض (وکذلک کلمة موجود ونحوها) معناها اعم مما کان منتزعا من اتصاف الذات بالمبدأ الخارج عنها ومما کان منتزعا من نفس الذات التي هي نفس المبدأ.

فاذا زال الالتباس واتضح للعقل معني کلمة (موجود) لا يتردد في صحة حملها على الوجود بل يراه اولي في صدق الموجود عليه من

٣٢٩

غيره کما لم يتردد في صحة حمل الابيض على البياض. ولا تحتاج مثل هذه القضية وهي (الوجود موجود) الى البرهان بل هي من الاوليات وان بدت غير واضحة للعقل قبل تصور معني موجود وصارت من أدق المباحث الفلسفيه ويبني عليها کثير من مسائل علم الفلسفة الدقيقة.

٢ ـ المشاهدات (١) : (٢)

وتسمي أيضا (المحسوسات) وهي القضايا (٣) التي يحکم بها العقل بواسطة الحسّ ولا يکفي فيها تصوّر الطرفين مع النسبة ولذا قيل : من فقد حسّاً فقد فقد علما.

والحسّ على قسمين : (ظاهر) وهو خمسة أنواع البصر والسمع والذوق والشم واللمس. والقضايا المتيقنة بواسطته تسمي (حسيات) کالحکم بأن الشمس مضيئة وهذه النار حارة وهذه الثمرة حلوة وهذه الوردة طيبة الرائحة ... وهکذا. وحسّ (باطن) والقضايا المتيقنة بواسطته تسمي (وجدانيات) کالعلم بأن لنا فکرة وخوفا وألما ولذة وجوعا وعطشا ... ونحو ذلک.

٣ ـ التجربيات (٤) او المجربات (٥)

أو المجربات وهي القضايا التي يحکم بها العقل بواسطة تکرر المشاهدة منا في

__________________

(١) لا يخفى عليك ، أن المشاهدة هنا أعم من الرؤية وهي المعنى اللغوي للمشاهدة.

(٢) راجع شرح الشمسية : ص ١٦٧ ، وشرح المنظومة : ص ٩٠.

(٣) ولا تكون إلا قضايا شخصية ، فإن الحس لا يدرك إلا الجزئيات.

(٤) لا يخفى عليك : أنه يفترق التجربيات عن المحسوسات بأنها :

١ ـ تحتاج إلى تكرر الحس بخلاف تلك.

٢ ـ بأنها قضايا كلية ، والمحسوسات قضايا شخصية.

(٥) راجع شرح المنظومة : ص ٩٠ ، وشرح المطالع : ص ٣٣٣ ، والقواعد الجلية : ص ٣٩٧ ، وشرح الإشارات : ص ٢١٧ ، والتحصيل : ص ٩٦.

٣٣٠

احساسنا فيحصل بتکرر المشاهدة مايوجب أن يرسخ في النفس حکم لا شک فيه کالحکم بأن کل نار حارة وان الجسم يتمدد بالحرارة. ففي المثال الأخير عندما نجرّب أنواع الجسم المختلفة من حديد ونحاس وحجر وغيرها مرّات متعددة ونجدها تتمدد بالحرارة فانا نجزم جزما باتّاً بان ارتفاع درجة حرارة الجسم من شأنها أن تؤثر التمدد في حجمه کما ان هبوطها يؤثر التقلص فيه. واکثر مسائل العلوم الطبيعية والکيمياء والطب من نوع المجربات.

وهذا الاستنتاج في التجربيات من نوع الاستقراء الناقص المبني على التعليل الذي قلنا عنه في الجزء الثاني انه يفيد القطع بالحکم. وفي الحقيقة أن هذا الحکم القطعي يعتمد على قياسين خفيين : استثنائي واقتراني يستعملهما الانسان في دخيلة نفسه وتفکيره من غير التفات غالبا.

والقياس الاستثنائي هکذا :

لو کان حصول هذا الاثر اتفاقيا لا لعلة توجبه لما حصل دائما.

ولکنه قد حصل دائما (بالمشاهدة) ... حصول هذا الاثر ليس اتفاقيا بل لعلة توجبه.

__________________

(١) من شأنه أن يؤثر ، ظ.

(٢) راجع شرح المنظومة : ص ٩٠ ، وشرح المطالع : ص ٣٣٤ ، والقواعد الجلية : ص ٣٩٥ ، والجوهر النضيد : ص ١٧٠ ، والنجاة : ص ٦١.

(٣) المراد من الدوام هنا هو حصول الشئ مكررا من دون تخلف ، لا الدوام بمعناه المعهود الذي قد مر في الموجهات.

(٤) لا يخفى بملاحظة ما سيأتي في الفرق بينهما وبين الحدسيات ، أن المراد من «العلة» ليس هي العلة المعلومة بالنوع أو الشخص ، بل المراد أصل وجود علة لها ، وإن لم يعلم أنها ما هي؟ ولكن يرد عليه أن التجربي يعين العلل فيقول : السقمونيا علة لإسهال الصفراء ، والحرارة علة للانبساط ، والبرودة علة للانقباض.

٣٣١

والقياس الاقتراني هکذا :

الصغري (نفس نتيجة القياس السابق) حصول هذا الاثر معلول لعلة

الکبري (بديهية أولية) کل معلول لعلة يمتنع تخلفة عنها ...

(ينتج من الشکل الاول) هذا الاثر يمتنع تخلفه عن علته

وهاتان المقدمتان للاستثنائي بديهيتان وکذا کبري الاقتراني فرجع الحکم في القضايا المجربات الى القضايا الاولية والمشاهدات في النهاية.

ثم لا يختفي انا لا نعني من هذا الکلام ان کل تجربة تستلزم حکما يقينيا مطابقا للواقع فان کثيرا من احکام سواد الناس المبنية على تجاربهم ينکشف خطأهم فيها اذ يحسبون ما ليس بعلة علة او ما کان علة ناقصة علة تامة او يأخذون ما بالعرض مکان ما بالذات.

وسر خطأهم ان ملاحظتهم للاشياء في تجاربهم لا تکون دقيقة على وجه تکفي لصدق المقدمة الثانية للقياس الاستثنائي المتقدم لأنه قد يکون حصول الاثر في الواقع ليس دائميا فظن المجرب أنه دائمي اعتماداً على اتفاقات حسبها دائمية اما لجهل او غفلة أو لقصور ادراک او تسرع في الحکم فأهل جملة من الحوادث ولم يلاحظ فيها تخلف الاثر. وقد تکون ملاحظته للحوادث قاصرة بأن يلاحظ حوادث قليلة وجد حصول الاثر مع ما فرضه علة وفي الحقيقة ان العلة شيء آخر اتفق حصوله في تلک الحوادث فلذا لم يتخلف الاثر فيها. ولو استمر في التجربة وغيرّ فيما يجربه لوجد غير ما اعتقده أولا.

مثلا قد يجرب الانسان الخشب يطفؤ على الماء في عدة حوادث متکررة فيعتقدان ذلک خاصية في الخشب والماء فيحکم خطأ ان کل خشب يطفو على الماء ولکنه لو جرّب بعض أنواع الخشب الثقيل الوزن لوجد انه لا يطفو في الماء العذب بل قديرسب الى القعر او الى وسط الماء فانه لا شکل حينئذ بزول اعتقاده الاول. ولو غيّر التجربة في عدة

٣٣٢

اجسام غير الخشب ودقق في ملاحظته ووزن الاجسام والوسائل (١) بدقة وقاس وزن بعضها ببعض لحصل له حکم آخر بأن العلة في طفو الخشب على الماء أن الخشب اخف وزنا من الماء. وتحصل له قاعدة عامة هي أن الجسم الجامد يطفو على السائل اذا کان أخف وزنا منه ويرسب الى القعر اذا کان أثقل وزنا والى وسطه اذا ساواه في الوزن فالحديد مثلا يرسب في الماء ويطفو في الزئبق لأنه أخف وزنا منه.

٤ ـ المتواترات (٢)

وهي قضايا (٣) تسکن اليها النفس سکونا يزول معه الشک ويحصل الجزم القاطع. وذلک بواسطة اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الکذب ويمتنع اتفاق خطأهم في فهم الحادثة (*) کعلمنا بوجود البلدان النائية التي لم نشاهدها وبنزول القرآن الکريم على النبي محمد صلي الله عليه وآله وبوجود بعض الأمم السالفة او الاشخاص.

__________________

(١) السوائل ، ظ.

(٢) راجع شرح المنظومة : ص ٩٠ ، وشرح المطالع : ص ٣٣٣ ، والقواعد الجلية : ص ٣٩٧ ، والتحصيل : ص ٩٧.

(٣) شخصية ، كما سيصرح به في ص ٣٦٦.

(*) هذا القيد الاخير لم يذكره المؤلفون من المنطقيين والاصوليين. وذكره ـ فيما أرى ـ لازم ، نظرا الى أن الناس المجتمعين كثيرا ما يخطئون في فهم الحادثة على وجهها ، حينما تقتضي الحادثة دقة الملاحظة. وقوانين علم الاجتماع تقضي بأن الجمهور لاتتأتى فيه الدقة في الملاحظة اذ سرعان ما تسري فيه العدوى والمحاكاة بعضهم لبعض ، فاذا تأثر بعضهم بالحادث المشاهد قد يقلده غيره من الحاضرين بالتأثر من حيث لا يشعر فيسري الى الاخرين. وعليه لا يحصل اليقين من اخبار جماعة خطأهم في الملاحظة وان حصل اليقين بعدم تعمدهم للكذب.

لا ترى ان المشعوذين يأتون باعمال يبدو أنها خارقة للعادة فينخدع بها المتفرجون لانهم لم يرزقوا ساعة الاجتماع دقة الملاحظة. ولو انفرد الشخص وحدة بمشاهد المشعوذ لربما لا يشاهده بطحن الزجاج بأسنانه ويخرجه أبرا أو يطعن نفسه بمدية ولا يخرج الدم ، بل قد تنكشف له الحبلة بسهولة.

٣٣٣

وبعض حصر عدد المخبرين لحصول التواتر في عدد معين. وهو خطأ فان المدار انما هو حصول اليقين من الشهادات عندما يعلم امتناع التواطؤ على الکذب وامتناع خطأ الجميع. ولا يرتبط اليقين بعدد مخصوص من المخبرين تؤثر فيه الزيادة والنقصان.

٥ ـ الحدسيات (١)

وهي قضايا مبدأ الحکم بها حدس من النفس قوي جدا يزول معه الشک ويذعن(٢) الذهن بمضمونها مثل حکمنا بأن القمر وزهرة وعطارد وسائر الکواکب السيارة مستفاد نورها من نور الشمس وان انعکاس شعاع نورها الى الارض يضاهي انعکاس الأشعة من المراة الى الاجسام التي تقابلها.

ومنشأ هذا الحکم او الحدس اختلاف تشکلها عند اختلاف نسبتها من الشمس (٣) قربا وبعدا. وکحکمنا بأن الارض على هيئة الکرة وذلک لمشاهدة السفن مثلا في البحر اول ما يبدومنها أعاليها ثم تظهر بالتدريج کلما قربت من الشاطيء. وکحکم علماء الهيئة حديثا بدوران السيارات حول الشمس وجاذبية الشمس لها لمشاهدة اختلاف اوضاع هذه السيارات بالنسبة الى الشمس والينا على وجه يثير الحدس بذلک.

والحدسيات جارية مجري المجربات في الامرين المذکورين اعني تکرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي فانه يقال في القياس مثلا : هذا المشاهد من الاختلاف في نور القمر لو کان بالاتفاق او بأمر خارج سوي الشمس لما استمر على نمط واحد على طول الزمن. ولما کان على هذه

__________________

(١) راجع شرح الشمسية : ص ١٦٧ ، وشرح المنظومة : ص ٩١ ، وشرح المطالع : ص ٣٣٤ ، والقواعد الجلية : ص ٣٩٧ ، والتحصيل : ص ٩٧.

(٢) إذعانا يقينيا.

(٣) ومنا.

٣٣٤

 الصورة من الاختلاف فيحدس الذهن ان سببه انعکاس اشعة الشمس عليه.

وهذا القياس المقارن للحدس يختلف باختلاف العلل في ماهياتها باختلاف الموارد وليس کذلک المجربات فان لها قياسا واحدا لا يختلف لأن السبب فيها غير معلوم الماهية الا من جهة کونه (١) سببا فقط. وهذه الجهة لا تختلف باختلاف الموارد.

وذلک لأن الفرق بين المجربات والحدسيات أن المجربات انما يحکم فيها بوجود سبب ما وأن هذا السبب موجود في الشيء الذي تتفق له هذه الظاهرة دائما من غير تعيين لماهية السبب. اما في الحدسيات فانها بالاضافة الى ذلک يحکم فيها بتعيين ماهية السبب انه أي شيء هو وفي الحقيقة ان الحدسيات (٢) مجربات مع اضافة والاضافة هي الحدس بماهية السبب ولذا ألحقوا الحدسيات بالمجربات. قال الشيخ العظيم خواجا نصير الدين الطوسي في شرح الاشارات : «ان السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية (٣) وفي الحدسيات معلوم بالوجهين» (٤).

ومن مارس العلوم يحصل له من هذا الجنس على طريق الحدس قضايا کثيرة قد لا يمکنه اقامة البرهان عليها ولا يمکنه الشک فيها. کما لا يسعه أن يشرک غيره فيها بالتعليم والتلقين الا أن يرشد الطالب الى الطريق التي سلکها. فان استطاع الطالب بنفسه سلوک الطريق قد يفضيه الى الاعتقاد اذا کان ذا قوة ذهنية وصفاء نفس. فلذلک لو جحد مثل هذه

__________________

(١) قد مر منا عدم صحة هذا الفرق ، وأن في التجربيات أيضا يعلم ماهية العلة كوجودها ، والحق في الفرق ، أن الحدسيات لم تستفد من التجربة المباشرة ، وإن جربت آثارها وعلائمها وقرائنها ، وذلك بخلاف المجربات فإنها حصلت من التجربة المباشرة لمؤدياتها.

(٢) راجع شرح المطالع : ص ٣٣٤.

(٣) لا يخفى ما فيه ، فإن ماهية السبب في المجربات أيضا معلومة كالحرارة للتمدد والبرودة للتقلص والسقمونيا للصفراء.

(٤) شرح الإشارات والتنبيهات ج ١ ، ص ٢١٨ ، ومثله في الجوهر النضيد ص ٢٠١.

٣٣٥

القضايا جاحد فان الحادس يعجز عن اثباتها له على سبيل المذاکرة والتلقين ما لم يحصل للجاحد نفس الطريق الى الحدس.

وکذلک المجربات والمتواترات لا يمکن اثباتها بالمذاکرة والتلقين ما لم يحصل للطالب ما حصل للمجرب من التجربة وللمتيقن بالخبر من التواتر. ولهذا يختلف الناس في الحدسيات والمجربات والمتواترات وان کانت کلها من أقسام البديهيات. وليس کذلک الاوليات فان الناس في اليقين بها شرع سواء وکذلک المحسوسات عند من کانوا صحيحي الحواس. ومثلها الفطريات الآتي ذکرها.

٦ ـ الفطريات (١)

وهي القضايا التي قياساتها معها أي ان العقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها کالاوليات بل لا بد لها من وسط الا ان هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتي يحتاج الى طلب وفکر فکلما أحضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه.

مثل حکمنا بأن الاثنين خمس العشرة فان هذا حکم بديهي الا انه معلوم بوسط لأن:

الاثنين عدد قد انقسمت العشرة اليه والى اربعة اقسام أخري کل منها يساويه.

وکل ما ينقسم عدد اليه والى اربعة اقسام أخري کل منها يساويه فهو خمس ذلک العدد.

فالاثنان خمس العشرة.

__________________

(١) أي قضايا فطرية أقيستها. فالوصف بحال متعلق الموصوف. كما صرح بذلك في الجوهر النضيد ص ٢٠١.

٣٣٦

ومثل هذا القياس حاضر في الذهن لا يحتاج الى کسب ونظر. ومثل هذا القياس يجري في کل نسبة عدد الى آخر غير ان هذه النسب يختلف بعضها عن بعض في سرعة مبادرة الذهن الى المطلوب وعدمها بسبب قلة الاعداد وزيادتها أو بسبب عادة الانسان على التفکر فيها وعدمه. فانک تري الفرق واضحا في سرعة انتقال الذهن بين نسبة ٢ الى ٤ وبين نسبة ١٣ الى ٢٦ مع ان النسبة واحدة وهي النصف. أو بين نسبة ٣ الى ١٢ وبين نسبة ١٧ الى ٦٨ مع ان النسبة واحدة هي الربع ... وهکذا.

تمرينات

١ ـ بيّن أي قسم من البديهيات الست يشترک في معرفتها جميع الناس وأي قسم منها يجوز ان يختلف في معرفتها الناس.

٢ ـ هل يضر في بداهة الشيء ان يجهلة بعض الناس؟ ولماذا؟ (راجع بحث البديهي في الجزء الاول)

٣ ـ ارجع الى ما ذکرناه في الجزء الاول من أسباب التوجه لمعرفة البديهي. وبين حاجة کل قسم من البديهيات الست الى أي سبب منها. ضع ذلک في جدول.

٤ ـ عين کل مثال من الامثلة الآتية انه من أي الاقسام الستة وهي :

أ ـ ان لکل معلول علة.

ب ـ لا يتخلف المعلول عن العلة.

ج ـ يستحيل تقدم المعلول على العلة.

د ـ يستحيل تقدم الشيء على نفسه.

هـ ـ الضدان لا يجتمعان.

وـ الظرف اوسع من المظروف.

٣٣٧

ز ـ الصلاة واجبة في الاسلام.

ح ـ السماء فوقنا والارض تحتنا.

ط ـ اذا انتفي اللازم انتفي الملزوم.

ي ـ الثلاثة لا تنقسم بمتساويين.

يا ـ انتفاء الملزوم لا يلزم منه انتفاء اللازم لجواز کونه اعم.

يب ـ نقيضا المتساويين متساويان.

٥ ـ يقول المنطقيون ان انتاج الشکل الاول بديهي فمن أي البديهيات هو؟

٦ ـ بني علماء الرياضيات جميع براهينهم على مباديء بسيطة يدرکها العقل لأول وهلة يسمونها البديهيات نذکر بعضها فبين انها من أي اقسام البديهيات الست وهي : ـ

ـ أ ـ اذا أضفنا اشياء متساوية الى اخري متساوية کانت النتائج متساوية.

ـ ب ـ اذا طرحنا اشياء متساوية من أخري متساوية کانت البواقي متساوية.

ـ جـ ـ المضاعفات الواحدة للاشياء المتساوية تکون متساوية فان کان شيئان متساويين کان ثلاثة امثال احدهما مساويا لثلاثة امثال الآخر.

ـ د ـ اذا انقسم کل من الاشياء المتساوية الى عدد واحد من اجزاء متساوية کانت هذه الاجزاء في الجميع متساوية.

ـ هـ ـ الاشياء التي يمکن ان ينطبق کل منها على الآخر انطباقا تاما فهي متساوية.

راجع بحث البديهة المنطقية آخر الباب الرابع (في الجزء ٢) تجد توضيح بعض هذه البديهيات الرياضية.

٣٣٨

٢ ـ المظنونات

مأخوذة من (الظن). والظن في اللغة اعم من اصطلاح المنطقيين هنا (١) فان المفهوم منه لغة حسب تتبع موارد الستعماله هو الاعتقاد في غائب بحدس (٢) او تخمين من دون مشاهدة او دليل او برهان سواء کان اعتقادا جازما مطابقا للواقع ولکن غير مستند الى علته کالاعتقاد تقليدا للغير او کان اعتقادا جازما غير مطابق للواقع وهو الجهل المرکب أو کان اعتقادا غير جازم بمعني ما يرجح فيه أحد طرفي القضية النفي او الاثبات مع تجويز الطرف الآخر. وهو يساوق الظن بالمعني الاخص باصطلاح المنطقيين المقابل الليقين بالمعني الاعم.

والظن المقصود به باصطلاح المناطقة هو المعني الأخير فقط وهو ترجيح أحد طرفي القضية النفي او الاثبات مع تجويز الطرف الآخر. وهو الظن بالمعني الاخص.

فالمظنونات على هذا (٣) هي قضايا يصدق بها اتباعا لغالب الظن مع تجويز نقيضه کما يقال مثلا : فلان يسارّ عدوّي فهو يتکلم على أو فلان لا عمل له فهم سافل. او فلان ناقص الخلقة في أحد جوارحه ففيه مرکب النقص (٤).

__________________

(١) لا يخفى أنه لا يختص اصطلاحهم بهذا المقام ، بل الظن في مصطلحهم هو المعنى الأخص مطلقا كما سيظهر أيضا من إطلاق قوله بعد أسطر ، والظن المقصود به باصطلاح المناطقة هو المعنى الأخير.

(٢) لا يخفى ان المراد من الحدس هنا هو معناه اللغوي ، لا الحدس المصطلح عند المناطقة.

(٣) راجع الحاشية : ص ١١٣ ، وشرح الشمسية : ص ١٦٨ : وشرح المنظومة : ص ١٠٠.

(٤) بالفارسية : عقده حقارت.

٣٣٩

٣ ـ المشهورات (١)

وتسمي (الذايعات) أيضا.

وهي قضايا اشتهرت بين الناس وذاع التصديق بهاعند جميع العقلاء أو أکثرهم او طائفة خاصة. وهي على معنيين :

١ ـ المشهورات بالمعني الأعم وهي التي تطابقت على الاعتقاد بها آراء العقلاء کافة (٢) وان کان الذي يدعو الى الاعتقاد بها کونها اولية ضرورية في حد نفسها ولها واقع وراء تطابق الآراء عليها. فتشمل المشهورات بالمعني الأخص الآتية وتشمل مثل الاوليات والفطريات التي هي من قسم اليقينيات البديهية.

وعلى هذا فقد تدخل القضية الواحدة مثل قولهم (الکل اعظم من الجزء) في اليقينيات من جهة وفي المشهورات من جهة أخري.

٢ ـ المشهورات بالمعني الاخص او المشهورات الصرفة وهي احق بصدق وصف الشهرة عليها لأنها القضايا التي لا عمدة لها في التصديق الا الشهرة وعموم الاعتراف بها کحسن العدل (٣) وقبح الظلم (٤) وکوجوب الذب عن الحرم واستهجان ايذاء الحيوان لا لغرض.

فلا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها بل واقعها ذلک فلو

__________________

(١) راجع الحاشية : ص ١١٢ ، وشرح الشمسية : ص ١٦٨ ، وشرح المنظومة : ص ٩٩ ، وشرح المطالع : ص ٣٣٤ ، والتحصيل : ص ٩٨.

(٢) لا يخفى عليك : أنه لا يصح القيد بهذا التقييد ، لأنه عليه لا يبقى مقسم للتقسيمات الآتية ، لعدم شمول المشهور بالمعنى الأعم للعاديات ، وعدم شمول المشهور بالمعنى الأخص للواجبات القبول.

(٣) بمعنى أن فاعله ممدوح عند العقلاء ، كما سيأتي.

(٤) بمعنى أن فاعله مذموم عند العقلاء ، كما سيأتي.

٣٤٠