تلخيص الكون والفساد

أبي الوليد محمد بن رشد الحفيد

تلخيص الكون والفساد

المؤلف:

أبي الوليد محمد بن رشد الحفيد


المحقق: جمال الدين العلوي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥١

وذلك أن الكون إنما هو تغير ومبدأ التغير إنما هو الهيولى. وهو يعتب>يعيب< كلا الفريقين ولكن يقول إن من اكتفى بالسبب الهيولاني فقط فنظره أشد مناسبة / إذ كان قد أعطى مبدأ للتغير من جهة ما هو مبدأ تغير. وأما أولئك فإنهم أعطوا في التغير مبدأ غير مناسب للتغير وذلك أن الصورة هي التي إذا وجدت كف التغير لا أنها سبب التغير وهو. يعاند القائلين بأن الصور هي الأسباب الفاعلة القريبة. بأنه لو كان الأمر كما يعتقدون من غير أن يكون هاهنا حاجة لإدخال سبب ثالث للزم أن يكون التكون دائما متصلا ولا ينحل في نوع من الأنواع ، لأنه إذا كانت الصورة موجودة فما بال الشيء يحدث في وقت دون وقت ولذلك ما يجب إن كانت هاهنا صورة حادثة أن يكون سبب فاعل أقدم منها بالطبع. وأيضا فقد نجد هاهنا أشياء الفاعل فيها غير القابل وغير الصورة ، مثال ذلك الصحة المتكونة عن صناعة الطب في بدن الإنسان فإن الطبيب الذي يفعلها هو غير الصحة وغير القابل لها فإن الصحة غير الصناعة والقابل أمر ثالث. وكذلك الأمر في جميع الصنائع الفاعلة وهو ليس يعذل هنا أفلاطون على أن الصورة سبب فاعل على الإطلاق بل إنما يعذله على أنها أسباب قريبة وبالذات أو مكتفية بنفسها في جميع ما يحدث فإنه يضع أيضا أن هاهنا صورة فاعلة وإن كان وجودها عنده على غير الجهة التي هي عند أفلاطون فهو إنما يخالف أفلاطون من جهة وجود الصور وفي جهة فعلها فقط لا في وجودها على الإطلاق. ولا في فعلها على الإطلاق. وأما الذين يكتفون بالهيولى فقط في جميع ما يكون فإنه وإن كان نظرهم أشد مناسبة فهم مخطئون أيضا وذلك أنهم يجعلون مبدأ القبول والانفعال بعضه مبدأ الفعل والتحريك وهو من

١٢١

الظاهر تغاير المبدأين فيما يحدث بالصناعة وفيما يحدث بالطبيعة ، فإن الماء لا يكون منه حي بذاته ولا الخشبة يكون منها سرير من غير الصناعة ، وبالجملة فيجب أن يكون الأمر فيما يحدث بالصناعة والطبيعة واحدا. وأيضا فإنهم إذا رفعوا السبب الفاعل فقد رفعوا السبب الصوري لأن الصورة إذا كان حدوثها عن نوع من الانفعال عرض للهيولى فحدوثها يكون أقليا وبالعرض. وهم بالجملة إن جعلوا هاهنا مبدأ فاعلا فإنما يجعلون الفاعل الذي هو من جنس الآلة لا الفاعل الذي هو من / جنس الفاعل بالحقيقة ، إذ يرفعون الفاعل الأول من الموجودات وذلك أنهم يقولون إنه لما كان من شأن الحار أن يفرق ويميز ومن شأن البارد أن يجمع ويخلط وكذلك كل واحد من الأشياء المحسوسة شأنه أن يفعل في غيره وأن ينفعل منه ، فقد يكتفى في كون الأشياء وفسادها بفعل بعضها في بعض وانفعال بعضها عن بعض. إلا أنه لما كنا نرى النار ، التي يظهر من أمرها أنها فاعلة جدا أكثر من سائر العناصر ، إذا فعلت بطبعها فهي أحرى أن تفسد الأشياء من أن تكونها ، فقد يجب ضرورة إذا كانت مكونة للأشياء أن يكون هنالك فاعل هو الذي صيرها بالتعديل والتكثير صالحة لأن تكوّن شيئا من الأشياء. فمن نسب التكوين إلى النار وغيرها من العناصر فهو أشبه شيء بمن نسب النشر إلى المنشار دون الصانع ، والخزانة إلى القدوم بل لم يشعر هؤلاء أن تحريك النار [أخص من تحريك الآلة وذلك أن الآلة لا تحرك دون (١) الصانع وإذا حركت مع الصانع حركت إلى الكون ، وأما النار] فإذا لم تحرك بالمحرك الأول حركت إلى الفساد.

_________________

١ ـ ينقل هذا الهامش من النسخة الأخرى (١) لأنه غير واضح في هذه النسخة.

١٢٢

٣٦ ـ قال :

فأما نحن فقد لخصنا فيما سلف السبب العام الهيولاني ولخصنا أيضا الصورة ونحن نلخص السبب الثالث للكون والفساد وهو الفاعل فنقول :

أنه لما كان قد تبين أن حركة النقلة أزلية دائما متصلة ، فقد يجب لذلك أن يكون الكون متصلا دائما ، وذلك أن النقلة تفعل الكون بأن تدني الكائن من المكون والمكون من الكائن. وذلك أيضا واجب لها من طريق أنها أقدم التغيرات على ما تبين قبل. وذلك ظاهر أيضا من قبل أن المتحرك بهذه الحركة موجود والمتكون قبل تكونه غير موجود ، والموجود أحرى وأولى بأن يكون سببا لغير الموجود في وجوده من أن يكون غير الموجود سببا للموجود أو أن يكون الموجود لا دائما سببا للموجود دائما. فمن هاهنا يظهر أن النقلة أقدم الحركات ، التقدم الذي بالطبع. لكن لما كنا قد بينا فيما سلف أنه يلحق الأمور دائما الكون والفساد ، وأن كون الكائن هو ضرورة فساد للمتكون منه ، فمتى قلنا أن سبب التكون هو النقلة. فمن البين أنه ليس يمكن أن تكون النقلة وهي واحدة تفعل هذين الفعلين المتضادين أعني الفساد والكون. وذلك أن الشيء الواحد بعينه الواحد بحاله فإنما شأنه أبدا أن يفعل شيئا / واحدا بعينه لا شيئين متضادين ، فيجب أيضا على هذا أن قولنا (١) ان النقلة لها فعل في ذلك أن تكون تفعل أحدهما إما كونا دائما وإما فسادا دائما ، أو نقول أن هاهنا نقلتين متضادتين وحركتين متغايرتين تفعل إحداهما الكون والأخرى

_________________

١ ـ قولنا : أ ؛ قلنا : ب.

١٢٣

الفساد ، او نقول أن هاهنا نقلة واحدة ولكن توجد في الأشياء المتغايرة>با<أو المتضادة حتى يكون إذا قربت من المتغاير فعلت فعلا ما وإذا بعدت منه فعلت ضده. لكن لما كان ليس يمكن أن تضاد نقلة نقلة حتى تكون نقلة ما هي بذاتها فاعلة الفساد كما يعتقد المنجمون ونقلة هي بذاتها فاعلة الكون على ما تبين في الاولى من السماء والعالم ، فمن البين أنه يجب إن كان هاهنا كون وفساد دائمين أن تكون هاهنا نقلة توجد من الكائنات الفاسدات بحالتين متضادتين وإذا كان ذلك كذلك فبيّن أن هذه النقلة ليست هي النقلة الأولى وان النقلة التي بهذه الصفة هي النقلة التي تكون للشمس في الفلك المائل فإن هذا الفلك كما يقول أرسطو قد جمع إلى اتصال الحركة ودوامها أن فيه حركتين حركة قرب وحركة بعد. وذلك انه واجب [إن كان] الكون والفساد دائمين متصلين أن يكون هاهنا شيء يتحرك دائما كي لا يخل الكون والفساد وأن يكون مع هذا له حركتان مختلفتان لئلا يكون الذي يلزم عن فعل واحد. فسبب الدوام في الوجود الدائم هاهنا الغير متغير هي النقلة الأولى ، اذ كانت هذه النقلة هي من الموجودات بحال واحدة وسبب الكون والفساد ودوامها هو المتحرك في هذا الفلك ، اذ كان ليس من الموجودات بحال واحدة كما قيل ، بل مرة يقرب من الشيء ومرة يبعد. واذا اختلف البعد والقرب اختلف تحريكه للشيء الذي يقرب منه مرة ويبعد اخرى. فان كان ذلك الشيء بعينه إذا دنا وقرب كون وإنشاء ، فان ذلك الشيء بعينه اذا بعد ونأى اهرم وأفسد. فان كان بدنوه مرة [بعد مرة] كون وإنشاء ، فواجب ان يكون ببعده مرة بعد مرة يهرم ويفسد. وذلك إن أسباب الأضداد أضداد ولذلك ما نقول أنه واجب / أن يكون عدد الدورات

١٢٤

التي يتكون فيها موجود موجود ويتمم نشأته مساوية لعدد الدورات التي فيها يكون هرمه وفساده ، هذا إذا كان الكون على المجرى الطبيعي وإذا كان زمان الشباب مساويا لزمان الهرم في موجود موجود وكان هذان الزمانان محدودين بهذين الأدوار [كذا] التي للفلك المائل. فلكل موجود كما يقول أرسطو عمر محدود من قبل المتحرك دورا ، وأجل معدود؛ فبعضها يحيط بعمره أدوار قليلة وبعضها أدوار كثيرة وبعضها دورة واحدة وبعضها أقل من دورة وبعضها أكثر. وهذا الذي يقول أرسطو في فلك الشمس ينبغي أن تفهمه في سائر أفلاك الكواكب المائلة. وقد نجد الحس موافقا لما أدى إليه البرهان ، وذلك [أنا] نرى أن الشمس إذا قربت منا في فلكها المائل فعلت الكون في أكثر الموجودات ، وإذا بعدت فعلت الفساد في أكثر الموجودات. وينبغي أن تعلم أنه ربما كان الأمر بالعكس في الأقل مثل وجود النبات الشتوي (١). وإنما يعرض كما قلنا أن يكون زمان التكون والنشء مساويا لزمان الهرم والفساد في الكون والفساد الطبيعي وهو الأكثر ، وأما الفساد الغير الطبيعي فقد يعرض كثيرا في زمان أقل من زمان النشء وذلك إما من قبل طبيعة المزاج التابع لطبيعة الهيولى ، فإن الأمزجة الموجودة في أشخاص النوع الواحد لما كانت تختلف بالأقل والأكثر ولم تكن واحدة ، وجب ضرورة أن تختلف أزمنة الكون والفساد من أشخاص النوع الواحد حتى يكون بعضها أطول وبعضها أقصر فيكون فساد ما يفسد من ذلك في غير الوقت ، إذ كل فساد فهو كون شيء آخر ، وكل كون فهو فساد لشيء

__________________

١ ـ النبات الشتوي : أ؛ البصر الشتوية : ب.

١٢٥

آخر؛ وإما من قبل اختلاف أحوال السبب الفاعل القريب؛ وإما بسبب اختلاف الفاعل الأقصى مثل إختلاف فعل الشمس لمكان ما يجتمع معها من الكواكب ويفترق؛ وإما بسبب اختلاف الفاعل الأقرب مثل مخالفة طبيعة الأب لطبيعة الشمس في وقت التوليد ومخالفة الشهوة في استعمال الأغذية للمزاج. ويعم هذه كلها افتراق الأسباب وقلة موافقة بعضها لبعض. هذا اللفظ يوجد في بعض النسخ عوض الامتزاج. وينبغي أن تعلم أنه إذا وضعنا هذا الرأى الذي قاله أرسطو من أن زمان النشء مساو لزمان الهرم ، ووضعنا أيضا ما يقوله الأطباء من أن سن الشباب للإنسان إلى خمس وثلاثين سنة ، فالعمر الطبيعي له هو سبعون سنة فما فوقه يسير أو دونه يسير. ولذلك قال صاحب الشرع أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين.

٣٧ ـ قال :

وما قلناه من أن التكون والفساد متصلان ابدا لا يخلان ليس هو واجبا من قبل السبب المادي والفاعل كما تبين قبل ، بل ونبين أنه واجب أيضا من قبل السبب الغائي. وذلك أنه لما كنا نرى أن الطبيعة أبدا إنما تتحرك وتشتاق الأمر الأفضل بحسب ما يمكنها في موجود موجود ، وأقصى ما في طباعه أن يقبله ذلك الموجود ، وكان الوجود أفضل من العدم ، وكان قد تبين في مواضع أخر على كم وجه يقال الموجود وأن منه ضروري وغير ضروري وأن الضروري أفضل من غير الضروري ، والضروري بالشخص أفضل من غير الضروري بالشخص وهو الضروري بالنوع ، وكان ليس يمكن وجود الموجود الأفضل بإطلاق في هذه الأشياء التي قربت منا لكونها من المبادي الأول في غاية البعد ، فإن الإله ذا الجود والفضل تمم النقص الذي

١٢٦

لحق هذه الأشياء بالوجه الذي كان يعني (١) أن يتلافى به هذا النقص الحادث من قبله ، وهو أن جعل أن تكون سرمدية. فإن هذا هو الوجه الذي يمكن خاصة أن يتصل الوجود لهذه الأشياء إذ كان اتصال الكون من أقرب شيء إلى اتصال الوجود للأشياء الدائمة الوجود. وسبب هذا الاتصال الذي يتمم الله سبحانه به هذا النقص هو النقلة دورا. ولذلك صار الاتصال لهذه الأشياء على جهة الدور مثل ما نرى الهواء يتكون من الماء والماء من الهواء دائما ودورا ، حتى إن النقلة على الاستقامة إنما يوجد لها الدوام والاتصال من جهة تشبهها بالنقلة دورا مثل صعود الهواء مرة وهبوط الماء أخرى.

ومن هنا ينحل الشك الذي يعتري بعض الناس وهو لم لا تفترق هذه الأجسام البسيطة وتتميز بعضها من في هذا الدهر الطويل حتى لا يكون لها اختلاط ولا امتزاج ، إذ كانت أضدادا وكان من شأن كل واحد أن يلحق بموضعه / الذي يخصه ، فإنه ليس السبب في نقلتها الى أماكن بعض واختلاط بعضها ببعض شيئا إلا النقلة. ولو لا النقلة دورا لكان واجبا أن تفترق في هذا الدهر الطويل. لكنها تنتقل بعضها إلى بعض من قبل النقلة التي هي مضاعفة أي متناه ومختلفة مثل حركة الفلك المائل نفسه ، والحركة الشرقية مع الغربية. فقد تبين من هذا القول ما الأسباب القصوى لاتصال الكون والفساد وأنه واجب أن يكون عنها كون وفساد على الاتصال.

___________________

١ ـ يعنى : أ.

١٢٧

٣٨ ـ قال :

ولما كنا قد بينا في غير هذا الموضع أنه إن كانت حركة فواجب أن يكون محرك (١) ، فقد يجب إن كانت حركة دائمة أن يكون هاهنا محرك دائم. لكن قد تبين أن هاهنا حركة دائمة فواجب أن يكون هنا [لك] متحرك [محرك] دائم. وواجب أيضا إن كانت هذه الحركة متصلة ان يكون هذا المحرك غير متحرك ، ولا بالجملة متغير ، وذلك ان الحركة المتصلة هي المستوية التي لا تخل. وذلك واجب ضرورة أن يكون المحرك والمتحرك غير متغير أصلا. وإن كانت هذه الحركات الدائمة التي بهذه الصفة أكثر من حركة واحدة فواجب ان يكون المحرك الذي بهذه الصفة اكثر من محرك واحد لكن الحركات التي بهذه الصفة أكثر من حركة واحدة ، فواجب أن يكون المحرك الذي بهذه الصفة أكثر من محرك واحد لكن لما كنا نجد هذه المتحركات كلها تتحرك بجهة ما بحركة واحدة ، وهي الحركة اليومية ، فواجب أن تكون هذه المحركات كلها يشتمل عليها محرك أول.

٣٩ ـ قال :

وإذا كان يظهر من طبيعة الزمان أنه متصل دائم ، وكان قد تبين أنه عدد الحركة ، فواجب أن يكون هاهنا حركة متصلة ، فالزمان إذن هو عدد حركة متصلة والمتصلة هي الدائرة. فالزمان هو إذن عدد حركة الدائرة. وهذا كله قد تبين فيما قد سلف. وإنما نذكر به هاهنا

________________

١ ـ محرك ؛ في الاصل محركا.

١٢٨

إذكاراً.

٤٠ ـ قال :

وقد ينبغي أن ننظر في اتصال الحركة هل ذلك من قبل أن المتحرك نفسه متصل دائم أو من قبل الشيء الذي به يتحرك أو فيه يتحرك عرض لها الاتصال وأعني بالشيء الذي فيه يتحرك المكان وبالشيء الذي به / يتحرك الحال وهو بين أن الاتصال إنما يوجد أولا للعظم. ولما كان المتحرك أولا هو ذا عظم ، وجب أن يكون الاتصال إنما هو من قبل المتحرك. فإن الحال إنما توصف بالاتصال من قبل أنها من متصل. وقد يجوز أن يوصف بالاتصال من قبل المكان فإن المكان أيضا عظم والعظم المتصل الأول الذي لا يمكن فيه زيادة ولا نقصان إنما هو المستدير وحده. وإذا كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون الذي يفعل الحركة الواحدة المتصلة الجسم الذي ينتقل دورا وأن تكون هذه الحركة هي التي تفعل الزمان.

الفصل الثاني

٤١ ـ قال :

ولما كنا نجد التغير في الأشياء التي تتغير بالكون أو بالاستحالة أو بأي ضرب كان من ضروب التغير متشافعة أو متتابعة من غير أن يخل ، بل يحدث شيئا بعد شيء ، فقد ينبغي أن ننظر في الجهة التي منها يصح الدوام للكائنات. ومبدأ النظر في ذلك أن نفحص هل هاهنا شيء يتكون من الضرورة أم ليس هاهنا شيء يتكون من الضرورة لكن كل شيء يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون فنقول :

١٢٩

أنه من البين بنفسه أن بعض الأشياء يمكن فيها أن تتكون وألا تتكون فإنه إنما صار قولنا في الشيء ممكن أن يكون غير قولنا فيه إنه كائن وموجود من جهة أن الممكن الوجود غير الضروري الوجود وذلك أن ما كان كونه في المستقبل واجبا فسيصدق عليه القول بأنه موجود في وقت من الأوقات ضرورة مثل وجود الاعتدال بين الانقلابين. وأما ما ليس يصدق فيه القول بأنه موجود الا في الزمان الحاضر فليس هو مستحيلا ألا يوجد ، مثال ذلك أنه إن كان المشي ممكنا لزيد فقد لا يمشي وإذا تبين أن بعض الموجودات ليس يجب كونها ، فهل هي كلها هكذا أم فيها ما يجب كونه ضرورة فنقول : إنه كما أن في الأشياء الموجودة أشياء لا يمكن أن تعدم وألا توجد مثل الامور الضرورية الوجود ، وأشياء موجودة يمكن ألا توجد وأن تعدم كذلك الأمر في الأشياء الكائنة منها ما يمكن ألا (١) يكون ومنها ما هو واجب أن يكون مثل حلول الشمس في نقطتي الانقلابين ونقطتي الاعتدالين ، فإنه واجب أن يحدث ولا يمكن له أن لا يحدث وإذا تقرر هذا فعلى أي جهة ليت شعري يمكن وجود التتابع الضروري والتتالي في المادة الممكنة. فإنه لا يخلو أن توجد تلك الأشياء من قبل أنها متناهية ذوات أوائل وأواخر أو من قبل أنها غير متناهية. وغير المتناهية صنفان إما غير متناهية من جهة الدور وإما غير متناهية من جهة الاستقامة. فأما المتناهية فيظهر أن كون المتقدم فيها واجب ضرورة متى وجد المتأخر ومثال ذلك أن كون الاساس

________________

١ ـ سقطت ورقة من مخطوط باريس فنقلها عن مخطوط اكسفورد ٧٣ و.

١٣٠

واجب إذا وجد البيت وكون الحجارة والطين متى كان الأساس فلو كانت هذه متى وجد المتقدم فيها لزم وجود المتأخر أعني لو كان يلزم متى وجد الأساس أن يوجد البيت لقد كان يجب أن يكون التتابع والتشافع لكون هذه ضرورة متصلة. لكن معلوم أنه لا يجب أن يكون الأساس إلا متى وجد البيت لأنه قد وضع لزوم وجود الأساس عن البيت. فمتى كان وجود البيت الآخر ضرورة ، غير أنه معلوم أنه ليس يوجد المتأخر هاهنا ضرورة ، إذ كان قد يمكن أن يوجد والا يوجد ، وإنما يجب ضرورة أن يوجد من جهة فرضنا ذلك ووضعنا إياه لا من جهة الأمر في نفسه. فلو كان وجود البيت الذي هو الاخير ضروريا للزم أن يكون موجودا دائما ، وقد يمكن الا يكون موجودا ، وذلك أن الحال في الوجود هي الحال في التكون بعينه ، واللازم فيهما واحد. وإذا كان لا يمكن باضطرار اتصال في الكون في الأشياء التي لها أوائل وأواخر ، فمن ذلك يظهر أيضا أنه لا يمكن ذلك في الأشياء التي تمر على الاستقامة إلى غير نهاية في الطرفين. وذلك أن هذه الأشياء ليس لها أول يجب من قبله أن يكون لها أخير ولا لها أخير يجب من قبله أن يكون لها أول فاللزوم فيها أعدم فيها من المتناهية وإذا كان ذلك كذلك فلم يبق إلا أن تكون ضرورة الكون لها على جهة الدور. وذلك واجب من قبل أن التكوين الدائم هو ضروري والضروري أزلي ، والأزلي يحرك دورا. وذلك أن الكون الأزلي قد وجب أن يكون له مبدأ ، وإذا كان له مبدأ فلا بد أن يكون وجوده من جهة ما له مبدأ إما على جهة الاستقامة وإما على جهة الدور. لكن وجوده على جهة الاستقامة يوجب أحد أمرين إما أن لا يكون أزلي وإما أن لا يكون له مبدأ. وذلك أن المستقيم إذا كان له مبدأ وأخير ،

١٣١

كان ضرورة متناهيا أو غير دائم ، ومتى فرضناه غير متناه من الطرفين لم يكن له مبدأ. وذلك أن الأشياء التي لا نهاية لها ليس لها أول ولا أخير. ولذلك يجب ضرورة إذا وضعنا أنه أزلي وأنه ذو مبدأ أن يكون يجري دورا. وأن يكون الأمر في الأشياء المتكونة على طريق الدور متى وجد الأول وجد الأخير ومتى وجد الأخير وجد الأول لأنه لا فرق بين أن يكون هذا التلازم بين اثنين أو أكثر من ذلك فالضروري الدائم إنما هو في الحركة دورا والتكوين دورا. فإن كل شيء من الأشياء التي تجري دورا فالمتقدم منها والمتأخر وما قد كان وما) يكون واجب ضرورة. وعكس هذا أيضا صادق وهو أن ما كان المتقدم منها والمتأخر ضروري الوجود فهو يتحرك دورا. (١) وينبغي أن تعلم أن هذا القول يجري مجرى التتميم لما تبين في أول الثامنة من السماع في أن الحركة شافعة ومتشافعة / لا تخل في وقت من الأوقات وإن هذا إذا أضيف إلى ما سلف ظهر منه وجود حركة أزلية ضرورة.

٤٢ ـ قال :

ولما كان قد تبين في غير هذا الموضع وبغير هذا الوجه أن الحركة الدائرة الأزلية هي حركة السماء ، فمن البين أن هذه الحركات التي للامور الكائنة الفاسدة على هذه الجهة هي من قبلها وعنها. وذلك أنه إذا كان المحرك دورا يحرك دائما ، فواجب أن تكون حركة الأشياء المتغيرة يجري دورا. ومثال ذلك أنه لما كانت الحركة العلوية الأولى موجودة دورا ، كانت الشمس تتحرك دورا ، ولما كانت هذه

__________________

١ ـ انتهى الساقط من مخطوط مودينا.

١٣٢

الأوقات تجري على هذه صار ما يحدث / عنها يجري أيضا على نحو ما يجري ، أعني دورا. وقد يعرض في هذا شك ما وهو أنه إذا كان التكون العارض من قبل هذه دورا فما بال بعض الأشياء يوجد كذلك أعني أنه إذا وجد المتأخر وجد المتقدم وإذا وجد المتقدم وجد المتأخر مثال ذلك أنه إذا كان غيم فمطر وإذا كان مطر فغيم. ولسنا نجد الناس ولا الحيوانات يتحركون دورا باعيانهم حتى يعود الشخص منهم بعينه نفسه وليس يلزم عن وجود المتقدم وجود المتأخر ، فإنه ليس واجبا إن كان أبوك موجودا ان توجد عنه بل إن كنت أنت فواجب أن يكون أبوك لكن ليس يمر الأمر في هذا الى غير نهاية بالذات والا لم توجد أنت الا بعد وجود اشخاص لا نهاية لهم وإذا كان هذا هكذا ، فلا المتقدم البعيد يلزم عن وجود المتأخر إلا بالعرض ولا المتأخر يلزم عن وجود المتقدم أصلا. وإنما يشبه أن يكون عرض هذا لهذه الأشياء لان التكون فيها جار على استقامة. ومبدأ النظر في هذا الفحص هل هاهنا شيء يعود دورا على مثال واحد ام بعضها يعود دورا بالشخص وبعضها يعود دورا بالنوع. فإن الذي تبين أنه واجب في هذه الأشياء أن يعود دورا إنما هو الواحد بالنوع لا الواحد بالشخص فنقول :

إن كل ما كان من أشخاص الجواهر متحركا إلا أنه غير ممكن فيه أن يفسد فإنه يعود بالشخص ، وذلك أن الحركة إنما هي موجودة في المتحرك مثل الشمس والقمر؛ وأما ما كان من أشخاص الجواهر قابلا للفساد فلا يمكن فيه أن يعود بالشخص وإنما يمكن فيه أن يعود بالنوع ، مثل تكون الهواء عن الماء والماء عن الهواء لا ان شخص ذلك الماء الفاسد بعينه يعود دورا. ولو قدرنا المادة واحدة والفاعل

١٣٣

واحد فإنه من المعلومات الأول أن الصانع الواحد بعينه إذا صنع من مادة ما لبنة ثم افسدها وصنع اخرى انها غير تلك اللبنة الاولى بالشخص ، لانها غيرها بالصورة ، وأنهما اثنين بالعدد واحد بالنوع. فإنه ليس الأشياء التي هي واحدة بالاسباب هي واحدة بالعدد والشخص.

وهنا انقضى هذا التلخيص والحمد لله على ذلك كثيرا.

وكان الفراغ منه يوم الخميس عقب شهر جمادى الأخيرة الذي من سنة سبع وستين وخمسمائة للهجرة.

١٣٤

١٣٥
١٣٦

١٣٧
١٣٨

١٣٩
١٤٠