تلخيص الكون والفساد

أبي الوليد محمد بن رشد الحفيد

تلخيص الكون والفساد

المؤلف:

أبي الوليد محمد بن رشد الحفيد


المحقق: جمال الدين العلوي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥١

ديمقراطس ولوقيس فانهم راموا ان يعطوا لهذه الأشياء فصولا تتميز بها بعضها عن بعض وذلك ان هذين قالا ان مبدأ الأشياء هي الاجسام الغير منقسمة ، الغير متناهية من قبل العدد والشكل ، وان الكون والفساد يعرض باجتماع هذه وافتراقها ، واما الاستحالة فباختلافها بالتركيب والوضع. قالوا وذلك انه يعرض للكيفيات أن تختلف من قبل هذين او أحدهما ومثل ذلك الهجاء والمديح فانهما كيفيتان مختلفتان وهي تتركب من حروف واحدة وانما تختلف بتركيبها. قالوا وهذا هو السبب في ان كان كل تخيل حقا وفي ان / كان يعرض ان يرى في الشيء الواحد بعينه احوال متضادة وغير متناهية ، وهي كلها حق وذلك ان الوضع والترتيب لمّا كان لا يتناهى في الشيء الواحد بعينه من قبل اختلافه في نفسه ومن قبل اختلاف نظر الناظرين اليه امكن عندهم ان يرى انسان الشيء الواحد بعينه ابيض ويراه الآخر اسود او متحركا ويراه الآخر ساكنا كل ذلك حق لان الطبيعة للكيفيات ليس شيئا اكثر من تبديل الوضع والترتيب ، ولما كان هذان الشيئان يختلفان باختلاف الناظرين اليه لاختلاف الجهات ، فقد يعرض ان يرى الشيء الواحد بعينه واحدا ساكنا ويراه الآخر متحركا ، وكلا الرؤيتين حق وليس للون عندهم ولا لسائر الكيفيات طبيعة غير هذه ، وبالجملة فانهم إنما احتاجوا لهذا الرأي في الاستحالة لما كانوا يعتقدون ان كل تخيل حق.

٢١

الفصل الثاني :

٤ ـ قال :

ولما كان اكثر الناس يعتقدون ان التكون شيء والاستحالة شيء غيره ، وان الأجسام تكون وتفسد على جهة الاجتماع والافتراق ، وتستحيل من قبل انها تتغير في الاعراض اللاحقة لها فقد يجب ان نفحص عن الشكوك والاقاويل التي تتضاد في ذلك. فانه ان وضع واضع ان التكون يكون بالاجتماع والافتراق ، لزم عن ذلك وجود الاجزاء التي لا تتجزأ. وقد عددت المحالات التي تلزم عن وجود اجزاء لا تتجزأ في السادسة من / السماع والثالثة من السماء والعالم. وان قلنا ان الكون والفساد ليس هو اجتماعا وافتراقا ، عسر علينا ان / ناتي بالفرق بين الكون والاستحالة. ومبدأ الفحص عن ذلك هو هل الموجودات الطبيعية تتكون وتستحيل وتنمو ويلحقها اضداد هذه من جهة ان مبادئها اعظام غير منقسمة ام ليس يتغير شيء من قبل وجود عظم غير منقسم. وذلك ان الفرق بين الاعتقادات اللازمة في هذه الأشياء عن هذين ليس بيسير. وايضا ان كانت المبادي اعظاما غير منقسمة فهل هي اجسام على مذهب ديمقراطيس ولوقيس ، او سطوح على ما قيل في طيماوس ، فان كلى الرأيين وان كان يلزمهما محالات كثيرة على ما سلف ، فان اقنع القولين هو راى ديمقراطيس ولوقيس وذلك ان هؤلاء قد يمكنهم ان

٢٢

يوفوا اسبابا للاستحالة من قبل الاعظام التي لا تنقسم وذلك من جهة الوضع والترتيب كما قلنا. واما من يعتقد ان هذه الاسطقسات هي سطوح فليس يمكنهم ان يقولوا في أمر الاستحالة شيئا وذلك ان الذي يمكنهم ان يقولوا انه تولد عن السطوح انما الجسم فقط لا غير ذلك من الاعراض الموجودة في الجسم التي فيها الاستحالة. والسبب في أن ديمقراطيس ومن قال بقوله امكنه ان يأتي بفصول في هذه الأشياء بحسب مذهبه في المبادي ولم يمكن ذلك افلاطون ، ان أولئك جعلوا نظرهم في الطبيعة من امور طبيعية ومناسبة وافلاطون جعل نظره من امور غير مناسبة (١) بل من امور عرضية ، وذلك بيّن مما احتج به كل واحد لمذهبه. وذلك ان افلاطون كان يحتج لانه يجب ان تكون هاهنا سطوح غير منقسمة بوجود المثلث وذلك أن السطوح كلها تنقسم اليه ، وليس ينقسم هو الى سطح آخر وانما ينقسم الى مثلثات ، واذا كان كذلك فهو اول السطوح وهو بيّن ان هذه مقدمات تعاليمية فانه ليس يجب ان يكون اول السطوح هو أول الاجسام. واما ما احتج به القائلون بالاجزاء التي لا تتجزأ ففيه موضع شك وهي ماخوذة من مقدمات طبيعية وذلك انهم قالوا ان كان الجسم يمكن ان ينقسم بكليته ، اي كل نقطة فيه (٢) من / النقط التي هي غير متناهية ، يمكن ان ينقسم عليه على حد سواء ولم تختص بذلك نقطة دون نقطة. فاذا انزلنا انه قد انقسم معا

___________________

١ ـ اقترح مناسبة مكان متناسبة : أ.

٢ ـ فيه منّي بدلا من فيها : أ.

٢٣

بالفعل على هذه النقط كلها التي لا نهاية لها فليس يعرض عن ذلك محال ، فان هذا الانزال وان كان كاذبا كان كاذبا ممكنا (١) (كاذب ممكن). والممكن لا يعرض عن وضعه موجودا بالفعل محال ، كما يعرض عن الكاذب الممتنع ، مثال ذلك انه لو انزلنا ان الخردلة يمكن ان تنقسم الى الف الف الف جرما ما لا يمكن احد او لا يقدر على ذلك مما يبطل طبيعة هذا الامكان ولا مما يوجب ان يكون انزالها منقسمة الى هذه الآلاف كذب ممتنعا (كذا) واذا فرضنا ان الجسم منقسم بكليته معا ، أي منقسم على اشياء غير متناهية معا ، فلا يخلو ان ينقسم الى اعظام غير منقسمة او الى اعظام منقسمة او نقط او الى اعراض من اعراضه او ينقسم الى لا شيء. وكونه منقسم / الى اعظام منقسمة مناقض لقولنا انه منقسم بكليته وانه منقسم على كل نقطة ، لانه / يبقى فيه شيء منقسم وهو تلك الاعظام؛ ولو انزلنا تلك الاعظام من الصغر بمنزلة النشارة التي ينقسم اليها الجسم المنشور وايضا فانه يلزم ان يوجد في الشيء المتناهي اعظام منقسمة غير متناهية بالفعل وذلك كله محال؛ وان انزلنا انه ينقسم الى نقط ويتركب عنها لم يحدث من ذلك عظم وذلك ان النقطة من شأنها ان ينطبق بعضها على بعض حتى تكون نقطة واحدة؛ وايضا فمما يدل ان النقط لا تزيد في العظم ولا تنقص منه انا متى قسمنا العظم بنقطتين او ثلاث تم ركبناه فليس يصير العظم اصغر مما كان ولا أعظم ، واذا لم

___________________

١ ـ في الاصل كاذب ممكن : أ

٢٤

يكن لها تاثير في الصغر ولا في العظم فيجب عن ذلك ألا يحدث عظم؛ وايضا فإن النقط يجب ان تتحرك قبل ان يتركب منها العظم حتى تتلاقى وتتماس ، والمتلاقي والمتماس منقسم على ما تبين في السادسة من السماع وان كان انما ينقسم الى غير شيء. فالعظم يتركب من غير عظم ، وكذلك ان انقسم الى اعراض / موجودة مثل ان ينقسم الى الانفصالات التي تحدثها النقط كان العظم ايضا مؤلفا من غير عظم وإذا بطلت هذه الوجوه فواجب ان كان العظم منقسما بكليته معا ان يكون منقسما الى اجزاء لا تتجزأ.

فهذه هي الأشياء التي يحتج بها من يضع ان عظما غير منقسم. والمحالات التي تلزم وجود اعظام غير منقسمة قد فرغ ايضا من ذكرها. فينبغي ان يقال هاهنا في حل هذا الشك ومن أين دخلت عليهم الشبهة في هذا الاستدلال. فنقول انا لسنا ندفع انقسام الجسم بكليته والى غير نهاية من جميع الوجوه ، لكن هو عندنا ممكن من جهة وغير ممكن من جهة. اما الجهة التي هو عندنا بها ممكن فهو الانقسام بالقوة لا الانقسام بالفعل الذي يكون على جميع النقط التي فيه معا ، فانه لو كان ذلك كذلك للزم ضرورة ان ينحل الجسم الى النقط او الى لا شيء ، او يسلمون ان الاعظام الغير منقسمة هي النقط ، وليس يلزم اذا كان منقسما بكليته بالقوة ، أعني على كل نقطة ان يكون منقسما بالفعل كما توهموا. وذلك انه ليس يلزم اذا كانت كل نقطة في الجسم فهي قابلة للانقسام على حد سواء معا. وان كان منقسما

٢٥

على كل واحد منها على حدّ سواء كما ان الانسان ليس يلزم من قولنا فيه انه قابل لجميع العلوم ان يكون قابلا لها معا ، وذلك ان ما يصدق على الشيء منفردا فليس يصدق عليه مركبا على ما قيل في كتاب سوفسطيقي وهذه المغالطة هي من هذا الموضع وانما كان يمكن ان ينقسم على كل النقط معا لو كانت نقطة تلقى نقطة. وقد تبين انه لا تلاقي نقطة نقطة في السادسة من السماع ، ولذلك ما نرى انه متى قسمنا العظم على نقطة انه لا يمكن ان يقع الانقسام على النقطة ، التي تلي تلك النقطة وقد كان ذلك ممكنا فيها قبل ان يقع الانقسام على هذه [كما كان ممكنا فيها قبل ان يقع الانقسام على هذه] كما كان ممكنا في النقطة التي وقع عليها الانقسام. وكلما (١) وقع / انقسام في الاولى تعدد امكان الانقسام في التي تليها فمتى اخذنا (٢) نقطة واحدة امكن ان ينقسم بها العظم من أي موضع شئنا. فاذا قسمنا بها العظم في موضع ما لم يمكن ان نقسمه بنقطة ثانية في اي موضع ، اذ كان لا يمكن ان نقسم على نقطة تالية لتلك النقطة. واذ / قد تبين من هذا القول بطلان ما استدلوا به على وجود اعظام غير منقسمة ، وكان قد تبين فيما سلف بطلان هذا الراى نفسه ، فبيّن انه كان هاهنا تفريق وجمع؛ فواجب ألا يكون تفريق الى ما لا ينقسم ولا جمع مما لا ينقسم. وان توهم ذلك من قبل قسمة الجسم بكليته انما كان يصح لو كانت نقطة تلي نقطة. ونحن فلسنا ندفع ان كونا ما يكون

__________________

١ ـ وكلما : ب ، وكلما : أ.

٢ ـ أكدنا : ب؛ أخذنا : أ.

٢٦

بالاجتماع وفسادا ما بالافتراق فأمّا الكون المطلق والفساد فلا يمكن ان يكون من قبل الاجتماع والافتراق ، من اجل انه لا يمكن ان يكون من قبل الكم المتصل تغير في الجوهر ولا تغير في الكيف وهذا هو الذي وقع لهم الخطأ فيه أولا. بل انما التكون المطلق هو التغير للشيء باسره من هذا المشار إليه الى هذا المشار إليه ، مثل ان يتغير هذا الماء المشار اليه. هواء مشار اليه. وهؤلاء قد كانوا يظنون بمثل هذا انه استحالة ، وبين هذا والاستحالة فرق ، وذلك ان الموضوع للاستحالة شيء ما موجود بالفعل ومشار / اليه ، والموضوع للكون ليس موجودا بالفعل ولا مشار اليه ولذلك كان التغير في الجوهر كونا وفسادا وفي الاعراض التي تقال في موضوع استحالة فاما افتراق الشيء واجتماعه فهو مما يصير به الشيء اسرع فسادا او أبطأ وذلك انه اذا انقسم الى اجزاء صغار سهل فساده واذا كان مجتمعا غير منقسم عسر فساده وسيبين هذا فيما بعد أكثر.

الفصل الثالث

وهذا الفصل تبين فيه خمسة مطالب :

المطلب الأول : يبين فيه مما ذا يكون التكون (١) المطلق والى ما ذا يكون الفساد المطلق ان كانا موجودين.

المطلب الثاني : يذكر فيه شكّا يلزم / في وجود الشيء الذي [٥ ظ : و]

___________________

١ ـ التكون (منّي) أ ، في أ المتكون.

٢٧

بالقوة الذي منه يكون الكون والفساد.

المطلب الثالث : يبحث فيه عن سبب اتصال الكون في الموجودات ويعرف [أن] بالوقوف على هذا السبب يوقف (١) على حل ذلك الشك.

المطلب الرابع : يبين فيه كيف جرت العادة عندهم ان يقال في بعض الجواهر انها تكونت على الاطلاق وفسدت على الاطلاق ، ولا يقول ذلك في غيرها بل يقال انها تكونت من غير موجود ما وفسدت الى غير موجود ما يحل بذلك الشك الذي يعرض فيما اعطى من سبب اتصال الكون بان يكون الموجود ابدا يتكون عن موجود.

المطلب الخامس : يبين فيه لم كانت الموجودات يقال فيها انها تتكون [على الاطلاق وبعضها يقال فيها انها تتكون] شيئا ما لا على الاطلاق.

وهذان المطلبان الآخران راجعان الى مطلوب واحد كما سيظهر (٢) عند وصولنا اليه.

___________________

١ ـ يوقف : أ ؛ يقف : ب ، م.

٢ ـ سيظهر : أ ؛ ظواهر : ب ، م.

٢٨

المطلب الأول

٥ ـ قال :

واذ قد تبين انه لا يمكن الكون باطلاق اجتماعا ولا الفساد تفرقا ، فينبغي ان ننظر هل هاهنا شيء يتكون ويفسد على الاطلاق ام ليس هاهنا شيء يتكون ويفسد الا بطريق الاستحالة التي تعرض في شخص العرض الموجود في موضوع مشار اليه مثل تكوّن الصحيح مريضا والمريض صحيحا. وذلك انه ان كان هاهنا تكوّن [على] الإطلاق وفساد على الإطلاق فينبغي أن يكون لشخص الجوهر المشار إليه (١) ، لا لشخص شىء من الأشياء التي تقال في موضوع ، وان كان لشخص الجوهر المشار اليه تكوّن فينبغي ان يكون مما ليس هو شخص الجوهر ، كما ان التكون للابيض انما يكون عما ليس هو [ابيض ولا اسود. وذلك انه كما ان التكون الذي يقال فيه أنه تكون ما يكون من لا شيء] (٢) / ما ، لا عما هو ليس شيئا على الاطلاق ، كذلك ما يتكون باطلاق يلزم ان يكون عما ليس هو باطلاق وما ليس هو باطلاق يفهم على أحد وجهين إما لأنه (٣) ليس جوهرا مشارا إليه ، وهو واحد من

__________________

١ ـ إليه منّي ؛ له في ب ، م. أ

٢ ـ من هامش مودينا : ٤ ظ : م.

٣ ـ لأنه : منّي : ؛ لأن في ب ، م. أ

٢٩

سائر المقولات ، إما لانه (١) ليس جوهرا مشارا إليه ولا واحدا مما هو تحت المقولات العشر لاكم ولا كيف ولا غير ذلك. وكيف ما فهمنا من «ليس المطلق» يلزم ان يكون المفهوم منه عدم المقولات العشر ، وذلك انه ان اردنا بما هو ليس باطلاق أنه / عدم الجوهر فبيّن انه يلزم عنه عدم سائر المقولات والا يكون شيء منها موجودا والا كانت الأعراض مفارقة للجوهر إذ كانت توجد فيما ليس هو جوهرا. واذا كان ليس المطلق يدل على عدم المقولات فنحن بين احد أمرين ، إما ان نضع ان العدم شيء ما ، او نعتقد ان شيئا يكون من العدم المطلق. وقد لخص حل هذا الشك في المقالة الأولى من السماع الطبيعي وهو يضع ما قيل >هنالك<هاهنا فيقول ان التكون المطلق يكون عن موجود بالقوة لا بالفعل وهو الذي يصدق عليه من جهة انه موجود ومن جهة انه غير موجود ، وذلك انه غير موجود بالفعل موجود بالقوة.

المطلب الثاني

ولما صحّ حلّ ذلك الشك من هذه الجهة قال انه يبقى في ذلك شك آخر حتى انه يعيد الشك الأول في وجود الكون المطلق من راس ، أعني هل هاهنا كون مطلق ام لا ، والشك هو هذا : وذلك انه ان كان هاهنا تكوّن مطلق وكان عما هو بالقوة [< موجودا

__________________

١ ـ أنه : أ ؛ لان : ب ، م.

٣٠

وليس هو بالفعل ، فهل لهذا الشيء الموجود بالقوة >] (١) شيء من الأشياء الموجودة بالفعل / كأنك قلت واحد من مقولات العرض ، مثل ان يكون بالفعل كمّا او كيفا او غير ذلك من المقولات العشر ، او ليس له واحد من المقولات العشر بالفعل ، وانما هي له كلها بالقوة ، فإن كان له موجودا بالقوة جميع المقولات وليس فيه شيء بالفعل منها ، لزم ان يطلب هل يمكن ان يفارق ما بالقوة ، وقد تبين استحالة ذلك. وايضا فإنه يلزم عنه ان يكون موجودا من غير موجود بالفعل وهو الشيء الذي كان القدماء يهربون من تسليمه. وان كان واحدا بالفعل من مقولات العرض لزم ان توجد الاعراض مفارقة للجوهر.

المطلب الثالث

٦ ـ قال :

وقد يجب ان نبحث عن هذا المعنى بعناية بالغة. والوقوف عليه يكون إذا وقفنا على السبب الذي من أجله وجب ان يكون التكون دائما المطلق وغير المطلق.

٦ ـ قال : ولما كانت [الاسباب] التي في الكون سببين أحدهما السبب المحرك والآخر الهيولاني ، فانا اما نطلب الوقوف على هذه الأشياء هاهنا / من قبل السبب الهيولاني ، وذلك ان

____________________

١ ـ من هامش أ.

٣١

السبب المحرك صنفان : إما اول وعام ، وإما لا اول ولا عام فاما الأول العام لجميع المتحرك فقد تبين وجوده في السماع؛ وذلك انه قد تبين هنالك ان هاهنا صنفين من المحركين احدهما غير متحرك الدهر كله بل محرك فقط ، والثاني متحرك عنه الدهر كله. فاما تلخيص جوهر هذين المحركين فمن شأن الفلسفة الأولى وأما المحركات غير الأول الجزئية الدائمة التحريك التي من قبلها ايضا صار الكون دائما فسيلخص / فيما بعد. واذا كان هذا هكذا فالقصد هاهنا انما هو إعطاء (١) السبب الهيولاني الذي من قبله كان الكون والفساد دائما الى ان نتكلم بعد في الاسباب الجزئية الفاعلة لهذه الحال من الاتصال في الكون. وباعطاء هذا السبب الذي من جهة الهيولى ينحلّ الشك الذي تقدم ، وهو كيف يكون ما بالقوة عريا مما بالفعل. وقد ينبغي قبل ان ناتي بهذا السبب ان نذكر الشك الذي يلحق من قبل الموضوع في اتصال الكون ، والشك هو هكذا : ان كان الفاسد انما يفسد ويصير ما ليس هو بموجود ولا واحدا من المقولات العشر وكان المتكون يتكون من موجود متناه فقد يلزم ضرورة ان يبيد الكل ويخرب العالم لانه ليس لقائل ان يقول انما دام التكون لان ما منه الكون ليس ينفذ ولا يتم لانه غير متناه (٢) بالفعل. فان وجود شيء غير متناه بالفعل قد تبين انه محال ، وان الممكن من وجود غير المتناهي انما هو بالقوة ، مثل

_________________

١ ـ إعطاء : أ ؛ لا عطاء : ب.

٢ ـ متناه : أ ؛ متناهي : ب.

٣٢

القسمة التي توجد في الاعظام ، وذلك إنها تنقسم ابدا دائما بنصفين. وهذا الشك ينحل والشك المتقدم بان فساد الشيء الواحد بعينه هو تكوّن لغيره ، وذلك انه اذا كان الفساد كونا للكائن وجب ضرورة الا ينقطع الكون وذلك بتعاقب الصور على الموضوع الذي هو الهيولى ووجب ايضا الا يتعرى ذلك الشيء الذي منه الكون المطلق الموجود بالقوة عن الشيء الموجود بالفعل وهو الصورة.

المطلب الرابع :

٧ ـ قال : ويعرض في هذا شك ، قد ينبغي ان ننظر فيه ، وهو انه اذا كان كون الجوهر فسادا لجوهر فكيف يعرض ان يقال في بعض الأشياء التي فيها الكون في الجوهر والفساد / في الجوهر انها تكونت لا باطلاق وفسدت (١) لا باطلاق؟ فنقول ان هاهنا جهة من الجهات يدلون بها على هذا المعنى وذلك انه يشبه ان يكون ما يعرض من ذلك في كون الجوهر بعضها عن بعض شبيها بما يعرض من ذلك لكون الجوهر عند مقايسته بكون الاعراض ، فكما [انه يقال في كون الجوهر انه كون على الاطلاق وكذلك في فساده ، ولا نقول

_______________

١ ـ وفسدت : أ؛ وفسادا : ب ، م.

٣٣

ذلك من كون الاعراض وفسادها] ، بل نقول (١) كونا ما وفسادا ما لا كونا على الاطلاق ولا فسادا على الاطلاق ، كذلك يشبه ان يعرض للجواهر بعضها مع بعض ، اذ كانت الجواهر التي تتغير بعضها الى بعض مختلفة من قبل ان بعضها تدل على المشار اليه بالتقديم والتحقيق ، اعني الذي هو جوهر اول ومقصود بذاته وبعضها لا يدل على مثل هذا المشار اليه بل انما يدل على مشار متأخر في الجوهرية. مثال / ذلك ان النار لما كانت تدل على المشار إليه الموجود بالتحقيق عند برميندس اكثر من الارض ، سمى النار موجودا والارض غير موجودة. فعلى هذا النحو وما أشبهه يمكن ان يقال في مثل تكوّن النار من الارض انه كون مطلق وفي مثل تكوّن الارض من النار انه كون ما ، لا كون بالاطلاق. وهذه احدى الجهات التي منها يصح ان يقال في بعض الجواهر كائنة باطلاق وفي بعضها لا ، وذلك بحسب ما يعتقد فيها واحد واحد من الناس. وانه لا يحل بصحة هذه الجهة من الاستعمال غلط من غلط في ذلك ، فاعتقد فيما وجوده أكمل انه / أنقص او فيما وجوده انقص انه أكمل. وليس المقصود هاهنا تصحيح قول برميندس ولا غيره. وانما المقصود تصحيح هذه الجهة من الاستعمال ، فهذا فرق واحد من جهة الصورة. وفرق ثان من جهة الهيولى ، وذلك ان اشخاص الجواهر التي الغالب على تركيبها من العناصر الاربع ما كانت فصوله الضدية اقرب الى

_________________

١ ـ مني ؛ وفي الأصل فلنقل.

٣٤

الوجود وادل على المشار اليه فهو اكمل ايضا في الجوهرية من الاشخاص التي الغالب على تركيبها من العناصر ما كان فصله اقرب الى العدم وأقل دلالة على المشار اليه مثال ذلك ان فصل النار الذي هو الحرارة اقرب الى الوجود من فصل الماء الذي هو البرودة ، وذلك ان البرودة بوجه ما هي عدم الحرارة. فالاشخاص التي الغالب على تركيب اجزائها النار هي أتم وجودا من التي الغالب على تركيبها الارض والماء /. كذلك يمكن ان يقال في مثل هذه الأشياء اذا تكوّن الانقص من الاكمل ، انه للاكمل فساد مطلق وللانقص كون ما ، وبالضد اذا تكوّن الاكمل من الانقص. بل يمكن ان يقال في الاكمل [اذا تكون الاكمل من الانقص بل يمكن ان يقال في الاكمل] (١) اذا فسد الى الانقص انه فسد الى غير موجود ، واذا تكوّن (٢) الأكمل من الأنقص انه تكون من غير موجود ، على ما جرت عادة القدماء ان يستعملوه في مثل هذه الاكوان. وقد يسبق الى ظن كثير من القدماء ان الكمال والنقصان في اشخاص الجوهر التي من قبلها يعرض لها هذا العرض انما هو من قبل تفاضلها في الاحساس وعدمه ، فيقولون متى كان تغير الى شيء محسوس من غير محسوس انه تكوّن من غير موجود ، ومتى تغير الى شيء غير محسوس قالوا انه فسد الى غير موجود. وانما عرض ذلك لهم من قبل انهم

_________________

١ ـ كمل النمو : م.

٢ ـ إذا كان : م.

٣٥

ظنوا انه لا سبار هاهنا لمعرفة الأشياء الا الحس. واذا كان ذلك كذلك فواجب ان يكون المحسوس هو الموجود والغير محسوس هو المعدوم ، كما ان المعلوم عندنا هو الموجود والغير معلوم هو غير الموجود ، وذلك انهم لما اعتقدوا ان الموجود هو المدرك لنا ، وانه ليس هاهنا موجود غير مدرك فاعتقدوا ان الادراك لنا الذي نحن به ما نحن (١) انما هو بالحس ، اعتقدوا ان المحسوس هو الموجود. وهم وان كانوا غالطين في ذلك ، كما يقول ارسطو ، فهم مقتفون في هذا الاعتقاد أثار الحقّ ، كونهما [كذا] وهو قولهم ان الموجود هو المدرك والغير مدرك بالطبع هو المعدوم لكن غلطهم انما هو في ان اجروا الحس مجرى العلم. ولذلك يعرض ان يكون الامر في نفسه خلافه عند الحس. مثال ذلك الهواء والارض فان الهواء عند العقل اكمل وجودا من الأرض ، والأرض أكمل وجودا عند الحس. ولذلك ليس يلزم أن يكون ما كان اكثر محسوسا أن يكون اكمل لان الاكمل على الحقيقة انما هو الاكمل عند العقل.

فقد تبين من هذا القول السبب الذي من أجله يمكن أن يقال في تغير بعض الجواهر الى بعض انه كون مطلق وكون من غير موجود وفساد مطلق والى غير موجود ، وليس السبب الذي به قلنا في التغير الى بعض الجواهر أنه كون مطلق وفي تغير بعضها كون ما هو / بعينه السبب الذي به نقول في التغير الى الجوهر انه كون مطلق وفي التغير منه انه فساد مطلق ونقول في التغير الى سائر

____________________

١ ـ به ما نحن.

٣٦

المقولات ومنها انه كون ما وفساد ما. وذلك ان السبب في هذا هو ما قيل في كتاب المقولات ان الامور المشار اليها صنفان : فمنها ما يقال لا في موضوع ولا على موضوع ، وهو شخص الجوهر؛ ومنها ما هو في موضوع وهو شخص العرض ، فما كان من هذا لا في موضوع قيل في التغير اليه كون باطلاق وفي التغير منه انه فساد باطلاق ، وما كان من الاشخاص التي تقال في موضوع قيل في التغير منها واليها انه كون شيء ما وفساد شيء ما. والسبب في هذين الاستعمالين اعني الذي في الجواهر والذي في الاعراض والجواهر هو بجهة ما سبب واحد ، وهو إن وجد فيها صنفان كامل وغير كامل فقيل في التغير من الكامل والى الكامل من الصنفين جميعا كون مطلق وفساد مطلق ، وفي التغير الى الناقص ومن الناقص إنه كون ما وفساد ما. مثال ذلك في الجواهر كون الارض ، من النار والنار من الأرض ، وكون الإنسان ، وكون العلم للإنسان ، فإن التغير من النار والى النار يقال فيه كون مطلق وفساد مطلق ، والتغير من الأرض وإلى الأرض يقال فيه كون ما وفساد ما ، إذ النار اكمل وجودا من الأرض ، والتغير من الإنسان والى الإنسان يقال فيه أيضا كون مطلق وفساد مطلق ، والتغير من العلم والى العلم يقال فيه انه كون ما وفساد ما. فقد تبين من هذا القول الوجه الذي به نقول في التغير الى بعض الجواهر انها كون باطلاق وفساد بإطلاق ، وفي بعضها لا نقول ذلك ، والوجه الذي به نقول ذلك والوجه الذي به نقول ذلك في الجواهر والاعراض وانها على جهة شبيهة. وأنه ليس ينبغي أن يشككنا القول في بعض هذه الجواهر انها تتكون من غير

٣٧

موجود فيما قلنا من أن السبب في اتصال الكون هو أن الهيولى الاولى ليس يمكن أن تتعرى من أحد الضدين أبدا ، أعني أن الكون يكون من موجود والفساد إلى [غير] موجود ، فإن غير الموجود إنما يدل به على اخس الضدين ، والموجود يدل به على اشرفها. وإذا كان ذلك كذلك فبالواجب الا ينحل الكون لان فساد غير الموجود الذي هو الضد الاخس يكون ابدا كونا للموجود الذي هو الضد الاشرف والمحسوس اكثر ، وفساد الضد الاشرف يكون كونا لغير الموجود الذي هو الضد الاخس والغير محسوس والمحسوس / أقل ذلك.

وقد يتشكك في هذا ويقال هل قولنا الموجود وغير الموجود ينطلق على الضدين اللذين احدهما اشرف من الآخر ، مثل ان يكون الثقيل الذي هو الأرض هو غير موجود والخفيف الذي هو النار هو الموجود ، ام غير الموجود يدل على هيولى الضد الاخس كانك قلت هيولى الأرض ، والموجود يدل على هيولى الضد الاشرف كأنك قلت هيولى النار ، وهذا يوجب أن ننظر هل هذه الهيولى هل هي بعينها واحدة لجميع هذه الاجسام الأربعة ام ليست هي واحدة بعينها فنقول :

إنها من وجه واحدة بعينها ولذلك امكن ان تستحيل بعضها الى بعض ، ومن جهة كثير وبذلك امكن ان تقبل الصور المتضادة ، فهي واحدة بالموضوع كثيرة بالقوة والاستعداد لقبول الصور المتضادة وهذه الاستعدادات بعضها ايضا اشرف من بعض لكون كمالاتها أشرف.

فهذا مبلغ ما قاله في أمر التكون المطلق والتكون الغير المطلق أعني في الجوهر.

٣٨

الجملة الرابعة

٨ ـ قال :

ونحن مخبرون بالفرق الذي بين الكون والاستحالة وذلك أن كل واحد من هذين هما التغير ، ولهما موضوع وضدان وشيء يلحق الموضوع. وهما يفترقان بالموضوع والشيء الذي في الموضوع. فالاستحالة تكون متى كان الموضوع شيئا بالفعل ومشارا إليه / وتغيّر في نوع من انواع مقولة الكيف متى كانت تلك الكيفيتان متضادتين او كانت بين الضدين. مثال ذلك ان البدن الواحد بعينه يصحّ حينا ويمرض حينا ، وهو واحد بعينه ، والنحاس المشار اليه يكون حينا مستديرا وحينا ذا زوايا وهو واحد بعينه. واما التغير في الجوهر فيكون متى لم يبق من الشيء الذي منه التغير شيئا مشارا اليه على أنه موضوع لذلك الشيء الحادث فيه بالذات لا بالعرض ، مثال ذلك اذا تغير الدم وصار كله منيّا او تغير الهواء بجملته فصار ماء. وابين ما يكون ذلك متى كان التغير من غير محسوس الى محسوس بحس اللمس او بسائر الحواس. مثال ذلك ان يتكون من الهواء ماء ، فإن الهواء يكاد أن يكون غير محسوس لا بالبصر / ولا باللمس ، وإنما اشترطنا في المشار اليه الثابت للكيفية المتكونة ان تكون تلك الكيفية موجودة له بالذات من قبل أنه قد يوجد في الأشياء المتكونة شيء يبقى بعينه محسوسا مثل الجسمية الباقية في الماء والهواء عند / تكوّن احدهما من الآخر ، ومثل الشفيف والرطوبة وغير ذلك من الاعراض التي يشتركان فيها. لكن هذه الأشياء التي تبقى بعينها في المتكونات يظهر انها ليست موضوعة للشيء الحادث في امثال هذه المتغيرات بالجهة

٣٩

التي هو المشار اليه موضوعا في التغير الذي في الكيف. والسبب في ذلك أن الشيء الباقي في مثل تكون الماء من الهواء هو شيء لا حق للموضوع القابل لذلك التغير ، لأنه الموضوع نفسه ، بل إنما هو بالعرض أي من قبل انه في الموضوع ، ولذلك لو كان وجود الاستحالة في موضوعها المشار اليه مثل هذا الوجود ، أعني بالعرض لكانت الاستحالة هي الكون. مثال ذلك ان الرجل لو كان موضوعا لصناعة الموسيقى وعدمها ، على جهة ما الجسمية موضوعة لصورة الماء والهواء أعني بالعرض ، لكان تغير الرجل من الجهل بالموسيقى الى المعرفة بها كونا وفسادا في الجوهر ، لكن الرجل هو موضوع بالذات للمعرفة بالموسيقى فلذلك كان استحالة لا كونا. والاستحالة في ثبات الموضوع لها بالذات يوافق سائر التغايير ، ويخالفها في الشيء الذي وقع اليه التغير. فمتى كان التغير المضاد في الكم كان نموا واضمحلالا ، ومتى كان في المكان كان نقلة ، ومتى كان في الكيفية كان استحالة ويخالف التغير في الجوهر جميع هذه التغايير بأن لا يوجد فيه شيء موضوعا بالذات للشيء الذي وقع اليه التغير ، والهيولى على التحقيق هي الموضوعة لهذا التغير ، والموضوع لسائر اصناف التغايير إنما يقال لها هيولى بأمر متأخر.

فقد تبين من هذا أن التكون موجود وعلى اي جهة وجوده وتبين الفرق بينه وبين الاستحالة.

[قلت (١) :

__________________

١ ـ من هامش مودينا ـ ساقطة من أكسفورد.

٤٠