الجمل

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الجمل

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٤

وولى الدبر يوم التقى الجمعان فقال له عثمان أما والله لئن وليتها لاردنك إلى ربك الاول ، ولما صفق عبد الرحمن يده على يد عثمان نهض أمير المؤمنين (ع) وقال مال الرجل إلى صهره ونبذ دينه وراء ظهره وأقبل على عبد الرحمان فقال والله ما أملت منه إلا ما أمل صاحبك من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم (١) وانصرف مظهرا للتنكير على عبد الرحمن واعتزل بيعة عثمان فلم يبايعه حتى كان من أمره مع المسلمين ما كان وقد عرفت الخاصة والعامة ما أظهره أمير المؤمنين (ع) من كراهته من تقدم عليه وتظلمه منهم.

فقال في مقام بعد مقام : اللهم انى أستعيدك على قريش فانهم ظلموني حقى ومنعوني ارثى وتمالؤا على.

وقال (ع) لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله.

وقال وقد عهد إلى رسول الله ان الامة ستغدر بى من بعده.

وقال اللهم أجز قريشا عنى الجوازى فقد قطعت رحمى ودفعتني عن حقى وأغرت بى سفهاء الناس وخاطرت بدمى (٢).

خطبة علي يوم البيعة :

فصل : ولما أفضى الامر إليه رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال

__________________

(١) في تاج العروس (ج ٩ ـ ص ٧٩) بمادة نشم ان امرأة صنعت لزوجها طيبا تطيب به ثم أنها صادفت رجلا فطيبته فلقيه زوجها فشم طيب زوجته فقتله فاقتتل الحيان من أجله فضرب به المثل وقالوا أشأم من عطر منشم ، وقيل ان المنشم حب عطر شاق الدق وهو سم ساعة وفيه يقول زهير :

تداركتما عبسا وذبيان بعدما

تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم (٢)

(٢) البيان والتبيين (ج ٢ ـ ص ٥٢) ط سنة ١٣٣٢ هج‍

٦١

قد كانت امور كثيرة لم تكونوا عندي فيها محمودين أما انى لو أشاء لقلت عفى الله عما سلف سبق الرجلان ، وقام الثالث كالغراب همته بطنه وفرجه ، يا ويحه لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له.

إلى آخر الخطبة وفيها عجائب من فصيح الكلام وغرائبه والعلماء متفقون عليها عنه (ع) وقد ذكرها أبو عبيدة معمر بن المثنى وفسر غريب الكلام فيها وأوردها المدايني في كتبه وذكرها الجاحظ مع نصبه وعداوته لامير المؤمنين (ع) في كتابه الموسوم (بالبيان والتبيين) (١).

الشقشقية :

فاما خظبته عليه السلام التى رواها عبد الله بن عباس فهى أشهر من أن ندل عليها لشهرتها وهى التى يقول (ع) في أولها :

والله لقد تقمصها ابن أبى قحافة وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلى الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا.

أرى تراثي نهبا فصبرت وفى العين قذى ، وفى الحلق شجى ، إلى قوله (ع) : فجعلني عمر سادس ستة زعم انى أحدهم فيالله وللشورى متى اعترض الريب في مع الاول منهم حتى صرت اقرن إلى هذه النظائر ولكني أسففت إذا سفوا ، وطرت إذا طاروا ، في كلام طويل اختصرناه ههنا (٢) فدل ما ذكرناه عنه عليه السلام على كراهيته من

__________________

(١) ذكر ابن أبى الحديد في شرح النهج (ج ٢ ـ ص ٤٩٦) ان الاخبار قد تواترت عنه عليه السلام في هذا وذكر ما نص عليه المفيد.

(٢) ذكر شيخنا الحجة الشيخ هادى آل كاشف الغطاء قدس سره في رسالته مدارك نهج البلاغة ص ٧٠ المطبوعة مع مؤلفه المستدرك ـ

٦٢

تقدم عليه ، وإنكاره ما صنعوه في ذلك ، وخصومنا لعنادهم الحق وتجاهلهم يجعلون الاخبار الشاذة في كراهة نفر معدودين لبيعة أمير المؤمنين (ع) قدحا في إمامته ولا يجعلون ما ذكرناه من خلاف وجوه المسلمين وعامة المؤمنين والانصار والمهاجرين في إمامة الثلاثة النفر المذكورين حجة في بطلانها ولا انكارهم لذلك وكراهتهم لها قدحا فيها ويدعون مع ذلك بعجبهم وجرأتهم وقلة أمانتهم إجماع الامة عليهم (ان هذا هذا لشئ عجاب) مع انى مثبت طرفا من الاخبار التى جاءت ببيعة أمير المؤمنين (ع) وانها كانت على وفاق ما ذكرت في أول الباب من الرغبة إليه في قبولهما منهم والايثار لتقدمه عليهم والاختيار ما قصدنا به الايضاح عنه من ثبوت إمامته على اصول الموافقين من شيعته والمخالفين لهم في ذلك حسب ما بيناه ان شاء الله تعالى.

امتناع علي من البيعة :

فمن روى خبر البيعة وما كانت عليه الحال أبو مخنف لوط بن يحيى الازدي في كتابه المصنف في حرب البصرة عن سيف بن عمر عن محمد ابن عبد الله بن سوادة وطلحة بن الاعلم وابنى عثمان أجمع قالوا بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب العكى (١) والناس يلتمسون من يجيبهم لهذا الامر فلا يجدون فيأتى المصريون عليا فيختبئ عنهم ويلوذ بحيطان المدينة فإذا لقوه يأبى عليهم ، قال وروى اسحق بن راشد عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن ابن اثرى

__________________

ـ على نهج البلاغة اقوال العلماء في الاعتراف بوجود الخطبة الشقشقية في مؤلفات كتبت قبل أن يوجد السيد الرضى وأبوه فراجعه فانه نافع جدا.

(١) الطبري (ج ٥ ـ ص ١٠٣ وص ١٥٥).

٦٣

قال ألا احدثك بما رأت عيناى وسمعت اذناى لما التقى الناس عند بيت المال قال على (ع) لطلحة أبسط يدك ابايعك فقال طلحة أنت أحق بهذا الامر منى وقد اجتمع لك من هؤلاء الناس (١) لم يجتمع لي فقال له (ع) ما خشينا غيرك فقال طلحة لا تخشى فوالله لا تؤتى من قبلي وقام عمار بن ياسر والهيثم بن التيهان ورفاعة بن أبى رافع ومالك بن عجلان وأبو أيوب خالد بن زيد فقالوا لعلي (ع) ان هذا الامر قد فسد وقد رأيت ما صنع عثمان وما أتاه من خلاف الكتاب والسنة فابسط يدك لنبايعك لتصلح من أمر الامة ما قد فسد فاستقال علي (ع) وقال قد رأيتم ما صنع بى وعرفتم رأى القوم قلا حاجة لي فيهم فاقبلوا على الانصار وقالوا يا معاشر الانصار أنتم أنصار الله وأنصار رسوله وبرسوله أكرمكم الله وقد علمتم فضل علي وسابقته في الاسلام وقرابته ومكانته من النبي صلى الله عليه وآله وان ولي بنى لكم خيرا فقال القوم نحن أرضى الناس به ما نريد به بدلا ثم اجتمعوا عليه وما يزالوا به حتى بايعوه.

وباسناده عن ابن أبى الهيثم بن التيهان ; قال يا معشر الانصار قد عرفتم رأيي ونصحى ومكاني من رسول الله صلى الله عليه وآله واختياره إياى فردوا هذا الامر إلى أقدمكم اسلاما ولولاكم برسول الله صلى الله عليه وآله لعل الله أن يجمع به إلفتكم ويحقن به دماءكم فأجابه القوم بالسمع والطاعة

وروى سيف عن رجاله قال اجتمع الناس إلى علي وسألوه ان ينظر في امورهم وبذلوا له البيعة فقال لهم التمسوا غيرى فقالوا له ننشدك الله أما ترى الفتنة ألا تخاف الله في ضياع هذه الامة فلما ألحوا عليه قال لهم انى لو أجبتكم حملتكم على ما أعلمه وان تركتمونى كنت لاحدكم قالوا قد رضينا بحكمك وما فينا مخالف لك فاحملنا على ما تراه ثم بايعته الجماعة.

__________________

(١) الطبري (ج ٥ ـ ص ١٥٦).

٦٤

بيعة طلحة والزبير :

وروى أبو إسحاق بن ابراهيم بن محمد الثقفى عن عثمان بن أبى شيبة عن ادريس عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم قال جاء طلحة والزبير إلى علي (ع) وهو متعوذ بحيطان المدينة فدخلا عليه وقالا ابسط يدك نبايعك فان الناس لا يرضون إلا بك ; فقال لهما لا حاجة لي في ذلك ولئن أكون لكما وزيرا خير لكما من أن أكون أميرا فليبسط قرشيا منكما يده ابايعه ; فقالا ان الناس لا يؤثرون غيرك ولا يعدلون عنك إلى سواك فابسط يدك نبايعك أول الناس ، فقال ان بيعتى لا تكون سرا فامهلا حتى اخرج إلى المسجد فقالا بل نبايعك هنها ثم نبايعك في المسجد فبايعاه أول الناس ثم بايعه الناس على المنبر أولهم طلحة بن عبيدالله وكانت يده شلاء فصعد المنبر إليه فصفق على يده ، ورجل من بنى أسد يزجر الطير قائم ينظر إليه فلما رأى أول يده صفقت على يد أمير المؤمنين يد طلحة وهى شلاء قال إنا لله وإنا إليه راجعون أول يد صفقت على يدي شلاء بوشك أن لا يتم هذا الامر (١) ثم نزل طلحة والزبير وبايعه الناس بعدهما ، وهذه الاخبار مع كثرتها وانتشارها في كتب السير وكافه كتب العلماء وظهورها واستفاضتها تتضمن نقيض ما ادعاه المخالف من إكراه أمير المؤمنين (ع) على البيعة ويبطل ما تعلق به من من ذلك من شك في الخبر الذى أورده الواقدي عن العثمانية المتظاهرة بعداوة أمير المؤمنين (ع).

على أن الواقدي قد أثبت في كتابه الذى صنفه في حرب البصرة ما يوافق الاخبار التى قدمنا ذكرها ويضاد ما خالفها في معناه ، فقال حدثنى عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد قال لما قتل عثمان أقبل الناس

__________________

(١) العقد الفريد (ج ٢ ص ٢٦٩) والطبري (ج ٥ ص ١٥٣)

٦٥

على علي ليبايعوه فتأبى عليهم وقالوا بايعنا لا تخلف أمرك فأبى عليهم فمدوا يده وبسطوها وقبضوها فقالوا بايعنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلا بك ; وروى اسماعيل بن محمد عن محمد بن سعد عن أبيه قال أرسل علي ابن أبى طالب (ع) إلى أبى ليبايع فقال له إذا لم يبق غيرى بايعتك فقال علي (ع) خلوا سعدا وأرسل إلى اسامة بن زيد فقال له اسامة أنا لك طوع ولكن اعفنى الخروج بالسيف فقال له علي لم اكره أحدا على بيعته وان جميع من بايعه كان مؤثرا له داعيا إليه في ذلك على ما قدمناه والحمد لله.

قال الشيخ المفيد أدام الله تأييده : وقد دللنا على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة النص عليه بها من رسول الله صلى الله عليه وآله وباختاره له من ذوى العقول والعلم والفضل والرأى على ما يذهب إليه المخالفون في ثبوت الامامة وانعقادها وأنبأنا عن عصمته (ع) بما سلف وشرحنا القول في طريقها وأوضحناه وذكرنا الاخبار الواردة من طريق الخاصة والعامة في وجوب حقه وبرهان صوابه وتحربم خلافه وفى ذلك إبطال ما ذهب إليه كافة خصومنا على اختلافهم في تصويب محاربيه والوقوف في ذلك والشك فيه وفى ما أصلناه من ذلك ورسمناه في معناه غني عن تكليف كلام في فساد مذهب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد على ما شرحناه عنهما في صدر هذا الكتاب من شبهات المذهب الرذل وإبطال مذهب الاصم وأتباعه ونقض شبهات الحوشية في تصويب الجماعة وإفساد ما ذهب إليه كل فريق منهم في تخطئتهم بأسرهم وإقامة البرهان على صحة ما ذهب إليه الشيعة ومن شاركهم من قبائل المعتزلة والمرجئة والخوارج على أمير المؤمنين وضلال أهل البصرة وتخطئة محاربيه في هذين المقامين وضلالهم في ذلك عن طريق الرشاد وفيما أثبتناه عن عصمته (ع) وحقه أيضا دليل مقنع في إبطال مذهب الخوارج المبدعة في إنكار التحكيم وترك القتال عند الموادعة حسب ما قدمناه

٦٦

ونحن نشفع ذلك بأسباب فتنة البصرة على ما بطن منها عن كثير من الناس وظهر منها للجمهور ونورد بعد هذا الباب الذى ذكرناه الاخبار الواردة بصورة الامر في القتال وكيفية ما جرى فيه على ترتيب ذلك في مواضعه المقتضية لذكره فيها ونأتى به على الترتيب والنظام إن شاء الله تعالى.

الناكثان :

فصل : فأن ظاهر الفتنة بالبصرة فهو ما أحدثه طلحة والزبير من نكث البيعة التى بذلاها لامير المؤمنين (ع) طوعا واختيارا وإيثارا وخروجهما عن المدينة إلى مكة على اظهار منهما ابتغاء العمرة فلما وصلاها اجتمعا مع عائشة وعمال عثمان الهاربين بأموال المسلمين إلى مكة طمعا فيما احتجبوه منها وخوفا من أمير المؤمنين (ع) واتفاق رأيهم على الطلب بدم عثمان والتعلق عليه في ذلك بانحياز قتلة عثمان وحاصريه وخاذليه من المهاجرين والانصار وأهل مصر والعراق وكونهم جندا له وأنصارا واختصاصهم به في حربهم منه ومظاهرته لهم بالجميل وقوله فيهم الحسن من الكلام ; وترك إنكار ما صنعوه بعثمان والاعراض عنهم في ذلك ، والمصيب معهم في جنده إلى ما ذكرناه وشبهوا بذلك على الضعفاء واغتروا به السفهاء وأوهموهم بذلك لظلم عثمان والبراءة من شئ يستحق به ما صنع به القوم من إحصاره وخلعه والمنازعة إلى دمه فأجابهم إلى مرادهم من الفتنة ممن استغووه بما وصفناه وقصدوا البصرة لعلمهم أن جمهور أهلها من شيعة عثمان وأصحاب عامله وابن عمه كان بها وهو عبد الله بن كريز بن عامر وكان ذلك منهم ظاهرا وباطنا بخلافه كما تدل عليه الاخبار ويوضح عن صحة الحكم به الاعتبار ألا ترى أن طلحة والزبير وعائشة باجماع العلماء بالسير والآثار هم الذين

٦٧

كانوا أوكد السبب لخلع عثمان وحصره وقتله وان أمير المؤمنين (ع) لم يزل يدفعهم عن ذلك (١) ويلطف في منعهم عنه ويبذل الجهد في إصلاح حاله مع المنكرين عليه ، العائبين له ; المحتجين عليه بأفعاله وأحداثه فمن أنكر ما ذكرناه أوشك في شئ مما وصفناه فهو بعيد عن علم الاخبار ناء عن معرفة السير والفتن والآثار ومكابر يحمل نفسه على جحد لا على اضطرار وهذا باب لا يحسن مكالمة الحصوم فيه إلا مع الانصاف والاطلاع على ما جاءت به الاخبار ومخالطة العلماء من أهل الاخبار في الاسلام وأما من لا معرفة له بالروايات أو منقطع عنها إلى صناعة الكلام أو عامى له غفلة أو مترف مشغول باللذات فلا وجه لمجاراته في هذا الباب وأمثاله طرقه السمع والاخبار وسبيله ملاقاة الخاصة والعلماء والاستفادة مما عندهم من علمه على ما ذكرناه.

أسباب الخروج على عثمان :

فصل ونحن نثبت بتوفيق الله مختصرا من الاخبار فيما ذكرناه من كون طلحة والزبير وعائشة فيما صنعوه في أيام عثمان من أوكد أسباب ماتم عليه من الخلع والحصر وسفك الدم والفساد فمن ذلك ما رواه أبو حذيفة اسحاق بن بشر القرشى وأثبته في كتابه الذى صنفه في مقتل عثمان وكان هذا الرجل أعنى أبا حذيفة من وجوه أصحاب الحديث المنتسبين إلى السنة والمباينين للشيعة يهتم فيما يروونه لمفارقة خصومه ولا يظن تخرصا فيما يجتنيه من جميع الاخبار ، فقال حدثنى محمد بن اسحاق عن الزهري لما قدم أهل مصر في ستمائة راكب عليهم عبد الرحمن بن عديس البكري فنزلوا ذا خشب وفيهم كنانة بن بشير

__________________

(١) في شرح النهج لابن أبى الحديد (ج ١ ـ ص ٢٥٦) كان عبيد الله بن عمر بن الخطاب يمدح عليا بأن لم يشترك في قتل عثمان.

٦٨

الكنانى وأبو عمر بن بديل بن ورقاء الخزاعى وأبو عروة الليثي واجتمع معهم حكيم بن جبلة العبدى في طائفة من اهل البصرة وكميل بن زياد ومالك الاشتر وصعصعة بن صوحان وحجر بن عدى في جماعة من قراء الكوفة الذين كانوا سيرهم عثمان منها إلى الشام حين شكوا أحداثه التي أنكرها عليه المهاجرون والانصار (١) فاجتمع القوم على عيب عثمان وجهروا بذكر أحداثه فمر بهم عمر بن عبد الله الاصم وزياد بن النظر فقالا إن شئتم بلغنا عنكم أزواج النبي صلى الله عليه وآله فان أمرنكم أن تقدموا فاقدموا فقالوا لهما إفعلا واقصدوا عليا آخر الناس فانطلق الرجلان فبدءا بعائشة وأزواج النيي بعدها ثم أنبئا أصحابه صلى الله عليه وآله فأخبروهم الخبر فأمروهما أن يقدموا المدينة وصاروا إلى أمير المؤمنين فأخبراه واستأذناه للقوم في دخول المدينة فقال لهما أتيتما أحدا قبلي؟ قالا نعم أتينا عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله بعدها وأصحابه من المهاجرين والانصار فأمروا أن يقدموا فقال علي لكنى لا آمرهم إلا أن يستغيثوا بمن قرب فان أغاثهم فهو خير لهم وإن أبى فهم أعلم ، فخرج الرجلان إليهم جميعا وتسرع إليهم جماعة من المدينة واجتمعوا مع أهل حسب وذو مروات فلما بلغ عثمان اجتماعهم أرسل إلى علي (ع) وقال :

أخرج يا أبا الحسن إلى هؤلاء القوم وردهم عما جاؤا إليه.

فخرج إليهم فلما رأوه رحبوا به وقالوا له قد علمت يا أبا الحسن ما أحدثه هذا الرجل من الاعمال الخبيثة وما يلقاه المسلمون منه ومن عماله وكنا لقيناه واستعتبناه فلم بعتبنا وكلمناه فلم يصغ إلى كلامنا وأغراه ذلك بنا وقد جئنا نطالبه بالاعتزال عن إمرة المسلمين واستأذنا في ذلك الانصار والمهاجرين وأزواج النبي أمهات المؤمنين فأذنوا لنا

__________________

(١) ذكر الطبري (ج ٥ ص ٨٥) وابن الاثير (ج ٣ ص ٥٣) تسفير الجماعة إلى الشام وفى رسائل الخوارزمي ص ٧٧ إشارة إليه ،

٦٩

في ورود المدينة ونحن على ذلك ، فقال لهم أمير المؤمنين يا هؤلاء تريثوا لا تسرعوا إلى شئ لا تعرف عاقبته فانا كنا قد عتبنا على هذا في شئ وانه قد رجع عنه فارجعوا ; فقالوا هيهات يا أبا الحسن لا نقنع منه إلا بالاعتزال عن هذا الامر ليقدم به من يوثق بأمامته ، فرجع أمير المؤمنين إلى عثمان وأخبره بمقالتهم فخرج عثمان حتى أتى المنبر فخطب الناس وجعل يتكلم ويدعو إلى نصرته ودفاع القوم عنه فقام إليه عمرو بن العاص فقال يا عثمان إنك قد ركبت بالتهمة وقد ركبوها منك فتب إلى الله ، فقال له عثمان وإنك لهاهنا يا بن النابغة (١) ثم رفع يده إلى السماء وقال أتوب إلى الله اللهم إنى أتوب اليك ; فأنفذ أمير المؤمنين (ع) إلى القوم بما جرى من عثمان وما صار إليه من التوبة والاقلاع فساروا إلى المدينة بأجمعهم وسار إليهم عمرو بن معدي كرب في ناس كثيرين فجعل يحرض على عثمان ويذكر إثرته فقال :

أما هلكنا ولا يبكي لنا أحد

قالت قريش ألا تلك المقادير

والحر في الصيف قد تدمي جوارحه

نعطي السوية مما أخلص الكير

نعطى السوية يوم الضرب قد علموا

ولا سوية إذ كانت دنانير

وانظم إليهم من المهاجرين طلحة والزبير وجمهور الانصار على ذلك فخرج إليهم أمير المؤمنين (ع) فقال لهم يا هؤلاء اتقوا الله ما لكم وللرجل أما رجع عما أنكرتموه أما تاب على المنبر توبة جهر بها ، ولم يزل عليه السلام يلطف بهم حتى سكنت فورتهم.

ثم سأله أهل مصر أن يلقاه في عزل عبد الله بن سعيد بن أبى سرح عنهم واقترح أهل الكوفة عزل سعيد بن العاص عنهم وسأل أهل النهروان أن يصرف ابن كريز عنهم ويعدل عما كان عليه من منكر

__________________

(١) في تاريخ الطبري (ج ٥ ـ ص ١١١) وشرح النهج الحديدي (ج ١ ـ ص ١٦٣) ذكر انكار عمرو ، على عثمان وما قاله فيه.

٧٠

الافعال فدخل عليه امير المؤمنين (ع) ولم يزل حتى أعطاه ما أراد القوم من ذلك وبذل لهم العهود والايمان.

فخرج أمير المؤمنين إلى القوم بما ضمنه له عثمان ولم يزل بهم حتى تفرقوا فلما سار أهل مصر ببعض الطريق نظروا وإذا براكب على الطريق مسرع فلما دنا تأملوه فإذا هو غلام عثمان على ناقة من نوقه فاسترابوا به فقالوا له أين تذهب؟ فقال بعثنى عثمان في حاجة له قالوا إلى أين بعثك؟ فارتج عليه وتلعثم في كلامه فنهروه وزبروه فقال أنفذني إلى مصر فقالوا فيما أنفذك؟ قال لا علم لي فزاد استرابهم فيه ففتشوه فلم يجدوا إلى معه شيئا فأخذوا أدواته ففتشوها وإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد الله بن أبى سرح وهو إذا أتاك كتابي هذا فاضرب عنق عمرو بن بديل وعبد الرحمن البكري واقطع أيدى وأرجل علقمة وكنانه وعروة ثم دعهم يتشحطون في دمائهم فإذا ماتوا فأوقفهم على جذوع النخل.

فلما رأوا ذلك قبضوا على الغلام وعادوا إلى المدينة فاستأذنوا علي ابن أبى طالب (ع) ودفعوا إليه الكتاب ففزع عليه السلام لذلك فدخل على عثمان فقال إنك وسطتني أمرا بذلت الجهد فيه لك وفى نصيحتك واستوهبت لك من القوم فقال عثمان فماذا؟ فأخرج إليه الكتاب ففضه وقرأه فأنكره فقال له علي أتعرف الخط؟ قال الخط يتشابه ، قال أتعرف الختم؟ قال الختم ينقش عليه ، قال فهذا البعير الذى على باب دارك تعرفه؟ قال هو بعيرى ولم آمر أحدا ولا يركبونه قال فغلامك من أنفذه؟ قال انفذ بغير أمري.

فقاله له أمير المؤمنين عليه السلام أما أنا فمعتزلك وشأنك وأصحابك وخرج من عنده ودخل داره وأغلق عليه بابه ولم يأذن لاحد من

٧١

القوم في الوصول إليه. (١)

وخرج إليهم طلحة والزبير وقالا لهم قد اعتزل علي بن أبي طالب وانتدبنا معكم على هذا الرجل فاجتمع القوم على حصره فلما علم أن القوم قد حصروه وحقق العزيمة على خلعه كتب إلى معاوية يستدعيه بجنود الشام ، وكتب إلى عبد الله بن عامر يستدعيه بجنود البصرة وفارس لينتصر بهم ويدفعهم عن نفسه وعرف أهل مصر وأهل العراق والحجاز انه قد استفز عليهم أهل الشام وشيعته من أهل البصرة وفارس وخوزستان فجدوا في حصاره وتولى ذلك منه طلحة والزبير ومنعاه الماء وضيقا عليه وكان طلحة على حرس الدار يمنع كل أحد يدخل إليه شيئا من الطعام والشراب ويمنع من في الدار أن يخرج عنها إلى غيرها (٢).

فصل : فهل يخفى على عاقل براءة أمير المؤمنين (ع) مما قرفوه به ناكثوا عهده من التأليب على عثمان والسعي في دمه مع ما رويناه من الحديث عمن سميناه ، أم هل يرتاب عاقل فيما فعله طلحة والزبير فيما تولياه من حصر عثمان حتى آل ذلك إلى قتله وهما من بعده يقرفان عليا بما تولياه ويدعيان لانفسهما البراءة بما صنعاه ويجعلان شبهتهما في استحلال قتاله عليه السلام دعوى الباطل المعروف بهتانا ممن ادعاه وهذا يكشف ان الامر فيما ادعياه وأظهراه من الطلب بدم عثمان كان بخلافه على ما بيناه مما جاءت به الاخبار فيما تولاه طلحة والزبير في عثمان ما رواه أبو اسحاق جبلة بن زفر قال رأيت طلحة والزبير يرفلان في أدراعهما

__________________

(١) الطبري (ج ٥ ـ ص ١٠٧ إلى ص ١١٢).

(٢) في تاريخ الطبري (ج ٥ ـ ١٢٢) وشرح النهج لابن أبى الحديد (ج ١ ـ ص ١٦٧) والعقد الفريد (ج ٢ ـ ص ٢٦٧) أن طلحة ممن أعان على عثمان وألب الناس عليه.

٧٢

في عثمان ثم جاءا من بعد إلى علي (ع) فبايعاه طايعين غير مكرهين ثم صنعا ما صنعا ، وروى أبو حذيفة القرشى عن الحصين بن عبد الرحمان عن عمرو بن جاران عن الاحنف بن قيس قال قدمت المدينة وساق حديثا طويلا من أمر عثمان إلى أن قال لما لقيت الفتنة والناس قد اجتمعوا على حصر عثمان وهو على خطر فأتيت طلحة والزبير فقلت لهما ما أرى هذا الرجل إلا مقتولا فمن تأمراني أن ابايع وترضونه لي فقالا عليا فخرجت حتى أتيت مكة وبها عائشة فدخلت عليها فقلت إنى لاحسب هذا الرجل مقتولا فمن تأمريني أن أبايع فقالت بايع عليا فقضيت حجتى ثم مررت بالمدينة وقد قتل عثمان فبايعت عليا ثم عدت إلى البصرة فإذا عائشة وطلحة والزبير قد جاؤنا يطلبون بدم عثمان ويأمروننا بقتال على ابن أبى طالب فطال تعجبي من ذلك (١).

وروى أبو حذيفة عن رجاله انه لما اجتمع الناس على عثمان أنفذوا إليه اخلع نفسك فقال لا أخلع سربالا سربلنيه الله (٢) وكتب إلى معاوية يستدعيه بجنود الشام وإلى عبد الله بن عامر بن كريز يستدعيه بجند البصرة وخرج عثمان حتى صعد المنبر فلما بدأ بالخطبة قال إليه رجل من الانصار وقال له أقم كتاب الله يا عثمان فقال هو لك ئم أعادها ثانية فقال هو لك فأعادها ثالثة فقنع وأجلس فقام ناس من الانصار فخلصوه وحصب عثمان بالحصى حتى سقط مغشيا عليه فحمله بنو امية حتى أدخلوه الدار وجاءه علي (ع) يسأله عن خبره فثارت بنو امية إليه بصوت واحد يا علي كدرت علينا العيش وعملت بنا العمل والله لئن بلغت الذى تريد لنخبثن عليك الدنيا فخرج علي مغضبا فقال القوم للعباس بن الزبرقان

__________________

(١) رواه ابن حجر الهيتمى في تطهير الجنان بهامش الصواعق المحرقة ص ١١٣ ط سنة ١٣١٢ هج‍ والعقد الفريد (ج ٢ ـ ص ٢٨٢).

(٢) تاريخ الطبري (ج ٥ ـ ١١٨).

٧٣

وكانت اخته تحت الحرث بن الحكم أخى مروان بن الحكم اتبع الرجل وقل له مالك ولابن عمك فاتبعه وقال له ذلك فقال عليه السلام وهو مغضب فعل الله وفعل يجني ما يجني واسأل عن أمره واتهم مع ذلك أما والله لولا مكاني لاحتز الذى فيه عيني عثمان.

إنكار طلحة على عثمان :

ولما أبى عثمان أن يخلع نفسه تولى طلحة والزبير حصاره والناس معهما على ذلك فحصروه حصرا شديدا ومنعوه الماء وأنفذ إلى علي يقول ان طلحة والزبير قد قتلاني من العطش ، والموت بالسلاح أحسن فخرج معتمدا على يد المسور بن مخرمة الزهري حتى دخل على طلحة بن عبيد الله وهو جالس في داره يسوى نبلا وعليه قميص هندي فلما رآه رحب به ووسع له على الوسادة فقال له علي عليه السلام ان عثمان قد أرسل إلي إنكم قد هلكتموه عطشا وان ذلك ليس بالحسن والقتل بالسلاح أحسن وكنت آليت على نفسي أن لا أرد عنه أحدا بعد أهل مصر وأنا أحب أن تدخلوا عليه الماء حتى تروا رأيكم فيه ، فقال طلحة لا والله لا ننعمه عينا ولا نتركه يأكل ولا يشرب ، فقال علي (ع) ما كنت أظن أن أكلم أحدا من قريش فيردني دع ما كنت فيه يا طلحة فقال طلحة ما كنت أنت يا علي في ذلك من شئ فقام علي (ع) مغضبا وقال ستعلم يا بن الحضرمية أكون في ذلك من شئ أم لا ثم انصرف.

وروى أبو حذيفة بن اسحاق بن بشير القرشى أيضا قال حدئنى يزيد بن أبى زياد عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال والله إنى لانظر إلى طلحة وعثمان محصور وهو على فرس أدهم وبيده الرمح يجول حول الدار وكأني انظر إلى بياض ما وراء الدرع (١).

__________________

(١) في شرح النهج لابن أبى الحديد (ج ٢ ـ ص ٤٠٤) كان طلحة يوم قتل عثمان مقنعا بثوب يرمى الدار بالسهام وانه حمل الذين ـ

٧٤

وروى أبو إسحاق قال لما اشتد الحصار بعثمان عمد بنو امية على إخراجه ليلا إلى مكة وعرف الناس فجعلوا عليه حرسأ وكان على الحرس طلحة بن عبيد الله وهو أول من رمى بسهم في دار عثمان ، قال واطلع عثمان وقد اشتد به الحصار وظمأ من العطش فنادى أيها الناس اسقونا شربة من الماء واطعمونا مما رزقكم الله فناداه الزبير بن العوام : يا نعثل لا والله لا تذوقه.

وروى أبو حذيفة القرشى عن الاعمش عن حبيب بن ثابت عن تغلبة بن يزيد الحمانى قال أتيت الزبير وهو عند أحجار الزيت فقلت له يا أبا عبد الله قد حيل بين أهل الدار وبين الماء فنظر نحوهم وقال وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل انهم كانوا في شك مريب فهذاه الاحاديث في جملة كثيرة في هذا المعنى وهى كاشفة عما ذكرناه من أدغال القوم من التظاهر بطلب دم عثمان وهم تولوا سفكه ولم يظهر احد منهم إلا الذم عليه ، ولما بايع الناس عليا أظهروا الندم على ما فرط منهم وقرفوا بما صنعوا وأثاروا الفتنة التى رجع عليهم ما كانوا آملوه فيها منه وهو الظاهر منهم والباطن كان مخالفا للظاهر منهم فيما ادعوه بعثمان.

إنكار عائشة على عثمان :

فأما تأليب عائشة على عثمان فهي أظهر مما وردت به الاخبار من تأليب طلحة والزبير عليه ، فمن ذلك ما رواه محمد بن اسحاق صاحب السيرة عن مشايخه عن حكيم بن عبد الله قال دخلت يوما بالمدينة إلى المسجد فإذا كف مرتفعة وصاحب الكف يقول : أيها الناس العهد قريب هذان نعلا رسول الله (١) وقميصه وكأني أرى ذلك القميص

__________________

ـ حاصروه إلى دار بعض الانصار فتسوروا منها على عثمان فقتلوه والزبير يقول اقتلوه فقد بدل دينكم وانه لجيفة على الصراط.

(١) في الاغانى (ج ٤ ـ ص ١٧٨) ان جماعة من أهل الكوفة ـ

٧٥

يلوح تقول وان فيكم فرعون هذه الامة فإذا هي عائشة وعثمان يقول لها اسكتي ثم يقول للناس انها إمرأة وعقلها عقل النساء فلا تصغوا إلى قولها ، وروى الحسن بن سعد قال رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجلها وعثمان قائم ثم قالت يا عثمان أقم ما في هذا الكتاب فقال لتنتهين عما أنت عليه أو لادخلن عليك جمر النار فقالت له عائشة أما والله لئن فعلت ذلك بنساء النبي يلعنك الله ورسوله وهذا قميص رسول الله لم يتغير وقد غيرت سنته يا نعثلي (١).

وروى الليث بن أبى سليمان عن ثابت الانصاري عن ابن أبى عامر مولى الانصار قال كنت في المسجد فمر عثمان فنادته عائشة يا غدر يا فجر أخفرت أمانتك وضعيت رعيتك ولولا الصلاة الخمس لمشى اليك الرجال حتى يذبحوك ذبح الشاة فقال عثمان : (ضرب الله مثلا للذين كفروا إمرأة نوح وإمرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين).

وروى محمد بن اسحاق والمدايني وحذيفة قال لما عرفت عائشة ان الرجل مقتول تجهزت إلى مكة جاءها مروان بن الحكم وسعيد بن العاص فقالا لها انا لنظن ان الرجل مقتول وأنت قادرة على الدفع عنه فان تقيمي يدفع الله بك عنه قالت ما أنا بقاعدة وقد قدمت ركابي وغريت غرائري وأوجبت الحج على نفسي فخرج من عندها مروان

__________________

شهدوا على الوليد بن عتبة وأخافهم عثمان فاستجاروا بعائشة فأخرجت نعل رسول الله إلى المسجد تقول :

ترك عثمان سنة صاحب هذا النعل.

(١) في كامل ابن الاثير (ج ٣ ـ ص ٨٠) والنهاية (ج ٤ ـ ص ١٦٦) بمادة نعثل وتاج العروس ان عائشة سمت عثمان نعثلا وهو أما رجل يهودي أو الشيخ الاحمق أو رجل طويل اللحية بمصر.

٧٦

يقول : (زخرف قيس على البلاد حتى إذا اضطربت) فسمعته عائشة فقالت : أيها المتمثل هلم قد سمعت ما تقول أتراني في شك من صاحبك والله لوددت انه في غرارة من غرايرى حتى إذا مررت بالبحر قذفته فيه فقال مروان قد والله تبنيت قد والله تبنيت قال فسارت عائشة فاستقبلها ابن عباس بمنزل يقال له الصلعاء وابن عباس يريد المدينة فقالت يابن عباس إنك قد أوتيت عقلا وبيانا وإياك أن ترد الناس عن قتل الطاغية ، وهذه أيضا جملة من كثير ورد بها أخبار في تأليب عائشة على عثمان والسعى في دمه اقتصرنا عليها كراهة الاملال بالتطويل وفيها أوضح دليل على أن تظاهرها من بعد بطلب دمه ومباينة أمير المؤمنين عليه السلام وجمع الجموع لحربه والاجتهاد في نقض عهده وأمرها بسفك دمه لم يكن الباطن فيه كالظاهر بل كان لغير ذلك فيما اشتهر عند المعتبرين لاعمال القوم قديما وحديثا وأغراضهم في الافعال وما فيه من يصرح القول عنهم في عداوتها له (ع) فليتأمل أولوا الابصار بما رويناه وليمعن النظر فيما ذكرناه ويجد الامر فيه على ما وصفناه والله المستعان.

ندم طلحة والزبير من البيعة :

فصل : قد قدمناه من القول فيما كان قد عمد عليه طلحة والزبير في خلاف أمير المؤمنين (ع) والمباينة له والتحيز عنه وهو لما كرها ولايته وأنكرا إمرته ولم يؤثرا من الناس بيعته لما كانا عليه من الطمع في الولاية للامر دونه والتأمر على الناس بذلك وفاتهم منه ما أملاه وندما على افراطهما فيما صنعاه مع التسخير لهما من الله تعالى في بذل بيعتهما له (ع) طوعا واختيارا سنح لهما الاعتلال في تسويغ خلافهما له بدعوى إكراهه لهما على البيعة فتعلقا بذلك وجعلاه حجة لهما في خلافه

٧٧

فظن به تمام الشبهة التى قصداها بعمد الامر على الجهل فلما وضح لهما تهافت ما اعتمداه من ذلك بظهور اختيارهما لبيعته وإيثارهما لتقدمه عليهما والرضا بامامته واشتهر ذلك عند الكافة من الخاصة والعامة وعلما انه لا حجة لهما في دفع الظاهر بدعوى الباطن وانه لو تم لهما التلبيس بدعوى الكراهة الباطنية لم تتم لهما حجة لانه لا يسع أحد كراهة بيعة المحق ولا يسوغ لاحد خلاف المهاجرين والانصار في الرضا بما يجتمعون عليه من الرضا بامامة المرتضى عليه السلام في ظاهر الحال فكيف بمن يرضى برضاء الله له في الباطن والظاهر على كل حال ولانهما لم يجدا شبهة يتعلقان بها في كراهة إمامة أمير المؤمنين (ع) مع جمعه للفضل وتقدم الايمان والذب عن الاسلام والجهاد في الدين والبلاء الحسن مع الرسول والعلم الظاهر الذى لا يختلف فيه اثنان من العلماء مع الزهد في الدنيا والورع عن محارم الله وحسن التدبير وصواب الرأى والرحم الماسة منه برسول الله صلى الله عليه وآله وما كان سنه فيه من الامور الدالة على استحقاقه التقدم على كافة الانام من الامة فلم يول عليه واليا قط ولا أنفذه في سرية إلا وهو أميرها وسيدها ورئيسها وقائدها وعظيمها وانه لم يفسد أحد على عهد النبي أمرا إلا ندبه إليه فقوى تلافي فارطه به (ع) وكان الامر إذا أعضل في شئ ناطه به وأنجزه وكفى به وأغناه ورفع إليه من بعده صلى الله عليه وآله من تقدمه في مقامه عند معضل الامور فاستعلموا منه ما كان خافيا عليهم من أحكام الملة وصواب التدبير في مصالح الامة فعلم طلحة والزبير ان التعلق في خلافه بكراهة البيعة شبهة داحضة لا يثبت لهما به حجة عند أحد من الفضلاء والعقلاء وانه لو ثبت ما ادعياه من إكراههما على البيعة لكان أسوء لحالهما عند الامة ولكان له (ع) في حكم الشريعة ذلك إذ للامام القهر على طاعته والاكراه على الاجابة إلى ما يلزم للامة كف الفتنة وشمول المصلحة

٧٨

فلما علم الرجلان ذلك ووضح لهما ما ذكرناه في معانيه ولم يكونا ممن يخيل عليهما فساد الدعوى لما ادعياه وقصورهما عن غرضهما فيه : عدلا إلى التظاهر بطلب دم عثمان وزعما ان الذى كان منهما قد بانا منه وادعيا ان التوبة لا تصلح أن تتم لهما إلا ببذل الجهد في طلب قاتليه والاقتصاص من ظالميه فاشتبه الامر بما سارا إليه مما ذكرناه عنهما على المستضعفين واستغويا به كثيرا من العامة البعداء عن فقه الدين وسلكت عائشة في خلافها لامير المؤمنين (ع) مسلكها في ذلك فتظاهرت به من الطلب بدم عثمان والاقتصاص من قاتله ومعلوم في شريعة المسلمين ان ذلك ليس لهما ولا اليهما وانهما فيما تكلفاه منه على شبهة باطلة عند الناظرين لانهما لم يكونا أولياء لدم عثمان ولا بينه وبينهما نسب يسوغهما للتخاصم في دمه.

المرأة والحجاب :

ولا إلى النساء أيضا الدخول في شئ من ذلك على وجه من الوجوه إذ ليس عليهن جهاد ولا لهن أمر ولا نهى في البلاد والعباد مع ما خص به الله أزواج النبي في الحكم المضاد ولما صنعته هذه المرأة وتبينت فيه بالخلاف فيه للدين وقص الله تعالى في محكم التنزيل حيث يقول جل إسمه : (يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن) وفرض عليهن سبحانه التحصن والتجلبب ولا يتعرفن إلى أحد فجاء بضد ذلك من التبرج وهتك الحجاب واطراح الجلباب وإظهار الصورة وابداء الشخص والتهتك بين العامة فيما لا عذر لها فيه مع ما ارتكبته من قتال ولي الله الذى فرض عليها إعظامه وإجلاله وأوجب عليها طاعته وحرم عليها معصيته وسفكت فيما صنعت دماء المؤمنين وأثارت الفتنة التى شانت بها المسلمين وأنى يواطئ ذلك ما أمرها الرسول به في الحديث المشهور

٧٩

دخل ابن ام كلثوم وهو أعمى على النبي صلى الله عليه وآله فقال لها قبل دخوله ادخلي الخباء يا عائشة فاستتري به من هذا الرجل فقالت يا رسول الله انه أعمى ولن يرانى فقال صلى الله عليه وآله إن لم يراك فانك ترينه (١).

وقال سبحانه فيما أدب به أصحاب نبيه : (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناءه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث ان ذلكم كان يؤذى النبي فيستحي منكم والله لا يستحى من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ان ذلكم كان عند الله عظيما) (٢).

فبين الله عز إسمه أن خطاب المؤمنين من أصحابه لازواج نبيه يؤذيه وان الانبساط لهن يشق عليه ويؤلمه وصانهن لصيانته واحتراسه فنهى أن يأنس بهن أحد أو يسألهن متاعا إلا من وراء حجاب ونهى عن اللبث في بيته بعد نيل الحاجة من طعامه وغير ذلك لئلا يطول مقامهم فيه فتأنس أزواجه بهم أو يأنسون بكلامهن فكيف هذا يوافق لما فعلته المرأة من مخالطتها للقوم ومسافرتها معهم وإطالة النجوى لهم وكونها بمحمل من لا يحتشم في خطاب ولا كلام ولا أمر

__________________

(١) مثل هذا الحديث ما رواه الخازن في تفسيره (ج ٥ ص ٥٧) والبغوى في تفسيره بهامشه كلاهما عن الترمذي وأبى داود عن ام سلمة قالت : كنت وميمونة بنت الحرث إذا أقبل ابن ام كلثوم فدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وذلك بعد ما نزل الامر بالحجاب فقال رسول الله احتجبا منه فقلنا انه أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال صلى الله عليه وآله أفعمياوتان أنتما ألستما تبصرانه.

(٢) سورة الاحزاب : ٥٣.

٨٠