الجمل

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الجمل

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٤

ونهى ويؤنس بها في كل حال وتصير بذلك كأمير العسكر وقائد الجيش الذى لا يتمكن من الاستخفاء عن أصحابه بحال وان هذا لعجيب عند من فكر فيه ، والحكم بالعصيان لله عزوجل والاطراح والاستخفاف بنواهيه غير مشكل على كل ذى عقل ومن اشتبه عليه ضلالها فهو يعد من الاموات هذا مع قول الله عزوجل : (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى) وعند كل ذى لب عرف الشرع ودان بالاسلام ان أزواج عثمان وبناته وبنات عمه من بنى امية الذين هم أمس رحما من عائشة لو كلفن ما تكلفن للقتال وان كن عاصيات خارجات عن شريف الاسلام فما ظنك بالبعيدة نسبا النائية عنه عقلا ومذهبا المقرفة على قتله الساعية في دمه الداعية إلى خلعه المانعة عن نصرته وما الذى أحدثه بعد إنكارها عليه مما يوجب رجوعها عما كانت عليه معتقدة فهل تراه أحدث عملا صالحا بعد قتله أو أحياه الله لها فسألها نصرته أم أوحى الله إليها من باطن أمره ما كان مستورا عنها ، كلا. لكن الامر فيما قصدته من حرب أمير المؤمنين (ع) وتظاهرت عليه به من عداوته كان أظهر من أن تخفيه بالعلل والاباطيل وقد أجمع أهل النقل عنها على ما ذكرناه في باطن الامر وأوضحناه في وجوه الحجاج وبيناه.

عائشة تبغض عليا :

فصل : فمن ذلك ما رواه كافة العلماء عنها انها كانت تقول : لم يزل بينى وبين على من التباعد ما يكون بين بنت الاحماء ، وقالت في خبرها عن قصة الذين رموها بصفوان بن المعطل وما كان منها في غزوة بنى المصطلق وهجر رسول الله لها واعراضه عنها واستشارته في اسامة بن

٨١

زيد قالت وكان عبدا صالحا مؤمنا وذكر له قذف القوم بصفوان فقال له اسامة لا تظن يارسول الله إلا خيرا فان المرأة مأمونة وصفوان عبد صالح ثم استشار عليا عليه السلام فقال له يارسول الله النساء عليك كثيرة سل عن الخبر بريرة خادمتها وابحث عن سر خبرها منها فقال له رسول الله فتول أنت يا على تقريرها فقطع لها علي (ع) خشبا من النخل وخلا بها يسألها ويتهددها ويرهبها لا جرم انى لا احب عليا أبدا (١).

فهذا تصريح منها ببغضها له ومقتها إياه ولم يكن منه ذلك عليه السلام إلا النصيحة لله ولرسوله واجتهاده في الرأى ونصحه وامتثاله لامر النبي صلى الله عليه وآله ومسارعته لطاعته.

ومن ذلك ما رواه كافة العلماء من حديث عكرمة وابن عباس وان عكرمة اخبره عن حديث حدثته عائشة في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله الذى توفى فيه حتى انتهت من ذلك إلى قولها فخرج رسول الله متوكئا على رجلين من أهل بيته أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر فقال

__________________

(١) روى المفسرون وأرباب الحديث قصة الافك النازل فيها قوله تعالى : (ان الذين جاؤا بالافك) الآية. وارتاحوا لتنزيه (صاحبة الجمل) عما قيل فيها ، روى ذلك البخاري (ج ٣ ـ ص ٣٣) ومسلم (ج ٢ ـ ص ٤٥٥) والخازن في تفسيره (ج ٥ ـ ص ٤٦) والبغوى بهامشه وابن جرير الطبري في التاريخ (ج ٣ ـ ص ٦٧) بالاسناد إلى عروة بن الزبير عن عائشة والى سعيد بن المسيب عنها وإلى علقمة بن وقاص عنها وإلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عنها فالمصدر لنقل الحديث عائشة فقط وأصبحت هذه الاشاعة حديث أندية المدينة؟ ذلك نبى الله صلى الله عليه وآله لانه لم يتفق ومقامه الطافح بالعظمة القدسية وهنا يقول ابن العربي الاندلسي في أحكام القرآن (ج ٢ ـ ص ٩٤) ـ

٨٢

عبد الله بن العباس لعكرمة فلم تسم لك الاخر قال لا والله ما سمته فقال أتدرى من هو؟ قال لا ، قال ذلك علي بن أبى طالب وما كانت والله امنا تذكره بخير وهى تستطيع.

والرواية المشهورة عن ابن عباس حين أنفذه أمير المؤمنين (ع) إلى عائشة وهى بالبصرة نازلة في قصر ابن خلف يأمرها بالرحيل إلى وطنها والرجوع إلى بيتها والحديث مشهور مثبت في كتب (الجمل) وغيرها أن ابن عباس قال لها ان أمير المؤمنين يأمرك أن ترتحلي إلى بيتك فقالت رحم الله أمير المؤمنين وان تربدت له وجوه ورغمت له معاطس ، هذا مع الاخبار التى لا ريب فيها ولا مرية في صحتها لاتفاق الرواة عليها أنها لما قتل أمير المؤمنين جاء الناعي فنعى أهل المدينة فلما سمعت عائشة بنعيه استبشرت وقالت متمثلة :

__________________

ـ شاور النبي صلى الله عليه وآله اسامة بن زيد وعليا (ع) في أمرها فقال له أمير المؤمنين ان الله تعالى لم يضيق عليك والنساء كثير فاسأل الجارية تصدقك ،

هذا كل ما في علبة القوم وما ادرى ولا المنجم يأرى كيف تغافل المسلمون عن نقل هذا الحادث الشائع الذى نزل القرآن في افتضاح من أشاعه فلم يذكر أحد ما روته عائشة وانفردت بنقله مع شدة حرصهم على حفظ ما لا أهمية له من الحوادث ، أكلهم تواصوا بالكتمان والعادة تبعده أم أن للقصة تخريجا آخرا ولم تكن بذلك الظهور.

نعم ، أوقفنا الشيخ الجليل الثبت علي بن ابراهيم القمى من علماء القرن الثالث على حقيقة سترتها الاحقاد فروى في تفسيره (ص ٤٥٣) عن رجال أجلاء ثقاة عن زرارة بن اعين قال سمعت الباقر (ع) يقول لما مات ابراهيم بن رسول الله حزن عليه النبي صلى الله عليه وآله فقالت له عائشة ما الذى يحزنك عليه انه ابن جريح القبطى فبعث النبي عليا ليقتله

٨٣

فان يك ناعيا فلقد نعاه

لنا من ليس في فيه التراب

فقالت لها زينب بنت أبى سلمى العلي تقولين؟ فتضاحكت ثم قالت أنسى فإذا نسيت فذكروني ثم خرت ساجدة شكرا على ما بلغها من قتله ورفعت رأسها وهى تقول (١).

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عينا بالاياب المسافر

هذا وقد روي عن مسروق انه قال دخلت عليها فاستدعت غلاما باسم عبدا لرحمن قالت عبدى قلت لها فكيف سميتيه عبد الرحمن قالت حبا لعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي.

__________________

ـ فخاف منه جريح فتسلق نخلة في بستان فانكشف ثوبه فإذا ليس له ما للرجال فرجع علي (ع) إلى رسول الله صلى الله عليه وآله واخبره بما رأى فقال صلى الله عليه وآله الحمد لله الذى صرف عنا السوء أهل البيت ثم نزلت هذه الآية : (إن الذين جاؤا بالافك) وفي ص ـ ٦٤٠ ـ من التفسير روى عن الصادق أن رسول الله كان عالما بكذبها ولكنه أراد أن يدفع القتل عن جريح وترجع المرأة عن ذنبها.

وفي شرح النهج لابن أبى الحديد (ج ٢ ـ ص ٤٥٧) كانت لعائشة جرأة على رسول الله حتى كان منها في أمر مارية ما كان من الحديث الذى أسرته إلى الزوجة الاخرى وأدى إلى تظاهرهما عليه فنزل فيهما قرآنا يتلى في المحاريب يتضمن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذنب.

ولم تخف هذه الظاهرة على شيخنا المفيد ولكنه مشى في نقل القصة عنها مع المؤرخين ليسجل عليها اعترافا بالمباينة لامير المؤمنين التى لا يستحق فيها شيئا جاء به من قبل نفسه وانما هو ممتثل أمر رسول الله في تعقيب المرأة لتعترف بالحقيقة ويستبين الحال.

(١) البيتان في تاريخ الطبري (ج ٦ ص ٨٧).

٨٤

والخبر مشهور انه لما بعث إليها أمير المؤمنين بالبصرة أن ارتحلي عن هذه البلدة قالت لا أريتم مكاني هذا فقال لها أمير المؤمنين أم والله لترتحلين أو لابعثن اليك نسوة من بكر بن وائل يأخذنك بشفار حداد فقالت لرسوله ارتحل فبالله أحلف ما كان مكان أبغض إلى من مكان يكون هو فيه ، وأمثال هذا مما لو أثبتناه لطال به الكتاب ومما يؤكد ما ذكرناه من ان غرض القوم كان في مباينة أمير المؤمنين (ع) ومظاهرته بالخلاف وانه لم يكن لاقامة حق واجتهاد ورأى في إصابة طاعة وحوز مثوبة بل كان لضغاين بينه وبينهم لاسباب سالفة وآنفة أو طمع في عاجل أو حسد له وبغي عليه.

عائشة تفرح وتحزن :

وان حكم المرأة لما ذكرناه ظاهر لذوى الاعتبار ، وما أجمع على نقله رواة الآثار ، ونقلة السير والاخبار انه لما قتل عثمان بن عفان خرج البغاة إلى الآفاق فلما وصل بعضهم إلى مكة سمعت بذلك عائشة فاستبشرت بقتله وقالت قتلته أعماله انه أحرق كتاب الله وأمات سنة رسول الله فقتله الله (١) ومن بايع الناس؟ فقال لها الناعي لم ابرح المدينة حتى أخذ طلحة بن عبد الله نعاجا لعثمان وعمل مفاتيح لابواب بيت المال ولا شك ان الناس قد بايعوه فقالت أي هذا الاصيبع وجدوك لها محسنا وبها كافيا ثم قالت شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي لاتوجه إلى

__________________

(١) في شرح النهج لابن أبى الحديد (ج ٢ ـ ص ٤٦٠) كانت عائشة أشد الناس عليه تأليبا وتحريضا فلما سمعت بقتله قالت أبعده الله وأملت أن تكون الخلافة في طلحة فتعود الامرة تيمية فلما سمعت أن البيعة تمت لعلي (ع) صاحت واعثماناه قتل عثمان مظلوما ، ونقل ذلك عن شيخه المعتزلي أبى يعقوب يوسف اللمعانى.

٨٥

منزلي فلما شدوا رحالها واستوت على مركبها سارت حتى بلغت (سرفا) موضع معروف بهذا الاسم لقيها ابراهيم بن عبيد بن ام كلاب فقالت ما الخبر؟ فقال قتل عثمان قالت قتل نعثل؟ ثم قالت اخبرني عن قصته وكيف كان أمره؟ فقال لها أحاط الناس بالدار وبه ورأيت طلحة بن عبد الله قد غلب على الامر واتخذ مفاتيح على بيوت الاموال والخزائن وتهيأ ليبايع له فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبى طالب (ع) ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره وخرجوا في طلب علي يقدمهم الاشتر ومحمد بن أبى بكر وعمار بن ياسر رحمه الله حتى أتوا عليا وهو في ببت سكن فيه فقالوا له بايعنا على الطاعة لك فتفكر ساعة فقال الاشتر يا علي ان الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس.

قال وكان في الجماعة طلحة والزبير فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي كلام قبل ذلك فقال الاشتر لطلحة قم يا طلحة فبايع ثم قم يا زبير فبايع فما تنتظران فقاما فبايعا وأنا أرى أيديهما على يد علي يصفقانهما ببيعته ثم صعد علي بن أبى طالب المنبر فتكلم بكلام لا احفظه إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد فلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم ما جرى بعدي.

فقالت يا أخا بنى بكر أنت رأيت طلحة بايح عليا؟ فقلت أي والله رأيته بايعه وما قلت إلا رأيت طلحة والزبير أول من بايعه فقالت إنا لله اكره والله الرجل وغصب علي بن أبى طالب أمرهم وقتل خليفة الله مظلوما ردوا بغالي ردوا بغالي فرجعت إلى مكة.

قال وسرت معها فجعلت تسألني في المسير وجعلت اخبرها ما كان فقالت لي هذا بعهدي وما كنت اظن ان الناس يعدلون عن طلحة مع بلائه يوم احد قلت فان كان بالبلاء فصاحبه الذى بويع ذو بلاء وعناء فقالت يا أخا بنى بكر لا تسلك غير هذا فإذا دخلت مكة وسألك لناس ما رد

٨٦

ام المؤمنين فقل القيام بدم عثمان والطلب به.

وجاءها يعلي بن منبه فقال لها قد قتل خليفتك الذى كنت تحرضين على قتله فقالت برأت إلى الله ممن قتله.

قال الآن ; ثم قال لها اظهري البراءة ثانيا من قاتله فخرجت إلى المسجد فجعلت تتبرء ممن قتل عثمان ، وهذا الخبر يصرح مضمونه عما ذكرناه من أنها لم تزل مقيمة على رأيها في استحلالها دم عثمان حتى بلغها أن أمير المؤمنين قد بويع وبايعه طلحة والزبير فقلبت الامر وأظهرت ضد الذى كانت عليه من الرأى وانه لو تم الامر لطلحة لاقامت ما كانت عليه وان طلحة والزبير كانا في الاول على عثمان وإنما رجعا عنه لما فاتهما مما كانا يأملانه من ذلك ولم يرجعا عنه لما أظهراه من بعد الندم على قتل عثمان والدعاء إلى قتله ولا رجعا عنه استبصارا بضلالة ما كانا يأملانه في ذلك وان الذى ادعته الحشوية لهم من اجتهاد الرأى. باطل ومنحل وان دعوى المعتزلة في الشبهة عليهما فيما صارا إليه من خلاف أمير المؤمنين عليه السلام ليس بصحيح.

بل الحق في ذلك ما ذهبت إليه الشيعة في تعمدها خلافه وأسباب ذلك العداوة له والشنئآن مع الطمع في الدنيا والسعى في عاجلها والميل للتأمر على الناس والتملك لامرهم وبسط اليد عليهم وان الرجلين خاصة لما أيسا من نيل ما طمعا فيه من الامر فوجدا الامة لا تعدل بأمير المؤمنين أحدا وعرفا رأى المهاجرين والانصار فمن أرادا الحظوة عنده بالبدار إلى بيعته وظنا بذلك شركاه في أمره فلما استويا بالحال من بعد وصح لهما رأيه (ع) وتحققا انهما لا يليان معه أمرا فامتحنا ذلك مع ما غلب في ظنهما مما ذكرناه بأن صارا إليه بعد استقرار الامر ببيعة المهاجرين والانصار وبنى هاشم وكافة الناس إلا من شذ من بطانة عثمان وكانوا على خفاء لاشخاصهم مخافة على دمائهم من أهل الايمان

٨٧

فصارا إلى أمير المؤمنين فطلب منه طلحة ولاية العراق وطلب منه الزبير ولاية الشام نأمسك علي عن إجابتهما في شئ من ذلك فانصرفا وهما ساخطان وقد عرفا ما كان غلب في ظنهما قبل من رأيه (ع) فتركاه يومين أو ثلاثة أيام ثم صارا إليه واستأذنا عليه فأذن لهما وكان في علية داره فصعدا إليه وجلسا عنده بين يديه وقالا يا أمير المؤمنين قد عرفت حال هذه الازمنة وما نحن فيه من الشدة وقد جئناك لتدفع الينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضى به حقوقا علينا فقال عليه السلام قد عرفتما مالي (بينبع) فان شئتما كتبت لكما منه ما تيسر فقالا لا حاجة لنا في مالك (بينبع) فقال لهما ما اصنع؟ فقالا له اعطنا من بيت المال شيئا لنا فيه كفاية فقال سبحان الله وأى يد لي في بيت المال وذلك للمسلمين وأنا خازنهم وأمين لهم فان شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك ما شئتما فان اذنوا فيه فعلت وأنى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم لكنى ابدى لكما عذرا فقالا ما كنا بالذى نكلف ذلك ولو كلفناك لما اجابك المسلمون فقال لهما ما اصنع؟ قالا قد سمعنا ما عندك ثم نزلا من العلية وكان في أرض الدار خادمة لامير المؤمنين سمعتهما يقولان والله ما بايعنا بقلوبنا وإن كنا بايعنا بألسنتنا فقال أمير المؤمنين عليه السلام (ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) فتركاه يومين آخرين وقد جائهما الخبر باظهار عائشة بمكة ما أظهرته من كراهة أمره وكراهة من قتل عثمان والدعاء إلى نصره والطلب بدمه وان عمال عثمان قد هربوا من الامصار إلى مكة بما احتجبوه من أموال المسلمين ولخوفهم من أمير المؤمنين ومن معه من المهاجرين والانصار وان مروان بن الحكم بن عم عثمان ويعلى بن منبه خليفته وعامله كان باليمن وعبد الله بن عامر بن كريز ابن عمه وعامله على البصرة وقد

٨٨

اجتمعوا مع عائشة وهم يدبرون الامر في الفتنة ، فصار إلى امير المؤمنين عليه السلام وتيمما وقت خلوته فلما دخلا عليه قالا يا امير المؤمنين قد استأذناك للخروج في العمرة لانا بعيدان العهد بها إئذن لنا فيها فقال والله ما تريدان العمرة ولكنكما تريدان الغدرة ، وانما تريدان البصرة فقالا اللهم غفرا ما نريد إلا العمرة فقال عليه السلام احلفا لى بالله العظيم انكما لا تفسدان علي امر المسلمين ولا تنكثان لى بيعة ولا تسعيان في فتنة فبذلا السنتهما بالايمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك فلما خرجا من عنده لقيهما ابن عباس فقال لهما اذن لكما امير المؤمنين؟ قالا نعم.

فدخل على أمير المؤمنين فابتداه عليه السلام فقال يا ابن عباس أعندك الخبر قال قد رأيت طلحة والزبير فقال (ع) انهما استأذناني في العمرة فأذنت لهما بعد ان استوثقت منهما بالايمان ان لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فسادا والله يا ابن عباس وانى اعلم انهما ما قصدا إلا الفتنة فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربى فان يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك وسيفسدان هذان الرجلان علي امرى ويسفكان دماء شيعتي وانصاري.

قال عبد الله بن عباس إذا كان ذلك عندك يا امير المؤمنين معلوما فلم اذنت لهما وهلا حبستهما واوثقتهما بالحديد وكفيت المسلمين شرهما.

فقال له عليه السلام يا ابن عباس اتأمرنى بالظلم ابدأ وبالسيئة قبل الحسنة واعاقب على الظنة والتهمة واوآخذ بالفعل قبل كونه كلا والله لا عدلت عما اخذ الله على من الحكم والعدل ولا ابتدأ بالفصل. يا ابن عباس اننى اذنت لهما واعرف ما يكون منهما ، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لاقتلنهما ولاخيبن ظنهما ولا يلقيان من الامر مناهما وان الله يأخذهما بظلمهما لى ونكثهما بيعتى وبغيهما على وهذا الخبر والذى تقدم مع ما ذكرناه من وجودهما في اثر مصنفات اصحاب السيرة وقد اورده

٨٩

ابو مخنف لوط بن يحي في كتابه الذى صنفه في حرب الجمل وجاء به الثقفى عن رجال الكوفيين ، والشاميين ، وغيرهم ولم يورد احد من اصحاب الآثار نقيضه في معناه ولا ثبت ضده في فحواه ، ومن تأمل ذلك علم ان القوم لم يكونوا فيما صنعوه على جميل طوية في الدين ولا للمسلمين ، وان الذى اظهروه من الطلب بدم عثمان انما كان تشبيها وتلبيسا ، على العامة والمستضعفين ولولا ما جعلوه من شعارهم بدعوى الانتصار بعثمان ، والتظاهر بتظليم قاتليه وخاذليه والندم على ما فرط منهم فيه لما اختلف اثنان من العلماء واتباعهم في صواب رأى المسلمين مما كان في عثمان وانهم انما اجتمعوا على خلعه وقتله باستحقاقه ذلك بالاحداث التى احدثها في الدين ولكنهم ضلوا بما اظهروه وافسدوا افسادا عظيما بما اظهروه ، ولم يثر المستضعفين في هذا الباب إلا لنأيهم عن معرفة الاخبار وتدبر الاثار واشتبه الامر فيه على جماعة النظار بجهلهم بما اثبتناه في ذلك من الحديث ، وبعدهم عن معرفة طرقه ولعل جمهورهم لم يسمع بشئ منه فضلا عن تدبره وكل من ضل عن سبيل الحق إنما ضل بالتقليد ، وحسن الظن بمن لا يحسب حسن الظن لله فيه واعتقاد فضل من قد خرج عنه بسوء الرأى ، وطريق الانصاف ، فيما ذكرناه والنظر فيما وصفناه والتأمل لما اثبتناه من الاخبار فيه وشرحناه والرجوع إلى اهل السير وإلى اختلافهم في الآراء والمذهب وإلى كتبهم المصنفة في الفتن تعرف ذلك منهما ومن تدبر الامر يجده على ما وصفناه والله ولى التوفيق.

براءة أمير المؤمنين من الدم :

باب آخر في القول فيما يتصل بالمقدم من الكلام في معانيه ثم قد اشتبه الامر في رأى امير المؤمنين عليه السلام ومذهبه في حصر عثمان

٩٠

وقتله وتشعب اقوال المختلفين في ذلك ، فلم احد أحدا من متكلمي اصحابنا الامامية حصر القول في ذلك ، ولا كلاما في معناه يوضح عن الغرض الملتبس على العقلاء وكان كل فريق عدا الامامية من اهل القبلة يقولون في ذلك بظن أو ترجيم ، ولا يضع يده في شئ منه على معرفة ويقين ، والذى تدل الدلائل عليه من رأى أمير المؤمنين (ع) فيما صنعه القوم بعثمان من الحصار ومطالبته بالخلع ، ومنعه الطعام والشراب ، لعدم الاجابة لهم على ما دعوه إليه من اعتزال الامر ثم الهجوم عليه بالقتل والقائه على بعض المزابل لا يريدون الصلوة عليه ولا الدفن له ويمنعون من ذلك على ما اجمعت عليه رواة الآثار والاخبار والمتفق على صحته العلماء بالسير من الآثار فقد كره (ع) لجملة من ذلك وعتزل القوم فيه غير انه لم يواط على كراهة غيره ، على نيته فيه ولا وافق سواه من مخالفيه على طويتهم في معناه ، وذلك انه عليه السلام لم يشرع مع القوم في دعاء عثمان إلى الاعتزال ، ولا رأى ما رأوه من حصاره وما ولى ذلك من افعالهم به وانه عليه السلام علم عاقبة الامر في ذلك وتحققها ولم يخف عليه ما يكون في مستقبل الاوقات في الفتنة بذلك ، والاختلاف والحروب ، وسفك الدماء ، فان مخالفيه لقديم العداوة له والبغضاء منهم له (ع) والشنئآن والحسد والبغى عليه بالطغيان سيقرفونه بقتل عثمان ، والسعى في دمه بهتانا له في ذلك على ما ذكرناه من الظغناء في الدين البعداء عن علمه ، ولم يصر إلى الاعتزال مما صنعه القوم بالرجل لولائه ولاعتقاد الجميل فيه ، وكيف يكون اعتزاله لهم فيما رأوه من خلعه وحصره وقتله واعتقاد الحق له عليهم وثبوت إمامته بحكم الله في ذلك كما ظنه اولياء الرجل وهو عليه السلام يعلم انه مظلوم بدفعه عن الامر بعد النبي صلى الله عليه وآله وتقدم عليه من لا يستحق ذلك والتصغير من شأنه والحط بذلك له عن قدره والاغراء في السعاية

٩١

بذلك في حجد فضله وإنكار فضله وتظلمه من القوم جميعا في مقام على التلويح والتصريح والتحقيق والتعريض.

بقوله (ع) اللهم انى استعديك على قريش فانهم ظلموني ومنعوني حقى وصغروا شأني ومنعوني حقى اي ار في مقام مشهور.

وقوله (ع) في مقام آخر اللهم اجز قريشا عنى الجوازى فقد ظلموني ومنعوني حقى وصغروا شأني ومنعوني ارثى.

وقوله (ع) في مقام آخر لم ازل مظلوما منذ قبض رسول الله.

وقوله (ع) اللهم اجز عمرا لقد ظلم الحجر والمدر.

وقوله (ع) والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لقد عهد النبي صلى الله عليه وآله إلي ان الامة ستغدر بك من بعدى.

وقوله (ع) في مقام آخر لما قبض الله نبيه لم يكن يرى أحدا بهذا الامر منا اهل البيت حتى قوى عليه غيرنا فابتزنا حقنا منه.

وقوله (ع) لما مضى نبينا صلى الله عليه وآله وتقلدها ابو بكر والله ليعلم إنى اولى بها منه كقميصي هذا وقبض قميصه بيده.

وقوله صلى الله عليه وآله في خطبته المشهورة اما والله لقد تقمصها ابن قحافة وانه ليعلم ان محلى منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلى الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت ارتأى بين ان اصول بيد جذاء ، أو اصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن ، حتى يلقى ربه فرأيت ان الصبر على هاتا احجى فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، ارى تراثي نهبا ، حتى إذا حضر أجله جعلها في صاحبه عمر فيا عجبا بينا هو يستقبلها في حيوته إذ عقدها لآخر بعد وفاته.

وفي كلامه المشهور حتى انتهى إلى الشورى فذكر عمر وقال فجعلها شورى في ستة! زعم إنى احدهم فيالله وللشورى متى اختلج الريب

٩٢

في مع الاولين حتى صرت اقرن إلى هذه النظائر.

ثم انتهى في كلامه إلى بيعة عثمان فذكر عبد الرحمن في اختياره لعثمان عليه وقال ونهض واحد لضغنه ومال الآخر لصهره وكان عبد الرحمن صهرا لعثمان على اخته في الكلام الثابت في الخطبة إلى آخرها

وقوله (ع) في اول خطبة خطبها بعد قتل عثمان وبيعة الناس له قد مضت امور كنتم فيها غير محمودي الرأى اما لو اشاء لقلت ولكن عفا الله عما سلف سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه وفرجه يا ويله لو قص جناحه وقع رأسه لكان خيرا له حتى انتهى إلى قوله وقد اهلك الله فرعون وهامان وقارون.

فيما يتصل بهذه الخطبة إلى آخرها.

وقوله (ع) عند بيعة عبد الرحمن لعثمان يوم الشورى والله ما املت إلا ما أمل صاحبك من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم (١) ثم انصرف في امثاله لهذا الكلام كثيرا ان قصدنا إثباته لطال به الكتاب وفي ثبوت النص على امير المؤمنين بالامامة في القرآن والاخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وآله اوضح دليل على انه (ع) لم يكن قاضيا بتقديم أحد عليه في مقام النبوة ولا مصوبا لهم في ادعاء الامامة فكيف وقد تظافرت الاخبار بما ذكرناه ومما كشف به عن عقيدته فيه ورأيه في القوم على ما بيناه ولو لم يكن نص عليه بالامامة ولا ورد عنه مقال في إنكار ما صنعه القوم في التقديم عليه في الامر لكان الدليل القاهر على فضله (ع) بثبوته عن جماعتهم بذلك كافيا في كراهة امرهم وإنكاره عليهم ولو فسد الطريق في ذلك اجمع واشتبه الامر فيه لم يعترض ريب في إنكاره احداث عثمان بن عفان التى اجمع على إنكارها المهاجرون والانصار والتابعون باحسان وما تظاهرت به الاخبار من

__________________

(١) تقدم بيان هذا المثل.

٩٣

مواليه (ع) على الانكار في مقام بعد مقام.

ما نقم به على عثمان :

ألا ترى إلى ما جاءت به الاخبار من إنكاره (ع) ادراء الحد عن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وقد استحق القود بقتله الهرمزان ومن قتل معه من اهل العهد بغير حق بمقتضى شريعة الاسلام ولما طالبه القوم للقود منه تعلل عثمان تارة بأن اباه قتل ولا يرى قتله اليوم لئن لا يجترأ المسلمون بذلك وتواتر عليهم الهموم والغموم ولما خاف من الاضطراب له والفساد فرد عليه امير المؤمنين (ع) هذا الرأى وأعلمه ان حدود الله لا تسقط ولا يجوز تطبيقها بمثل هذا الاعتلال (١) فعدل عثمان إلى تعلل آخر بأن في إسقاط الحد عن ابن عمر خلافا على رأى امير المؤمنين فيه ومضادته فيما دعاه إليه واشار به عليه في حكم الله تعالى وقال الهرمزان رجل غريب لا ولي له وانا ولي من لا ولي له وقد رأيت العفو عن قاتله فقال له امير المؤمنين ليس للامام ان يعفو عن حق يتعلق بالمخلوقين إلا ان يعفو الاولياء عنه وليس له ان يعفو عن ابن عمر ولكن ان اردت ان تدرأ الحد عنه فأد الدية إلى المسلمين الذين عم اولياء الهرمزان أو اقسمها مع ما في بيت المال على مستحقه فلما رأى امير المؤمنين دفاع عثمان عن الحد الواجب في حكم الله وتعلله في ذلك قال له اما انت فلمطالب بدم الهرمزان يوم يعرض

__________________

(١) في صحيح البخاري (ج ٢ ـ ص ٢٦٢) وصحيح مسلم (ج ٢ ـ ص ٣٢) والمستدرك عليهما للحاكم (ج ٤ ـ ص ٣٧٩) ومسند احمد (ج ٣ ـ ص ٣٨٦) وسنن ابى داود والسجستاني (ج ٤ ـ ص ١٣٢) ان النبي صلى الله عليه وآله قال الحدود لا تسقط بحال فلم يقبل شفاعة احد في سارقة الحلى حتى قطع يدها.

٩٤

الله الخلق للحساب واما انا فاقسم بالله فانني لان وقعت عينى على عبيد الله بن عمر لاخذت حق الله منه وان رغم انف من رغم فاستدعى عثمان عبيد الله ليلا وأمره بالهرب من أمير المؤمنين (ع) فخرج من المدينة ليلا وقد أصحبه عثمان كتابا أقطعه فيه قرية من قرى الكوفة وهى (كويفة ابن عمر) فلم يزل بها حتى ولي أمير المؤمنين (ع) فكان من جملة المعاندين له واجتهد في حربه مع جند الشام فقتله الله بغيضه ولقاه أعماله وكفى المسلمين شره.

ولما ورد أهل الكوفة يتظلمون من الوليد بن عقبة بن أبى معيط ويشهدون عليه بشرب الخمر وسكره وصلوته فيها بالناس الفجر وهو سكران وانه قاء بالخمر ونام في موضعه حتى حمل منه وجعل مواضع القرآن شعرا مشهورا ، فاغتاظ عثمان من الشهود وتغير عليهم وأمر بضربهم فصاروا إلى أمير المؤمنين (ع) يشكون إليه أمرهم وما حل بهم من عثمان فقام (ع) حتى دخل عليه فلما رآه عثمان قال ما لك يا ابن أبي طالب أحدث أمر؟ قال نعم حدث أمر عظيم ، قال وما ذاك؟ قال عطلت الحدود وضربت الشهود ، فقال عثمان فما ترى؟ قال أرى أن تعزل أخاك عن الكوفة وتستدعيه وتقيم عليه الحد قال أنظر في هذا (١).

ولما كان من إنكار أبي ذر وإجداث عثمان ما كان ودخل عليه في بعض الايام وعنده قوم يمدحونه بالاباطيل فأخذ بيده كفا من التراب وضرب وجوههم فقال له عثمان ويلك ما هذا تضرب وجوه المسلمين بالتراب قال انه لم أفعل إلا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله إذا رأيتم

__________________

(١) ابن الاثير (ج ٣ ـ ص ٤٠) حوادث سنة ٣٠ ، والاغاني (ج ١ ـ ص ٢٠ وج ٤ ص ١٧٦) وتاريخ اليعقوبي (ج ٢ ـ ص ١٤٢).

٩٥

المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وقد رأيت هؤلاء يتقربون بالاباطيل اليك ويمدحونك بما ليس فيك فقال عثمان كذبت فهو إذا يكذبه ويغلظ له في القول وأبو ذر يخاصمه إذ دخل أمير المؤمنين فقال له عثمان يا علي أما ترى هذا الكذاب كيف يكذب على رسول الله فقال له علي إنزل له يا عثمان فيما قال بمنزلة مؤمن آل فرعون قال الله تعالى (إن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم) فغضب عثمان وقال اسكت بفيك التراب فجثا (ع) على ركبتيه ثم قال بل بفيك التراب سيكون (١) ولما حضر الوليد لاقامة الحد عليه أخذ عثمان السوط فألقاه إلى من حضر من الصحابة وقال وهو مغضب من شاء منكم فليقم الحد على أخي فأحجم القوم عن ذلك فنهض أمير المؤمنين (ع) وبيده السوط إلى الوليد فلما رآه الوليد يقصد نحوه ليضربه نهض من موضعه لينصرف فبادر إليه فقبضه وشتمه الوليد فسبه علي (ع) بما كان أهله وتعتعته حتى أثبت إقامة الحد عليه فاستشاط عثمان من ذلك وقال له ليس لك أن تعنفه يا علي ولا لك أن تسبه فقال له عليه السلام بل لي أن أقهره على الصبر على الحد وما سببته إلا لما سبني بباطل وقلت فيه حقا ثم ضربه بالسوط وكان له رأسان أربعين جلدة في الحساب بثمانين فحقدها عليه عثمان.

ولما رود عثمان طريد رسول الله وهو الحكم بن أبى العاص الذى لعنه الله وقد كان نفاه النبي من المدينة إلى الطائف وذلك انه كان يؤذى النبي حتى بلغ من أذاه له انه كان يتسلق على حائط بيته ليراه مع ازواجه فضربه صلى الله عليه وآله وهو متطلع عليه ولما وقعت عيناه في عينه كلح في وجه النبي ثم نزل وكان النبي إذا مشى مشى خلفه الحكم يتخلع في مشيته يحكيه وكان من رسول الله صلى الله عليه وآله التفاتة إليه فقال له كن كما

__________________

(١) راجع تاريخ اليعقوبي (ج ٢ ـ ص ١٤٨) ط النجف.

٩٦

أنت فلا يقدر على المشي بعدها إلا مخلجا وكان يقف نصب عينه فإذا تكلم صلى الله عليه وآله يذكر شيئا من الوحى إليه وشرع لامته من الدين شيئا ووعظهم وأنذرهم أو وعدهم أو رغبهم وعلم شيئا من الحكم لوى شدقيه في وجهه يحكيه ويعيب به فلما طال ذلك منه على رسول الله وقد كان يداري قومه من قبل بالصبر عليه فنفاه إلى الطائف وأباح دمه متى وجد بالمدينة وقضى رسول الله والحكم مطرودا فلما ولي أبو بكر جاءه عثمان فسأله في رده فامتنع عليه وقال له قد مضى رسول الله ولم يأذن له في الرد فاني لا أرده فلما مات أبو بكر وولي عمر جاءه عثمان يسأله في رده فقال له لقد كنت سألت رسول الله في ذلك فلم يجبك وسألت أبا بكر فلم يجبك ولست أرى إجابتك إلى ما سألت فأمسك يا عثمان فاني لا اخالف صاحبي (١).

ولما ولي عثمان الامر استدعاه من الطائف إلى المدينة وآواه وحباه وأعطاه وقطعه المربد بمدينة الرسول فعظم ذلك على المسلمين وقالوا آوى طريد رسول الله وحباه وأعطاه وصاروا إلى أمير المؤمنين (ع) فسألوه أن يكلمه في إخراجه عن المدينة ورده إلي حيث نفاه النبي فجاءه أمير المؤمنين وقال له قد علمت يا عثمان ان النبي قد نفى هذا الرجل عن المدينة ولم يرده وان صاحبيك سلكا سبيله في تبعيده واتبعا سنته في ذلك وقد عظم على المسلمين ما صنعت في رده وإيوائه فاخرجه عن المدينة واسلك في ذلك سنة النبي صلى الله عليه وآله فقال يا علي قد علمت مكان هذا الرجل مني وانه عمي وقد كان النبي صلى الله عليه وآله أخرجه عن المدينة لبلاغه ما لم يصلح عليه وقد مضى النبي لسبيله ورأى أبو بكر وعمر ما رأياه وأنا أرى أن أصل رحمي وأقضي حق عمي وهو ليس شر أهل

__________________

(١) الاصابة لابن حجر (ج ١ ـ ص ٣٤٥) والاستيعاب بهامشها ص ٣١٧.

٩٧

الارض وفي الناس من هو شر منه.

فقال (ع) والله لئن بقيت يا عثمان ليقول الناس فيك ما هو شر من هذا

ولما كان من عثمان من تفريق ما في بيت المال على أوليائه وأقربائه واخراج خمس مال افريقية إلى مروان بن الحكم وتسويغه إياه (١) وجائه زيد بن ثابت بماءه الف درهم من بيت المال واقطاعه من أقطع من أرض المسلمين واجازته الشعراء بكثير من مال المسلمين أعظم المسلمون ذلك وفزعوا إلى علي (ع) فدخل عليه ووعظه وذكر له ما عليه المسلمون من إنكاره بما عمله فسكت عثمان ولم يجبه بحرف فلما طال على أمير المؤمنين سكوته قال له بماذا أرجع إلى المسلمين عنك؟ ألك عذر فيما فعلت؟ قال انصرف يا ابن أبي طالب فسأخرج إلى المسجد وتسمع مني جواب ما سألت عنه.

ثم خرج عثمان بعد وقت العصر حتى صعد المنبر واجتمع المسلمون لسماع كلامه فقال : معشر الناس قد بلغني خوضكم في بري أهل بيتي ووصلي لهم وحباى لمن حبوت من أهلي وأوليائي وأقربائي ان رسول الله من بني هاشم فحبا أهله ووصلهم وجعل لهم الخمس نصيبا ووفره عليهم ونحلهم صفو الاموال وأغناهم عن السؤال وان أبا بكر حبا أهله وخصهم بما شاء من المال وان عمر حبا بني عدى واصطفاهم وخصهم بالاكرام والاعظام وأعطاهم ما شاء من المال وان بني امية وعبد شمس اهلي وخاصتي وأنا أخصهم بما شئت من المال أما والله لو قدرت على مفاتيح الجنة لسلمتها إلى بني امية على رغم أنف من رغم.

ققام عمار بن ياسر فأخذ بطرف أنفه وقال والله ان أنفي اول انف يرغم بذلك.

__________________

(١) في البداية لابن كثير (ج ٧ ـ ص ١٥٨) ان عثمان اعطى آل مروان الفي دينار وعشرين الف دينارا.

٩٨

وتفرق المسلمون على سخط من مقالته وجاءه خزان بيت المال فالقوا المفاتيح بين يديه وقالوا لا حاجة لنا فيها وأنت تصنع في أموال الله ما تصنع.

ولما كتب المسلمون كتابا يذكرون فيه ما ينكرون من احداثه التمسوا من يوصله إليه ليقف عليه فيرجع عن ذلك أو يعرفون رأيه فيه فوقع اختيارهم على عمار بن ياسر رحمه الله فضمن لهم عرض الكتاب عليه واخذه واستأذن عليه حاجبه في إيصاله إليه فأذن له فدخل عليه وقد لبس ثيابه وهو يلبس خفيه فقال له مرحبا بك يا عمار فيما جئت؟ قال جئتك بهذا الكتاب فاخذه من يده فلما قرأه تغير واستشاط غضبا وقال له يا عاض بظرامه أنت تجترى علي وتلقاني بما أكره ووثب إليه فدفعه حتى انصرع على الارض وداس بطنه وعورته حتى اغمي عليه فلم يصل الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة وعرف المسلمون ذلك فأنكروه.

وقال فيه أمير المؤمنين ما هو مشهور ، وروى ذلك محمد بن اسحق عن الزهري وابو حذيفة القرشي عن رجاله وغيرهما من اصحاب السير وقد كان من أمير المؤمنين (ع) له وعظ مشهور في مقامات اخر وكان بينه وبينه هنات ومهاجرات ومباينات في أوقات متفرقات.

فمن ذلك ما رواه ابو حذيفة القرشي قال حدثني اسحق بن محمد قال حدثني الحسن بن عبد الله عن عبيد الله بن عباس عن عكرمة قال كان بين عثمان بن عفان وبين علي (ع) كلام على عهد عمر بن الخطاب فقال له ما تقول في فما ذنبي والله ما تحبكم قريش أبدا بعد سبعين رجلا قتلتم منهم يوم بدر كأنهم شنوف الذهب.

٩٩

علي ينصح عثمان :

وروى المدائني عن علي بن صالح قال ذكر ابن داب قال لما عاب الناس على عثمان ما عابوا كلموا عليا فيه فدخل عليه وقال ان الناس ورائي قد كلموني فيك فوالله ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه انك لتعلم ما نعلم ما سبقناك إلى شئ فنخبرك عنه ولا خلونا بشئ فنبلغكه وقد رأيت كما رأينا وسمعت كما سمعنا وصبحت رسول الله صلى الله عليه وآله كما صحبنا وما ابن أبي قحافة ولا ابن أبي الخطاب بأولى بشئ من عمل الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله وقد نلت من صهره ما لا ينالا ولا سبقاك إلى شئ فالله الله في نفسك فانك والله لا تبصر من عمى ولا تعلم من جهل وان الطريق لواضح بين وان أعلام الدين لقائمة تعلم يا عثمان ان أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى وهدي فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة فوالله ان كلا لبين وان السنن لقائمة لها أعلام وان البدع لظاهرة لها أعلام وان شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به فأمات سنة معلومة وأحي بدعة متروكة وإنى سمعت رسول الله يقول : يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم وإنى أحذرك الله واحذرك سطوته ونقماته فان عذابه شديد أليم واحذرك أن تكون إمام هذه الامة المقتول فانه كان يقال يقتل في هذه الامة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتلبس امورها عليها وتنشب الفتن فلا يبصرون الحق لعلو الباطل يموجون فيها موجا ويمرجون فيها مرجا.

فقال له عثمان كلم الناس في أن يؤجلوني حتى أخرج إليهم من مظالمهم فقال (ع) ما كان في المدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله

١٠٠