الجمل

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الجمل

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٤

اختلاف الفرق :

(فصل) الخلاف بعد النبي الذى حكيناه عن السلف في الفتنة المذكورة قد تشعب وزاد على ما أثبتناه عمن سميناه في الخلاف ، فقالت العالمة الحشوية المنتسبة إلى السنة على ما زعموا في ذلك أقاويل مشهورة وذهبوا مذاهب ظهرت عنهم مذكورة.

فمنهم طائفة اتبعت رأى سعد بن أبى وقاص وشركائه المعتزلة عن الفريقين ومذهبهم في إنكار القتال وحكموا بالخطأ على أمير المؤمنين والحسن والحسين ومحمد بن علي وابن عباس وخزيمة بن ثابت ذى الشهادتين وأبى أيوب الانصاري وأبى الهيثم بن التيهان وعمار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة وامثالهم من وجوه المهاجرين ونقباء الانصار. وعلى عائشة وطلحة والزبير وجميع من اتبعهم في الحرب واستحل معهم القتال ، وشهدوا عليهم جميعا فيما صنعوه بالزلل عن الصواب ، ووقفوا فيهم مع ذلك ولم يقطعوا لهم بعقاب ، ورجوا لهم الرحمة والغفران ، وكان الرجاء لهم في ذلك اقوى عندهم من الخوف عليهم من العقاب.

وقالت فرقة منهم اخرى بتخطئة الجميع كما قالت الاولى منهم في ذلك وقطعوا على ان امير المؤمنين والحسن والحسين وابن عباس وعمار بن ياسر وخزيمة ذى الشهادتين ان كانوا قد زلوا بالقتال وسفك الدماء فانه مغفور لهم ذلك ، لما قدموا من عظيم طاعتهم لله تعالى وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبتهم له ، مواساتهم إياه.

وكذلك قولهم في عائشة ، وطلحة والزبير ومن شركهم في القتال ممن له صحبة وسالف جهاد.

٢١

وأما من سوى الصحابة بين الفريقين منهم بقتالهم واستحلالهم الدماء فمن أهل النار ، وحكوا عن بعض مشيختهم وأئمتهم في الدين انه كان يقول نجت القادة وهلك الاتباع ، وفرقوا بين الصحابي في ذلك وغيره بحديث رووه عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال لبعض المسلمين ممن أدركه ولم يكن له صحبته وقد سامى رجلا من الصحابة : إياكم وأصحابي لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدى أحدهم ولا نصفه

وقالت فرقة أخرى منهم لا ينبغى لاحد أن يخوض في ذكر الصحابة وما جرى بينهم من تنازع واختلاف وتباين وقتال ولا يتعرض بالنظر في ذلك ولا الفكر فيه ويعرض عنه جانبا ، وأن استطاع أن لا يسمع شيئا من الاخبار الواردة به فيفعل ، فانه ان خالف هذه الوصاة وأصغى إلى الخبر باختلاف الصحابة أو تكلم بحرف واحد ، وتبرع بالحكم عليهم بشئ يشين المسلم فقد أبدع في الدين ، وخالف الشرع ، وعدل عن قول النبي ولم يحذر مما حذره منه بقوله صلى الله عليه وآله إياكم وما سيجري بين الصحابة.

وزعموا أن الرواية بذكر أخبار السقيفة ، ومقتل عثمان والجمل وصفين بدعة ، والتصنيف في ذلك ضلال ، أو الاستماع إلى شئ من ذلك يكسب الآثام.

وهذه فرقة مستضعفة من الحشوية يميل إلى قولها جمع كبير ممن شاهدناه من العامة ويدعوا إليه المتظاهرون بالورع والزهد ، والصمت وطلب السلامة ، وحفظ اللسان ، وهم بذلك بعداء عن العلم وأهله ، جهال أغمار.

وقالت فرقة من العامة تختص بمذاهب الحشوية غير أنها تتعاطى النظر ، وتدعى المعرفة بالفقه وتزعم أنها من أهل الاعتبار ، ان علي ابن أبى طالب (ع) ومن كان في حيزه من االمهاجرين والانصار

٢٢

وسائر الناس ، وعائشة وطلحة والزبير وأتباعه جميعا معا كانوا على صواب فيما انتهوا إليه من التباين والاختلاف والحرب والقتال وسفك الدماء ، وضرب الرقاب ، فان فرضهم الذى يعين عليهم من طريق الاجتهاد هو ذلك بعينه دون سواه ، لم يخرجوا بشئ منه عن طاعة الله ولا دخلوا به في شئ منه إلا انهم كانوا على الهدى والصواب ، ولو قصروا عنه مع الاجتهاد المؤدى لهم إليه ; لضلوا عن الحق ، وخالفوا السبيل والرشاد.

وزعموا أن انهم كانوا جميعا مع الحال التى انتهوا إليها من سفك الدماء ; وقتل النفوس ; والخروج عن الاموال والديار على أتم مصافاة ومودة وموالات ، ومخالصة في الضماير والنيات ; واستدلوا على ذلك وزعموا بأن قالوا وجدنا كل فريق من الفريقين متعلقا بحجة تعذره فيما أتاه وتوجب عليه العمل بما صنع ، وذلك ان علي بن أبى طالب كان مذهبه تحريم قتل الجماعة بالواحد وان اشتركوا في قتله معا وهو مذهب مشهور من مذاهب أصحاب الاجتهاد ; ولم يثبت عنده أيضا ان المعروفين بقتل عثمان تولوا على ما ادعى عليهم من ذلك فلم يسعه تسليم القوم إلى من التمسهم منه ليقتلوهم بعثمان ; ووجب عليه (ع) في اجتهاده الدفاع عنهم بكل حال ، وكان مذهب عائشة وطلحة والزبير قود الجماعة بالواحد من الناس ; وهو مذهب ابن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة وجماعة من التابعين ; وبه دان جماعة من الفقهاء وأصحاب الاجتهاد ، وثبت عندهم ان الجماعة يقتلون بالرجس الواحد وان أمير المؤمنين لم يسلمهم ليقتلوهم بعثمان ، وان الناس تولوا قتله واشتركوا في دمه ; وكان إماما مرضيا عندهم ; قتل بغير حق ; فلم يسعهم ترك المطالبة بدمه ; والاستقادة من قاتله وبذل الجهد في ذلك ; فاختلف الفريقان في ذلك لما ذكروه من الاجتهاد ; وعمل كل فريق منهم على رأيه وكان

٢٣

بذلك مأجورا وعند الله مشكورا ; وان كانوا قد سفكوا فيه الدماء وبذلوا فيه الاموال وهذا مذهب جماعة قد شاهدتهم وكلمتهم وهم في وقتنا هذا خلق كثير وجم غفير.

وممن كلمتهم فيه من مشيخة أصحاب المخلوق المعروف بأبى بكر التمار الملقب بدرزان وكان في وقته شيخ أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب أكبرهم سنا ; وأشدهم تقدما في مجالس الكلام ; ومنهم محارب الصيديانى المكنى بابن العلاء خليفة أبى السائبة في القضاء. ومنهم المعروف بالوشعى ; ومن بعدهم المكنى بأبى عبد الله المعروف بابن مجاهد البصري الشعرى صاحب الباهلي تلميذ على بن أسماعيل بن أبى بشر الاشعري ومنهم المعروف بأبى بكر بن الطيب المعروف بابن الباقلانى ومنهم أبو العباس بن الحسين بن أبى عمر القاضى وجميع من سميت ممن جاريته في هذا الباب من أصحاب المخلوق ، وبعضهم كلابية وبعضهم أشعرية واليه يذهب في وقتنا هذا جمهور أصحاب الشافعي ببغداد والبصرة وخوزستان وبلاد فارس وخراسان وغيرها من الامصار ; لا أعرف شافعيا له ذكر في قومه ويذهب إلى هذا المذهب ليبعد به عن قول الشيعة ; وأهل الاعتزال.

رأي المعتزلة :

واختلف في ذلك المعتزلة أيضا كاختلاف الحشوية ; فقال إماماهم المقدمان وشيخاهم المعظمان اللذان هما أصلان للاعتزال ، وافتتحا لمعتقديه فيه الكلام وهم فخر الجماعة منهم وجمالهم الذى لا يعدلوا عندهم سواه واصل بن عطاء الغزال ; وعمرو بن عبيد بن باب المكارى (١) ان

__________________

(١) قال ابن خلكان بترجمته هو عمرو بن عبيد بن باب ببائين وانما ضبطته بذلك لئلا يشتبه بناب وفى تاريخ بغداد ج ١٢ ص ـ

٢٤

أحد الفريقين ضال في البصرة مضل فاسق خارج من الايمان والاسلام ملعون مستحق الخلود في النار ، والفريق الآخر هاد مهدي ، مصيب مستحق للثواب والخلود في الجنان غير أنهم زعموا أن لا دليل على تعيين الفريق الضال ولا برهان على المهدي ولا بينة نتوصل بها إلى تمييز أحدهما من الآخر في ذلك بحال من الاحوال.

وانه لا يجوز أن يكون علي بن أبى طالب (ع) والحسن والحسين ومحد بن علي وعبد الله وقثم والفضل وعبيد الله بنو العباس وعبد الله ابن جعفر الطيار وعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيوب الانصاري وأبو الهيثم بن التيهان وكافة شيعة علي (ع) وأتباعه من المهاجرين والانصار وأهل بدر وبيعة الرضوان وأهل الدين المتحيزين إليه والمحققين بسمة الاسلام هم الفريق الضال ، والفاسق الباغي الخارج عن الايمان والاسلام والعدو لله والبرئ من دينه الملعون المستحق للخلود في النار.

وتكون عائشة وطلحة والزبير والحكم بن أبى العاص ومروان أبنه وعبد الله بن أبى سرح والوليد بن عقبة وعبد الله بن عامر بن كريز ابن عبد شمس ومن كان في حيزهم من أهل البصرة هم الفريق المهدى الموفق إلى الله المصيب في حربه المستحق للاعظام والاجلال والخلود في الجنان. قالا جميعا نعم ما ننكر ذلك ولا نؤمن به إذ لا دليل يمنع من الحكم

__________________

ـ ١٦٦ كان باب من سبى فارس وعبيد من سبى سجستان وكان عبيد نساجا ثم صار من شرطة الحجاج على السجن وهو يقول إنى أصبت ام عمرو من غلول وكان عبيد يقول لو أن عليا وعثمان وطلحة والزبير شهدوا عندي على شراك نعل ما أجزت شهادتهم وقد أحدث عمرو بدعة قتل فيها الناس وفيه يقول يحيى بن معين انه رجل سوء مات سنة ١٤٤ ودفن بمران على ليال من مكة راجعا إلى البصرة.

٢٥

به على ما ذكرناه بحل وكما أن قولنا ذلك في علي وأصحابه فكذلك هو في الفريق الآخر فانا لسنا ننكر انهم وأتباعهم على السوء ولسنا ننكر أن يكونوا هم الفريق الضال الملعون ، العدو لله البرئ من دينه ، المستحق للخلود في النار ، وأن يكون علي (ع) وأصحابه هم الفريق الهادي المهتدي الولي لله في سبيله ; الستحق بقتاله عائشة وطلحة والزبير وقتل من قتل منهم الجنة وعظيم الثواب.

قالا ومنزلة الفريقين منزلة المتلاعنين فيهما فاسق لا يعلمه على التميز له والتعيين إلا الله عزوجل.

وهذه مقالة مشهورة عن هذين الرجلين قد سطرها الجاحظ عنهما في كتابه الموسوم (بفضيلة المعتزلة) وحكاها أصحاب المقالات عنهما ولم يختلف العلماء في صحتها عن الرجلين المذكورين وانهما خرجا من الدنيا على التدين بها والاعتقاد لها بلا ارتياب.

وحكى ابن يحيى أن أبا الهذيل العلاف كان على هذا المذهب في أمير المؤمنين (ع) وعائشة وطلحة والزبير متبعا فيه امامية المذكورين ولم يزل عليه إلى أن مات قال شيخ المعتزلة أيضا ومتكلميها في الفقة وأحكام الشريعة على اصولها الاصم المكنى بأبى بكر الملقب بحريال أنا أقف في كل فريق من الفريقين فلا أحكم له بهدى ولا ضلال ولا أقطع على أحدهما بشئ من ذلك في التفصيل ولا الاجمال ولكني أقول أن كان علي بن أبى طالب (ع) قصد بحرب عائشة وطلحة والزبير كف الفساد ومنع الفتنة في الارض ودفعهم عن التغلب على الامر والعدوان على العباد فانه مصيب مأجور ، وان كان أراد بذلك الجبرية والاستبداد بالامر بغير مشورة من العلماء بل ليتأمر على الناس بالقهر لهم على ذلك والاضرار فهو ضال مضل من أهل النار ; قال وانما قلت ذلك لخفاء الامر لي فيه واستتار النيات في معناه واشتباه أسباب الباطل فيه باستتار الحق عند العقلاء

٢٦

قال وكذلك قولي في الفريق الآخر ، أقول ان عايشة وطلحة والزبير ان كانوا قصدوا بقتالهم علي بن أبى طالب (ع) وأصحابه منعه من الاستبداد بالامر من دون رضى العلماء به ، وأرادوا الطلب بدم عثمان والاقتصاص له من ظالميه برد الامر شورى ليختار المسلمون من يرون فهم بذلك هداة أبرار مستحقون للثواب وان كانوا أرادوا بذلك الدنيا والعصبية والافساد في الامر وتولى الامر بغير رضى العلماء فهم بذلك ضلال مستحقون اللعنة والخلود في النار غير انه لا دليل لي على أعراضهم فيه ولا حجة تظهر في معناه من أعمالهم ولذلك وقف فيهم كما وقفت في علي وأصحابه كما بينت. وان كان طلحة والزبير أحسن حالا من علي فيما أتاه.

وقال هشام القوطي وصاحبه عباد بن سليمان الصيمري ، وهذان الرجلان من أئمة المعتزلة أيضا ان عليا وطلحة والزبير وعائشة في جماعة من أتباع الفريقين كانوا على حق وهدى وصواب وكان الباقون من أصحابهم على ضلال وبوار وذلك ان عائشة وطلحة والزبير انما خرجوا إلى البصرة لينظروا في دم عثمان ويأخذوا بثاره من ظالميه وأرادوا بذلك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلبوا بوجه الله وخرج علي بن أبى طالب ليتفق معهم على الرأي والتدبير في مصالح الاسلام وأهله وكف السعي في الفتنة ومنع العامة مما ليس إليهم بل هو إلى وجوه العلماء وليقع التراضي بينهم على انصاف واجتهاد في طلب الحق والاجتماع على الراي فلما ترائى الجمعان تسرع غوغاؤهم إلى القتال فانتشبت الحرب بينهم على غير اختيار من القادة والرؤساء وخرج الامر عن ايديهم في تلافى ذلك فكان من الاتباع الفتنة وسفك الدماء ما لم يؤثره علي وطلحة والزبير وعائشة ووجوه اصحابهم من الفضلاء فهلك بذلك الاتباع ونجا الرؤساء وهذا يشبه ما قدمنا حكايته عن بعض العامة من وجه يخالفه

٢٧

من وجه آخر يميز به الرجلان من الكافة ودفعا فيه علم الاضطرار وجحد المعروف كالعيان.

وقال باقي المعتزلة كبشر بن المعتمر وأبى موسى المراد وجعفر بن بشر والاسكافى والخياط والشجام وابن مجالد البلخي والجبائي فيمن اتبعهم من أهل الاعتزال وجماعة الشيعة من الامامية والزيدية ، ان أمير المؤمنين (ع) كان محقا في جميع حروبه مصيبا بقتال أهل البصرة والشام والنهروان مأجورا على ذلك مؤديا فرض الله تعالى عليه في الجهاد وان كل من خرج عليه وحاربه في جميع المواطن ضلال عن الهدى مستحقون بحربه والخلاف عليه النار غير أن من سميناه من المعتزلة خاصة استثنوا عائشة وطلحة والزبير من الحكم باستحقاق العقاب وزعموا أنهم خرجوا من ذلك إلى استحقاق الثواب بالتوبة والندم على ما فرط منهم في القتال فحكموا بضد الظاهر من الفعال والمعلوم منهم من المقال وضعفوا في دعواهم عما هو صناعتهم من الحجاج وأظنهم اتقوا به من العامة وتقربوا باظهاره إلى أمراء الزمان إذ لا شبهة تعترض أمثالهم من العلماء بالاخبار والنظار المتميزين بالكلام عن أهل التقليد في فساد هذا الاعتقاد

وخالف من سميناه من المعتزلة في هذا الباب (الاصم) خاصة فانه زعم ان معاوية كان إماما محقا لاجماع الامة عليه فيما قال بعد قتل أمير المؤمنين علي (ع) مع تظامره بالشك في امامة أمير المؤمنين حسبما حكيناه فيما سلف قبل هذا المكان وكل من سميناه منهم سوى (الاصم) مع تصويبه عليا وتفسيق محاربيه ويقطع على معاوية وعمرو بن العاص في خلافهما أمير المؤمنين واستحلالهما حربه بالنار وانهما خرجا من الدنيا على الفسق الموبق لصاحبه الموجب عليه دوام العقاب وأن جميع من مات على اعتقاد امامة معاوية وتصويبه في قتال علي (ع) فهو عندهم ضال عن الهدى خارج عن الاسلام مستحق الخلود في النار وقد وافق من سميناه

٢٨

من المعتزلة وكافة الشيعة الخوارج في تخطئة معوية وعمرو بن العاص وتضليلهما في قتال علي.

وجماعة من المرجئة وأصحاب الحديث من المجبرة غير أن هذين الفريقين وقفا في عذابهما ولم يقطعا على دخولهما النار ورجوا لهما ولمحاربي علي وأصحابهما من غيرهم ممن ظاهره الاسلام العفو من الله وقولهم في الخوارج كذلك مع حكمهم عليهم بالضلال.

رأي الخوارج :

وقال الخوارج : بأجمعهم أن عليا كان مصيبا في أهل البصرة أهل الشام وانهم كانوا بقتاله ضلال كفار مستحقين الخلود في عذاب النار وادعوا مع ذلك انه أخطأ بكفه عن قتال أهل الشام حين رفعوا المصاحف واحتالوا بذلك الكف عن قتاله وشهدوا على أنفسهم بالاثم لوفاقهم في ذلك الرأي وكفهم عن قتال البغاة إلا أنهم زعموا أنهم لما ندموا على ذلك وتابوا منه ودعوا إلى القتال خرجوا من عهدة الضلال ورجعوا إلى ما كانوا عليه من الاسلام والايمان وان عليا لما لم يجبهم إلى القتال وأقام على الموادعة لمعاوية وأهل الشام كان مرتدا بذلك عن الاسلام خارجا من الدين وشبهتهم في هذا الباب مضمحلة لا يلتبس فسادها على أهل الاعتبار وذلك أن عليا (ع) انما كف عن قتال القوم لخذلان أصحابه في الحال ، وتركهم النصرة له وكفهم عن القتال فاضطروه بذلك إلى الاجابة لما دعوه إليه من تحكيم الكتاب ولم يجز له قتالهم من بعد ، لمكان العهد لهم في مدة الهدنة التي اضطر إليها وحظر الفساد ، بنقض العهد في كل ملة وخاصة في ملة الاسلام.

رأي الشيعة :

واجتمت الشيعة على الحكم بكفر محاربي أمير المؤمنين ولكنهم لم

٢٩

يحرجرهم بذلك عن حكم ملة الاسلام إذ كان كفرهم من طريق التأويل كفر ملة ولم يكفروا كفر ردة عن الشرع مع اقامتهم على الجملة منه وإظهار الشهادتين والاعتصام بذلك عن كفر الردة المخرج عن الاسلام وان كانوا بكفرهم خارجين عن الايمان مستحقين اللعنة والخلود والنار حسبما قدمناه ، وكل من قطع على ضلال محاربي أمير المؤمنين (ع) من المعتزلة فهو يحكم عليهم بالفسق واستحقاق الخلود في النار ولا يطلق عليهم الكفر ولا يحكم عليهم بالاكفار ; والخوارج تكفر أهل البصرة وأهل الشام ويخرجونهم بكفرهم الذي اعتقدوه فيهم ووسموهم به عن ملة الاسلام ومنهم من يسمهم بالشرك ويزيد على حكمه فيهم بالاكفار

فهذه جمل القول فيما اختلف فيه أهل القبلة ، من احكام الفتنة بالبصرة والمقتولين بها ممن ذكرناه واحكام صفين والنهروان وقد تحريت القول بالمحفوظ عن أرباب المذاهب المشهور عنهم عند العلماء وان كان بعضها قد انقرض معتقدوه ، وحصل على فساد القول به الاجماع وبعضها له معتقد قيل لم ينقرضوا إلى هذا الزمان وليس ينعقد على فساده إجماع وان كان في بطلانه أدلة واضحة لمن تأملها من ذوي الالباب وأنا بمشيئة الله وعونه أذكر طرفا من الاحتجاج على كل فريق منهم خالف الحق وأثبت من الاخبار الواردة في صواب أمير المؤمنين (ع) وحقه في حروبه وأحكامه ، مختصرا يغني عن الاطالة بما يتيسر به الكلام وأشفع ذلك بما يتلوه ويتصل به من ذكر أسباب الفتنة بالبصرة على ما ضمنت في ذلك بأول الكتاب.

عصمة أمير المؤمنين عليه السلام :

باب صواب أمير المؤمنين (ع) في حروبه كلها وحقه في جميع أقواله وأفعاله والتوفيق للمقر بآرايه وبطلان قول من خالف ذلك من

٣٠

خصمائه وأعداثة فمن ذلك وضوح الحجة على عصمة أمير المؤمنين (ع) من الخطأ في الدين والزلل فيه والعصمة له من ذلك يتوصل إليها بضربين أحدهما الاعتبار والثانى الوثوق به من الاخبار فأما طريق الاعتبار الموصول إلى عصمته (ع) فهو الدليل على امامته وفرض طاعته على الانام إذ الامام لابد أن يكون معصوما كعصمة الانبياء بأدلة كثيرة قد أثبتناها في مواضع من كتبنا المعروفة في الامامة الاجوبة عن المسائل الخاصة في هذا الباب فمن ذلك ان الائمة قدوة في الدين وان معنى الائتمام هو الاقتداء ، وقد ثبت ان حقيقة الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به فيما فعل وقال من حيث كان حجة فيه دون الاتباع لقيام الادلة على صواب ما فعل وقال بسوى ذلك من الاشياء إذ لو كان الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به من جهة حجة سواه على ذلك كان كل وفاق لذي نحلة في قول أو فعل لا من جهة قوله وفعله بل لحجة سواه اقتداء به وإئتماما وذلك باطل لو فاقنا الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الباطل والضلال في بعض أقوالهم وأفعالهم ; من حيث قامت الادلة على صواب ذلك فيهم لا من حيث ما رأوه وقالوه وفعلوه وذلك باطل بلا ارتياب ولان أحد أسباب الحاجة إلى الائمة هو جواز الغلط على الرعية وارتفاع العصمة عنها لتكون من ورائها تسدد الغالط منها وتقومه عند الاعوجاج وتنبهه عند السهو منه والاغفال ويتولى إقامة الحد عليه فيما جناه ، فلو لم تكن الائمة معصومون كما أثبتناه لشاركت الرعية فيما له إليها وكانت تحتاج إلى الائمة عليها ولا تستغني عن دعاة وساسة تكون من ورائها ، وذلك باطل بالاجماع على أن الائمة أغنياء عن امام وغير ما ذكرناه من الادلة على عصمتهم كثيرة وهي موجودة في أماكنها من كتبنا على بيان الوجوه واستقصائها وأنها تثبت عصمة الائمة (ع) حسبما وصفناه وأجمعت الامة على انه لو كان بعد النبي صلى الله عليه وآله امام على

٣١

الفور تجب طاعته على الانام وجب القطع على أنه أمير المؤمنين علي ابن أبى طالب دون غيره ممن ادعيت له الامامة في تلك الحال للاجماع على أنه لم يكن لواحد ممن ذكروه العصمة التي أوجبناها بالنظر الصحيح لائمة الاسلام واجماعا الشيعة الامامية على علي (ع) كان مخصوصا بها من بين الانام إذ لو لم يكن الامر كذلك لخرج الحق عن اجماع أهل الصلاة وفسد ما في العقول من وجوب العصمة لائمة المسلمين بما ذكرناه وإذا تثبت عصمة علي (ع) من الخطأ ووجب مشاركته للرسول في معناه ومساواته فيها ثبت انه كان مصيبا في كل ما فعل وقال ووجب القطع على خطأ مخالفيه وضلالهم في حيرة واستحقاقهم بذلك العقاب وهذا بين لمن تدبر والله الموفق للصواب.

دليل آخر على إمامة علي عليه السلام فيما يدل على إمامته الموجبة بالحكم بعصمة على ما قدمناه بثبوت الحاجة إلى الادلة باتقان وفساد ثبوت الامامة من جهة الشورى والآراء وإذا فسد ذلك وجب النص على الائمة وفي وجوبه لثبوت إمامة علي (ع) إذ الامر بين رجلين أحدهما يوجب الامامة بالنص ويقطع على إمامة علي به ومن جهته دون ما سواها من الجهات والاخرى يمنع من ذلك ويجوزها بالرأي وإذا فسد هذا الفريق لفساد ما ذهبوا إليه من عقد الامامة بالرأي ولم يصلح خروج الحق عن أئمة الاسلام ثبتت إمامته (ع) ،

التصديق في الصلاة :

مما يدل على إمامته (ع) من نص القرآن قوله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله الذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة يؤتون الزكوة وهم راكعون) (١).

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٥ ، والآية نزلت في أمير المؤمنين (ع) ـ

٣٢

وهذا الخطاب موجه إلى جماعة جعل الله لهم أولياء اضيفوا إليهم باذكر والله وليهم ورسوله ومن عبر عنه بأنه من الذين آمنوا وأقاموا الصلوة وآتوا الزكوة وهم راكعون ، يعني حال ركوعهم بدلالة انه لو أراد سبحانه بالخطاب جميع المكلفين لكان هو المضاف ومحال اضافة الشئ إلى نفسه وانما يصح اضافته إلى غيره ; وإذا لم تكن طائفة تختص بكونها أولياء لغيرها وليس لذلك الغير مثل ما اختصت به في الولاء وتفرد من جملتهم من عناه الله تعالى بالايمان والزكوة حال ركوعه لم يبق إلا ما ذهبت إليه الشيعة في ولاية علي (ع) على الامة من حيث الامامة له عليها وفرض الطاعة ولم يكن أحد يدعي له الزكوة في حال ركوعه الا علي (ع) وقد ثبتت امامته بذلك على الترتيب الذي رتبناه فصح انه مصيب في جميع أقواله وأفعاله وتخطئة مخالفيه حسبما شرحناه

حديث المنزلة :

دليل آخر وهو أيضا ما أجمع عليه أهل القبلة ولم ينازع في صحة الخبر به من أهل العلم بالرواية والآثار من قول النبي صلى الله عليه وآله مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فأوجب له بذلك جميع ما كان لهرون من موسى في المنازل إلا ما استثناه من النبوة وفي ذلك أن الله تعالى قد فرض طاعته على أمة محمد كما كان فرض طاعة هرون على

__________________

ـ حين تصدق بخاتمه على السائل وهو راكع في الصلاة ولما شاهد الرسول الاعظم هذه المكرمة رفع طرفه إلى السماء وقال : ان أخي موسى سألك وقال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري الآية فأنزلت عليه قرآنا : سنشد عضدك بأخيك ، الآية ، اللهم انى محمد نبيك وصفيك فاشرح اللهم صدري ويسر أمري وأجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي أشدد به ظهري ; فنزلت الآية ، نص عليه السبط في تذكرة ـ

٣٣

أمة موسى وجعله إماما لهم كما كان هرون إماما لقوم موسى وان هذه المنزلة واجبة له بعد مضى النبي كما كانت تجب لهرون لو بقي بعد أخيه موسى ولم يجز خروجه عنها بحال وفي ذلك ثبوت إمامة أمير المؤمنين والامامة تدل على عصمة صاحبها كما بيناه فيما سلف ووصفناه والعصمة تقضي فيمن وجبت له بالصواب بالاقوال والافعال على أثبتناه فيما تقدم من الكلام وفي ذلك بيان صواب أمير المؤمنين في حروبه كلها وأفعاله بأجمعها وأقواله بأسرها وخطأ مخالفيه وضلالهم عن هداه ولاهل الخلاف من المعتزلة والحشوية والخوارج أسئلة قد أجبنا عنها في مواضعها من غير هذا الكتاب وأسقطنا شبهاتهم بدليل البرهان لم نوردها ههنا لغنانا عن دلك بثبوتها فيما سواه وانما اقتصرنا على ذكر هذه الادلة ووجوهها وعدلنا عن ايراد ما في معناها والمتفرع عليه عن اثبات رسم الحجاج في صواب علي (ع) وفساد مذهب الناكثين فيه والايماء إلى أصول ذلك ليقف عليه من نظر في كتابنا هذا ويعلم العمدة بما فيه ويستوفى معانيه فان أحب ذلك يجده في مواضعه المختصة به لنا ولغيرنا من متكلمي عصابة الحق ولان الغرض في هذا الكتاب ما لا يفتقر إلى هذه الادلة من براهين اصابة على (ع) في حروبه وخطأ مخالفيه ومحاربيه وانا سنذكر فيما يلي هذا الفصل من الكلام وتوضيح الحجة فيه على اصول مخالفينا أيضا في طريق الامامة وثبوتها عندهم من جهة الآراء إنكارهم ما نذهب إليه من قصور طريقها

__________________

ـ الخواص ص ٩ والمحب الطبري في ذخائر العقبى ص ١٠٢ وفي الرياض النظرة (ج ٢ ص ٢٢٧) والرازي في تفسيره (ج ٣ ص ٤٣١) وابن جرير الطبري في تفسيره (ج ٦ ص ١٦٥) والخازن في تفسيره (ج ١ ص ٤٩٦) ومثله البغوي في التفسير بهامشه إلى كثيرين ذكرهم العلامة الاميني في كتاب (الغدير) (ج ٢ ص ٤٨).

٣٤

على النص كما قدمناه وبيناه عن الغرض فيه ووصفناه من الدليل على أن أمير المؤمنين (ع) كان مصيبا في حروبه كلها وان مخالفيه في ذلك على ضلال ، وهو ما تظاهرت به الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله (حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي) وقوله يا علي (أنا حرب لمن حاربك وسلم لمن سالمك) وهذان القولان مرويان من طريق العامة والخاصة ، والمنتسبة من أصحاب الحديث إلى السنة المنتسبين منهم للشيعة ، لم يعترض أحد من العلماء الطعن على سندهما ولا ادعى انسان من أهل المعرفة بالآثار كذب روايتهما ومن كان هذا سبيله وجب تسليمه والعمل به ، إذ لو كان باطلا لما خلت الامة من عالم منها ينكره ويكذب روايته ، ولا سلم من طعن فيه ولعرف سبب تخرصه وافتعاله وأقام دليل الله على بطلانه ، وفي سلامة هذين الخبرين من جميع ما ذكرناه حجة واضحة على ثبوتهما حسبما بيناه.

ومن ذلك الرواية المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال لعلي (ع) : (تقاتل يا علي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) (١).

وقوله لسهيل بن عمر ومن حضر معه لخطابه على رد من أسلم من مواليهم (لتنتهين يا معشر قريش ليبعث الله عليكم رجلا يضربكم على وتأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله) فقال له بعض أصحابه من هو يا رسول الله؟ هو فلان قال لا قال فلان؟ قال لا ولكنه خاصف النعل في الحجرة فنظروا فإذا به علي (ع) في الحجرة يخصف نعل النبي ، وقوله لعلي : (تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين) والقول في هذه الرواية كالاخبار التي تقدمت ، قد سلمت من طاعن في سندها بحجة ومن قيام دليل على بطلان ثبوتها وسلم لروايتها الفريقان فدل على صحتها.

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل (ج ٣ ص ٣٣).

٣٥

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله : (علي مع الحق والحق مع علي) (١).

وقوله صلى الله عليه وآله (اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار) (٢).

وهذا أيضا خبر قد رواه محدثوا العامة وأثبتوه في الصحيح عندهم ولم يعترض أحدهم لتعليل سنده ، ولا أقدم منهم مقدم على تكذيب ناقله وليس توجد حجة في العقل ولا السمع على فساده فوجب الاعتقاد بصحته وصوابه.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) وهذا في الرواية أشهر من أن يحتاج معه إلى جمع السند له وهو أيضا مسلم عند نقلة الاخبار وقوله صلى الله عليه وآله : (قاتل الله من قاتلك وعادى الله من عاداك) والخبر بذلك مشهور وعند أهل الرواية معروف مذكور.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله من آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله (فحكم أن الاذى له أذى الله والاذى لله جل اسمه ضلال مخرج عن الايمان.

قال الله تعالى : (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا). وأمثال ما أثبتناه من هذه الاخبار في معانيها الدالة على صواب علي (ع) وخطأ مخالفيه كثيرة أن عملنا على إيراد جميعها طال به الكتاب وانتشر الخطاب ، وفيما أثبتناه منه دليلا للحق منه كفاية في الغرض الذي نأمله انشاء الله.

__________________

(١) تاريخ بغداد (ج ١٤ ص ٣٢١) ومستدرك الحاكم (ج ٣ ص ١١٩) والتلخيص للذهبي بهامشه.

(٢) مستدرك الحاكم النيسابوري (ج ٣ ص ١٢٤).

٣٦

نظرة في النصوص :

(فصل وسؤال) فان قال قائل انكم ان كنتم قد اعتمدتم على هذه الاخبار في عصمة علي (ع) وهي آحاد ليست من المتواترة الذي يمنع على قائلية الافتعال فما الفضل بينكم وبين خصومكم فيما يتعلقون به من أمثالها عن النبي صلى الله عليه وآله في فضل فلان وفلان ومعاوية بن أبى سفيان؟ (الجواب) قيل له : الاخبار التي يتعلق بها أهل الخلاف في دعوى فضائل من سميت على ضربين : أحدهما لا تنكر صحته وان خصومنا منفردين بنقله إذ ليس فينا مشارك لهم في شئ منه كما شاركنا الخصوم في نقل ما أثبتناه من فضائل علي (ع) إلا أنهم يغلطون في دعوى التفضيل لهم به على ما يتحيلون في معناه والآخر مقطوع بفساده عندنا بأدلة واضحة لا تخفى على أهل الاعتبار وليست مما تساوي أخبارنا التى قدمناها لقطعنا على بطلان ما يقروا به من ذلك طعنا في رواتها واستدللنا على فسادها وأجمع مخالفونا على رواية ما رويناه مما قد بيناه وتسليمه وتخليدهم صحفهم كما ذكرناه وعدو لهم عن الطعن في شيئ منه حسبما وصفناه وان كان هذا سبيله ليس يكون الامر فيه كذلك الا لاعتقاد القوم وتسخيرهم لنقله والتسليم لرواته إذ كانت العادة جارية بأن كل شئ يتعلق به في حجاج مخالفيه ونصرة مذهبه والمنفرد به دون خصمه وكان في الاقرار به شبهة على صحة مقالته المباين لمقال مخالفيه ، فانه لا يخلو من دافع له وجاحد وطاعن فيما يروم به ابطاله إلا أن لا تلزم الحجة في صوابه وأن يكون ملطوفا له في اعتقاده ، أو مسخرا للاقرار به حجة الله تعالى في صحته ودليلا على ثبوته وبرهانا منه على نصرته والمحتج به وتبديل للحق فيه بلطف من لطائفه وإذا كان الامر في هذا الباب على ما بيناه وثبت تسليم

٣٧

الفريقين لاخبارنا مع اختلافهم في الاعتقاد على ما ذكرناه ، وصح الاختلاف بيننا وبين خصومنا في الاحتجاج بالاخبار وبراهينها حسبما اعتمدنا سقط توهم المخالف لما يحيله من المساوات بين الامرين.

إنكار الخوارج والاموية فضل علي :

فان عارض الخوارج وقالوا هم يدفعون ما آتيتموه من الاخبار الدالة على عصمته وذكروا الاموية ، وما يعرف من ضلالهم وظاهر أمرهم في جحد ما رويناه قلنا حكمهم في جحد أخبارنا كحكمهم في جحد أخباركم سواء وإلا فما الفضل بين الامرين فانه يقال لهم الفضل بيننا وبين من عارضتم به من الخوارج في دفع النقل ظاهر لذوي الاعتبار وذلك ان الخوارج ليسوا من أهل النقل والرواية ولا يعرفون حفظ الآثار ولا الاعتماد على الاخبار لاكفارهم الامة جميعا واتهام كل فريق منهم فيما يروونه واعتمادهم لذلك على ظاهر القرآن وانكارهم ما خرج عنه القرآن من جميع الفرائض والاحكام ومن كان هذا طريقة دينه وسبيله في اعتقاده ومذهبه في النقل والاخبار ولم يعتقد بخلافه فيها على حال.

فاما الاموية والعثمانية فسبب جحودهم لفضائل علي (ع) معروف وهو الحرص لدولتهم والعصبية لملوكهم وجبابرتهم وهم كالخوارج في سقوط الاعتراض بهم فيما طريقه النقل لبعدهم عن عمله وتأنيهم عن فهمه واطراحهم للعمل به وقد انقرضوا مع ذلك بحمد الله ومنه حتى لم يبق منهم أحد ينسب إلى فضل علي ولا منهم من يذكر في جملة العلماء بخلافه في شئ من الاحكام فسقط الاعتراض بهم كسقوط الاعتراض بالمارقة فيما تعتمد فيه من الاخبار مع أن الخوارج متى تعاطت الطعن في أخبارنا التي أثبتناها في الحجة على عصمة أمير المؤمنين (ع) فإنما

٣٨

يقطعو بها بالطعن رواتها في دينها المخالف كما تدين به من اكفار علي (ع) وعثمان وطلحة والزبير وعائشة بنت أبى بكر ومن تولى واحدا منهم واعتقد انه من الاسلام وذلك طعن يعم جميع نقلة الدين من الملة فسقط لذلك قدحهم في الاخبار وليس كذلك طعوننا في نقل ما تفردت به الناصبة في الحديث لانا لا نطعن في رواية إلا لكذبهم فيه وقيام الحجة على بطلان معانيه دون الطعن في عقايدهم وان كانت عندنا فاسدة فوضح الفرق بيننا وبين من عارضنا في الخصومة برأيه في الاخبار على ما شرحناه.

جواز قتل الناكثين :

باب آخر الكلام في صواب أمير المؤمنين وحروبه وخطأ مخالفيه ضلالهم عن الحق في الشك فيه : قد بينا أن الحكم على محاربي أمير المؤمنين (ع) باضلال والقضاء له في حربهم بالصواب إذا بنى القول فيه على امامته المنصوصة وعصمته الواجبة له بما قدمناه ثبت القطع على حقيقة كل ما فعل وقال وإذا صحت الاخبار اثبتناها فيما قبل هذا المكان ومضمونها من حكم النبي صلى الله عليه وآله على محاربيه بالفسق المخرج عن الايمان لم يكن طريق إلى الشك في صوابه وخطأ مخالفيه على ما بيناه وفيما أسلفناه في ذلك مقنع لذوي الالباب وغنى لهم في الحجة على خصومهم فيما سواه ونحن نبين القول فيه أيضا بعد الذي تقدم في معناه على مذاهب خصومنا في الائمة وثبوت البعيد لهم من ذوي الرأي حسب اختلافهم في عدديتهم به العقد واجتماعهم على ما اتفقوا عليه في هذا الباب ليعلم الناظر في كتابنا هذا قوة الحق وتمكن ناصريه من الاحتجاج له والله الموفق للصواب.

٣٩

البيعة لامير المؤمنين بعد عثمان :

(فصل) قد ثبت بتواتر الاخبار ومتظاهر الحديث والآثار أن أمير المؤمنين (ع) كان منزلا للفتنة بقتل عثمان وانه بعد عن منزله في المدينة (١) لئن لا تتطرق عليه الظنون برغبته في البيعة بالامر على الناس وان الصحابة لما كان من أمر عثمان ما كان التمسوه وبحثوا عن مكانه حتى وجدوه فصاروا إليه وسألوه القيام بأمر الامة وشكوا إليه ما يخافونه من فساد الامة فكره اجابتهم إلى ذلك على الفور والبدأ لعلمه بعاقبة الامور وإقدام القوم على الخلاف عليه والمظاهرة له بالعداوة له والشنئآن فلم يمنعهم باؤه من الاجابة عن الالحاح فيما دعوه إليه ذكروه بالله عزوجل وقالوا له انه لا يصلح لامامة المسلمين سواك ولا نجد أحدا يقوم بهذا الامر غيرك فاتق الله في الدين وكافة المسلمين فامتحنهم عند ذلك بذكر من نكث بيعته بعد أن أعطاها بيده على الايثار وإماما لهم إلى مبايعة أحد الرجلين ، وضمن النصرة لهما متى أرادوا اصلاح الدين وحياطة الاسلام فأبى القوم عليه تأمير من سواه والبيعة لمن عاداه وبلغ ذلك طلحة والزبير فصارا إليه راغبين في بيعته منتظرين للرضا بتقدمه عليهما وإمامته عليهما فامتنع فألحا عليه في قبول بيعتهما له ، واتفقت الجماعة كلها على الرضا به وترك العدول عنه إلى سواه ، وقالوا أن تجبنا إلى ما دعوناك إليه من تقليد الامر وقبول البيعة وإلا انفتق الاسلام

__________________

(١) في تاريخ الطبري (ج ٥ ص ١٥٤) حصر عثمان وعلي بخيبر وفي شرح النهج لابن أبى الحديد (ج ٢ ص ٤٠٠) كتب عثمان إلى علي فان كنت مأكولا فكن خير آكل وإلا فأدركني ولما امزق وفي العقد الفريد (ج ٢ ص ٢٧٨) مثله.

٤٠