الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة

المؤلف:

الشيخ حسن حسن زاده الآملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-146-3
الصفحات: ٢٨٠

أمثال هذه الحجة إلّا لإثبات التجرّد البرزخى المثالى للخيال فقط فتبصّر.

قوله : « ولم أر في شي‏ء من زبر الفلاسفة » إلخ. هذا كلام الناطق بالصواب كما أنّ زبره النورية سيّما الحكمة المتعالية المشتهرة بـ ـ الأسفار وهي بالنسبة إلى سائر كتبه أمّ الكتاب فاض من قلمه الشريف ، أصدق شاهد على قوله ذلك. وأنت ترى أنّ الفخر نقله في المباحث في عداد الأدلّة على تجرّد النفس من غير تفصيل في التجرّد بل زعم هو وغيره من الباحثين في الفلسفة الرائجة أنّ هذه الحجة لبيان إثبات أنّ النفس من المفارقات العقلية ، ولذلك الزعم اعترض على هذه الحجة بما أتى به صاحب الأسفار ثمّ أجاب عنه بما هو مذكور في الأسفار بعد نقل الحجة ونحن أعرضنا عن الإتيان بأكثر الاعتراضات الموردة على الحجج على تجرّد النفس لما كنّا بصدد نقل الأدلّة والايماء إلى حقائق لعلّ المتدبّر فيها يقدر على جواب الاعتراضات الواردة عليها؛ على أنّا نذكر مآخذ النقل مع جميع مشخّصاتها وبذلك يسهل الخطب على الفاحص الباحث. نعم نذكر بعضا منها مع جوابه إذا رأينا فيه مزيد فائدة وزيادة تبصرة في المقام.

قوله : وبين تجرّد العقل والمعقول عنها ، أي عن الصور الخيالية.

واعلم أن الفخر الرازى كان في العلم قائلا بالإضافة ومنشأ القول بذلك اضطرابه في فهم الحجج على تجرّد النفس ، وقصوره عن النيل بمسألة العلم. وعدّ بعض الاعتراضات إشكالا قويا جدّا حتى قال : ولم يظهر لى بعد عنه جواب يمكننى أذكره لزعمه أن الاعتراض مؤيد له في القول بالاضافة. فنذكر نموذجا من ذلك وهو ما أتى به من اعتراض وبعده من اضطراب في الجواب بعد نقله الحجة المذكورة بالتقرير المتقدم في المباحث فقال :

فإن قيل :

هذه الصور الخيالية لا بدّ وأن يكون لها امتداد في الجهات وذهاب في الأقطار وإلّا لم تكن صورا خيالية ، فإذا تخيلنا مربعا فلا بدّ وأن يتميز جانب من ذلك المربع من جانب آخر وإلّا لم يكن مربعا وذلك أنّما يكون إذا كان له شكل ووضع مخصوص فإذا حلّ هذا الشكل في النفس فإمّا أن تصير النفس مشكّلة بهذا الشكل حتى تصير

٢١

النفس مربعة ، وإمّا أن لا تصير كذلك فإن صارت مربعة مثلا فهي غير مجرّدة بل هي جسمانية ، وإن لم تصر مربعة فصورة المربع غير موجودة فيها لأنّه لا فرق بين أن يقال إنها ليست مربعة وبين أن يقال صورة المربع غير موجودة فيها. فهذا الإشكال قوى جدا ولم يظهر لى بعد عنه جواب يمكننى أن أظهره في كتابى هذا.

أقول : لعلّ صاحب المباحث لمّا كان قائلا في العلم بالإضافة وكان هذا القول أعنى الاعتراض المذكور مؤيدا له ، قال : إنّه قوى كأنّه أخبر بذلك رصانة رأيه في العلم بأنّه إضافة ، مع أنّه لا يخفى على ذوى الألباب ركاكة رأي الإضافة في العلم.

قال المحقق الطوسى في شرح الفصل السابع من النمط الثالث من الإشارات في البحث عن ماهية الإدراك ما هذا لفظه :

واعلم انّ العلماء اختلفوا في ماهية الإدراك اختلافا عظيما وطوّلوا الكلام فيها لا لخفائها بل لشدة وضوحها فمنهم من جعل الإضافة العارضة للمدرك إلى المدرك نفس الإدراك ليندفع عنه بعض الشكوك الموردة على كون الإدراك صورة وغفل عن استدعاء الإضافة ثبوت المتضائفين فلزمه أن لا يكون ما ليس بموجود في الخارج مدركا ، وأن لا يكون إدراك ما جهلا البتة لأنّ الجهل هو كون الصورة الذهنية للحقيقة الخارجية غير مطابقة إياها (ص ٧٧ ، ط شيخ رضا).

يعنى المحقق في قوله : «فمنهم من جعل الإضافة نفس الإدراك» ، الفخر الرازى ويعبّر عنه في شرح الإشارات بالفاضل الشارح. ثمّ نقل بعد نقل اختلاف الآراء في العلم أي الادراك بعض اعتراضات هذا الفاضل.

منها قوله :

فمن اعتراضات الفاضل الشارح في هذا الموضع أنّ الصورة الذهنية إن لم تكن مطابقة للخارج كانت جهلا ، وإن كانت مطابقة فلا بدّ من أمر في الخارج وحينئذ لم لا يجوز أن يكون الإدراك حالة نسبية بين المدرك وبينه.

ثمّ نقل بعض اعتراضاته الأخر وأجاب عنها. وصدر المتألهين في عدّة مواضع من الأسفار تصدّى لدفع وهم الفخر في كون العلم إضافيا.

٢٢

منها في الفصل الحادى عشر من الطرف الأوّل من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» فقال فيه.

والعجب من هذا المسمّى بالإمام كيف زلّت قدمه في باب العلم حتى صار الشي‏ء الذي به كمال كل حيّ وفضيلة كل ذى فضل والنور الذي يهتدى به الإنسان إلى مبدئه ومعاده عنده من أضعف الأعراض وأنقص الموجودات التي لا استقلال لها في الوجود ، إلخ (ج ١ ، ط ١ ، ص ٢٨٨).

ومنها في الفصل الثالث من الطرف المذكور حيث قال : «وأما المذهب الثالث وهو كون العلم إضافة ما بين العالم والمعلوم من غير أن يكون هناك حالة أخرى وراءها فهو أيضا باطل» إلخ. ثمّ أتى بكلام المحقق الطوسى في شرحه على الموضع المذكور آنفا من الإشارات في الرّد على زعم الفخر في الإدراك فقال : «واعلم انّ القائل بكون العلم إضافة» إلخ. (ج ١ ، ط ١ ، ص ٢٧٢).

ومنها في الفصل الرابع من القسم الثالث من الجواهر والأعراض من الأسفار في البحث عن حقيقية الألم واللذة حيث قال : قال فخر المناظرين اللذّة والألم ـ إلى قول صاحب الأسفار ـ :

وأما العلم والإدراك مطلقا فليس كما زعمه هذا التحرير عبارة عن إضافة محضة بين العالم والمعلوم من غير حاجة إلى وجود صورة إلخ. (ج ٢ ، ط ١ ، ص ٣٩). ومنها في الحجة الخامسة في تجرّد النفس في الفصل الأوّل من الباب السادس من نفس الأسفار (ج ٤ ، ط ١ ، ص ٧١).

أقول : وذهب الفخر في الفصل الأوّل من الباب الخامس من الفن الثانى من المباحث المشرقية في بيان تجرّد النفس الإنسانية إلى أنّ العلم ليس بإضافة بل صفة حقيقية حيث قال :

وأما العلم فقد بيّنا أنّ حقيقته ليست مجرّد إضافة فقط بل إنّما يتم بحصول صورة مساوية لماهية المعلوم فيكون العلم صفة حقيقية. إلخ (ج ٢ ، ص ٣٥١ ، ط حيدرآباد الدكن هند).

٢٣

وكم له من نظير في مثل هذا التلوّن.

ولنرجع إلى البحث عن حول الحجة المذكورة في التجرّد البرزخى فنقول : إنّ صدر المتألهين بعد نقل اعتراض الفخر على الحجة وعدّه قويا بلا جواب ، أجابه على مبناه القويم الرصين في الحكمة المتعالية بقوله :

أقول في جوابه إنّ حضور الصورة العلمية للشي‏ء العالم لا يلزم أن يكون بالحلول فيه بل بأحد أنحاء ثلاثة : إمّا بالعينية كما في علم النفس بذاتها ، أو بالحلول فيه كما في علم النفس بصفاتها وكما هو المشهور في حصول المعقولات للجوهر العاقل ، أو بالمعلولية كما في علم الله بالممكنات بصورها المفصّلة فعلم النفس بالصور الخيالية من قبيل القسم الثالث.

ثمّ أفاد قدّس سرّه بقوله :

وبهذا يندفع إشكالات الوجود الذهنى من لزوم كون النفس حارة باردة مستديرة مربعة وغير ذلك ، فإنّهم ذكروا الإشكال بأنّ النفس إذا تصوّرت الكروية فإن وجدت الكروية فيها لزم أن تصير النفس كروية لأنّه لا فرق في نظر العقل بين أن يقال إنّ هذا الشي‏ء كرة ، وبين أن يقال فيه صورة الكرة.

ووجه الاندفاع أن تمثل صورة الكرة وغيرها للنفس كتمثل الأشياء التي شاهدنا في المرآة فإنّ تمثل تلك الصور المشاهدة لأجل المرآة ليس بانطباعها فيه ، ولا بوجودها في الهواء ، وليست هي عين الصورة المادية لأنّا قد برهنّا على أنّ الصور المادية ليس من شأنها أن تكون مدركة لا بالفعل ولا بالقوة فهي إذن صور معلقة غير منطبعة لا في النفس ولا في شي‏ء آخر من المواد الخارجيّة. انتهى.

أقول : قد أطلق الصور المعلّقة هاهنا على الصور المثالية البرزخية المتصلة ، وكثيرا تطلق على الصور المثالية البرزخية المنفصلة. والمعلّقة في قبال الصور الكلية النورية بالمثل الإلهية السائرة على الألسنة بالمثل الأفلاطونية لأنّ افلاطون الإلهي كان شديد العناية بإثباتها والحق معه ، كما استوفينا البحث عن المثل الإلهية والمثل المعلقة في رسالتنا المصنفة في المثل.

٢٤

وهم ورجم :

ثمّ اعلم أنّ دأب صدر المتألهين في الأسفار في كل مسألة حكمية هو أنّه يأتى أولا بأقوال الحكماء فيها وعلى وتيرتهم يأخذ في البحث عنها ، ثمّ يأتى برأيه الشريف السامى في أثناء المباحث وخلالها وتضاعيفها وهو العمدة في مصنفاتها النورية ، سيما في أمّ الكتاب من مؤلفاته أعنى به الحكمة المتعالية المشتهرة بـ الأسفار. ولا يخفى على رجل البحث والتنقيب وفحل التدقيق والتحقيق أنّ الغرض الأهم من تصنيف الكتاب هو الإتيان بأمر جديد وتأسيس أصل قويم فيه إن كان صاحب الكتاب حريا بذلك وإلّا فأيّ فائدة في نقل آراء وأقوال من أوراق إلى أوراق أخرى؟

وصاحب الأسفار قدّس سرّه قد يذكر مصدر الأخذ وقائل الرأى وقد يترك لأنّ ما هو الأهم عنده إيقاظ الطالب وإرشاده إلى ما هو الحق المحقق في ذلك وما أتى به من الحقائق لا توجد في الصحف الحكمية الرائجة إلّا في الزبر العرفانية الأصلية كالفتوحات المكّية وفصوص الحكم ومصباح الأنس على نحو الإشارات والواردات من غير إقامة البرهان عليه وكانوا يقولون إنّ هذه الواردات فوق طور العقل وهو صرّح في الأسفار بأنّ ما كان عندهم فوق طور العقل فقد أقمنا البراهين العقلية عليها.

وقد أفاد في طريقته المثلى هذه أنّ البرهان لا يخالف الوجدان والشهود والعرفان ، كما أفاد في قوله الآخر أنّ البرهان والعرفان لا يخالفان القرآن حيث قال في أوّل الفصل الثانى من الباب السادس من نفس الأسفار في مسألة تجرّد النفس :

إنّ الشرع والعقل متطابقان في هذه المسألة كما في سائر الحكميات ، وحاشى الشريعة الحقة الآلهية أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية ، وتبّا لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنّة (ج ٤ ، ط ١ ، ص ٧٥).

على أنّ صاحب الرأى إذا كان ممن يليق أن يصرّح باسمه يذكره وتأليفه مع تبجيل وتجليل كما هو الظاهر على المتدرب في الأسفار. مثلا في الفصل الخامس من الفن الخامس من الجواهر والأعراض في البحث عن الحركة في الجوهر قال :

٢٥

فصل في نبذ من كلام ائمة الكشف والشهود من أهل هذه الملة البيضاء في تجدّد الطبيعة الجرميّة الذي هو ملاك الأمر في دثور العالم وزواله ، إلى قوله : وأمّا كلام أهل التصوف والمكاشفين فقد قال المحقق المكاشف محيى الدين العربى في بعض أبواب الفتوحات المكية. إلخ (ج ٢ ، ط ١ ، ص ١٧٦). وكم له من نظير.

ثمّ عدم الإتيان باسم الشخص ومؤلفه في متن العبارة لا يدلّ على عدم الإتيان به مطلقا وذلك لأنّه يمكن أن أتى به في هامش الكتاب والناسخ لم يأت به في نسخته ، أو أسقطوه في أثناء الطبع ، والشاهد على ذلك انّ كتاب الوافي لتلميذه الفيض (رضوان الله تعالى عليه) قد طبع بدون ذكر انتقال الرواية من أيّ باب من الكتب الأربعة إلى ذلك الباب من الوافي وانّ ذكر مآخذ النقل على نحو الإجمال برموز كا ، يه ، يب ، صا؛ أي الكافي وكتاب من لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار ، وعندنا من بعض أقسام الوافي نسخة مخطوطة ذكر في هامشها أيضا الأبواب التي نقل الحديث منها والوافي المطبوع خال عنها ، فعدم ذكر الأشخاص ومؤلفاتهم في أثناء عبارة الكتاب لا يدلّ على عدم ذكرهم مطلقا. على أنّ صاحب الأسفار قد يوصف القائل بصفة يعلم الخواص من هو بذلك الوصف مثلا في الحجة التاسعة من حجج تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا من نفس الأسفار نقل كلام صاحب المباحث ولم يصرّح باسمه بل قال :

وهذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطن بتجرّد الخيال ، يعنى به الفخر ، وقال بعد أسطر : الإدراك لا يخلو إمّا أن يكون هو الصورة الحاصلة من الشي‏ء ، أو الإضافة التي بين المدرك والمدرك كما هو مذهب هذا القائل (ج ٤ ، ط ١ ، ص ٧٤). والفخر كان في العلم قائلا بالإضافة.

وبعد ذلك كلّه أن تحقيقاته النورية العرشية منقولة من أىّ كتاب؟ وليس ذلك إلا كما يقول هو قدّس سرّه في عدة مواضع من الأسفار يخبر على ما أفاضه الوهّاب على الإطلاق وأتى به في كتابه المستطاب كقوله في آخر الفصل الثانى من الباب العاشر من نفس الأسفار.

فإنّى أعلم من المشتغلين بهذه الصناعة من كان رسوخه بحيث يعلم من أحوال

٢٦

الوجود أمورا تقصر الأفهام الذكية عن دركها ولم يوجد مثلها في زبر المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والعلماء للّه الحمد وله الشكر.

‏وقال المتأله السبزوارى في تعليقته عليه :

قوله : «فانّى اعلم من المشتغلين ـ ا ه ـ» أراد نفسه الشريفة والحق معه وتحقيقاته الأنيقة أعدل شاهد على ما أفاده (شكر اللّه مساعيه). انتهى.

وأقول وجه أنّه أراد نفسه الشريفة ظاهر من قوله : «لله الحمد وله الشكر» وإلّا فلا معنى للحمد والشكر (ج ٤ ، ط ١ ، ص ١٣٠).

وكقوله بعد نقل تقرير الحجة المذكورة : «ولم أر في شي‏ء من زبر الفلاسفة ـ ، إلى آخر ما نقلناه عنه آنفا (ج ١ ، ص ٣١٧ ، ط ١).

وكقوله في تعليقة منه على الفصل السابع من الطرف الأوّل من المسلك الخامس من الأسفار في اتحاد العقل والعاقل والمعقول ما هذا لفظه :

كنت حين تسويدى هذا المقام بكهك من قرى قم فجئت زائرا لبنت موسى بن جعفر عليه السّلام منها وكان يوم جمعة فانكشف لى هذا الأمر بعون الله تعالى.

أقول : هذه الإفاضة والبارقة كانت ضحوة يوم الجمعة سابع جمادى الأولى لعام سبع وثلاثين بعد الألف من الهجرة النبوية وقد مضى من عمره المبارك السلام ثمان وخمسون سنة قمرية. وهي تعليقة على قوله في الفصل المذكور :

وبسط أنوار الإفاضة فأفاض علينا في ساعة تسويدى هذا الفصل من خزائن علمه علما جديدا وفتح على قلوبنا من أبواب رحمته فتحا مبينا ، إلخ.

وقد حرّرنا تفصيل ذلك في الدرس الخامس من كتابنا دروس اتحاد العاقل بالمعقول (ط ١ ، ص ١٠٦ ـ ١١٠).

وهكذا نظائر أقواله المذكورة في عدة مواضع أخرى من الأسفار. ولو لم يتفوّه هو قدّس سرّه بها لكان أعلام العلماء وأساطين الحكماء الذين جاءوا بعده قالوا بها في حقه كما قالوا. وكان معلّم العصر استاذنا العلم الآية العلامة الميرزا ابو الحسن الشعرانى (قدّس سرّه الشريف وجزاه الله تعالى عنا خير جزاء المعلّمين) يصفه باللطف الإلهي. وكان يقول‏

٢٧

حينما أخذ الناس في التوغل في المادة والتعلّق بالطبيعة والإخلاد إلى الأرض ، جعل هذا اللطف الإلهي في قبالهم ليذكّرهم أيام اللّه وأحوالهم في الآخرة والأولى ويحثّهم إلى الاغتذاء من مأدبة الله القرآن الكريم والتأدب بآدابه.

وكذا كان استاذنا العلم الآية العلامة السيد محمد حسين الطباطبائى صاحب الميزان قدّس سرّه العزيز يقول : هذه الحقائق النورية مما علّمنا صدر المتألهين (رضوان الله تعالى عليه).

وكذلك استاذنا العلم الآية الميرزا السيد ابو الحسن الرفيعى القزوينى قدّس اللّه سرّه الشريف يصف الأسفار بالسهل الممتنع. وكان يقول في مسألة أنّ الغذاء معدّ النفس لأن تصنع بدنها بإذن بارئها من كتاب نفس الأسفار. «أنظر إلى عظمة هذا البطل العلمى في الدورة الإسلامية». وهو (رضوان الله تعالى عليه) ألّف وجيزة في تفسير كريمة (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) من أوّل سورة يونس من القرآن العظيم وجعلناها تبرّكا النكتة الرابعة والعشرين وخمسمائة من كتابنا ألف نكتة ونكتة ، ونقلنا كلامه الشريف في آخرها حيث قال :

ومن أراد تفصيل تحقيق هذه المعانى ورام مخ الحكمة ولبّ المعرفة في مراتب كتابه سبحانه وكلامه فليرجع إلى السفر الثالث من الأسفار الأربعة في العلم الإلهي ومفاتيح الغيب لصدر أعاظم الحكماء والمتألهين العارف الشامخ المحقق الحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازى (قدّس الله عقله ونوّر روحه) بشرط الأخذ من أستاذ ماهر حاذق خبير ، وإياك أن تغرّ بفهمك الساتر وتطالع كتاب الأسفار هيهات هيهات ففيه خبايا رموز كنوز قلّ من يهتدى إلى مغزاها ويدرك فحواها إلا الألمعى الناقد المستوقد المؤيد بنور اللّه العظيم. انتهى كلامه الرفيع (ج ١ ، ط ١ ، ص ٢٩٢).

والأعلام الثلاثة المذكورة كانوا من أعاظم الحكماء المتألهين الراسخين في الحكمة المتعالية في عصرنا هذا (أفاض الله سبحانه من بركات أنفاسهم الشريفة علينا).

ثمّ انّ مثل صاحب الأسفار إذا أراد نقل قول من الحكمة الذائعة المشائية ينقله من مثل المباحث المشرقية لأنّ المباحث تحرير شفاء الشيخ على تلخيص ، والغرض أيضا

٢٨

إراءة قول المشاء سواء كان من المباحث أو غيره لكنه ينقل منه كثيرا. وقد يذكر كتابه ويسميه وقد لا يعتنى بذلك وليس هذا مما يوجب الإزراء والشين على مثل صدر المتألهين. ومثل الفخر الرازي والغزالي يجب أن يباهى بفهم كلماته العرشية وآرائه الرصينة وقد رأيت بعض عباراته في صاحب المباحث. وكذا قال في الأسفار في الغزالى ما هذا لفظه :

وبعض من تصدّى لخصومة أهل الحق بالمعارضة والجدال والتشبّه بأهل الحال بمجرّد القيل والقال كمن تصدّى لمقابلة الأبطال ومقاتلة الرجال بمجرّد حمل الأثقال وآلات القتال ، قال في تأليف سمّاه تهافت الفلاسفة إلخ (ج ١ ، ص ٥٥ ، ط ١).

وأقول أيضا قد وفّقنا الله سبحانه بالتحقيق في مسائل الأسفار والخوض فيها والتعليقة عليها وتصحيح عباراتها بالعرض والمقابلة على عدّة نسخ مخطوطة بعضها كتبت بعد ثمانى عشرة سنة من رحلة صدر المتألهين ، وكذا على عدّة نسخ مطبوعة مصححة ومحشاة من مشايخ العلوم العقلية ، طول تدريسنا إياه في الحوزة العلمية مدينة قم ، حيث كانت دورة واحدة من تدريسه في أربع عشرة سنة وقد كان بدء التدريس ويوم الشروع من تلك الدورة التاسع والعشرين من رجب الأصبّ من شهور إحدى وتسعين وثلاثمائة سنة بعد الألف من الهجرة (٢٩ / ٦ / ١٣٥٠ هـ. ش) ، وكان ختم التدريس الليلة الثلاثاء السابعة من شهر الله المبارك من شهور خمس وأربعمائة سنة بعد الألف من الهجرة (٧ / ٣ / ١٣٦٤ هـ. ش).

وفي هذا الأمد من الدورة الأولى صحّحنا الأسفار من البدء إلى الختم وكذلك أوضحنا مطالبها بتعليقات موضحة وحواشى مبيّنة من أوّله إلى آخره ، وتفحّصنا عن ذكر المآخذ والمصادر التي ذكرت في الأسفار ، أو لم يذكر وو وجدنا أكثرها بطول البحث والفحص ، وشرعنا بتأليف كتاب في ذكر الاقوال المنقولة في الأسفار ، وذكر مصادرها ومنابعها وقد طبع طائفة منها باسم العرفان والحكمة المتعالية ، ونسأل الله سبحانه التوفيق في إتمامه. وكلّما غصنا وخضنا في الأسفار زدنا فيه تحيّرا.

وغرضنا من هذه المقالة التي كأنّها خارجة عن موضوع الكتاب ، أنّ بعض من‏

٢٩

عاصرناه بمجرّد أن رأي نقل طائفة من أقوال الأسفار من كتب ورسائل أخرى ، خرج عن زيّه وأساء الأدب بساحة صدر المتألهين بلسان بذىّ حيث أكثر ألفاظه الموهنة في تأدية رأيه الفائل قائلا مع ترعّد وتبرّق بـ :

أنّ الأسفار متخذ من كتب عديدة وصاحب الأسفار من عمله هذا قد اشتبه الأمر على الناس وأوقعهم في الشبهة والالتباس في سنين كثيرة؛ وقال : ولم يلتفت إلى عمله هذا السبزوارى المحشي للأسفار ولا استاذه المولى إسماعيل الأصفهانى بل ولا توجّه إليه الآخوند المولى على النوري ولا أحد ممن جاء بعد المولى الصدراء الشيرازى إلّا أنا.

ثمّ أهان هذا البعض بألفاظ ركيكة هؤلاء المشايخ الكبار ، نعوذ باللّه من طغيان القلم وهفوات اللسان وإساءة الأدب بأعاظم العلم والإيقان المرزوقين من مأدبة القرآن الفرقان.

٣٠

ب) الحجة الثانية على تجرّد الخيال‏

أنّ الصورة الخيالية كصورة شكل مربع محيط بدائرة قطرها يساوى قطر الفلك الأعظم ، فهذه الصورة الشكلية إمّا أن تكون بالقياس إلى ما هي شكله في الموجودات الخارجية كأنّها شكل منزوع عن موجود خارجى وليس كذلك؛ أو يكون شكلا في مادة دماغية حاملة لها والمادة الدماغية مشتغلة بشكل صغير المقدار غير هذا الشكل ، والمادة الواحدة لا يجوز أن يشتغل في آن واحد بمقدار صغير في غاية الصغر وبمقدار عظيم في غاية الكبر ، ولا يشكل أيضا بشكلين متباينين دفعة واحدة.

وأيضا شكل الدماغ طبيعي ، وكذا مقداره مقدار طبيعى له وهذا الشكل الذي كلامنا فيه قد يحصل بالإرادة النفسانية على أي مقدار نريد وكذا غيره من الصور والأشكال.

وأيضا ربما يزداد المقدار المشكل الحاضر في الخيال وينبسط في تماديه إلى حيث يشاء النفس وكل جسم طبيعى لا يمكن أن ينمو ويزداد إلا بإضافة مادة من الخارج إليه فظهر أنه المقدار المشكل المتخيل ليس مقدارا لمادة دماغية ولا لغيره من الأجسام الخارجية فبقى أن تكون نسبة القوّة الدرّاكة إليه غير نسبة القوّة الحاملة لما يحلّها ولا نسبة ذى وضع بذى وضع آخر.

بل نقول من رأس إنّ تلك القوة لا محالة لها علاقة إلى ذلك الشكل فتلك العلاقة إمّا وضعية كالمجاورة والمحاذاة وما يجرى مجراها كما بين الأجسام الخارجية؛ وإمّا غير وضعيّة ، والقسم الأوّل محال لأنّ ذلك الشكل غير واقع فوق الإنسان ولا تحته ولا في يمينه أو يساره ولا قدّامه أو خلفه فبقى القسم الثانى ، وقد علمت أنّها ليست

٣١

بالقابلية بأن يكون المتخيل المشكل صورة لتلك القوة كما مرّ ، ولا بالمقبولية بأن تكون القوّة صورة له لا ستحالة كون المدرك بالقوّة صورة لما هو مدرك بالفعل فبقى أن تكون العلاقة بينهما بالفاعلية والمفعولية فكون المقدار المشكل فاعلا للقوّة الدرّاكة غير صحيح لما ثبت أنّ المقادير ليست عللا فاعلية لأمر مباين.

وأيضا هذه القوّة باقية فينا وتلك الصورة وأشباهها قد تزال وتسترجع.

فبقى أنّ القوّة الخيالية فاعلة إياها أو واسطة أو شريكة ، فهي لو كانت قوة مادية لكان تأثيرها بمشاركة الوضع وكل ما تأثيره بمشاركته فلا يؤثر إلّا فيما له أو لمحلّه وضع بالقياس إليه فالنار لا تسخن إلّا لما يجاورها في جهة منها ، والشمس لا تضي‏ء إلا لما يقابلها في جهة منها ، والصورة الخيالية غير واقعة في جهة من جهات هذا العالم.

وأيضا هي ممّا يحدث دفعة والقوّة الجسمانية لا يمكن أن يكون لها نسبة إلى نفس صورة شي‏ء تحدث تلك الصورة بسببها قبل وجودها لأنّ النسبة إلى ما لم يوجد بعد غير ممكنة ، وقد برهن على أنّ المؤثر الجسماني لا بدّ وأن يكون له تلك النسبة حاصلة قبل وجود أثره قبلية زمانية أو ذاتية فلا بدّ وأن يكون له تلك النسبة الوضعية بالقياس إلى مادة الأثر قبل حصول الأثر كمثال النار والشمس في تأثيرهما ، فلو كان للقوّة الخيالية وضع لكان ذلك الوضع حاصلا قبل حصول تلك الصور الخيالية الحادثة بالقياس إلى مادتها ، وقد ثبت أنّ تلك الصور لا مادة لها فالمؤثر في تلك الصور لا يمكن أن يكون قوة جسمانية مادية بوجه من وجوه التأثير فإذا لم تكن علاقة القوّة الخيالية إلى تلك الصورة وضعية جسمانية ، ولا هي عديمة العلاقة إليها فهي لا محالة مبدأ غير جسماني لها فتكون مجرّدة عن المادة وعلائقها هذا ما أردناه.

وتلخيصه : أنّ الصورة الخيالية غير ذات وضع وكل ما لا وضع له لا يمكن حصوله في ذى وضع فهي غير حاصلة في قوّة جسمانية لا بوجه القبول ولا بوجه الفعل ولا بوجه المباينة الوضعية فالمدرك لها قوّة مجرّدة وهي ليست القوّة العاقلة لأنّ مدركات العقل غير منقسمة لأنّها كلية.

وأيضا العقل متحد بالمعقولات عند صيرورته عقلا بالفعل ، وما يدرك المعقول من

٣٢

حيث كونه مدركا له غير مدرك للمتخيل فإذن القوّة المدركة للصور المتخيّلة قوّة أخرى دون العقل فيثبت كون الخيال قوّة مجرّدة.

أقول : هذه الحجة هي الحجة الأولى من حجج تجرّد الخيال في الأسفار (ج ١ ، ط ١ ، ص ٣١٦). وقد حررناها في الدرس الثانى والسبعين من كتابنا الفارسى دروس معرفت نفس تحرير إيضاح وتبيين بالفارسية (ص ٢١١ ـ ٢١٧ ، ط ١) فلا نعيده هاهنا.

قوله : «وقد علمت أنّها ليست بالقابلية ـ إلى قوله لتلك القوّة كما مرّ». يعنى أنّ العلاقة ليست بالقابلية كما مرّ في صدر هذه الحجة من أنّ المادة الواحدة لا يجوز أن يشتغل في آن واحد بمقدار صغير ـ إلى قوله : «دفعة واحدة».

قوله : «وقد برهن على أنّ المؤثر الجسمانى إلخ». قد برهن ذلك في الفصل السادس والثلاثين من المرحلة السادسة من أنّ القوى الجسمانية لا تفعل ما تفعل إلّا بمشاركة الوضع إلخ (ج ١ ، ط ١ ، ص ٢٠٤).

والفرق بين هذه الحجة وبين الحجة الأولى أنّ محطّ النظر في الأولى الامتياز؛ وبعبارة أخرى الملاك في الحجة الأولى هو التمييز بين الصور الخيالية المتعددة التي لا وجود لها في الخارج ، بخلاف الثانية فإنّ ملاك البحث فيها هو الصورة الخيالية الواحدة التي لا تحقق لها في الخارج ثمّ إجراء البرهان على سبيل تشقيق السؤال فيها ، وإن كانت الحجتان في كثير من الأحكام متشاركتين ومتشابهتين.

٣٣

ج) الحجة الثالثة على تجرّد الخيال هي :

أنّا حكمنا بأنّ السواد يضادّ البياض ، والحاكم بين الشيئين لا بدّ وأن يحضراه ، فقد برهنّا على أنّه لا بدّ من حصول السواد والبياض في الذهن أو للذهن ، والبديهة حاكمة بامتناع اجتماعهما في الأجسام والموادّ ، فإذن المحلّ الذي حضرا فيه وجبا أن لا يكون جسما ولا جسمانيا ، والمدرك لمثل هذه الصور الجزئية التي تمتنع عن الكلية والاشتراك بين الكثيرين لا يكون عقلا بل خيالا فثبت أنّ القوّة الخيالية مجرّدة عن المواد كلّها. (الأسفار ، ج ١ ، ط ١ ، ص ٣١٨).

أقول : هذه الحجة هي الحجة الثالثة من الفصل المذكور من الأسفار أيضا على تجرّد الخيال. وقد حرّرناها إجمالا في الدرس السبعين من دروس معرفت نفس بالفارسية (ص ٢٠٧ ، ط ١) ؛ وقد أتى بها الفخر في المباحث وهو الدليل الحادى عشر منه على تجرّد النفس الإنسانية على نحو الإطلاق (ج ٢ ، ص ٣٧٥). وأما التفصيل والتبيين بكونها من أدلة تجرّد الخيال على مبنى الحكمة المتعالية فمن مزايا الأسفار ، ولذا كانت عبارة الأسفار ذات إضافات وإشارات عرشية وعبارة المباحث عارية عنها.

على أنّ المباحث أتى بها على ما ذهب إليه الجمهور من كون الخيال محلا للصور لأنّهم ذهبوا إلى أنّ التخيّل بقوّة جسمانية وقد استدلوا بها بأمور ثلاثة أتى بها في المباحث (ج ٢ ، ص ٣٣٩ ، ط ١) وسنشير في المباحث الآتية إلى مآخذ البحث عنها وكلام القوم فيها. وحيث إنّ صاحب الأسفار قائل بأنّ الخيال ليس محلا لها أضاف في الحجة بعد قوله في الذهن : قوله أو للذهن؛ وعبارة المباحث عارية عن الشق الثانى أعنى أو للذهن ووجهه ظاهر على العارف بمعارف الحكمة المتعالية حيث إنّ الأوّل‏

٣٤

على القيام الحلولى ، والثانى على القيام الصدورى.

ثمّ انّ صاحب المباحث بعد نقل الدليل المذكور أتى ببعض الاعتراضات عليه على مذهب الجمهور ، وصاحب الأسفار بعد الإتيان بها أتى بدقائق أخرى على مبنى الحكمة المتعالية ، وقد أومأ بتزييف ما عليه الجمهور على ما نحكى عبارته الشريفة وهي ما يلى :

لا يقال : التضاد بين السواد والبياض لذاتيهما فأين حصلا فلا بدّ وأن يتضادّا.

فنقول : انّه من المحتمل أن يكون تضادّهما في المحالّ التي تنفعل عن كل منهما وتتأثر فإنّ الجسم إذا حلّ فيه السواد يتغيّر وتترتّب عليه آثار مخصوصة كقبض الإبصار ونحوه ، وإذا حلّ فيه البياض يتغيّر وتترتب عليه آثار تخالف تلك الآثار؛ وأما المحل الإدراكى فلا ينفعل عنهما مثل هذه الانفعالات والاستحالات وكل منهما يطرأ ويزول ويجتمع معا ويفترق معا وهو كما كان.

هذا إن كان الخيال محلا لهما وأما على ما حققناه من أنّ حصول تلك الصور له هو بعينه حصولها عنه لأنّ نسبته إليهما بالفاعلية لا بالقبول الانفعالى ، ولو كان هناك قابليّة هي عين الفاعلية كما في علوم المفارقات ، وبالجملة شرط التضاد بينهما هو الموضوع الانفعالي المادّي لا غير فلا استحالة في اجتماعهما لمحلّ غير مادّي أو لجوهر فاعلي.

وليس لقائل أن يقول : إنّا إذا تصوّرنا السواد والبياض والحرارة والبرودة فلا تنطبع هي أنفسها بل تنطبع صور هذه الأمور ومثلها فقط فلهذا لا يلزم أن تكون حارّة باردة عند انطباع هذه الأمور.

لأنّا نقول هذه الأمور التي سمّيتموها بأنّها صور السواد والبياض وغيرهما هل لها حقيقة السواد والبياض أم لا؟ فإن كانت لها حقيقتهما وقد انطبع في النفس صور تلك الأمور التي هي بالحقيقة سواد وبياض وحرارة وبرودة واستدارة واستقامة فيجب عند ذلك أن تصير النفس حارة وباردة ، سوداء وبيضاء ، مستقيمة ومستديرة فتكون جسما؛ وإن لم تكن لتلك الصور التي تصوّرناها حقيقة السواد والبياض والحرارة

٣٥

والبرودة لم يكن إدراك الأشياء عبارة عن انطباع ماهية المدرك في المدرك.

وأيضا نحن نعلم بالوجدان عند تخيّلنا ومشاهدتنا لتلك الأمور أنا نشاهد السواد والبياض والحرارة بعينها كما أحسسناها في الخارج. فالتحقيق كما بيّنّاه أنّ نسبة النفس إليها نسبة الفاعلية والإيجاد ، وهذه النسبة أشد وآكد من نسبة المحل المنفعل لأنّ نسبة الفاعلية بالوجوب ونسبة القابلية بالإمكان ، والوجوب آكد من الإمكان في باب النسبة. انتهى.

أقول : قوله «وأمّا على ما حققناه من أنّ حصول تلك الصور له إلخ» هذا هو جوابه التحقيقى في قبال الجواب الاحتمالى الذي أتى به الفخر في المباحث أولا بقوله : «من المحتمل أن يكون تضادهما في المحالّ إلخ». وقد مضى تحقيقه في الوجود الذهنى حيث قال في أوّل الفصل الأوّل من المنهج الثالث :

كل صورة صادرة عن الفاعل فلها حصول له. بل حصولها في نفسها نفس حصولها لفاعلها ، وليس من شرط حصول شي‏ء لشي‏ء أن يكون حالّا فيه وصفا له بل ربما يكون الشي‏ء حاصلا لشي‏ء من دون قيامه به بنحو الحلول والوصفية كما أنّ صور جميع الموجودات حاصلة للباري حصولا أشدّ من حصولها لنفسها أو لقابلها. (ج ١ ، ط ١ ، ص ٦٥).

مزيد فائدة : عبارة الأسفار في هذه الحجة هي عبارة الفخر في المباحث وقد دريت أنّها الدليل الحادى عشر منه في بيان أنّ النفس الإنسانية ليست بجسم ولا منطبعة في جسم. والفرق بين ما في المباحث وبين ما في الأسفار أنّ صاحب الأسفار أضاف إليها قيودا حتى خصّصها بتجرّدها المثالى أعنى تجرّدها الخيالى البرزخى ، وصاحب المباحث جعلها حجة على تجرّدها العقلى. وانما غرضنا الآن نقل ما في المباحث فإنّه يوجب للمحقق زيادة استبصار في تحقيق البحث.

قال : الدليل الحادى عشر وهو أنا إذا حكمنا بأنّ السواد يضاد البياض فقد برهنا على أنّه لا بدّ من حصول السواد والبياض في الذهن ، والبداهة حاكمة بامتناع اجتماعهما في الأجسام والجسمانيات ، فإذا المحلّ الذي حضرا فيه وجب أن لا يكون جسما

٣٦

ولا جسمانيا.

فإن قيل : التضاد بين السواد والبياض لذاتيهما فأين حصلا فلا بدّ وأن يتضادّا. فنقول : انّه من المحتمل أن يكون تضادّهما أنّما يتحقق في بعض المحالّ دون البعض فيكون من شرط المحل الّذي يظهر عليه التضاد أن يكون جسما ، وعند ما لا يكون المحلّ جسما لا يتحقق شرط التضاد فلا يتحقق التضاد.

ولقائل أن يقول : الشك المذكور متوجه هاهنا أيضا ، وهو أنّ النفس إذا تصورت الكريّة فان وجدت الكرّية فيها لزم أن تصير النفس كرة لأنّه لا فرق في العقل بين أن يقال هذا الشي‏ء كرة ، وبين أن يقال صورة الكرة؛ وكذلك القول في السواد والبياض والحرارة والبرودة.

وليس لأحد أن يقول إنّ انطباع صورة الكرة في النفس كانطباعها في المرآة حين ما تشاهد الكرة في المرآة لأنّا بيّنا أنّ الأشياء التي شاهدناها في المرآة ليس ذلك لأجل انطباع صورها فيها.

وليس لأحد أن يقول : إنّا إذا تصورنا السواد والبياض والحرارة والبرودة فلا ينطبع السواد والبياض والحرارة والبرودة في النفس بل تنطبع فيها صور هذه الأمور ومثلها فقط فلهذا لا يلزم أن تكون النفس حارة باردة عند انطباع هذه الأمور فيها.

لأنّا نقول : هذه الأمور التي سميتموها صور السواد والبياض ومثلها هل لها حقيقة السواد والبياض أم لا؟ فإن كانت لها حقيقة السواد والبياض فمثال السواد والبياض وصورتهما أيضا سواد وبياض فقد انطبع في النفس سواد وبياض وحرارة وبرودة واستدارة واستقامة فيجب أن تكون النفس سوداء بيضاء حارة بارة مستديرة مستقيمة فتكون حينئذ جسما؛ وإن لم تكن لصور السواد والبياض والاستدارة والاستقامة ومثلها حقيقة السواد والبياض والاستقامة والاستدارة لم يكن إدراك الأشياء عبارة عن انطباع ماهية المدرك في المدرك. فهذا الشك لا بدّ وأن يحتال في حلّه إن فسر الإدراك بالانطباع ، أو اعتبر فيه الانطباع كيف كان ولولاه لكانت هاتان الحجتان قويتين جدّا. انتهى.

أقول : «قوله الشك المذكور متوجّه هاهنا أيضا» يريد بذلك الشك ما تقدّم في تقرير الدليل الذي عوّل عليه أفلاطون في تجرّد النفس الناطقة ، وهو الدليل العاشر من المباحث ، والحجة الثانية من الأسفار على تجرّد النفس تجرّدا مثاليا ، والحجة الاولى في‏

٣٧

كتابنا هذا على هذا التجرّد ، كما أنّهما المراد من قوله : «ولو لاه لكان هاتان الحجتان قويتين جدّا». وقد تقدّم ما يجب أن يقرر. وأنت بعد معرفة ما تقدّم هان عليك جواب الشّك المذكور.

تبصرة : أصل هذه الحجة في الحقيقة هي الحجة الثالثة التي أتى بها الشيخ الأجل ابن سينا في الحجج العشر على تجرّد النفس تجرّدا عقليا لأنّ ما فرض من المتضادين فيهما هما الصورتان المعقولتان ، فسياق الحجة فيهما واحد فإذا أخذ فيها المتقابلات على صورها الجزئية فتختص بتجرّد الخيال ، وإذا أخذت على صورها الكلية فتختص بالتجرّد العقلى. قال الشيخ :

لو كانت الصورة المعقولة تحتلّ جسما من الأجسام وتلابسه لامتنع إدراك المتضادّين بادراك واحد معا لأن صورتى الضدين هكذا. وبالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا ولكن الجسم في محلّ هذه الصورة مخالف لهذا فانه مهما حلّ فيه صورة أحد المتقابلين وجب ضرورة أن تحلّ معه صورة المقابل الثاني إذ علم المتقابلات يكون معا فتبيّن أن هذا الجوهر أعنى القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى وذلك ما أردنا أن نبيّن (ص ٨ ، ط حيدرآباد الدكن).

أقول : لفظة «هكذا» في العبارة المنقولة إمّا زيدت في النسخة المطبوعة ، وكان الأصل غير مقروّة بإصابة خرم أو ماء أو آفة أخرى فأضاف المصحّح تلك اللفظة وترك في تجاهها قريبا من نصف سطر بياض؛ ولعلّ عبارة الأصل كانت هكذا : لأنّ صورتى الضدّين المعقولين لا تحلّان جسما معا وبالجملة المتقابلات إلخ؛ أو أنّ العبارة لو تركت بصورتها لكانت تماما ولا حاجة إلى ذلك التقدير فكانت العبارة هكذا : «لأنّ صورتى الضدين وبالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا» ولا دغدغة فيها؛ أو أنّ لفظة «هكذا» من عبارة الشيخ بلا توهم سقط ، فحينئذ كان معناها : لأنّ صورتى الضدّين هكذا أي امتنع إدراك المتضادين بإدراك واحد معا ثمّ عمّم الحكم بأنّ ذلك الامتناع لا يختص بالضدين ، فقال : «وبالجملة المتقابلات سواء كانت ضدين أو غيرهما لا تحل في جسم معا». والأخير هو الصواب.

٣٨

بيان الحجة : أنّ الأضداد بل المتقابلات لا تحلّ جسما ولا تلابسه معا؛ وإن يحلّ متقابل في طرف من جسم ومتقابل آخر في طرف آخر منه صدق أيضا أنّ المتقابلين لم يحلّا جسما واحدا أي محلّا واحدا فان محلّ هذا مخالف لمحلّ هذا ، وأما جوهر النفس الناطقة فاذا أدرك أي علم وتعقل الصورتين المعقولتين المتقابلتين أدركهما معا فهو جوهر غير جسمانى. فعلى هذا السياق نقول في تقرير الحجة : لو كانت الصورة المعقولة تحلّ جسما وتلابسه أي لو كانت النفس جسما لامتنع إدراك المتضادين معا بإدراك واحد لأنّ صورتى المعقولتين المتقابلتين ، وبالجملة المتقابلات مطلقا لا تحل في جسم معا ، ولكن حلولها في جسم يصحّ من حيث إنّه يقبل الانقسام وكل قسم مخالف لقسم آخر ، فيصح أن يكون كل قسم من أقسامه محلّ صورة متقابلة لصورة أخرى؛ وأمّا جوهر النفس فإنّه مهما حلّ فيه صورة إحدى المعقولتين المتقابلتين وجب ضرورة أن تحلّ معها صورة الأخرى لأنّ جوهر النفس يقضى بأنّهما متقابلتين والقضاء فرع على حضور المقضى عليهما معا ، أي حكمه ذلك متفرع على علمه بالمتقابلات معا فتبين أنّ هذا الجوهر الحاكم القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى.

الحجة المذكورة نقلها أبو البركات في الفصل الثالث عشر من الجزء السادس من المعتبر قال :

احتجّوا بأنّ النفس جوهر غير جسماني .... وبأنّ النفس الناطقة التي هي محلّ المعقولات لو كانت قوة جسمانية لحلّت معقولاتها الجسم الذي هو محلّها فامتنع عليها إدراك المتضادين وجمعهما في التصوّر معا ، ونفس الإنسان تعقل المتضادين معا وتقيس أحدهما إلى الآخر وتحكم عليهما وفيهما بما يلزمهما معا من الإضافة والضدية والمناسبة والمباينة التي لا تلزم أحدهما دون الآخر لكن بالآخر ومعه وعنه فليست من القوى الجسمانية. (ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، ط حيدرآباد الدكن).

ثمّ اعترض عليها في الفصل التالى في تأمل حجج التجرّد وتتبّعها بقوله :

وأما القائلة بأنّ النفس العاقلة لو كانت قوّة جسمانية لحلّت معقولاتها الجسم الذي

٣٩

هو محلّها فامتنع عليها إدراك المتقابلات والأضداد معا ، فلا بأس بها فإنّ الأجسام وما يحلّها من الأضداد والمتقابلات لا يجتمع في الموضوع الواحد منها الضدّان معا والنفس تجمع صورتيهما فتحكم فيهما وعليهما وتقيس إحداهما إلى الأخرى فما حلّت عندها في اجتماعها معا جسما. فإن اعترض فيها معترض فقال : إنّ الخاصية في ذلك أنّما هي في الصور الحالة لا في المحلّ فإنّ هذه الصور غير تلك بالنوع والماهية بل هي غيرها وتلك موجودة طبيعية في موضوعها وعلى طباعها ، وهذه موجودة في محلّها لا على طباع تلك وخواصّ أفعالها فإنّ تلك تحرق نارها ويجمد ثلجها وهذه لا تحرق ولا تجمد فكما ارتفع عنها خواص الأفعال ارتفع عنها لوازم التضاد كان هذا الاعتراض مؤثرا فيها إلى ما يعضدها غيرها فتكون الحجة تلك لا هذه. (ج ٢ ، ص ٣٦٠).

‏ثمّ اعتمد عليها وصوّبها في الفصل التالى بقوله :

والحجة القائلة بإدراك الضدّين معا نعم الحجة لكنّها لا تبرئ تلك القوى الأخرى التي ذكروها ، بل حكمها في ذلك لو كانت حكم النفس فيما ذكرنا فمتصور الضدين وحافظهما وذاكرهما ليس من عالم الطبيعة فما هو جسم ولا عرض في الجسم حتى يتميز لهم نفس هي جوهر غير جسمانى مع القوى الجسمانية الأخرى. (ج ٢ ، ص ٣٦٧).

أقول : الاعتراض المذكور في المعتبر هو نحو ما في حكمة العين للكاتبى وسترى بعض الإشارات منّا في ذلك وتذعن أنّ الحجة قوية جدّا ، وهي دالّة على تجرّد النفس بأنحائه الثلاثة من التجرّد الخيالى والعقلي وفوق التجرّد العقلي. ثمّ إنّ الحجة المذكورة هو الوجه الرابع من وجوه تجرّد النفس الناطقة في حكمة العين ، قال الكاتبي :

«الرابع أنّ القوّة العاقلة تدرك السواد والبياض معا فتكون مجرّدة والإلزام اجتماع الضدين في جسم واحد» انتهى (ص ١٤٣ ، ط ١).

أقول : يعنى بالجسم الواحد النفس الناطقة التي هي محل السواد والبياض معا ، أي لو كان النفس جسما للزم اجتماع الضدين في ذلك الجسم الواحد. قال العلامة الحلّي‏

٤٠