بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

نعمان الأراك وهذا خطأ ، إذ أنّ من يعتمر قاصداً المسجد الحرام ليس قريباً من نعمان الأراك » (١).

أقول : لا ينبغي الريب في أن نعمان الذي يكون بعد الاعتمار من مسجد التنعيم لا ارتباط له بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات ، وذلك لأنَّ التنعيم يقع شمال غربي مكّة ، فالمعتمر منه الذي يريد مكة لا يمرّ بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات (٢) ، والذي حدده البلادي بأنه « واد فحل من أودية الحجاز التهامية ... ينحدر غرباً ، فيمرّ جنوب عرفات عن قرب ، ثم يجتمع بعُرنة فيطلق عليه اسم عُرَنة ، يمرّ بين جبلي كُساب وحَبَشي جنوب مكة على أحد عشر كيلو متراً ، ويكون هناك حدود الحرم الشريف ، ويتسع الوادي بين كبكب والقرضة فيسمى خبت نعمان لفياحه وسعته » (٣).

ثمّ إنّه يُعرف موضع الإحرام من التنعيم اليوم ب‍ « العمرة » ، وفيه مسجد يعرف ب‍ « مسجد عائشة » نسبة الى أمّ المؤمنين عائشة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّ أخاها عبد الرحمان أحرم بها للعمرة من التنعيم امتثالا لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما أمره بذلك ، كما ذكرت ذلك الرواية المتقدّمة ، وقد شيّدت الحكومة السعودية مسجداً جنوبي علمي الحرم المكّي ، الماثلين حالياً ، وقريباً من موقع المسجد ، الذي كان قبله في هذا الموضع ، وقد أصبح المكان اليوم حيّاً من أحياء مكّة السكنيّة يُعرف بحيّ العمرة ، يبعد عن المسجد الحرام أو مكّة القديمة (٦) كيلومترات.

التشكيك في ميقات التنعيم الحالي :

هذا وقد وجدت كلمات لبعض المؤرخين الجغرافيين تلمح الى أن التنعيم

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) ومعلوم أنّ عرفات تقع شرقي مكّة.

(٣) معجم معالم الحجاز : ج ٩ ، ص ٦٩.

٤١

الذي هو موضع الإحرام هو في غير الموضع المعروف حاليّاً بالعمرة ، واليك بعض الكلمات في ذلك :

١ ـ قال أبو إسحاق الحربي الخراساني ( ت ٢٨٥ ) في كتابه المناسك ص ٤٦٧ : « والتنعيم وراء القبر ( قبر ميمونة ) بثلاثة أميال قبل مسجد عائشة ، وهو موضع الشجرة ، وفيه مسجد وأبيات ، ومنه يحرم مَنْ أراد أن يحرم ».

والشجرة التي أشار اليها هي شجرة هليلجة كانت في المسجد المعروف بمسجد الهليلجة ثمّ سقطت.

وهذا الكلام يتنافى مع ما هو واقع اليوم ، من أن التنعيم بين مكة وسَرِف الذي فيه قبر ميمونة ، ويتنافى مع كون التنعيم هو مسجد عائشة التي أحرمت منه بأمر الرسول الكريم حيث يقول المؤرخ : « بأن التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وقبل مسجد عائشة ».

ثم قال أبو اسحاق الحربي الخراساني : « عن مالك بن دينار ، عن القاسم ، عن عائشة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعمرها من التنعيم ، ثم مسجد عائشة بعده بنحو ميلين دون مكة بأربعة أميال ».

وهذا الكلام ـ أيضاً ـ يغاير ما هو المعروف اليوم من أن المسافة الى علمي التنعيم القائميْن حالياً لا يزيد على ستة كيلومترات أي أربعة أميال.

٢ ـ وجاء في كتاب وفاء الوفاء للسمهودي ( ت ٩١١ ه‍ ) : « قال الأسدي : والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وهو موضع الشجرة وفيه مسجدٌ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه آبار ، ومن هذا الموضع يحرم من أراد أن يعتمر ، ثمّ قال : ميقات أهل مكّة بالإحرام مسجد عائشة ، وهو بعد الشجرة بميلين ، وهو دون مكة بأربعة أميال ، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة ».

وهذا النص ـ أيضاً ـ يصرِّح بأن التنعيم الذي يحرم منه للعمرة ليس هو ما يكون ماثلاً اليوم ، إذ يكون التنعيم بعد قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة.

٤٢

٣ ـ وقال أحمد بن عبدالحميد العباسي ـ من مؤرخي القرن العاشر الهجري ـ في كتابه عمدة الأخبار ص ١٤٤ : « والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ».

٤ ـ وقال المقدم عاتق بن غيث البلادي ـ مؤرخ الحجاز المعاصر ـ في كتابه على طريق الهجرة ص ١٠ : « ويقال : إنَّ العمرة كانت في هذا المكان ( يعني عند قبر ميمونة ) وإنّ المكيّين يعتقدون أنه حدود الحرم ، ثمّ غيّرت العمرة عندما اختلَّ الأمن خوفاً على الحجَّاج والمعتمرين ».

أقول : إنّ هذه النصوص المتقدمة كلها قد اتفقت على أن التنعيم الذي اُجيز للمعتمر أن يحرم منه هو : إمّا أن يكون عند قبر ميمونة كما في النص الأخير ، وإمّا أن يكون أبعد منه بثلاثة أميال أو ميلين ، وبهذا تكون هذه النصوص قد خالفت موقع مسجد التنعيم اليوم من كونه بين مكة وسَرِف ـ الذي فيه قبر ميمونة ـ الذي يبعد عن المسجد أو مكة القديمة ستة كيلومترات تقريباً.

وهناك نصوص اُخرى صرحت بأنّ التنعيم هو أبعد من أدنى الحلِّ الى مكة بقليل ، منها :

١ ـ ما ذكره المحب الطبري المكي ( ت ٦٩٤ ه‍ ) فيما حكاه عنه محقق أخبار مكة للأزرقي رشدي ملحِسي بهامش الكتاب المذكور ، ٢ : ١٣٠ : والتنعيم « أبعد من أدنى الحلِّ بقليل وليس بطرف الحلِّ ».

٢ ـ وقال أبو الطيب الفاسي المكي في شفاء الغرام ، ١ : ٢٨٩ : « الثاني التنعيم المذكور في حدِّ الحرم من جهة المدينة المنوّرة ، وهو أمام أدنى الحلِّ كما ذكره المحب الطبري ، قال : « وليس بطرف الحلِّ » ومَنْ فسّره بذلك تجوَّز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه ، وأدنى الحلِّ إنما هو من جهته ، وليس موضع في الحلِّ أقرب إلى الحرم منه ، وهو على ثلاثة أميال من مكّة ، والتنعيم أمامه قليلا ».

وهناك نص ثالث يقول : بأنَّ التنعيم يبعد عن مكّة فرسخين ، فقد قال الفاسي : « وقال صاحب المطالع : والتنعيم من الحلّ بين مكة وسَرِف على فرسخين من مكّة ، وقيل : على أربعة أميال ».

٤٣

موقع فخ :

ومما يزيد في التشكيك موقع فخ الذي يقع غربي مكة ، على طريق مكة ـ التنعيم ـ المدينة ، وبينه وبين مكة ثلاثة أميال أي حوالي ستة كيلومترات.

وفخّ ـ بفتح الفاء الموحدة فتشديد الخاء المعجمة ـ بئر معروف على نحو فرسخ من مكة كما قيل ، وفي القاموس : « موضع بمكّة دفن فيه ابن عمر ». وفي نهاية ابن الأثير : « موضع عند مكة ، وقيل : واد دفن فيه عبد الله بن عمر ». وفي السرائر لابن إدريس الحلّي : « أنّه موضع على رأس فرسخ من مكّة ، قتل فيه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين عليهما‌السلام على ما حكاه صاحب كشف اللثام.

وعلى كلّ حال فإنَّ الموقع واضح ، وهذه المعرِّفات قد تكون كلها صحيحة ، فهو واد دفن فيه ابن عمر وفيه بئر ، وقد وقعت فيه معركة فخّ التي ذكروا بأنَّها من الشدّة بحيث لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجعَ من فخّ (١).

__________________

(١) ومنطقة فخ الآن فيها حيّان من أحياء مكة هما : « حيّ الزاهر » و « حيّ الشهداء » نسبةً الى شهداء فخ الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وأنصاره رضوان الله عليهم ).

وفي فخ مقبرة معروفة تُعرف بمقبرة المهاجرين ، كان يدفن فيها كلّ مَنْ جاور مكة منهم ، ولا تزال موجودة معروفة حتى الآن.

أما موضع شهداء فخ فلا أثر له الآن ، يقول السباعي في تاريخ مكة : ٨٩ : « في هذا المكان ـ يعني فخّاً ـ تقرر مصير العلويين حيث قتل الحسين بن علي وهو محرم ، بعد أن أبلى بلاءً شديداً ، وقتل معه أكثر من مائة من أصحابه ، وكانت قبورهم معروفة هناك ، ويُشرف قبر زعيمهم الحسين على ربوة في الوادي.

وجاء في معجم معالم الحجاز ، ٧ : ١٩ ما نصه :

« حكى شاهد عيان أنه كان في أواخر الستينات من هذا القرن الرابع عشر الهجري حدث أثناء حفر أساس قصر بالشهداء أن بدت يدُ إنسان طريّة عارية من تحت الأرض ، فحفروا عنها فإذا هي مطبقة

٤٤

وفخّ قد اختلف فقهاء الإماميّة في كونها ميقاتاً للصبيان على قولين :

الأوّل : ذهب جمع من فقهاء الإماميّة ( رضوان الله عليهم ) الى كون فخ ميقاتاً للصبيان ، بمعنى جواز تأخير إحرامهم الى هذا المكان من دون تعيّن ذلك عليهم ، واستدلوا لذلك بصحيح أيوب بن الحر ، قال : « سُئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن الصبيان من أين يجرّد الصبيان ؟ قال عليه‌السلام : كان أبي يجرّدهم من فخ » (١).

هذا إذا مرّوا من طريق المدينة ، أمّا إذا مرّوا من طريق آخر فيحرمون من الميقات الذي مرّوا عليه ، فقد ذكر جماعة : أن في الرواية كناية عن جواز إحرامهم من فخ. بل ربما نسب الى الأكثر ، بل في الروضة يظهر من آخر عدم الخلاف فيه.

الثاني : ذهب آخرون الى أن إحرام الصبيان من الميقات ، ولكن رُخّص لهم في لبس المخيط الى فخ ، فإذا وصلوا الى فخ جرّدوا منه ، استناداً الى ظاهر الصحيح المتقدم في حمله على الحقيقة ، وظاهر الروايات المقتضية لزوم الإحرام من الميقات.

وإذا كان إحرام الصبيان من الميقات مطلقاً في حجّ أو عمرة ، وكان مطلقا حتى لمن كان من أهل مكة وأراد العمرة المفردة ـ كما هو ظاهر إطلاقهم ذلك ـ فحينئذ على القول الثاني يكون إحرام المعتمر من التنعيم الحالي البالغ بعده ستة كيلومترات ، مع أن الصبي يحرم من الميقات ، ولكن يجرّد من فخّ الذي يبعد ستة كيلومترات أيضاً ، وهذا فيه بعدٌ عرفيّ واضح يكون الصبي في هذا الحكم أشد حالا من البالغ ، أمّا بالنسبة إلى القول الأول فإنّ الصبي والبالغ في هذا الحكم سيّان ، مع أن العرف يرى لابدّية أن يكون إحرام الصبي أسهلَ من البالغ إذا أردنا الإرفاق به (٢).

ولنا في الجواب على هذا التشكيك عدّة مسالك نستعرضها إن شاء الله تعالى :

__________________

على صدر إنسان فجذبوها ، فإذا الدم يندفع من موضعها ، فتركوها ، فاذا هي ترتدّ بسرعة الى مكان النزيف فتوقفه ».

(١) وسائل الشيعة : ج ٨ ، باب ١٨ من المواقيت ، ح ١.

(٢) قد يقال : إنّ الرواية في تجريد الصبيان من فخّ ناظرة لمن أحرم من طريق المدينة فقط ، فلا اطلاق فيها لما نحن فيه.

٤٥

١ ـ جواب التشكيك من الناحية الفقهية :

نقول : إنّ الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم وإن كانت مختلفة اختلافاً غير يسير إلاّ أنّ هذا الاختلاف بين المؤرخين والجغرافيين لا يجيز لنا رفع اليد عن موضع الإحرام في التنعيم الحالي ؛ وذلك لعدم حجيّة هذه الأقوال في أنفسها ، إذ هي : إمّا أخبار آحاد غير معتبرة ، وإمّا متعارضة ، وحتى إذا كانت أقوال ذوي الخبرة فهي ساقطة بالتعارض ، فتبقى السيرة المتلقّاة من المسلمين في الإحرام من مسجد التنعيم الحالي الذي يبعد ٦ كيلومترات عن المسجد أو حدود مكة القديمة ، وهذا خير دليل على بطلان التشكيك المتقدم ، فإنّ هذه السيرة المتلقاة يداً عن يد ممن يلتزم الشريعة الغرّاء نهجاً في حياته ، وفي زمن المعصومين عليهم‌السلام تفيد العلم في معرفة ميقات التنعيم الذي وقّته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو كان هناك أيّ تغيير في الميقات في أي زمان لنقل الينا بصورة واضحة ، إذ أنّ التغيير في العبادات وأماكنها التي حدَّدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما يوجب اعتراض المسلمين قاطبةً ونقل ذلك التغيير والاعتراض لغيرهم ، مع أنّنا لم نجد في الروايات التي بين أيدينا أيّ تغيير في ميقات التنعيم.

نعم ، نقل عن بعض المؤرخين المعاصرين « تغير موضع العمرة عندما اختل الأمنُ خوفاً على الحجّاج والمعتمرين » بقوله : ويقال.

وهذا الكلام لا يعتدّ به ؛ لأنه لم يعتقد به حتى هذا المؤرخ المعاصر كما تقدم ، فهو عبارة عن كلام غير معتبر تردّه السيرةُ القائمة على تعيين موضع الإحرام للعمرة من مسجد التنعيم الحالي من قبل كلّ المسلمين.

هذا وقد ذكر غيرُ واحد من الأصحاب (١) هنا الاكتفاء في معرفة هذه المواقيت بالشياع المفيد للظن الغالب ، ولعلّه لصحيح معاوية بن عمار عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ، ١٨ : ١٠٧.

٤٦

« يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك » (١).

ومعنى ذلك أن الشياع الموجود عند المسلمين هو المرجع في تحديد الميقات ، لا قول المؤرخ أو الجغرافي ، خصوصاً مع التعارض والاختلاف.

٢ ـ جواب التشكيك من الناحية الرياضية :

إنّ الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم تتمثل في المسافة التالية : « ٣ ميل / ٤ ميل / ٦ ميل / ١ فرسخ / ٢ فرسخ / ٦ كم / ١٢ كم » تقريباً. فهل يمكن أن نرجع هذا الاختلاف في المسافة الى اختلاف أسباب العدّ مع كون الموضع الذي يحرم منه هو الموضع الحالي ؟

الجواب : نعم يمكننا ذلك ؛ لأن تقدير المسافة يختلف لأسباب متعددة ، منها :

الأول : الاختلاف في تقدير الذراع المستعمل في العدّ ، فإنّه على ثلاثة أوجه :

أ ـ ذراع اليد الذي هو مختلف بين عدّه ( ٥٢ سم ) أو ( ٥٠ سم ) أو ( ٤٨ سم ) وذلك لأنَّ الذراع ـ كما ذكر أهل اللغة ، كمجمع البحرين ـ « من المرفق الى أطراف الأصابع ، والذراع ست قبضات ، والقبضة أربع أصابع » وبما أن الإصبع يختلف قدره من شخص الى شخص في الإنسان المتعارف فبذلك يختلف العدّ بين الأرقام الثلاثة المتقدّمة.

ب ـ الذراع الحديدي يساوي ( ٥٨ سم تقريباً ).

ج ـ الذراع المعماري الذي يساوي ( ٧٥ سم تقريباً ).

الثاني : الاختلاف في تقدير الميل بالذراع ، فقد قُدر الميل بالنسبة لذراع اليد بتقديرات مختلفة :

٢٠٠٠ ذراع يد.

٣٥٠٠ ذراع يد.

٤٠٠٠ ذراع يد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٨ ، باب ٥ من أبواب المواقيت ، ح ١.

٤٧

٦٠٠٠ ذراع يد (١).

ولهذا الاختلاف في تقدير الميل بالذراع يفهم الاختلاف في تقدير المسافة بالأميال ، ومنه يفهم اختلاف تقدير المسافة بالفرسخ أو الكيلومتر.

الثالث : أضف الى ذلك الاختلاف في مبدأ العدّ ، فإنَّ مبدأ العدِّ قد يكون باب المسجد ، كما قد يكون سور مكة.

الرابع : الاختلاف في تقدير الطريق المعدود الذي يختلف باختلاف الانحناءات في أزمان مختلفة ، فقد يكون طريق فيه تعرجات كثيرة يستوجب كثرة المسافة المطوية في زمان ، وفي زمان آخر يتبدل الطريق بإزالة هذه التعرجات أو اختصارها بما يستوجب قلة المسافة.

٣ ـ جواب التشكيك من ناحية تعيين موضع التنعيم بالوصف :

إنَّ الموضع الحالي للتنعيم هو بين مكة وسَرِف ( الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، وحينئذ يمكن أن تكون العبارات القائلة : بأنَّ التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال متفقة مع الوصف الأولي ، إلاّ أنّ الوصف الأولي يكون للموضع لمن كان في مكة وأراد السير إلى الموضع.

أمّا الوصف الثاني فهو ناظر إلى الموضع لمن كان خارج مكّة أو بعيداً عنها ، فالموضع هو نفسه بين مكة والقبر لمن أراد الإتيان إليه من مكة ، وهو بعد القبر لمن أراد الوصول إليه وهو خارج مكة ، والله تعالى هو العالم بحقائق الاُمور.

ولعلّ مما يحسم الخلاف والتشكيك ما وجدته في خريطة مكة المكرمة ـ المرفقة بكتاب مكّة المكرمة في شذرات الذهب للغزاوي ، وهو دراسة وتحقيق لبعض المعالم الجغرافية ـ من وجود ثلاث مناطق للتنعيم :

الاُولى : منطقة العمرة التي هي شمال غربي جبل نعيم وغربي جبل ناعم ،

__________________

(١) استندنا في ذكر هذه التقديرات الى كتاب هداية الناسكين للدكتور الفضلي : ص ٩٣.

٤٨

وهو مكان العمرة الحالي.

الثانية : التنعيم التي تقع شمال منطقة العمرة.

الثالثة : منطقة التنعيم التي تقع شمال جبل الواتد وجنوب منطقة الغزالة وجبل الغبير.

وحينئذ فإنَّ الخلاف في بُعد التنعيم عن المسجد الحرام أو مكة قد يكون منشؤه هذه المناطق الثلاث ، فالذي يصح منه الإحرام هو منطقة العمرة التي هي أقرب مناطق التنعيم للحرم.

هل يشكِّل الجمع بين حدود الحرم الحالية ومواقيت أدنى الحلّ مشكلة ؟

إنّ الشارع المقدّس قد حدّد الحرم المكّي كما في موثّق زرارة ، قال : سمعتُ الإمام الباقر عليه‌السلام يقول : « حرّم الله حرمه بريداً في بريد ... » (١) الذي هو عبارة عما يقارب ثلاثة وعشرين كيلومتراً.

فهل بإمكاننا أن نوفِّق بين هذا التحديد الإجمالي وما هو متلقّى من تعيين الحدود ومعرفتها بالعلامات والنصب الموجودة الآن ، المأخوذة يداً عن يد من زمن المعصومين عليهم‌السلام بحيث يكون التنعيم الحالي خارج حدود الحرم ، والى جنبه النصب الموجودة حاليّاً ؟

نقول : إنّنا إذا نظرنا الى الأدلة القائلة بأنّ المزدلفة هي من الحرم ؛ بقرينة جواز التقاط حصى الجمار منها ، وبأنّ الجعرانة والتنعيم والحديبية هي خارجة عن حدود الحرم ؛ لجواز الإحرام للعمرة المفردة منها ، للنصوص المتقدمة ، بل جواز الإحرام من أشباه الجعرانة والحديبية ـ كما في الصحيح المتقدم الذي يدلّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ٩ : باب ٨٧ من تروك الإحرام ، ح ٤.

٤٩

على جواز الإحرام من كلّ مكان خارج الحرم ـ ، فيلزمنا أن نفسّر حدود الحرم الواردة في الموثّق بما يكون بين هذه المواقيت ، بحيث تدخل المزدلفة فيه ، وبهذا فسوف يكون الحرم مختلفة أبعاده بالنسبة الى مكة ، فمن ناحية التنعيم ( الشمال الغربي ) يكون الحرم قبل مسجد التنعيم الحالي ، كما هي علامات الحرم بالنصب الموجودة حاليّاً ، وهي لا تبعد إلاّ ستة كيلومترات. وأما من ناحية الجنوب فقد ذكروا : أنّ إضاءة لبين ( لبن ) هي حدود الحرم من الناحية الجنوبية ، وهي لا تبعد أكثر من ( ١٨ كم ) وبهذا فسوف يكون البريد ما بين علمي التنعيم وعلمي إضاءة لبين ( لبن ) متحققاً.

أمّا الجعرانة ( التي هي ميقات للإحرام من ناحية الشمال الشرقي ) ، وعرنة ( وهي حدود الحرم من الناحية الشرقية ) ، والحديبية ( وهي ميقات من ناحية الغرب ) فهي خارجة عن الحرم وهي تبعد ما بين ( ٢٠ ـ ٢٣ كم ).

وحينئذ لا يمكن تطبيق البريد في البريد ما بين هذه الأماكن الثلاثة ، ولكن لنا أن نقول : إنّ الفقهاء قد ذكروا استحباب الإحرام من الجعرانة والحديبية ، وجوّزوا الإحرام من أدنى الحلّ ، فإذا عرفنا أدنى الحلّ بصورة قطعية ـ كما فيما بعد المزدلفة ـ جاز لنا الإحرام منه ، وإذا شككنا في حدود الحرم من جهة من الجهات فالاحتياط يقتضي أن نحرم من منطقة تبعد عن الحرم كما في الجعرانة والحديبية وأمثالهما.

وبهذا فسوف تكون حدود الحرم ـ التي هي بريد في بريد ـ ليست على نسق واحد في جميع الأطراف ، كما توجد إشارة الى ذلك في بعض الأخبار.

وعلى كلّ حال فإنَّ تحديد الحرم بكونه بريداً في بريد غير مثير للإشكال في موضع التنعيم الحالي ، فإنَّ ما ذكر من كونه ميقاتاً بفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كالحديبية والجعرانة ـ إنّما هو على نحو الاستحباب ؛ للتأسّي بفعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما فيه من البعد عن مكة ، وليست هي أقرب الأماكن إلى الحرم ، وحينئذ ما قطعنا من كونه من الحرم نطبّق عليه أحكام الحرم ، وما لم نقطع فيه أنّه من الحرم لا نطبق عليه أحكام الحرم ، ولكن يلزمنا ـ أيضاً ـ الإحرام من المكان الذي نقطع فيه بأنه خارج عن حدود الحرم ، والله سبحانه هو الموفّق.

٥٠

٥١

٥٢

وردت أحاديث عديدة في النهي عن البيع قبل القبض ، وقد اختلفت الآراء حول تعميمها أو تخصيصها تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك. وقد بادر مجمع الفقه الإسلامي في الهند بالدعوة إلى عقد الدورة التاسعة في الفترة ما بين ١١ ـ ١٤ اكتوبر عام ١٩٩٦ م في جامعة الهداية لبحث مواضيع فقهية عديدة ، منها « البيع قبل القبض » بفروعه ، التي أراد لها جواباً شرعياً ينسجم مع العقود المستجدّة التي يشتبه أن تكون داخلة تحت البيع قبل القبض.

وإجابةً لتلك الدعوة الكريمة رأينا أن نوضّح ما طلب ايضاحه في تلك الأسئلة.

١ ـ أحكام القبض والإقباض

إنّ القبض الذي ورد في الروايات قد رتّب عليه أحكام عديدة ، منها :

أ ـ ارتفاع ضمان البائع عن المبيع عند تحقّق القبض ، كما في النص القائل : « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ».

ب ـ الوجوب التكليفي للقبض والإقباض في المعاملات ، كما في البيع الحالّ الذي يكون القبض والاقباض شرطاً ضمنيّاً ارتكازياً ، وكما في وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها ، فإنَّ الله تعالى يقول : ( إنّ اللهَ يأمركُم أنْ تؤدّوا الأماناتِ إلى أهلِها ).

٥٣

ج ـ الوجوب التكليفي للإقباض وإن لم يكن في معاملة ، كمافي وجوب ردّ مال الغير الذي اُخذ غصباً.

د ـ قد يكون القبض شرطاً في صحة بعض المعاملات ، كما في السلم والهبة والوقوف.

ه‍ ـ القبض شرط في صحة المعاملة الثانية إذا اشترى سلعةً ولم يقبضها ، للأحاديث الناهية عن البيع قبل القبض. ولكنّ هذا مخصوص بالمكيل والموزون ـ كما سيتّضح ذلك ـ فلابدّ من قبضه وبيعه.

حقيقة القبض :

ليس للقبض حقيقة شرعية ولا اتفاق من قبل علماء اللغة ، إذن فلابدّ من الرجوع إلى العرف.

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) : اتفق العلماء على أنَّ القبض في غير المنقول هو التخلية ، واختلفوا في معنى القبض في المنقول على أقوال ثمانية ، ثم ذكر بعدها : أن القبض هو فعل القابض ( المشتري ) وهو الأخذ ، والأخذ في الأموال هو الاستيلاء

__________________

(١) راجع مكاسب الشيخ الأنصاري ٢ : ٣٠٩.

« وأما اعتبار الكيل والوزن في القبض أو كفايته في قبض المكيل والموزون فانه تعبّد محض لأجل النصّ ، قال في صحيحة معاوية بن وهب : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ؟ فقال عليه‌السلام : ما لم يكن كِيل أو وزِن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه ». وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٦ من أحكام العقود ح ١١ ، وغيرها من الروايات. ولا بأس بالتنبيه إلى أن هذا البحث إنما هو لتصحيح البيع الثاني فيما إذا اشترى ولم يكل مثلاً ، لا لأجل ارتفاع الضمان عن البائع بالقبض.

والظاهر : أنّ الكيل والوزن هو كناية عن القبض لا لمعرفة المقدار المبيع ؛ وذلك : لأنّ معرفة المقدار لا يفرق فيه بين البيع مرابحة أو تولية ، لشرطية معرفة المقدار المبيع عند كل بيع ، وحينئذ عندما جوّزت الروايات البيع تولية بغير القبض ومنعته مرابحه تبيّن أن المنع لم يكن لأجل اشتراط معرفة المقدار ، بل لأجل اشتراط القبض في صحة البيع الثاني تعبداً.

٥٤

ووضع اليد مطلقاً ، بلا فرق بين المنقول وغيره ، غاية الأمر اختلاف المستولى عليه ، ففي غير المنقولات يكون الاستيلاء عبارة عن عدم وجود مانع بين الإنسان المالك وبين المال ، بحيث يكون قد تصرف فيه فعلا. وعلى هذا فإن التخلية من دون تصرف ليست قبضاً. وأمّا في المنقول ، يكون القبض هو الأخذ باليد ( الاستيلاء ) ثم الإقباض ، فهو فعل البائع ، وهو دائماً يكون عبارة عن التخلية.

وعلى هذا سيكون عندنا أمران :

الأمر الأول : القبض الذي هو فعل القابض ( المشتري مثلاً ).

الأمر الثاني : القبض الذي هو فعل المقبض ( البائع مثلاً ).

ولابدّ لنا من ملاحظة الخطابات الشرعية ، لنرى متعلق الحكم التكليفي أو موضوع الحكم الوضعي هل هو فعل القابض أو المقبض ؟ وهي على قسمين :

القسم الأول : إذا كان موضوع الخطاب في مورد هو فعل البائع والغاصب والراهن ـ وهو الإقباض ـ فيكون القبض هو التخلية ، وهذا ليس قبضاً حقيقياً حتى في غير المنقول.

القسم الثاني : وإذا كان موضوع الخطاب في مورد هو فعل المشتري ـ أي القابض ـ فيكون القبض هو الاستيلاء من قبل المشتري وتسلّطه على الشيء الذي يتحقّق به معنى اليد ، ويتصوّر فيه الغصب (١).

وحينئذ نقول : إنّ موضوعنا الذي نحن بصدده هو القسم الثاني ، لأن القبض

__________________

(١) أي عندما أوجب الشارع على الغاصب ردّ المغصوب فقد أوجب عليه أن يوجد كل المقدّمات لوصول المال إلى صاحبه ، إذن يجب عليه أخذ المال إلى المغصوب منه وجعله أمامه ، أمّا الأخذ باليد من قبل المغصوب منه فهو غير واجب على الغاصب ، لخروجه عن القدرة وحينئذ يكون الإقباض الواجب على الغاصب هو التخلية. هذا الكلام نفسه يقال بالنسبة إلى البائع الذي أوجب الشارع عليه التخلية ، فإنَّ الإقباض الحقيقي وإن لم يصدق إلاّ باستيلاء الطرف الآخر على الشيء إلاّ أن التكليف بالإقباض على البائع والغاصب يكون تكليفاً بالتخلية فقط وإن لم يستولِ الطرف الآخر على الشيء.

٥٥

الذي اشترطته الروايات في البيع الثاني هو فعل المشتري الذي يكون القبض فيه هو الاستيلاء على المبيع والسيطرة التي تمكّنه من بيعه للآخرين ، وعلى هذا فاذا أوجد البائع التخلية للمبيع ولم يستولِ المشتري عليه فلا يتمكّن من بيعه.

كما أنَّ اعتبار القبض في الهبة دلّ على حيازة المتَّهب للهبة ، وحينئذ لا تكفي التخلية التي هي فعل الواهب.

قال في المكاسب : « إنّ القبض للمبيع هو فعل القابض وهو المشتري ، ولا شك أنَّ الأحكام المترتبة على هذا الفعل لا تترتب على ما كان من فعل البائع من غير مدخل للمشتري فيه ، كما أنَّ الأحكام المترتبة على فعل البائع ـ كالوجوب على البائع والراهن في الجملة واشتراط القدرة على التسليم ـ لا يحتاج في ترتّبها إلى فعل من المشتري » (١).

٢ ـ هل تختلف صور القبض في الأموال المنقولة عن غير المنقولة ؟

نقول : إن ما تقدّم منّا هو ظهور النهي عن البيع قبل القبض الحقيقي ، والقبض الحقيقي هو قبض المشتري ، وهو معنى واحد عبارة عن الاستيلاء على المال ، بحيث يكون الاختيار تحت يد المشتري ، وهذا هو المعنى العرفي للقبض الذي توافقه اللغة أيضاً ، إنّما الاختلاف في مصاديق القبض ، ففي مثل الدار يكون مصداق الاستيلاء والاستعلاء هو التخلية بين المالك وبين ملكه ، بحيث يتمكّن من التصرف فيه بإعطائه مفتاح الدار ، وفي مثل الاُمور المنقولة ـ كالجواهر ـ يكون مصداق الاستيلاء هو القبض باليد ، وفي مثل الحيوان والسيارة يكون مصداق القبض هو أخذ مقود السيارة أو الحيوان ( أو سوْق الحيوان أو السير بالسيارة ).

__________________

(١) المكاسب ، للشيخ الأعظم الأنصاري ١ : ج ٢ ، ص ٣٠٩.

٥٦

إذن تبيّن أن القبض له معنى عرفي واحد ، وهو الاستيلاء والتسلط على الشيء. نعم ، قد يقع الاختلاف في مصاديق القبض وصوره باختلاف الأموال.

٣ ـ هل النهي عن البيع قبل القبض عام ، أو فيه استثناء ؟ وما هي آراء الأئمة وأدلّتهم ؟

إنّ مسألتنا هذه هي في صورة وقوع البيع على سلعة عند البائع ، ثم أراد المشتري بيعها قبل قبضها ، فهل البيع الثاني صحيح قبل قبض المشتري السلعة ؟

أقول : إنّ الأقوال المهمة في هذه المسألة أربعة ، هي :

القول الأول : يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، سواء كان المعقود عليه طعاماً أم غيره ، وسواء كان مكيلا أو موزوناً أو عقاراً أو منقولا ، وذهب إلى هذا القول الإمام الشافعي (١) وأكثر أصحابه والإمام أحمد في رواية (٢) وجمع غفير من العلماء.

واحتجّوا بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الطعام قبل قبضه ، وبما روى أبو داود : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وروى ابن ماجة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض. وروى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بعث اُسيد إلى مكّة قال : « إنهَهُم عن بيع ما لم يقبضوه ، وعن ربح ما لم يضمنوه » (٣).

__________________

(١) الام : ج ٣ ، ص ٦٠.

(٢) المغني لابن قدامة : ج ٤ ، ص ١٢١ ـ ١٢٣.

(٣) هذه الأحاديث ذكرت في المغني : ج ٤ ، ص ٢٢١.

٥٧

القول الثاني : يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً. وذهب إلى هذا القول بعض ، كعطاء ابن أبي رباح والبتّي (١).

ولكن قال ابن عبد البرّ : « وهذا قول مردود بالسنّة والحجّة المجمعة على الطعام. وأظنّه لم يبلغه هذا الحديث ، ومثل هذا لا يلتفت إليه » (٢).

أقول : إن هذا القول ـ الثاني ـ اختاره بعض علماء الامامية على كراهيته (٣) وذلك للجمع بين الروايات المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام التي تنهى عن بيع الطعام أو المكيل والموزون قبل قبضه. والروايات التي أجازت ذلك ، فحملت الروايات الناهية على الكراهية لقرينة الروايات المجوِّزة التي منها :

١ ـ رواية الكرخي : قلت للإمام الصادق عليه‌السلام : أشتري الطعام من الرجل ثم أبيعه من رجل آخر قبل أن أكتاله ، فأقول : ابعث وكيلك حتى يشهد كيله إذا قبضته ؟ قال عليه‌السلام : « لا بأس » (٤).

__________________

أقول : الرواية المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن شراء الصدقات حتى تقبض قد رويت في مجالس الشيخ الطوسي : قال : « ابتعت طعاماً من طعام الصدقة ، فاربحت فيه قبل أن أقبضه ، فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال : لا تبعه حتى تقبضه ». راجع مكاسب الشيخ الأنصاري ٢ : ٣١٧.

(١) المحلّى ، لابن حزم : ج ٨ ، ص ٥٩٧ ، والمغني : ج ٤ ، ص ٢٢٠.

(٢) المغني : ج ٤ ، ص ٢٢٠.

(٣) حكي هذا القول عن الشيخين ( الطوسي والمفيد ) في المقنعة والنهاية والقاضي ، وهو المشهور بين المتأخرين. راجع مكاسب الشيخ الأنصاري ٢ : ٣١٦ ، وراجع المختصر النافع : ص ١٤٨.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٦ من أحكام العقود ، ح ٣.

أقول : أمّا رواية خالد بن الحجاج الكرخي فهي ضعيفة لعدم توثيق خالد ، وأيضاً لم يذكر سند الصدوق إليه مع أن الرواية يسندها الصدوق إليه.

وأما رواية جميل بن دراج فهي ضعيفة لوجود علي بن حديد الذي ضعّفه الشيخ الطوسي. نعم ، هناك روايتان صحيحتان قد يستدل بهما على حمل النهي الوارد في بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على الكراهية ، وهما كما في وسائل الشيعة :

٥٨

٢ ـ ورواية جميل بن دراج عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « في الرجل يشتري الطعام ثم يبيعه قبل أن يقبضه ؟ قال عليه‌السلام : لا بأس. ويوكل الرجل المشتري منه بقبضه وكيله ؟ قال : « لا بأس » (١).

أقول : سيأتي الكلام في عدم صحة هذا الجمع لو كانت الروايتان صحيحتين.

القول الثالث : تفصيل بين بيع الطعام قبل قبضه فلا يجوز ، وبين غيره فيجوز. وقد نقل هذا القول عن الإمام أحمد فقال : « إن المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه ، سواء كان مكيلا أو موزوناً أو لم يكن ». ولعلّ دليله هو ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه : « نهى عن بيع الطعام قبل قبضه » فمفهومه إباحة بيع ما سواه قبل قبضه.

وروى ابن عمر فقال : « رأيت الذين يشترون الطعام مجازفةً يضربون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم ». وهذا نصّ في بيع المعيّن.

وعموم قوله عليه‌السلام : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه » متفق عليه. ولمسلم عن ابن عمر قال : « كنّا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ... » (٢).

القول الرابع : تفصيل بين بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه فلا يجوز إلاّ تولية ، وبين غيره فيجوز. وقد ذهب إلى هذا القول مشهور علماء الإمامية قديماً وحديثاً.

__________________

١ ـ صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يشتري الثمرة ثم يبيعها قبل أن يأخذها ؟ قال عليه‌السلام : « لا بأس ، إن وجد ربحاً فليبع » : ج ١٣ ، ب ٧ من أبواب بيع الثمار ، ح ٢.

٢ ـ صحيحة محمد بن مسلم عن احدهما ( الإمام الباقر أو الصادق عليهما‌السلام ) انه قال في رجل اشترى الثمرة ثم يبيعها قبل أن يقبضها ؟ قال عليه‌السلام : « لا بأس ». المصدر السابق : ح ٣.

والصحيح ( كما قال الشيخ الأنصاري ) إنهما منصرفتان إلى بيع الثمرة على الشجرة بملاحظة الاخبار الواردة في بيع الثمار ، حيث يعبّر عن بيع الثمرة على الشجرة ببيع الثمرة ، وبما أن بيعها على الشجرة لا يعتبر فيهما الكيل أو الوزن فيصح أن تباع قبل القبض فتخرجان عن موردنا.

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٦ من أحكام العقود ، ح ٦.

(٢) راجع المغني لابن قدامة : ج ٤ ، ص ٢١٧ و ٢١٨.

٥٩

ودليله هو الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام التي تنقل وتفسِّر وتوضّح ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من نهي ، منها :

١ ـ صحيحة ابن حازم عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « إذا اشتريت متاعاً فيه كيْل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلاّ أن تولّيه ، فإن لم يكن فيه كيل أو وزن فبعه » (١).

٢ ـ صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « في رجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكتال ؟ قال عليه‌السلام : لا يصلح له ذلك » (٢).

٣ ـ صحيح الحلبي الآخر قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن قوم اشتروا بزاً ( البز : هو الثوب ، ومنه البزّاز ) فاشتركوا فيه جميعاً ولم يقتسموا ، أيصلح لأحد منهم بيع بزّه قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال عليه‌السلام : « لا بأس به ، وقال : إنّ هذا ليس بمنزلة الطعام ، لأنّ الطعام يكال » (٣) بناء على أن المراد قبل أن يقبضه من البائع ( لا القبض من الشركاء ) كما هو الظاهر ، إذ لم يلتزم أحد بثبوت البأس في بيع أحد الشريكين حصته قبل قبضه من شريكه بعد قبضه من البائع ولو بتوكيل شريكه.

٤ ـ صحيح منصور بن حازم ، قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن رجل اشترى بيعاً ليس فيه كيل ولا وزن ، أله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال عليه‌السلام : لا بأس بذلك ما لم يكن كِيل أو وزِن ( كما لو بيع بالمشاهدة ) فإن هو قبضه كان أبرأ لنفسه » (٤). وغيرها من الروايات الصحيحة.

وواضح من هذه الروايات أن الكيل أو الوزن هو كناية عن القبض ، بمعنى أنه لابدّ من قبضه ثم بيعه للآخرين.

وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل السنّة أيضاً ، فقد روي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد ابن أبي سليمان : أنّ كل ما بيع على الكيل أو الوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه ، وما ليس بمكيل ولا بموزون يجوز بيعه

ــــــــــــــــ

(١) و (٢) و (٣) و (٤) وسائل الشيعة ١٢ : ب ١٦ من أحكام العقود ح ١ و ح ٥ و ح ١٠ و ح ١٨.

٦٠