بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وأمّا صورة التطعيم بالأوعية الدموية أو العضل ممّا يصل طعمه الى الحلق ـ كما نقل ـ فيتضح حكمه ممّا تقدّم في الادهان ، حيث قلنا : إنّه لم يرد دليل على كون وصول الطعم الى الحلق بدون إطعام مباشرة مضرّاً بالصوم على أنَّ المتخصّصين قد ذكروا بأنَّ الذوق ( الطعم ) إنّما يكون في مؤخرة اللسان لوجود الحليمات الذوقية فيه (١). نعم ، إذا كان ملاك مفطرية الأكل والشرب هو التغذية وكان التطعيم في الأوعية يعدّ غذاءً فهو ممّا يضرّ بالصوم ، إلاّ أنّنا قلنا : أن إثبات ذلك غير ممكن.

وقد يتوهّم أنّ إدخال الدواء أو الدم الى الجسم بواسطة ما يسمى بالحقن يكون مشمولاً لمفطرية الحقنة بالمائع الذي تقدّم دليلها سابقاً.

ولكن نقول : ان معنى الحقنة ـ كما تقدّم عن أهل اللغة ـ هو إيصال الدواء الى باطن مخرجه. وأما الحقن الطبي الذي يُطلق على إدخال الدواء في الأوعية الدموية فهو اصطلاح مستحدث ، فهو لا يفيد في توسعه معنى الحقنة تمسكاً بالإطلاق ، على أن الحقنة المانعة للصوم هي ادخال الدواء الى الباطن من الشرج ( المخرج ).

٤ ـ ما يضخ في اللهوات تسهيلاً للتنفس على المصابين بالربو :

إنّ ما يضخّ في اللهوات تسهيلا للتنفس وكل ما يمرّ بالحلق الى الجوف يكون على أنحاء ثلاثة :

١ ـ ما يكون فيه جرم لا يُستهلك حتى يصل الى الحلق ويتعداه الى الجوف (٢).

٢ ـ ما يكون فيه جرم يُستهلك قبل الوصول الى الحلق والجوف.

٣ ـ ما لا يكون فيه جرم عرفاً ، كالهواء الذي يحمل ذرّات من الغبار العاديّة.

__________________

(١) راجع بحث التداوي والمفطّرات للدكتور حسّان شمسي باشا : ص ٨.

(٢) إنّ ما يوضع في اللهوات قد يصل الى البلعوم الفمي ثم الى المريء ، وكذا الأمر في التبغ فإنّ المواد العالقة تصل الى البلعوم الانفي والفمي والحنجري ثم يصل شيء منها الى المريء.

٤٤١

أمّا النحو الأول كالبخّاخ للربو والغبار الغليظ ودخان السجائر للشارب لها وأمثال ذلك فلا ينبغي الاشكال في كونه مفطّراً ؛ وذلك :

أ ـ لأنّنا استدللنا سابقاً على أنّ كلّ ما يدخل الجوف ممّا يسمّى أكلا أو شرباً أو يكون الأكل والشرب مقدّمةً له يكون مفطراً ؛ ولا يفرّق فيه بين القليل والكثير ، وذلك للإطلاقات الدالة على وجوب اجتناب الطعام والشراب أو الأكل والشرب ممّا يكون مقدمةً لوصول ما يشرب وما يؤكل الى الجوف.

وما دام الغبار الغليظ هو عبارة عن أجزاء من التراب أو غيره منتشرة في الهواء تدخل جوف الإنسان عن طريق الحلق فيصدق عليها عنوان دخول ما يطعم الى الجوف ممّا يكون الأكل مقدّمةً له ، وكذا البخّاخ الذي يسهّل التنفس على المصابين بالربو إذا كان عبارة عن أجزاء من سائل معيّن فيه ماء ومواد كيميائية عالقة تدخل جوف الإنسان فيصدق عليها عنوان دخول الطعام أو الشراب الى الجوف عن طريق الحلق ممّا يكون الأكل والشرب مقدّمة له ، وهكذا الكلام أيضاً في السجائر لمن يشربها حيث يكون الدخان قد حمل معه أجزاءً من النيكوتين وغيره قد دخلت الى الجوف عن طريق الحلق ممّا يصدق عليه أنّه لم يجتنب الطعام والشراب فيكون مفطراً.

ب ـ بالإضافة الى وجود الروايات الواردة في المضمضة (١) والاستنشاق القائلة : إنّ ما دخل منها الجوف ولو اتفاقاً يفطر ـ فيما عدا وضوء الفريضة ـ فإنّ من المعلوم أنّ الداخل منها قليل جداً. وما ورد من جواز مصّ الخاتم والنهي عن مصّ النواة (٢) ونحو ذلك التي يتّضح منها عدم الفرق بين القليل والكثير فيما إذا صدق عليه عنوان الدخول الى الجوف ممّا يكون الأكل والشرب مقدّمةً له وإن لم يصدق

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٧ ، ب ٢٣ ممّا يمسك عنه الصائم ، أحاديث الباب.

(٢) المصدر السابق : ب ٤٠ ، الأحاديث.

٤٤٢

عنوانهما.

ج ـ الارتكاز الحاصل عند المتشرّعة الذي يفهم من كون الداخل الى الجوف من اجزاء ما يشرب أو يؤكل مضرٌّ بالصوم وأنّه من المسلّمات عندهم.

د ـ الروايات الخاصة : فقد روى سليمان بن جعفر المروزي ، قال : « سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان ، أو استنشق متعمّداً ، أو شمّ رائحةً غليظةً ، أو كنس بيتاً فدخل في انفه أو حلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإنّ ذلك مفطّر مثل الأكل والشرب والنكاح » (١).

وهذه الرواية لا يضرّ إضمارها بعد أن نقلها الشيخ الطوسيّ من كتاب الصفّار لتصريحه في آخر كتاب التهذيب بأنّ كل ما يرويه من رواية فهي منقولة عن كتاب من بدأَ سندها به ، ولا يحتمل أنّ مثل محمد بن الحسن الصفّار يورد في كتابه الموضوع للأحاديث الشريفة حديثاً عن غير المعصوم مضمِراً إياه (٢).

ومعنى الرواية ـ كما نفهم ـ أنّ الغبار الحاصل من كنس البيت إذا دخل الأنف أو الحلق فيكون مثل الأكل متعمّداً ، لأنّ الأكل متعمّداً غاية ما يوجد إدخال الشيء الذي يؤكل الى الحلق والجوف ، فالغبار الذي يتصاعد من الكنس إذا وصل الى الحلق والجوف فلم يصدق على المكلف الصائم بأنّه اجتنب عن الطعام وإن اجتنب عن الأكل ، ولكن قد قلنا : إنّ الأكل لم يقصد بنفسه ، بل ذكر بما أنّه مقدمة لإيصال المطعوم الى الجوف.

وكذا بالنسبة للتمضمض والاستنشاق تعمّداً وشمّ الرائحة الغليظة فإنَّ هذه الاُمور ـ بقرينة سائر الأخبار وبمناسبة الحكم والموضوع ـ إذا استوجبت أن يصل الماء الى الحلق ويتجاوزه أو كانت الرائحة الغليظة بحدٍّ تستوجب أن تصل أجزاء

__________________

(١) المصدر السابق : ب ٢٢ ، ح ١.

(٢) راجع ما ذكره السيد الخوئي رحمه‌الله في مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج ١ ، ص ١٤٦.

٤٤٣

من المشموم الى الحلق ويتجاوزه كما يصل في شم الرائحة الغليظة من القدر المغلي المستوجبة لدخول أجزاء من المشموم الى الجوف فهو مثل الأكل والشرب والنكاح في المفطّرية.

وأمّا النحو الثاني الذي يكون فيه جرم ويستهلك قبل الوصول الى الحلق والجوف ـ كما في الغبار الذي يتفق كثيراً من إثارة الهواء في فصل الربيع في بعض البلاد ، ويدخل فضاء الفم ويستهلك مع البصاق ، أو الرائحة القليلة أو الماء الذي يصل الى فضاء الفم ويستهلك فيه بحيث لا يعدّ شيئاً خارجياً ـ فلا يحسب أكلا أو شرباً ، ويعدّ معه الإنسان مجتنباً للطعام أو الشراب ، ولهذا فلا يحسب مفطّراً. ومن هذا القبيل قرص « النيتروغليسيرين » ونحوه الذي يوضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية إذ لا يصل منه شيء مع الريق الى البلعوم كما اتفق الأطباء على ذلك.

وقد يستشكل « في صورة الاتحاد في الجنس » فيقال : بمنع تحققّ الاستهلاك لأنّ الاستهلاك إنّما يتصور في غير المتجانسين كالغبار والماء بحيث يكون الاستهلاك موجباً لانعدام الغبار وزواله ، أمّا المزج الحاصل بين المتجانسين كالماء الخارجي مع الماء في داخل الفم فهو موجب لزيادة الكميّة والاضافة بواسطة المزج فلا يتصوّر الاستهلاك.

والجواب : أننا إذا لاحظنا نفس الممتزجَين المتّحدين في الجنس والذات ـ ماء خارجي وماء داخل الفم ـ فإنّهما من طبيعة واحدة أزاد أحدهما الآخر ، أما إذا نظرنا إلى الوصف الذي يتّصف به احدهُما دون الآخر فلابدّ من الالتزام بالاستهلاك فيه ، كما إذا فرضنا أنّ ماءً معيناً مغصوباً لا يجوز التوضّؤ به ، أخذنا منه قطرةً وألقيناها في حوض ماء غير مغصوب فهنا لا استهلاك بالنسبة الى ذات الماء ، أمّا بالنسبة الى خصوص المغصوب فقد استُهلكت ؛ لأنّها غير باقية بعد الامتزاج إذا كان قطرةً واحدة ، فلا يطلق على ماء الحوض المملوك أنّ فيه ماءً مغصوباً ،

٤٤٤

فالماء بما هو ماء ليس مستهلكاً ، ولكن بما هو قطرة مغصوبة فقد استُهلك في ماء الحوض المملوك. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنَّ البلل الخارجي الموجود في الفم نتيجة المضمضة أو الاستنشاق أو شم الرائحة الغليظة التي فيها اجزاء من المشموم إذا استُهلكت مع بصاق الفم على وجه لا يصدق عليها الرطوبة الخارجية فيجوز ابتلاعها ؛ وذلك لانعدام الموضوع الخاصّ إذا كان قليلا بحيث يستهلك مع بصاق الفم.

وتدلّ على ذلك الروايات الواردة في جواز السواك بالمسواك الرطب (١) ، وفي بعضها جواز بلّ المسواك بالماء والسواك به بعد النفض ، إذ من المعلوم أنّه لا ييبس مهما نفض ، بل يبقى عليه شيء من الرطوبة ، ومع ذلك حكم عليه‌السلام بجواز السواك به ، وليس ذلك إلاّ من أجل استهلاك تلك الرطوبة في ريق الفم.

وقد ورد أيضاً جواز المضمضة (٢) والاستياك بنفس الماء على أن يفرغ الماء من فمه ولا شيء عليه ، فإنّه في هذه الصورة تبقى لا محالة أجزاء من الرطوبة المائية في الفم ، إلاّ أنّه من جهة استهلاكها مع الريق لا مانع من ابتلاعها.

وعلى هذه الصورة تحمل موثّقة عمرو بن سعيد عن الإمام الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه ؟ فقال عليه‌السلام : لا بأس به. قال : وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال عليه‌السلام : لا بأس به » (٣).

لأنّ هذه الرواية وإن كانت مطلقةً حتى الصورة كون الدخنة أو الغبار غليظاً ويصل الى الجوف بأجزائه ، إلاّ أنّ هذه الصورة قد تقدم حكم مفطّريتها ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٧ ، ب ٢٨ ممّا يمسك عنه الصائم ، ح ٣ و ح ١١.

(٢) المصدر السابق : ب ٢٨ ، ح ١٦ ، وب ٣١ ، ح ١.

(٣) المصدر السابق : ب ٢٢ ، ح ٢.

٤٤٥

فلابدّ أن نقيّد هذه الموثّقة بما تقدّم فتختص بصورة الاستهلاك ، كما لو كان الدخان الذي يمرّ أمام وجه الإنسان ويستنشق منه اليسير ، فيُستهلك مع ما في الفم من بصاق.

والظاهر أنّ البخار الذي يكون في الحمامات وإن كان كثيراً إلاّ أنّه لا يدخل إلى الجوف وهو كثير ، بل يُستهلك على بصاق الفم ويدخل الى الجوف ، ولذا لم يقل أحد بمفطريته ولم يتحرز منه أحد ، وهذا يختلف عن استنشاق دخان السجائر والبخّاخ الذي يكون الداخل منه الى الجوف كثيراً ويحمل أجزاءً خارجيةً يصدق معها أنّ الصائم لم يجتنب الطعام أو الشراب.

أمّا النحو الثالث ـ وهو ما إذا كان الداخل الى الجوف ليس فيه جرم عرفاً كالهواء الذي يحمل ذرات عادية من الغبار ـ فلا اشكال في عدم كونه مضرّاً بصحة الصوم ، وكذا الاُوكسجين الذي يعطى البعض المرضى.

٥ ـ ما تعالج به الطعَنات الجوائف مما يصل الى مستقر الغذاء :

إنّ الجواب عن هذه الحالة يختلف باختلاف مباني العلماء :

فمن قال بأنَّ المفطِّر هو عنوان الأكل والشرب وأنّه لا يتحقّق إلاّ بأن يمرّ المأكول والمشروب عن طريق الحلق فيرى أنَّ معالجة الطعَنات الجوائف ممّا يصل الى مستقر الغذاء لا يضرّ بالصوم ؛ لعدم تحقّق الأكل والشرب.

أمّا من يرتأي بأنَّ الأكل والشرب قد اُخذ على نحو الطريقية لما يصل الى الجوف ( وهو مستقر الغذاء على الأقل ) وأنّ رواية « لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع » ترى مانعية كلّ ما يصل الى الجوف ممّا يؤكل أو يشرب وإن كان دواءً أو غير مألوف يرى أنّ ما يصل الى الجوف يكون مضراً بالصوم ؛ لأنّه لا يصدق على فاعله الاختياري بأنّه قد اجتنب الطعام أو الشراب ما دام قد وصل الى جوفه بالاختيار.

٤٤٦

٦ ـ الحجامة وفصد الدم وسحبه هل يضرّ بالصوم ؟

والذي ينبغي أن يقال : إنّ هذه العناوين الثلاثة لا تضرُّ بالصوم ، لعدم صدق أي عنوان من العناوين المفطِّرة عليها ، لأنّ هذه العناوين ليست أكلا ولا شرباً ولا يلزم منها ادخال شيء الى الجوف الذي يصل الى مستقر الطعام أو الشراب.

نعم ، قد ينطبق عليها مفهوم ( الضعف ) ، وقد ورد النهي عن تضعيف الصائم نفسه واخراج كلّ دم مضعّف كنزع الضرس ونحوه والحجامة ، فقد ورد في صحيحة الحلبي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن الصائم أيحتجم ؟ فقال : إني أتخوّف عليه ، أما يتخوّف ( به ) على نفسه ؟ قلت : ماذا يتخوّف عليه ؟

قال : الغشيان ، أو لأن ثثور به مُرَّة (١). قلت : أرأيت إن قوي على ذلك ولم يخشَ شيئاً؟ قال : نعم ، إن شاء » (٢). وغيرها من الروايات.

وقد ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن عليٍّ عليه‌السلام « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله احتجم وهو صائم محرم » (٣).

وقد روى البخاري عن ابن عباس أنَّ النبي احتجم وهو صائم (٤).

وقد فسّرت بعض الروايات ما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : « أفطر الحاجم والمحجوم » الذي لا يمكن حمله على الإفطار بسبب الحجامة ، إذ المحجوم إذا كان قد افطر نتيجة اخراج الدم منه ، فما بال الحاجم الذي لم يخرج الدم منه ؟

فقد ذكر في كتاب معاني الأخبار بسنده ، عن عباية بن ربعي ـ في حديث ـ قال : « سألت ابن عباس عن الصائم يجوز له أن يحتجم ؟ قال : نعم ، ما لم

__________________

(١) المُرَّة : خلط من أخلاط البدن غير الدم والجمع مِرارٌ بالكسر ، مجمع البحرين ( مادة مرر ).

(٢) وسائل الشيعة : ج ٧ ، ب ٢٦ ممّا يمسك عنه الصائم ح ١.

(٣) المصدر السابق : ج ٧ ، ب ٢٦ ممّا يمسك عنه الصائم ، ح ٨.

(٤) المغني لابن قدامة : ج ٣ ، ص ٣٦.

٤٤٧

يحسّ ضعفاً على نفسه. قلت : فهل تنقض الحجامة صومه ؟ فقال : لا. قلت : ما معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين رأى من يحتجم في شهر رمضان : أفطر الحاجم والمحجوم ؟ فقال عليه‌السلام : إنّما أفطرا لأنّهما تسابّا وكذبا في سبّهما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا للحجامة » (١).

وهكذا نفهم أنّ الحجامة بما هي ليست من المفطرات ، ولكن إذا خاف الإنسان منها على نفسه ـ للضعف الذي ينتابه منها فيغشى عليه ـ تكون مكروهة ، وكذا سحب الدم منه أو إخراجه أو الفصد ، لنفس الملاك. وكذا الكلام في نقل الدم لإسعاف المريض فإنّه لا يوجب الإفطار ؛ لعدم دليل على ذلك.

ولأهل السنّة في الحجامة أقوال ثلاثة هي :

١ ـ قول بالمفطّرية : ذهب جماعة منهم محمد بن المنذر ومحمد بن اسحاق واسحاق وعطاء وعبد الرحمن بن مهدي.

٢ ـ قول بالاباحة : ذهب إليه جماعة منهم الإمام مالك والشافعي والثوري ، وكذا ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وأصحابه.

٣ ـ قول بالكراهة : ذهب إليه الحكم ، حيث قال : احتجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو صائم فضعف ثم كرهت الحجامة للصائم (٢).

٧ ـ التقطير في العين والأنف والاُذن :

أقول : لقد وردت الروايات المجوّزة لاستعمال الدواء في الاُذن أو العين بشرط عدم وصوله الى الحلق أو الجوف الذي يضرّ بصدق الصوم ، فالميزان إذن في الإضرار بالصوم هو وصول نفس الدواء الى الحلق الذي يكون مصداقاً للأكل

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٧ ، ب ٢٦ ممّا يمسك عنه الصائم ، ح ٩. وقال الصدوق : فقد قيل في معنى قوله : ( افطر الحاجم والمحجوم ) : أي دخلا في فطرتي وسنتي ؛ لأنّ الحجامة ممّا أمر به صلى‌الله‌عليه‌وآله واستعمله.

(٢) المغني لابن قدامة : ج ٣ ، ص ٣٦ و ٣٧.

٤٤٨

أو الشرب ، أو عدم صدق الاجتناب عن الطعام أو الشراب ، فما دام لم يصل الدواء الى الحلق أو الجوف الذي هو مستقر الطعام فلا يضرّ بصدق الصوم. وإليك الروايات :

١ ـ صحيحة حماد قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن الصائم يصبّ في اُذُنه الدهن ؟ قال عليه‌السلام : لا بأس به » (١).

٢ ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الصائم هل يصلح له أن يصبّ في اُذُنه الدهن ؟ قال : إذا لم يدخل حلقه فلا بأس » (٢).

٣ ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر أو الصادق عليه‌السلام : « أنّه سئل عن المرأة تكتحل وهي صائمة ؟ فقال عليه‌السلام : إذا لم يكن كحلا تجد له طعماً في حلقها فلا بأس » (٣).

٤ ـ رواية محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه‌السلام : « في الصائم يكتحل ؟ قال عليه‌السلام : لا بأس به ، ليس بطعام ولا شراب » (٤).

وهذه الروايات مؤكّدة للروايات القائلة بعدم إضرار الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع ( الأكل والشرب والجماع والارتماس ) وما دلّ على مفطّريته بدليل خاص ، وبما أنّ الدواء في الاُذن والعين بصورة عامّة ليس ممّا يصدق عليه شيء ممّا تقدّم فهو لا يضرّ بالصوم. نعم ، إذا كان بصورة بحيث يدخل الدواء الى الحلق أو يصل طعمه الذي هو عبارة عن وصول اجزاء منه الى الحلق ـ لا الى اللسان ـ فهو عبارة عن الأكل والشرب أو الدخول الى الجوف ، فيضرّ بصحة الصوم ، كما ذكرت

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٧ ، ب ٢٤ ممّا يمسك عنه الصائم ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق : ج ٧ ، ب ٢٤ ممّا يمسك عنه الصائم ، ح ٥.

(٣) المصدر السابق : ب ٢٥ ، ح ٥.

(٤) المصدر السابق : ب ٢٥ ، ح ١.

٤٤٩

ذلك النصوص المتقدّمة.

وممّا يؤيد ما ذهبنا إليه ما ذكره الأطباء المتخصصون في مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته المنقعدة ٢٣ ـ ٢٨ صفر ١٤١٨ ه‍ حيث أكّدوا وجود منفذ وقناة من العين الى الجوف ، وهي القناة الدمعية ، إلاّ أنّهم اختلفوا في وصول شيء منها الى الجوف ، فقال بعض بوصول جزء قليل منها الى الجوف وقال بعض آخر بأنّها تمتصّ ولا تذهب الى الحلقوم ولكنّها تذاق في اللسان. وكذا الكلام في الاُذن فقد يصل ما يوضع فيها إذا خرقت الطبلة.

وأمّا الدواء في الأنف فهو لا يختلف عن الاُذن والعين في كل ما تقدّم.

٨ ـ المغذّي في حالة الإسعاف والتداوي :

والمغذّي الذي يوصل بجسم الإنسان عن طريق الدم هل يكون مضرّاً بصحة الصوم ؟

قلنا سابقاً : إنّ الأدلّة الشرعية دلَّت على مفطرية كل من الأكل والشرب ، وتوسعنا في ذلك الى كل طعام وشراب يدخل الى الجسم فيصل الى الجوف وإن لم يكن عن طريق الحلق لعدم صدق الاجتناب عن الطعام والشراب التي ذكرت الرواية عدم الاضرار بالصوم لو صدق الاجتناب عنهما.

أمّا هذه الحالة وهي وصول ما يسمى بالمغذّي الى الجسم بواسطة الدم فهي ليست أكلا وشرباً وهي ليست طعاماً وشراباً يصل الى الجوف وهو مستقر الطعام والشراب وعليه فلا يكون مضرّاً بصحة الصوم.

ولكن من المحتمل أنّ المضرّ بالصوم هو كل ما يتقوى به الجسم ويكون الأكل والشرب مقدمة له ، فيكون المغذّي ممّا يتغذّى به الجسم بواسطة دخوله الى الدم فيكون مضرّاً بالصوم ، وعليه فلابدّ من الاحتياط في هذه الصورة ، كما لابدّ من الاحتياط في ادخال الدم إذا كان يقوم بتغذية الجسم ، فإنّ ملاك المفطرية ـ على

٤٥٠

وجه الاحتمال ـ موجود فيها ، خصوصاً في المغذّي الذي يصدق عليه أنّه طعام لمن يحتاج إليه (١).

وقد يقال : إنّ الحكم بمفطرية الأكل والشرب ( أو الطعام والشراب ) يعمّ ما كان حقيقةً وحكماً. كما أنّ الزيادة في الفرض المحرّمة تشمل الزيادة الحقيقية والحكمية ، فلاحظ وتأمل.

٩ ـ ما يكون محلّه البطن كادخال المناظير للجوف وأخذ عيّنة من الكبد وغيره :

أقول : إنّ ادخال الناظور الى داخل البطن للتشخيص أو لإجراء عملية جراحية ، أو أخذ عينة من الكبد أو غيره ممّـا لا يصدق عليه ما تقدّم من المفطرات فلا يكون مضرّاً بالصوم بحدّ ذاته ، لعدم الدليل من القرآن والسُنَّة. ولا يصدق عليه وصول الأكل والشرب الى الجوف المقصود ها هنا وهو الحلق الى المعدة. وإذا حصل الشك في كون ذلك مضرّاً بالصوم فنتمسك بالبراءة من حرمة العمل استناداً الى قبح العقاب بلا بيان ، أو « رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون ».

أمّا صحة الصوم فنستصحبها ، وبهذا يتمّ القول بعدم حرمة العمل وعدم كونه مفطّراً.

ثمّ إنّ إدخال الناظور الى المعدة للتشخيص أو العلاج أيضاً لا يصدق عليه أنّه أكل أو شرب وإن صدق عليه إدخال الناظور الى الجوف. كما لا يصدق على من ضُرب سكيناً في بطنه ووصلت الى معدته أنّه أكل أو شرب ، وحينئذ لا يكون مفطراً.

__________________

(١) إنّ ميزان الاحتياط الوجوبي هو عدم ترجيح احتمال كون المفطر هو ما يدخل الى المعدة ممّا يؤكل أو يشرب على ما يغذّي الجسم وإن لم يدخل الى المعدة مع إمكانه ، ولعلّ الصواب هو عدم تغذية الجسم وصدق الإمساك.

٤٥١

تنبيه :

١ ـ إذا كانت هذه العمليات المتقدّمة التي توجب إدخال المناظير أو أخذ العيّنات من الجوف تتمّ بدون مقدمات لها توجب ادخال ماء أو جسم آخر الى المعدة عن طريق الحلق بحيث يصدق عليه الأكل والشرب فالحكم ما تقدم.

أمّا إذا كانت هذه العمليات توجب إدخال شيء من الماء أو أي شيء آخر بحيث يصدق عليه الأكل والشرب ( أو الطعام والشراب ) فالحكم يختلف ويبطل بذلك الصوم استناداً الى عدم اجتناب ما دلّ الدليل على اجتنابه. أمّا الحرمة فهي مرتبطة بعدم كون هذه الأعمال لازمةً في نهار رمضان.

٢ ـ إنّ ما تقدم يكون صحيحاً إذا كان الإنسان لم يصدق عليه عنوان « المرض الذي يضرّه الصوم » ، أمّا إذا كان مصداقاً لذلك فلا يصح منه الصوم ؛ للأدلّة الدالّة على عدم صحّة صوم المريض الذي يضرّه الصوم.

٣ ـ إنّ ما تقدم يكون صحيحاً إذا كانت العمليات المتقدّمة تتم بدون تخدير تامٍّ للإنسان ، وإلاّ فإنّ من يقول باشتراط الصوم بعدم الإغماء ( إستناداً الى أنّ الجنون لا يصح معه الصوم وقد اُلحق به الاغماء لأنّه يفقد الادراك ) يأتي هنا ، ويكون الصوم باطلاً لعدم الأمر به. إلاّ أن الدليل لم يتم ، للفرق بين الجنون والإغماء.

١٠ ـ ما يجعل في المهبل أو الرحم :

بما أنّه لا توجد أي علاقة بين المهبل والرحم وبين جوف الأكل والشرب فما يجعل من الدواء في الرحم أو المهبل وما يُدخل من منظار أو لولب الى الرحم لا يكون مفطّراً ، وكذا إدخال الأصبع من قبل الطبيب أو اليد للفحص أو العلاج ، وكذا إدخال التحاميل ، كل ذلك ليس له أي علاقة بموجب الافطار ؛ لعدم وجود أي ارتباط بالجوف الذي هو محلّ الطعام والشراب ، وعدم وجود دليل آخر يدلّ

٤٥٢

على مفطّرية هذه الاُمور.

١١ ـ ما يدخل الدماغ :

إذا حصلت شجة في الدماغ فما يدخل الدماغ من دواء لا يصل منه شيء الى البلعوم والمعدة ، وبهذا لا تكون مداواة المأمومة من جملة المفطّرات ، كما أن نفس المأمومة لا تكون مفطّرةً ؛ لعدم الدليل على ذلك.

نعم ، إذا كانت قاعدة الجمجمة قد كُسرت فقد يصل شيء من الدواء أو شيء من « السائل الدماغي الشوكي » الذي يسيل حول النخاع الشوكي الى البلعوم الفمي ومنه الى المريء ، وهذه الحالة تستدعي الافطار ، كما هو واضح ؛ لصدق الأكل والشرب ووصول المواد الى المعدة عن طريق الحلق الذي هو موجب للإفطار.

ولا بأس بالتنبيه الى عدم وجود إفرازات من الدماغ تصل الى المعدة أو المريء ، فقد اتّفق الأطباء على عدم وجود أي قناة بين الدماغ والمريء ، إلاّ إذا كسرت قاعدة الجمجمة ، وبهذا يتبيّن أنّ الإفرازات التي كان القدماء يظنون أنّها آتيةً من الدماغ ما هي إلاّ افرازات من الجيوب الأنفية ولا علاقة لها بالدماغ.

المفطرات في مجالات الحالات المرضية

الضرر من الصوم رافع لصحّته :

لقد ذكر فقهاء الإمامية شرطية عدم المرض لصحة الصوم ، وهذا أمر ضروري في الجملة قد نطق به القرآن الكريم ، حيث قال سبحانه وتعالى : ( ومن

٤٥٣

كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر ) (١) بناءً على ظهور الأمر في الوجوب التعييني. ولا يفرق بين المرض الذي يشتدّ بالصوم أو يطول برؤه ، أو يشتد ألمه أو نحو ذلك.

وقد خصّص الفقهاء الآية القرآنية بالمرض المضرّ بالصوم ؛ لانصرافها إليه ، ولاستفادة ذلك من الروايات الكثيرة التي أحالت تشخيص المرض الذي يجب على صاحبه الافطار الى المكلف نفسه.

وقد أجاب الإمام بألسنة مختلفة مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم : « هو أعلم بنفسه ، إذا قوي فليصم » (٢).

وقوله عليه‌السلام في موثّقة سماعة : « هو مؤتمن عليه مفوض إليه ، فإن وجد ضعفاً فليفطر وإن وجد قوّة فليصم كان المرض ما كان » (٣).

وقوله عليه‌السلام في صحيحة عمر بن اُذينة : « الإنسان على نفسه بصيرة ، ذاك إليه هو أعلم بنفسه » (٤).

وعلى ما تقدّم نفهم أنّه ليس كلُّ مرض مانعاً من صحة الصوم ، وإنّما خصوص المرض المضرِّ. أمّا إذا كان المرض لا يضرّه الصوم فيجب الصوم.

وبهذا نستنتج : أنّ العبرة في الإفطار ليست بالمرض بما هو بل بالضرر الذي يحصل من الصوم ، وإنّما ذكرت الآية المريض لأنّه الفرد الغالب ممّن يضرّه الصوم (٥).

__________________

(١) البقرة : ١٨٤.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٧ ، ب ٢٠ محل يصح منه الصوم ، ح ٣.

(٣) المصدر السابق : ح ٤.

(٤) المصدر السابق : ح ٥.

(٥) هذا وقد ذهب في المغني الى نفس هذا الرأي فقال : « والمرض لا ضابط له ، فإنّ الأمراض تختلف ، منها

٤٥٤

فإن فرضنا أنّ فرداً يتضرّر من الصوم وهو ليس بمريض فيجب عليه الافطار ، كما ورد الافطار لمن به رمد في عينه أو صداع شديد في رأسه (١).

والخلاصة : أنّ بين المرض والضرر عموم من وجه ، فقد يكون مريضاً لا يفطر لعدم كون الصوم مضرّاً لمرضه ، وقد يكون الصوم مضراً للمكلف مع عدم كونه مريضاً ، وقد يكون مريضاً ويضره الصوم ، فالافطار يجب في الأخيرين فقط.

ما هو طريق إحراز الضرر ؟

ذهب الأكثر الى أن طريق إحراز الضرر يكون بالخوف الذي يتحقّق بالاحتمال العقلائي المعتدّ به.

وذهب آخرون الى اعتبار اليقين أو الظنّ وعدم كفاية الاحتمال.

والصحيح هو الأول ، وذلك :

١ ـ لأنّ الغالب عدم إمكان الإحراز.

٢ ـ ولأنّ الخوف طريق عقلائي لإحراز الضرر.

٣ ـ ولصحيحة حريز عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر » (٢).

فإذا ثبت الاكتفاء بالخوف في الرمَد ـ وهو عضو واحد في الجسد ـ ففي المرض المستوعب لتمام البدن يكون الخوف من الضرر أولى بالافطار.

ولموثّقة عمار عن الإمام الصادق عليه‌السلام في الرجل يصيبه العطاش حتى يخاف

__________________

ما يضرّ صاحبه ومنها ما لا أثر للصوم فيه ... فلم يصلح المرض ضابطاً وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر ، فوجب اعتباره » المغني لابن قدامة : ج ٣ ، ص ٨٦.

(١) وسائل الشيعة : ج ٧ ، ب ٢٠ ممّـا يصحّ عنه الصوم.

(٢) المصدر السابق : ب ١٩ ، ح ١.

٤٥٥

على نفسه ؟ قال عليه‌السلام : « يشرب بقدر ما يمسك رمقه ، ولا يشرب حتى يروى » (١).

ثم إنّ الخوف على نفسه الوارد في الرواية أعمّ من خوف الهلاك فما دونه مثل خوف المرض أو الإغماء ونحوه.

الخوف طريق عقلائي في باب الضرر :

لقد وردت الروايات التي تقرّر أنّ الخوف هو طريق عقلائي في باب الضرر في مقامات عديدة غير الصوم منها :

أ ـ إذا لزم طلب الماء والفحص عنه في الفلاة ، فقد ذكروا : أنّه يكفّ عن الفحص إذاخاف من اللصِّ أو السبع.

ب ـ ورد في باب الغسل : أنّه إذا خاف على نفسه من البرد يتيمّم.

والخوف هنا أيضاً أعمّ من خوف الهلاك أو المرض أو نحوهما.

هل المرض الفعلي ( الضرر الفعلي ) مانع من صحة الصوم ؟

لقد ذكر القرآن الكريم والسنة : أن موضوع الإفطار هو المريض ، وظاهره هو المريض الفعلي ( كما في المسافر ) ، فالمحكوم بالافطار هو من كان مريضاً أو مسافراً بالفعل ، وحينئذ هل يوجد دليل على جواز الافطار للصحيح الذي يخاف حدوث المرض لو صام ؟ نقول :

١ ـ ذكر الإمام الخوئي رحمه‌الله : أنّ الأخبار المتقدّمة التي جوّزت الافطار

__________________

(١) المصدر السابق : ب ١٦ ، ح ١.

أقول : المراد بالعطاش هنا الذي يخشى منه على نفسه هو من يصيبه العطش أثناء النهار لأمر عارض كشدة الحرّ ونحوه بحيث يخاف على نفسه فيضطر الى شرب الماء حذراً من الهلاك أو ما في حكمه ، ولذا كان الحكم هو الشرب بقدر الضرورة.

٤٥٦

للمريض لم تجوزه لمرضه السابق ، ضرورة عدم تأثير المرض فيما مضى ، إذ لا علاقة ولا ارتباط للصوم أو الافطار الفعليين بالاضافة الى المرض السابق ، وإنّما هو من أجل سببية الصوم وإيجابه للمرض بقاءً بحسب الفهم العرفي ، ولا أثر له في رفع السابق كما هو ظاهر ، إذن لا فرق بين الوجود الثاني للمرض والوجود الأول ( حدوث المرض ) لوحدة المناط فيهما (١).

٢ ـ إنّ صحيحة حريز المتقدّمة الواردة في الرمد تدلّ على عدم صحة الصوم للصحيح الذي يخاف حدوث المرض لو صام ، إذ أن الإمام يقول : « إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر » وحينئذ إذا كان الحكم في الرمد كذلك ففي غيره بالأولوية.

وبما أنّ المرض الذي ذكر في الآية القرآنية لم يكن له خصوصية بما هو مرض ، بل العبرة بالافطار هو الضرر الحاصل من الصوم ـ كما تقدّم ـ فحينئذ إذا أضرَّ الإنسان الصوم أفطر وإن لم يكن مريضاً ، كما إذا كان به صداع شديد ـ مثلاً ـ يخاف أن يضرَّه الصوم ، وكذا يُعمَّم الحكم لمن به جرح أو قرح يخاف أن يكون الصوم سبباً لعدم اندماله أو طول برئه.

اذن العبرة في الافطار بالضرر سواء كان فعلياً أو مستقبلياً كما إذا خاف من الصوم ضعفاً في عينيه يحصل بعد مدّة نتيجة الصوم فلا يصح منه الصوم. وطريق إحراز الضرر هو الخوف.

ما يوجب الإفطار :

يمكن أن نحصر ما يجب فيه الافطار في اُمور ثلاثة هي :

__________________

(١) راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج ١ ، ص ٤٥٧ ، وقد ذكر في المغني لابن قدامة « أنّ الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في اباحة الفطر ؛ لأنّ المريض إنما اُبيح له الفطر خوفاً مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله ... » : ج ٣ ، ص ٨٦.

٤٥٧

١ ـ أن يكون ضرر من الصوم في حالة مرض الإنسان يبلغ حدّ الحرمة الشرعية ، كالإلقاء في التهلكة ، بمعنى أن الصوم يؤدّي الى أن يكون مرضه مهلكاً لو صام ، وحينئذ لا شك في بطلان الصوم حيث يكون الصوم مصداقاً للحرام ، وطبيعي أنَّ الحرام لا يمكن أن يكون واجباً ، ولا يمكن أن يكون المبغوض مقرِّباً.

٢ ـ أن يكون الضرر من الصوم في حالة المرض غير بالغ حدّ الحرمة ، كمن أحرز أنّه لو صام يتضرّر بحمّى يوم أو يومين ، أو يبتلى بصداع في رأسه ، أو ترمد عينه ـ بناءً على أن مطلق الاضرار بالنفس لا يكون محرماً ـ وحينئذ لو صام فالمتسالم عليه عند الإمامية بطلان الصوم أيضاً ، وذلك :

أ ـ لأنّ الخلوّ من المرض هو شرط في الصحة ، بالاضافة الى الوجوب المستفاد من الآية المباركة ( ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام اُخر ) بناءً على ظهور الأمر في الوجوب التعييني.

ب ـ وجملة من الأخبار ، كموثّقة سماعة التي يسأل فيها الراوي عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه الافطار ؟ فأجاب « فإن وجد ضعفاً فليفطر ، وإن وجد قوة فليصمه » (١).

حيث عبّر بالوجوب ، ونحن نعلم أنّ الضعف من الصوم بمعنى عدم القدرة على الصيام ليس مهلكاً بحيث يصل الى حدّ الحرمة.

٣ ـ ويجب الافطار في كل مورد زاحم الصوم محذور آخر غير المرض ، وكان المحذور الآخر أهمّ من الصوم في نظر الشارع المقدّس ، فحينئذ يدخل ما نحن فيه في مورد التزاحم ، وبما أن المفروض أهميّة الواجب الآخر فيقدم على الصوم ، لأنّ الصوم ـ كبقية التكاليف ـ مشروط بالقدرة ، فإذا وجد واجب آخر أهمّ من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٧ ، ب ٢٠ ممن يصح منه الصوم ، ح ٤.

٤٥٨

الصوم ولم يمكن الجمع بينهما فيتقدّم الأهم ( كما في قاعدة التزاحم ) ومع تقدم الأهم يسقط الأمر بالصوم للعجز عنه في هذا الحال.

ومثاله : كما لو ترتب على ترك الصوم حفظ عرضه أو عرض غيره من تجاوز المتجاوزين.

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظ مال محترم يجب حفظه كوديعة أو عارية.

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظ مال كثير جدّاً بحيث علمنا أن الشارع لا يرضى بتلفه ( فإنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه ).

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظه أو حفظ غيره من الغرق أو الحرق.

وكما لو ترتب على ترك الصوم إنقاذ جماعة من الحبس أو القتل وامثالهما.

وكذلك لو هدّده جائر بالقتل لو صام.

ففي كل هذه الصور لا إشكال في سقوط التكليف بالصوم.

الفرق بين الصور الثلاثة المتقدّمة :

إذا كان الصوم مضرّاً بالمكلف الى حدّ التهلكة ( الصورة الاُولى ).

وإذا كان الصوم مضرّاً بالمكلف لا الى حدّ التهلكة فلم يصل الى حدّ الحرمة ( الصورة الثانية ).

وكان احراز المكلف للأمرين صحيحاً ومطابقاً للواقع ، ومع ذلك فقد خالف وصام فهل يصح صومه ؟

والجواب : عدم صحة الصوم ؛ وذلك لعدم وجود أمر في هذين الفرضين ؛ لأنّ صحة الصوم مشروطة بعدم إحراز الضرر الذي يشمل إحراز التهلكة فما دونها.

وأمّا إذا صام مع وجود المزاحم الأهم ( الصورة الثالثة ) فهل يصحّ صومه ؟

٤٥٩

والجواب : اختلف العلماء في ذلك :

فقد ذهب بعضهم الى أن عدم ابتلاء الصوم بالمزاحم الأهم هو من شرائط الصحة كعدم المرض والسفر ، ومعنى ذلك إنكار جريان الترتب (١).

وعلى هذا يحكم ببطلان الصوم لو ترك المكلف الأهم وصام ، لأنّه لا أمر بالصوم فلا يحرز الملاك والمصلحة فيكون الصوم باطلاً ، ولا نحتاج الى دعوى اقتضاء الأمر النهي عن ضده.

ولكن بناءً على التحقيق : ( المختار في الاُصول ) « من صحة الترتب وامكانه بل لزومه ووقوعه وأنّ تصوّره مساوق لتصديقه ... فلا مناص من الحكم بالصحة بمقتضى القاعدة » (٢).

وبناءً على هذا التحقيق فلابدّ من القول بأنّ وجوب الصوم مشروط بعدم المزاحمة للأهم ، وليست الصحة مشروطة بذلك.

ما لا يبيح الإفطار من الأمراض ممّا لا يتأثر بالصوم أو يخفّ به :

قلنا فيما تقدّم : إنّ النسبة بين الضرر من الصوم والمرض هي عموم من وجه ، فقد يحصل الضرر من الصوم ولا مرض في البين ، كما في الصوم الذي يؤثر على ضعف العين في المستقبل مع عدم اتصاف المكلف بالمرض ، وقد يحصل المرض ولا ضرر في الصوم ، كما في الأمراض التي تحتاج الى إمساك عن الطعام

__________________

(١) الترتّب : قاعدة تقول : إنّ المزاحمة بين خطاب صلِّ وخطاب احفظ الوديعة ـ مثلاً ـ إذا لم يكن الجمع بينهما هي بين الاطلاقين لا بين ذاتي الخطابين ، وعليه فلا مانع من تعلق الأمر بأحدهما ( وهو الأهم ) مطلقاً وتعلق الأمر بالآخر ( وهو المهم ) على تقدير عصيان الأمر بالأهم ، وحينئذ يكون الساقط هو اطلاق الأمر بالمهم ( وهو الصوم في مثالنا ) أمّا أصل الأمر بالصوم فهو باق على حاله ، والمعجِّز ليس هو نفس الأمر بالأهم ، بل امتثاله ، فما لم يمتثل الأهم لا يكون عاجزاً عن المهم وحينئذ يكون أمره باقياً.

(٢) راجع المستند في شرح العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج ١ ، ص ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

٤٦٠