المنطق

الشيخ محمّد رضا المظفّر

المنطق

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

نظراً إلى أنه يتضمن الاعتقاد والجزم وإن خالف الواقع. ولكنا إذا دققنا تعريف العلم نعرف ابتعاد هذا الزعم على الصواب وأنه أي هذا الزعم من الجهل المركب ، لأن معنى (حضور صورة الشيء عند العقل) أن تحضر صورة نفس ذلك الشيء أما إذا حضرت صورة غيره بزعم أنها صورته فلم تحضر الشيء بل صورة شيء آخر زاعماً أنها هي. وهذا هو حال الجهل المركب ، فلا يدخل تحت تعريف العلم. فمن يعتقد أن الأرض مسطحة لم تحضر عنده صورة النسبة الواقعية وهي أن الأرض كروية ، وإنما حضرت صورة نسبة أخرى يتخيل أنها الواقع.

وفي الحقيقة أن الجهل المركب يتخيل صاحبه أنه من العلم ، ولكنه ليس بعلم. وكيف يصح أن يكون الشيء من أقسام مقابله ، والاعتقاد لا يغير الحقائق ، فالشبح من بعيد الذي يعتقده الناظر إنساناً وهو ليس بإنسان لا يصيره الاعتقاد إنساناً على الحقيقة.

العلم ضروري ونظري

ينقسمه العلم بكلا قسميه التصور والتصديق إلى قسمين :

١ ـ (الضروري) ويسمى أيضاً (البديهي) (١) وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر ، فيحصل بالاضطرار وبالبداهة (٢) التي هي المفاجأة والارتجال من دون توقف (٣) ، كتصورنا لمفهوم الوجود والعدم

__________________

يظهر من ظاهر كلام الآخرين.

(١) البديهي بهذا المعنى مرادف للضروري المقابل للنظري ، وقد يطلق «البديهي» على المقدمات الأولية ، راجع شرح الشمسية (ص ١٢) وأيضا راجع : شرح المنظومة (ص ٩) ، شرح المطالع (ص ١٠) ، القواعد الجلية (ص ١٨٤).

(٢) إشارة إلى وجه تسميته بالضروري وبالبديهي ، فيسمى ضروريا لحصوله بالاضطرار ، ولكون النفس مضطرة إلى العلم به ولا يمكنها الاستنكاف منه. ويسمى بديهيا لحصوله بالبداهة والمفاجأة والارتجال.

(٣) بشرط وجود أسباب التوجه الآتية.

٢١

ومفهوم الشيء وكتصديقنا بأن الكل أعظم من الجزء وبأن النقيضين لا يجتمعان وبأن الشمس طالعة وأن الواحد نصف الاثنين وهكذا.

٢ ـ و (النظري) وهو ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر (١) ، كتصورنا لحقيقة الروح والكهرباء ، وكتصديقنا بأن الأرض ساكنة أو متحركة حول نفسها وحول الشمس ويسمى أيضاً (الكسبي).

(توضيح القسمين) : أن بعض الأمور يحصل العلم بها من دون إنعام (٢) نظر وفكر فيكفي في حصوله أن تتوجه النفس إلى الشيء بأحد (٣) أسباب التوجه الآتية من دون توسط عملية فكرية كما مثلنا ، وهذا هو الذي يسمى (بالضروري أو البديهي) سواء كان تصوراً أم تصديقاً. وبعضها لايصل الإنسان إلى العلم بها بسهولة ، بل لابد من إنعام النظر وإجراء عمليات عقلية ومعادلات فكرية كالمعادلات الجبرية ، فيتوصل بالمعلومات عنده إلى العلم بهذه الأمور (المجهولات) ، ولا يستطيع أن يتصل بالعلم بها رأساً من دون توسيط هذه المعلومات وتنظيمها على وجه صحيح ، لينتقل الذهن منها إلى ما كان مجهولاً عنده ، كما مثلنا. وهذا هو الذي يسمى (بالنظري أو الكسبي) سواء كان تصوراً أو تصديقاً.

توضيح في الضروري :

قلنا : أن العلم الضروري هو الذي لا يحتاج إلى الفكر وإنعام النظر وأشرنا إلى أنه لابد من توجه النفس بأحد أسباب التوجه. وهذا ما يحتاج إلى بعض البيان :

__________________

(١) كالمعادلات الجبرية.

(٢) أنعم في الأمر : بالغ فيه وأجاد. عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «وأنعم الفكر فيما جاءك على

لسان النبي الأمي (صلى الله عليه وآله وسلم)» نهج البلاغة : الخطبة : ١٥٣.

(٣) لا يخفى : أنه لا يكفي أحدها ، لاشتراط حصول العلم بكل بديهي بالأول والثاني والرابع ، ويزيد بعض البديهيات في الاشتراط بالثالث والخامس أو أحدهما.

٢٢

فإن الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الإنسان ، لفقد سبب توجه النفس ، فلا يجب أن يكون الإنسان عالماً بجميع البديهيات ، ولا يضر ذلك ببداهة البديهي. ويمكن حصر أسباب التوجه في الأمور التالية : ـ

١ ـ (الانتباه) وهذا السبب مطّرد في جميع البديهيات (١) ، فالغافل قد يخفى عليه أوضح الواضحات.

٢ ـ (سلامة الذهن) وهذا مطّرد أيضاً ، فإنّ من كان سقيم الذهن قد يشك في أظهر الأمور أو لا يفهمه. وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي أو مرض عارض أو تربية فاسدة.

٣ ـ (سلامة الحواس) وهذا خاص بالبديهيات المتوقفة على الحواس الخمس وهي المحسوسات. فإن الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيراً من العلم بالمنظورات وكذا الأصم في المسموعات وفاقد الذائقة في المذوقات. وهكذا.

٤ ـ (فقدان الشبهة) (٢). والشبهة : أن يؤلف الذهن دليلاً فاسداً يناقض بديهة من البديهيات ويغفل عما فيه من المغالطة ، فيشك بتلك البديهة أو يعتقد بعدمها (٣).

وهذا يحدث كثيراً في العلوم الفلسفية والجدليات. فإن من البديهيات عند العقل أن الوجود والعدم نقيضان وأن النقيضين لايجتمعان ولايرتفعان ، ولكن بعض المتكلمين دخلت عليه الشبهة في هذه البديهة ، فحسب أن الوجود والعدم لهما واسطة وسماها (الحال) (٤) ، فهما يرتفعان

__________________

(١) وهي الأوليات ، الفطريات ، الحدسيات ، المتواترات ، المجربات والمشاهدات ، وسيأتي الكلام عنها في البحث عن اليقينيات ص ٢٨٢.

(٢) لا يخفى عليك : أن عد فقدان الشبهة سببا من أسباب التوجه ، لا يخلو عن تسامح ، فإنه من قبيل عدم المانع ، لا من قبيل السبب والمقتضي.

(٣) ومن هنا يعلم أن هذا السبب يختص بالتصديقات البديهية. نعم هو مطرد فيها.

(٤) بما أنها ظرف الماهية قبل اتصافها بالوجود والعدم.

٢٣

عندها. ولكن مستقيم التفكير إذا حدث له ذلك وعجز عن كشف المغالطة يردها ويقول أنها (شبهة في مقابل البديهة).

٥ ـ (عملية غير عقلية) لكثير من البديهيات ، كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب في المتواترات ، وكالتجربة في التجربيات ، وكسعي الإنسان لمشاهدة بلاد أو استماع صوت في المحسوسات وما إلى ذلك. فإذا احتاج الإنسان للعلم بشيء إلى تجربة طويلة ، مثلاً ، وعناء عملي ، فلا يجعله ذلك علماً نظريا ما دام لايحتاج إلى الفكر والعملية العقلية.

تعريف النظر أو الفكر

نعرف مما سبق أن النظر ـ أو الفكر ـ المقصود منه «إجراء عملية عقلية في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب» والمطلوب هو العلم بالمجهول الغائب. وبتعبير آخر أدق أن الفكر هو : «حركة العقل (١) بين المعلوم والمجهول» (٢).

وتحليل ذلك : أن الإنسان إذا واجه بعقله المشكل (المجهول) وعرف أنه من أي أنواع المجهولات هو ، فزع عقله إلى المعلومات الحاضرة عنده المناسبة لنوع المشكل ، وعندئذ يبحث فيها ويتردد بينها بتوجيه النظر إليها ، ويسعى إلى تنظيمها في الذهن حتى يؤلف المعلومات التي تصلح لحل المشكل ، فإذا استطاع ذلك ووجد ما يؤلفه لتحصيل غرضه تحرك

__________________

(١) راجع الحاشية : ص ١٦ وحواشيه في المقام ، وشرح الشمسية : ص ١٦ ، وشرح المنظومة : ص ٩ ، وتعليقة الأستاذ حسن زاده في المقام ، ومقدمة اللمعات (منطق نوين : ص ٣) ، وشرح الإشارات : ص ١١.

(٢) لا يخفى عليك : أن ما ذكره لا يستفاد من جملة «حركة العقل بين المعلوم والمجهول» فإن أكثر ما يستفاد منها حركتان : حركة من المجهول إلى المعلوم ، وحركة من المعلوم إلى المجهول ، وأما الحركة في المعلومات فاستفادتها من الجملة المذكورة في غاية الإشكال.

٢٤

عقله حينئذ منها إلى المطلوب ، أعني معرفة المجهول وحل المشكل.

فتمر على العقل ـ إذن ـ بهذا التحليل خمسه ادوار :

١ ـ مواجهة المشكل (المجهول).

٢ ـ معرفة نوع المشكل ، فقد يواجه المشكل ولا يعرف نوعه.

٣ ـ حركة العقل من المشكل الى المعلومات المخزونة عنده.

٤ ـ حركة العقل ـ ثانياً ـ بين المعلومات ، للفحص عنها وتأليفات ما يناسب المشكل ويصلح لحله.

٥ ـ حركة العقل ـ ثالثاً ـ من المعلوم الذي استطاع تأليفه مما عنده الى المطلوب.

وهذه الادوار الثلاثة الاخيرة او الحركات الثلاث هي الفكر او النظر ، وهذا معنى حركة العقل بين المعلوم والمجهول.

وهذه الأدوار الخمسة قد تمر على الإنسان في تفكيره وهو لا يشعر بها ، فإن الفكر يجتازها غالباً بأسرع من لمح البصر ، على أنها لا يخلو منها إنسان في أكثر تفكيراته (١) ، ولذا قلنا أن الإنسان مفطور على التفكير.

نعم من له قوة الحدس يستغني عن الحركتين الأوليين ، وإنما ينتقل رأساً بحركة واحدة من المعلومات إلى المجهول. وهذا معنى (الحدس) ، فلذلك يكون صاحب الحدس القوي أسرع تلقياً للمعارف والعلوم ، بل هو من نوع الإلهام وأول درجاته. ولذلك أيضاً جعلوا القضايا (الحدسيات) من أقسام البديهيات ، لأنها تحصل بحركة واحدة مفاجئة من المعلوم إلى المجهول عند مواجهة المشكل ، من دون كسب وسعي فكري ، فلم يحتج إلى معرفة نوع المشكل (٢) ولا إلى الرجوع إلى المعلومات

__________________

(١) وهي التفكيرات التي تصل إلى النتيجة.

(٢) يبدو أن معرفة نوع المشكل محتاج إليها في الحدس أيضا. فتأمل.

٢٥

عنده وفحصها وتأليفها (١).

ولأجل هذا قالوا : إن قضية واحدة قد تكون بديهية عند شخص نظرية عند شخص آخر. وليس ذلك إلا لأن الأول عنده من قوة الحدس ما يستغني به عن النظر والكسب ، أي ما يستغني به عن الحركتين الأوليين ، دون الشخص الثاني فإنه يحتاج إلى هذه الحركات لتحصل العلوم بعد معرفة نوع المشكل.

تمرينات

١ ـ لماذا لم يكن الوهم والشك من أقسام التصديق؟

٢ ـ اذكر خمس قضايا بديهية من عندك مع بيان ما تحتاج إليه كل منها من أسباب توجه النفس الخمسة.

__________________

(١) وبعبارة أخرى : الفكر هو الالتجاء إلى المعلومات والبحث والفحص فيها للظفر بالحد الأوسط ثم الانتقال منه إلى المطلوب. والحدس هو تجلي الحد الأوسط للإنسان وعرضه نفسه على الإنسان من دون التجاء إلى المعلومات والبحث عنه فيها ، كأن مواجهة المشكل شرارة تصيب مصباح العقل فيضئ وينور ما كان مظلما.

٢٦

٣ ـ إذا علمت بأن في الغرفة شيئاً ما ، وبعد الفحص عنه كثيراً وجدته فعلمت أنه فارة مختفية ، فهذا العلم الحاصل بعد البحث ضروري أم نظري؟

٤ ـ هل اتفق أن حصلت لك شبهة في مقابل بديهة؟ اذكرها.

٥ ـ ما الفرق بين الفكر والحدس؟

٢٧

أبحاث المنطق(١)

علم المنطق إنما يحتاج إليه لتحصيل العلوم النظرية ، لأنه هو مجموعة قوانين الفكر والبحث.

أما الضروريات فهي حاصلة بنفسها ، بل هي رأس المال الأصلي لكاسب العلوم يكتسب به ليربح المعلومات النظرية المفقودة عنده. فإذا اكتسب مقداراً من النظريات زاد رأس ماله بزيادة معلوماته ، فيستطيع أن يكتسب معلومات أكثر ، لأنّ ربح التاجر عادة يزيد كلما زادت ثروته المالية. وهكذا طالب العلم كلما اكتسب تزيد ثروته العلمية وتتسع تجارته ، فيتضاعف ربحه. بل تاجر العلم مضمون الربح بالاكتساب لا كتاجر المال.

وعلم المنطق يبحث عن كيفية تأليف المعلومات المخزونة عنده ، ليتوصل بها إلى الربح بتحصيل المجهولات وإضافتها إلى ما عنده من معلومات : فيبحث تارة عن المعلوم التصوري ويسمى (المعرِّف) ، للتوصل به إلى العلم بالمجهول التصوري ، ويبحث أخرى عن المعلوم التصديقي ويسمى (الحجة) ليتوصل به إلى العلم بالمجهول التصديقي.

والبحث عن الحجة بنحوين : تارة من ناحية هيئة تأليفها ، وأخرى من

__________________

(١) راجع الحاشية : ص ١٨ ، وشرح الشمسية : ص ٢٢ ، وشرح المطالع : ص ١٨.

٢٨

ناحية مادة قضاياها ، وهو بحث الصناعات الخمس. ولكل من البحث عن المعرف والحجة مقدمات (١). فأبحاث المنطق نضعها في ستة أبواب :

الباب الأول ـ في مباحث الألفاظ.

الباب الثاني ـ في مباحث الكلي

الجزء الأول.

الباب الثالث ـ في المعرف وتلحق به القسمة

الباب الرابع ـ في القضايا وأحكامها

الباب الخامس ـ في الحجة وهيئة تأليفها

الجزء الثاني

الباب السادس ـ في الصناعات الخمس

الجزء الثالث

__________________

(١) فمباحث الألفاظ والكلي مقدمتان لكليهما. والبحث عن القضايا مقدمة للحجة فقط.

٢٩
٣٠

الجزء الأوّل

التصوّرات

٣١

٣٢

الباب الأول

مباحث الألفاظ

٣٣

الحاجه الى مباحث الفاظ (١)

لا شك أن المنطقي لا يتعلق غرضه الأصلي إلا بنفس المعاني ، ولكنه لا يستغني عن البحث عن أحوال الألفاظ توصلاً إلى المعاني ، لأنه من الواضح أن التفاهم مع الناس ونقل الأفكار بينهم لا يكون غالباً إلا بتوسط لغة من اللغات. والألفاظ قد يقع فيها التغيير والخلط فلايتم التفاهم بها فاحتاج المنطقي إلى أن يبحث عن أحوال اللفظ من جهة عامة ، ومن غير اختصاص بلغة من اللغات ، إتماماً للتفاهم ، ليزن كلامه وكلام غيره بمقياس صحيح.

وقلنا : (من جهة عامة) لأن المنطق علم لا يختص بأهل لغة خاصة ، وإن كان قد يحتاج إلى البحث عما يختص باللغة التي يستعملها المنطقي فيما قل : كالبحث عن دلالة لام التعريف ـ في لغة العرب ـ على الاستغراق ، وعن كان وأخواتها في أنها من الأدوات والحروف ، وعن أدوات العموم والسلب وما إلى ذلك. ولكنه قد يستغني عن إدخالها في المنطق اعتماداً على علوم اللغة.

__________________

(١) راجع شرح الشمسية : ص ٢٨ ، وشرح المنظومة : ص ١١ ، وشرح المطالع : ص ٢٦.

(٢) تلويح إلى أنه قد يتحقق التفاهم بغيرها كإحضار المعاني بأنفسها ـ أي بوجوداتها الخارجية ـ وكالإشراق والإيحاء ، وكالإشارة وغيرها.

٣٤

هذه حاجته من أجل التفاهم مع غيره. وللمنطقي حاجة أخرى (*) إلى مباحث الألفاظ من أجل نفسه ، هي أعظم وأشد من حاجته الأولى ، بل لعلها هي السبب الحقيقي لإدخال هذه الأبحاث في المنطق.

ونستعين على توضيح مقصودنا بذكر تمهيد نافع ، ثم نذكر وجه حاجة الإنسان في نفسه إلى معرفة مباحث الألفاظ نتيجة للتمهيد ، فنقول.

(التمهيد) :

أن الأشياء أربعة وجودات (١) : (٢) وجودان حقيقيان (٣) ووجودان

__________________

(*) هذا البحث الى آخره ليس من منهاج دراستنا. ولكنا وضعناه للطلاب الذين يرغبون في التوسع ، حرصا على فائدتهم. هو بحث له قيمته العلمية ، لا سيما في مباحث أصول الفقه.

(١) أي لجميع الأشياء ـ على ما هو مقتضى الجمع المحلى باللام ـ فلا ينافي وجود نوع آخر أو أنواع أخر من الوجود لبعض الأشياء كالصورة الفتوغرافية أو التمثال للأجسام ، وكذا الوجود المثالي للماديات والوجود العقلي للماديات والمثاليات.

(٣) راجع شرح المنظومة : ص ١١ والجوهر النضيد : ص ٢٩ وأساس الاقتباس : ص ٦٢ ، وشرح الإشارات : ص ٢١ ، وتحصيل : ص ٣٨.

(٤) كون الوجود الخارجي وجودا حقيقيا للشئ واضح. وأما الوجود الذهني : فهو وجود حقيقي بالنظر إلى أن الوجود الذهني هي ماهية الشئ تحضر بعينها لدى الذهن ، قال الحكيم السبزواري :

للشئ غير الكون في الأعيان

كون بنفسه لدى الأذهان

فالوجود الذهني لما كان هو وجود نفس الشئ ، صح أن يقال : إنه وجود حقيقي للشئ.

هذا ، ولكن فيه : أن الموجود في الذهن مغاير للموجود الخارجي وجودا وماهية ، أما وجودا فواضح. وأما ماهية ، فلأن ما في الخارج هي حقيقة الماهية ، وباقي الذهن ليس إلا مفهومها. وبعبارة أخرى : الموجود في الذهن هي الماهية بالحمل الأولي ، وما في الخارج هي الماهية بالحمل الشائع. فالحق أن يقال : إن للأشياء أربعة وجودات : أحدها وجود حقيقي لها ، والباقي وجودات مجازية لها حاكية عنها. نعم ، تفترق هذه الثلاثة في حكايتها ، فالوجود الذهني يحكي الوجود الخارجي بذاته من دون جعل جاعل واعتبار معتبر ، وأما الآخران فهما إنما يحكيانه بالوضع والاعتبار.

فالوجود الذهني وجود الصورة الذهنية حقيقة ـ كما أن الوجود اللفظي والكتبي

٣٥

اعتباريان جعليان :

الأول ـ (الوجود الخارجي) ، كوجودك ووجود الأشياء التي حولك ونحوها ، من أفراد الإنسان والحيوان والشجر والحجر والشمس والقمر والنجوم ، إلى غير ذلك من الوجودات الخارجية التي لا حصر لها.

الثاني ـ (الوجود الذهني) ، وهو علمنا بالأشياء الخارجية وغيرها (١) من المفاهيم. وقد قلنا سابقاً : إن للإنسان قوة تنطبع فيها صور الأشياء. وهذه القوة تسمى الذهن. والانطباع فيها يسمى الوجود الذهني الذي هو العلم.

وهذان الوجودان هما الوجودان الحقيقيان. لماذا ، لأنهما ليسا بوضع واضع ولا باعتبار معتبر.

الثالث ـ (الوجود اللفظي). بيانه : أن الإنسان لما كان اجتماعياً بالطبع ومضطراً للتعامل والتفاهم مع باقي أفراد نوعه ، فإنه محتاج إلى نقل أفكاره إلى الغير وفهم أفكار الغير. والطريقة الأولية للتفهيم هي أن يحضر الأشياء الخارجية بنفسها ، ليحس بها الغير بإحدى الحواس فيدركها. ولكن هذه الطريقة من التفهيم تكلفه كثيراً من العناء ، على أنها لا تفي بتفهيم أكثر الأشياء والمعاني ، إما لأنها ليست من الموجودات الخارجية أو لأنها لا يمكن إحضارها.

فألهم الله تعالى الإنسان طريقة سهلة سريعة في التفهيم ، بأن منحه قوة على الكلام والنطق بتقاطيع الحروف (٢) ليؤلف منها الألفاظ.

__________________

وجود اللفظ والكتابة حقيقة ـ وهو وجود للشئ الخارجي مجازا ، كما أن اللفظ وجود المعنى والكتابة وجود اللفظ مجازا. لكن الوجود الذهني يحكي الخارج حقيقة أي بالذات ومن دون اعتبار من معتبر ، وأما الوجود اللفظي والكتبي ، فإنما يحكيان الشئ الخارجي بسبب الوضع والاعتبار.

(١) من الأعدام والمحالان ، أي : كالعدم والممتنع و...

(٢) أي : أنواع الحروف ، قال في المعجم الوسيط : قطع الفرس الجري : جرى ضروبا من الجري لمرحه ونشاطه.

٣٦

وبمرور الزمن دعت الإنسان الحاجة ـ وهي أم الاختراع ـ إلى أن يضع لكل معنى يعرفه ويحتاج إلى التفاهم عنه لفظاً خاصاً. ليحضر المعاني بالألفاظ بدلاً من إحضارها بنفسها.

ولأجل أن تثبت في ذهنك أيها الطالب هذه العبارة أكررها لك : (ليحضر المعاني بالألفاظ بدلاً من إحضارها بنفسها). فتأملها جيداً ، واعرف أن هذا الإحضار إنما يتمكن الإنسان منه بسبب قوة ارتباط اللفظ بالمعنى وعلاقته به في الذهن. وهذا الارتباط القوي ينشأ من العلم بالوضع وكثرة الاستعمال. فإذا حصل هذا الارتباط القوي لدى الذهن يصبح اللفظ عنده كأنه المعنى والمعنى كأنه اللفظ أي يصبحان عنده كشيء واحد ، فإذا أحضر المتكلم اللفظ فكأنما أحضر المعنى بنفسه للسامع ، فلا يكون فرق لديه بين أن يحضر خارجاً نفس المعنى وبين أن يحضر لفظه الموضوع له ، فإن السامع في كلا الحالين ينتقل ذهنه إلى المعنى. ولذا قد ينتقل السامع إلى المعنى ويغفل عن اللفظ وخواصه كأنه لم يسمعه مع أنه لم ينتقل إليه إلا بتوسط سماع اللفظ.

وزبدة المخض أن هذا الارتباط يجعل اللفظ والمعنى كشيء واحد ، فإذا وجد اللفظ فكأنما وجد المعنى. فلذا نقول : «وجود اللفظ وجود المعنى». ولكنه وجود لفظي للمعنى ، أي أن الموجود حقيقة هو اللفظ لا غير ، وينسب وجوده إلى المعنى مجازاً ، بسبب هذا الارتباط الناشئ من الوضع. والشاهد على هذا الارتباط والاتحاد انتقال القبح والحسن من المعنى إلى اللفظ وبالعكس : فإنّ اسم المحبوب من أعذب الألفاظ عند المحب ، وإن كان في نفسه لفظاً وحشياً ينفر منه السمع واللسان. واسم العدو من أسمج (١) الألفاظ وإن كان في نفسه لفظاً مستلحماً. وكلما زاد

__________________

(١) سمج سماجة وسموجة : قبح.

٣٧

هذا الارتباط زاد الانتقال ، ولذا نرى اختلاف القبح في الألفاظ المعبر بها عن المعاني القبيحة ، نحو التعابير عن عورة الإنسان ، فكثير الاستعمال أقبح من قليلة. والكناية أقل قبحاً. بل قد لا يكون فيها قبح كما كني القرآن الكريم بالفروج.

وكذا رصانة (١) التعبير وعذوبته يعطي جمالاً في المعنى لا نجده في التعبير الركيك الجافي ، فيفضي جمال اللفظ على المعنى جمالاً وعذوبة.

الرابع ـ (الوجود الكتبي). شرحه : إن الألفاظ وحدها لا تكفي للقيام بحاجات الإنسان كلها ، لأنها تختص بالمشافهين. أما الغائبون والذين سيوجدون ، فلابد لهم من وسيلة أخرى لتفهيمهم ، فالتجأ الإنسان أن يصنع النقوش الخطية لإحضار ألفاظه الدالة على المعاني ، بدلاً من النطق بها ، فكان الخط وجوداً للفظ. وقد سبق أن قلنا أن اللفظ وجود المعنى ، فلذا نقول : «أن وجود الخط وجود للفظ ووجود للمعنى تبعاً». ولكنه وجود كتبي للفظ والمعنى ، أي أن الموجود حقيقة هو الكتابة لا غير ، وينسب الوجود إلى اللفظ والمعنى مجازاً بسبب الوضع ، كما ينسب وجود اللفظ إلى المعنى مجازاً بسبب الوضع.

إذن الكتابة تحضر الألفاظ ، والألفاظ تحضر المعاني في الذهن ، والمعاني الذهنية تدل على الموجودات الخارجية.

فاتضح أن الوجود اللفظي والكتبي (وجودان مجازيان اعتباريان للمعنى) بسبب الوضع والاستعمال.

النتيجة :

لقد سمعت هذا البيان المطول وغرضنا أن نفهم منه الوجود اللفظي ،

__________________

(١) في المعجم الوسيط : رصن رصانة : ثبت واستحكم. وـ رزن. يقال : كلام رصين ورأي رصين. ورزن الشئ : كان رزينا ، أي : ثقيلا ذا وزن.

٣٨

وقد فهمنا أن اللفظ والمعنى لأجل قوة الارتباط بينهما كالشيء الواحد ، فإذا أحضرت اللفظ بالنطق فكأنما أحضرت (١) المعنى بنفسه.

ومن هنا نفهم كيف يؤثر هذا الارتباط على تفكير الإنسان بينه وبين نفسه ، ألا ترى نفسك عندما تحضر أي معنى كان في ذهنك لا بد أن تحضر معه لفظه أيضاً ، بل أكثر من ذلك تكون انتقالاتك الذهنية من معنى إلى معنى بتوسط إحضارك لألفاظها في الذهن : فإنا نجد أنه لا ينفك غالباً تفكيرنا في أي أمر كان عن تخيل الألفاظ وتصورها كأنما نتحدث إلى نفوسنا ونناجيها بالألفاظ التي نتخيلها ، فنرتب الألفاظ في أذهناننا ، وعلى طبقها نرتب المعاني وتفصيلاتها ، كما لو كنا نتكلم مع غيرنا.

قال الحكيم العظيم الشيخ الطوسي في شرح الإشارات : «الانتقالات الذهنية قد تكون بألفاظ ذهنية ، وذلك لرسوخ العلاقة المذكورة ـ يشير إلى علاقة اللفظ بالمعنى ـ في الأذهان» (٢).

فإذا أخطأ المفكر في الألفاظ الذهنية أو تغيرت عليه أحوالها يؤثر ذلك على أفكاره وانتقالاته الذهنية ، للسبب المتقدم.

فمن الضروري لترتيب الأفكار الصحيحة لطالب العلوم أن يحسن معرفة أحوال الألفاظ من وجهة عامة ، وكان لزاماً على المنطقي أن يبحث عنها مقدمة لعلم المنطق واستعانة بها على تنظيم أفكاره الصحيحة.

__________________

(١) راجع تعليقة أستاذ حسن زاده على شرح المنظومة : ص ١٠١ ، والإشارات وشرحه : ص ٢١.

(٢) الإشارات وشرحه : ص ٢٢.

٣٩

الدّلالة

تعريف الدلالة (١)

إذا سمعت طرقة بابك ينتقل ذهنك ـ لاشك ـ إلى أن شخصاً على الباب يدعوك. وليس ذلك إلا لأن هذه الطرقة كشفت عن وجود شخص يدعوك. وإن شئت قلت : إنها (دلت) على وجوده.

إذن ، طرقة الباب (دال) ، ووجود الشخص الداعي (مدلول) وهذه الصفة التي حصلت للطرقة (دلالة).

وهكذا ، كل شيء إذا علمت بوجوده ، فينتقل ذهنك منه إلى وجود شيء آخر نسميه (دالاً) ، والشيء الآخر (مدلولاً) ، وهذه الصفة التي حصلت له (دلالة).

فيتضح من ذلك أن الدلالة هي : «كون الشيء بحالة إذا علمت بوجوده انتقل ذهنك إلى وجود شيء آخر».

أقسام الدلالة (٢)

لاشك أن انتقال الذهن من شيء إلى شيء لا يكون بلا سبب. وليس

__________________

(١) راجع شرح المطالع : ص ٢٧ ، والقواعد الجلية : ص ١٩٦ ، والجوهر النضيد : ص ٤.

(٢) راجع شرح الشمسية : ص ٢٨ ، وشرح المنظومة : ص ١٣ ، وشرح المطالع ، ص ٢٦.

٤٠