بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

هذه الصور ؟ وكذا إذا كانت المصلحة من تشريح هذا المسلم الذي مات ولم يعرف سبب موته ، مهمة جداً بحيث ستؤخذ الاحتياطات فيما يأتي لانقاذ كثير من البشر فيما بعد.

الظاهر : إن العرف يخصّص حرمة النظر والتشريح بغير هذه الموارد التي يكون النظر العرفي قائلاً بوجود المصلحة المهمة من مراجعة الطبيب أو فحصه أو تشريحه.

٤ ـ وهناك أمثلة اُخرى في غير موردنا ، وهي : ما إذا توقف ردّ السلام على شخص ، وإجابته توجب منعي عن الزواج دائماً ، وعدم زواجي جائز ولكنّ ردّ السلام واجب ، فهل نقول بوجوب ردّ السلام ومنعي من الزواج ، أو نقول بأنّ وجوب ردّ السلام لا يشمل هذه الصورة ؟

ولعلّ من الأمثلة على ذلك : ما إذا علم الإنسان أنّه إذا ذهب إلى الحجّ الاستحبابيّ فسوف يبتلى في الطواف بلمس المرأة الأجنبية بدون شهوة ، واللمس محرّم ، والحجّ مستحبّ فهل يحرم عليه الذهاب إلى مكة ، أو نقول بأنّ حرمة لمس الأجنبية لا يشمل هذه الصورة ؟

مثلاً : إذا كسرت رجل امرأة وأعلمنا ولدها بالحال وأخبر بأنّه لا يتمكن من المجيء إلاّ بعد أربع ساعات لنقلها إلى المستشفى ولا يوجد مماثل ، ونحن قادرون على حملها ولمسها بدون شهوة فهل نبقي هذه المرأة في الشارع إلى أن يأتي ولدها لأنّ لمسها من دون شهوة حرام ، أو نقول أنّ الحرمة لا تشمل هذه الصورة الجائزة ، وهي نقلها إلى المستشفى من الشارع بسرعة ؟

الظاهر عدم الحرمة في هذه الصورة أيضاً.

٥ ـ إذا توقف زواج أي انسان على فحص حيامنه للتأكد من أنها قادرة على تلقيح البويضة ، وهذه العملية قبل الزواج متوقفة على الاستمناء المحرم ، فهل نقول بحرمة العمل ومنعه من الزواج ، أو نقول : إنَّ الحرمة لا تشمل هذه

٣٦١

الصورة ؟

الجواب : أنّه لا إطلاق لحرمة الاستمناء لهذه الصورة.

تنبيهات :

١ ـ لو أنّ أحداً شك فيما قلناه فهل الشك في صالح حلية النظر والتشريح أو في حرمتهما ؟

والجواب : أنّ الشك هنا يكون شكاً في مخصّص متصل وهو ( الارتكاز العقلائي ) ، وعلى هذا يشك في وجود الاطلاق فلا تحريم في هذه الموارد.

٢ ـ بالنسبة لخصوص التشريح فإنّه يمكن استيراد جثث من بلاد الكفر لاجراء الأبحاث العلمية للطلاب عليها ، ونحن نعرف أنَّ حرمة التشريح هي لخصوص جسم المسلم ، فهل يجب علينا استيراد الجثث للتشريح من بلاد الكفر ؟

الجواب : أنّ كلامنا المتقدّم في منع الاطلاق عرفاً لا يفرق فيه بين تشريح جسم المسلم والكافر ؛ لأنّ المصلحة المهمة الاجتماعية ( تعلم الطب وحلّ مشاكل الاُمّة ) وان افترضنا أنّها لم توصل الحكم إلى الوجوب لمصلحة التسهيل على العباد في جعل تعلم الطب ليس واجباً إلاّ أنّ هذه المصلحة الاجتماعية تجعل الحرمة الاحترامية غير شاملة لما نحن فيه ، ولكن في خصوص حرمة التشريح فليس عندنا إلاّ تكليف واحد وهو حرمة تشريح جسم المسلم ، أمّا الميت فلا تكليف عليه ، وحينئذ إذا أمكن للدولة الإسلامية استيراد جثث للأطباء يقيمون عليها تجاربهم فيصل المجتمع الإسلامي إلى هدفه من تطوير الطب مع عدم الوقوع حتى في المحرم الاحترامي للمسلم ، فهو ليس ببعيد عن الذوق الفقهي.

وطبيعيّ : أنّ هذا الكلام لا يشمل ما إذا مات المسلم الذي كان تحت اشراف الأطباء ولم يعرف سبب موته ، وبالتشريح يعرف السبب ، فإنّه يجوز تشريحه لما

٣٦٢

قلناه سابقاً.

٣ ـ امرأة مريضة وأمامها طبيب وطبيبة فهل يجوز لها أنّ تعرض نفسها على الطبيب مع وجود الطبيبة ؟

فعلى مسلك المشهور القائل بالتزاحم الحكمي بين وجوب العلاج وحرمة النظر لا يكون هنا تزاحم أصلاً إذ يحرم عليها أن تعرض نفسها للنظر ويجب عليها العلاج عند الطبيبة.

نعم ، إذا افترضنا أنه لا يوجد إلاّ الطبيب فهنا يأتي التزاحم الحكمي بين وجوب العلاج وحرمة النظر ، وقد يقال بوجوب تقديم العلاج على حرمة النظر إذا كان وجوب العلاج أهم ، وكذا الأمر إذا كان الطبيب أكثر حذاقةً وعلماً وتجربة من المرأة ، بحيث يصدق أنَّها مضطرة إليه ، كما ذكرت ذلك الروايات كما تقدم ذلك.

أقول : إنّ التزاحم بين المصلحة والمحرم غير موجود هنا ايضاً ، حيث يمكن احترام المرأة بعدم نظر الطبيب لها وعلاجها من قبل الطبيبة ، فلا يجوز في هذه الحالة عرض المرأة نفسها على الطبيب فيما إذا كان الطبيبان في مستوىً واحد من العلم وأمكن الوصول إلى أي واحد منهما ، بحيث لم يصدق عنوان الضرورة مراجعة الطبيب ، كما تقدّم ذلك (١).

__________________

(١) هذا ولكن من العجب وجود فتوى نُسبت إلى السيد الخوئي رحمه‌الله ذكرت في كتاب منية السائل : ص ١١٩ ظاهرها يُجوّز علاج المؤمنات من قبل الرجل وإن لم تكن ضرورة للمرأة إلى ذلك ، وإليك السؤال والجواب :

س : بعض طلبة الطب الفيزيائي يتعلمون مادة التدليك والذي يؤدي إلى أن يمس جسد الأجنبية ولا يُرعى في الجامعة التي هو فيها مسألة الاعتبار الشرعي ، بحيث لو رفض قد يؤدي ذلك إلى رسوبه في الامتحان ممّا يوجب ضرراً عليه ، فهل يجوز له القيام بهذا العمل ؟

ج : إذا كان يعلم أو يطمئن بأنّه ستؤول مهنته وتكون مصدر علاج المصابات المؤمنات

٣٦٣

التشريح :

تقدّم الكلام في حرمة التشريح وحلّيته ، حيث قلنا : إنّه محرم إذا لم تكن هناك مصلحة مهمة للمجتمع ، كتعلم الطب الذي يحتاجه المسلمون ، أو إذا لم تكن هناك مصلحة مهمة للميت نفسه حيث كان مشكوك القتل ويعرف قاتله ، أو سبب موته بواسطة التشريح ففي غير هذه الحالات يكون التشريح محرّماً ؛ للأدلة التي دلت على احترام المسلم حتى بعد موته ، أمّا في هذه الحالات التي يكون في تشريحه فوائد مهمة جداً للمجتمع أوْ له فلا يكون تشريحه محرماً ، لانصراف الأدلّة الدالّة على التحريم في غير هذه الفوائد الجسيمة. وهذا كلّه تقدّم في مبحث تعلم الطب المتوقف على محرم.

أمّا الآن فنريد أن نعرف أنّ هذه الحرمة التي ارتفعت هل ترفع الدية التي أثبتتها الروايات للمشرّح لجسم المسلم الميت ؟

الجواب : أنّ الدية لا ترتفع بارتفاع الحرمة ، وذلك لأنّ الدية تثبت إذا ثبت الجرح لجسم الميت ، فإنّها تثبت لموضوعها وإن كان حلالا ، ولذلك رأينا أن نتعرّض ـ ولو اجمالاً ـ للدية التي تكون على المشرح لجسم الميت ، فنقول :

في قطع رأس الميت المسلم الحُر مائة دينار :

وهذا هو المشهور وهو عشر الدية ، وكذا الحكم لو قطعنا ما لو كان حياً لم يعش مثله ، والدليل على ذلك الروايات :

منها : صحيحة حسين بن خالد ، قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام فقال : إنّا روينا عن أبي عبد الله ( الإمام الصادق عليه‌السلام ) احب أن اسمعه منك قال عليه‌السلام : وما

__________________

وحفظ حياتهن فلا بأس بما لا يثير له. ( انتهى ) وحسب الظاهر لابدّ من تقييد هذه الفتوى بصورة ضرورة النساء إلى المعالجة عند الرجال ، أو ضرورة معالجة الرجل للمرأة.

٣٦٤

هو ؟ قلت : بلغني أنّه قال في رجل قطع رأس ميت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله حرّم من المسلم ميتاً ما حرم منه حياً ، فمن فعل بميت ما يكون في ذلك اجتياح نفس الحي فعليه الدية ، فقال : صدق أبو عبد الله عليه‌السلام هكذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . قلت : من قطع رأس رجل ميت أو شق بطنه أو فعل به ما يكون في ذلك الفعل اجتياح نفس الحي فعليه دية النفس كاملة ؟ فقال : لا ، ثم أشار اليَّ بإصبعهِ الخنصر فقال : أليس لهذا دية ؟ قلت : بلى فتراه دية نفس ؟ قلت : لا ، قال : صدقت. قلت : وما دية هذه إذا قطع رأسه وهو ميت ؟ قال : ديته دية الجنين في بطن اُمّه قبل أن ينشأ فيه الروح ، وذلك مائة دينار ، قال : فسكَتُّ وسرّني ما أجابني به. فقال عليه‌السلام : لم لا تستوف مسألتك ؟ فقلت : ما عندي فيها أكثر ممّا اجبتني به إلاّ أن يكون شيء لا أعرفه. فقال : دية الجنين إذا ضربت اُمّه فسقط من بطنها قبل أن تنشأ فيه الروح مائة دينار ، وهي لورثته ، وإنّ دية هذا إذا قطع رأسه أو شقَّ بطنه فليس هي لورثته ، إنّما هي له دون الورثة ، قلت : فما الفرق بينهما ؟ فقال عليه‌السلام : إنّ الجنين مستقبل مرجوّ نفعه ، وإنّ هذا قد مضى فذهبت منفعته ، فلمّا مثّل به بعد موته صارت ديته بتلك المثلة له لا لغيره ، يحجُّ بها عنه ، أو يفعل بها من أبواب الخير والبرّ من صدقة أو غيرها » (١).

وهذه الرواية الصحيحة المتقدّمة تفسّر الروايات الصحيحة القائلة : « لأنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً » (٢) والقائلة : « إنّ عليه الدية ، لأنّ حرمته ميتاً كحرمته

__________________

(١) التهذيب : ج ١٠ ، ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، والوسائل : ج ١٩ ، ب ٢٤ من ديات الأعضاء ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق : ح ٤.

٣٦٥

حياً » (١) فإنّ لسان الصحيحة المتقدّمة هو لسان تفسير.

ومنها : مرسلة محمد بن الصباح ـ التي يمكن أن تكون مؤيدة لما تقدّم ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « أتى الربيع أبا جعفر المنصور ـ وهو خليفة ـ في الطواف فقال : يا أمير المؤمنين ، مات فلان مولاك البارحة فقطع فلان مولاك رأسه بعد موته. فاستشاط وغضب ، قال : فقال لابن شبرمة وابن أبي ليلى وعدّة من القضاة والفقهاء : ما تقولون في هذا ؟

فكل قال : ما عندنا في هذا شيء ، فجعل يردّد المسألة ويقول : أقتله أم لا ؟

فقالوا : ما عندنا في هذا شيء.

قال : فقال له بعضهم : قد قدم رجل الساعة فإن كان عند أحد شيء فعنده الجواب في هذا ، وهو جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، وقد دخل المسعى.

فقال للربيع : اذهب إليه وقل له : لولا معرفتنا بشغل ما انت فيه لسألناك أن تأتينا ، ولكن أجبنا في كذا وكذا.

قال : فأتاه الربيع ـ وهو على المروة ـ فأبلغة الرسالة.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : قد ترى شغل ما أنا فيه ، وقبلك الفقهاء والعلماء فأسألهم.

قال له : قد سألهم فلم يكن عندهم فيه شيء.

قال : فردّه إليه.

فقال : أسألك إلاّ أجبتنا ، فليس عند القوم في هذا شيء.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : حتى أفرغ ممّا أنا فيه.

فلمّا فرغ جلس في جانب المسجد الحرام فقال للربيع : اذهب إليه فقل له : عليه مائة دينار.

__________________

(١) المصدر السابق : ح ٦.

٣٦٦

قال : فأبلَغْه ذلك.

فقالوا له : فاسأله كيف صار عليه مائة دينار ؟

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : في النطفة عشرون ديناراً ، وفي العلقة عشرون ديناراً ، وفي المضغة عشرون ديناراً ، وفي العظم عشرون ديناراً ، وفي اللحم عشرون ديناراً ، ثم أنشاناه خلقاً آخر ، وهذا هو ميت بمنزلته قبل أن ينفخ فيه الروح في بطن اُمّه جنيناً.

قال : فرجع إليه فأخبره بالجواب فأعجبهم ذلك.

فقالوا : ارجع إليه وسله الدنانير لمن هي ؟ لورثته أو لا ؟

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ليس لورثته فيها شيء ، إنّما هي شيء صار إليه في بدنه بعد موته ، يُحجُّ بها عنه ، ويُتصدّقُ بها عنه ، أو يصير في سبيل من سبل الخير » (١) الحديث.

قطع الجوارح :

إنّ تنزيل الميت منزلة الجنين يوجب الرجوع إلى دية الجنين وأخذ النسبة منها إذا قطعت جوارح الميت ، وتدل عليه أيضاً صحيحتا عبد الله بن سنان وعبد الله ابن مسكان المتقدّمتان ، إذ دلّتا على أن حال الميت حال الحي من حيث ثبوت الدية ، وعليه فكما أنّ في قطع يد الحي أو رجله ونحو ذلك من اعضائه دية وكذلك في قطع يد الميت أو رجله أو نحوهما من أعضائه ، وقد فسّرت هاتان الصحيحتان في صحيحة حسين بن خالد المتقدّمة القائلة : إنّ ديّة الميت هي دية الجنين قبل ولوج الروح ، وواضح ثبوت الدية في اعضاء الجنين وجوارحه (٢) قبل ولوج الروح.

__________________

(١) الكافي : ج ٧ ، ص ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، والتهذيب : ج ١٠ ، ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٢) ففي معتبرة ظريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « ... وقضى في ديّة جراح الجنين من حساب المائة

٣٦٧

وأمّا ما ورد من أنّ حرمة الميت أعظم من حرمة الحي كما عن الإمام الصادق عليه‌السلام حينما سئل عن رجل كسر عظم ميت ، فقال « حرمته اعظم من حرمته وهو حي » فهو لا ينافي أن تكون ديته دية الجنين ؛ لأنّ هذه الرواية هي من الاعتبارات الأدبية لا القانونية ، فيراد منها : أنّ الإنسان لا يقدم على كسر عظم الميت ، بينما يقدم على كسر عظم الحي ، فهي اعتبار أدبي منفّر للعمل الإجرامي في كسر عظم الميت ، ونحن هنا نتكلم عن الدية التي هي اعتبار قانوني.

الجناية إذا لم تكن مقدّرة :

وإذا لم تكن الجناية مقدرة في الروايات فلابدّ من أخذ الأرش ، وكيفيته أن يأخذ نفس الأرش لو كان حياً وينسبه إلى الدية ، ويأخذ النسبة ويخرجها من المائة دينار.

الوارث لا يرث من هذه الدية :

وقد تقدّمت رواية حسين بن خالد الصحيحة ، وقد دلّت على أنّ هذه الدية التي كانت بسبب جرح جسم الميت لا تعطى إلى الورثة ، بل تصرف في وجوه القُرَب ، بل حتى لو كان الميت عبداً فلم يكن لسيده شيء من الدية ، وذلك لزوال ملكه عنه بالموت ، بل حتى إذا كان على الميت دين فلا يخرج منها ؛ لأنّ الدين يخرج من التركة ، وهذه ليست تركة ولذا فهي لا تورث.

ولكن الصحيح قضاء الدين منها إن كان ولم تكن تركة ، أو لم يفِ الوارث

__________________

على ما يكون من جراح الذكر والاُنثى والرجل والمرأة كاملة » بتقريب : أنّ جعل الدية فيها من حساب المائة لا يكون إلاّ بعد ما كان الجنين تام الخلقة وله اعضاء متمايزة قبل ولوج الروح ، فإنّ ديته عندئذ مائة دينار ، وعليه فدية قطع اعضائه على نسبة مائة دينار. راجع وسائل الشيعة : ج ١٩ ، ب ١٩ من دية الأعضاء ، ح ١.

٣٦٨

عصياناً ؛ وذلك لبقاء خطاب الوضع في ديته وإن سقط خطاب التكليف.

العلاج التجميلي

يمكننا أن نعدّ أمثلةً للعلاج التجميلي لتكون مصاديق لهذا العنوان العام حتى إذا ما حكمنا على هذا العنوان العام بحكم شرعي يكون سارياً في المصاديق التي ذكرناها والتي لم نذكرها ممّا ينطبق عليها العنوان العام. فمن أمثلة العلاج التجميلي :

١ ـ الوشم : وهو النقش الأخضر أو الأزرق على الجسم بواسطة الإبر ، فيتراءى بياض سائر البدن وصفاؤه أكثر ممّا كان يرى لولا هذا النقش.

٢ ـ الوشر : وهو التحديد والتقصير ، فوشر الأسنان هو تحديدها وتقصيرها.

٣ ـ التفلّج : وهو الانفراج ما بين الأسنان.

٤ ـ ترقيق الحواجب.

٥ ـ تطويل الشعر بواسطة وصل الشعر بالشعر ، أو وضع الشعر على الشعر ( الباروكة ).

٦ ـ صبغ الشيب ، أو صبغ الشعر.

٧ ـ النمص : وهو الحف للمرأة التي تقلع شعر وجهها بواسطة الآلة.

٨ ـ إنبات الشعر على الرأس لازالة القرع ، أو إنبات الشعر على الجسم لازالة أثر الحرق.

والخلاصة : هو كل عمل في جسم الإنسان يُعدّ تجميلا له أو إزالة العيب عنه ، ولابدّ لنا من معرفة الحكم الشرعي للعلاج التجميلي ، وذلك بمعرفة القاعدة الأولية أولاً ، ثم نعقب على ذلك بما ورد من النصوص الشرعية التي يظنّ أنّها

٣٦٩

واردة فيه.

القاعدة الأولية لعلاج التجميل :

إنّ علاج التجميل إذا لم يقترن بأمر محرم ـ مثل نظر الرجل إلى المرأة أو مسها ـ ولم يكن القصد منه غش الآخرين المحرم الذي يُظهر الأمة ـ مثلاً ـ أو المرأة التي يريد أن يخطبها الخاطب بمظهر الكمال عند شرائها أو خطبتها مع عدم وجود كمال فيها فهو حلال جائز ، وذلك أنّ غاية ما يحصل من العلاج التجميلي عند عدم اقترانه مع الحرام هو الزينة واظهار الكمال واخفاء العيب ، وهو أمر جائز ، بل مرغوب فيه.

وحينئذ يكون الألم في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المطلوبة هو أمر جائز إذا لم يصل إلى حد التهلكة في النفس ، وما أكبر ما يحصل عليه الإنسان حينما يزيل الألم النفسي أو يجلب المتعة النفسية التي تحصل من بعض عمليات التجميل.

ومن أمثلة هذا العمل هو أن تفعل الزوجة هذه العلاجات لأجل زوجها ، أو الذهاب إلى حفل نسائي ، فهو وان انطبق عليه عنوان الغش إلاّ أنّه غش حلال كمن يخفي عيوب داره ويخلط السمن الجيد بالردئ لأجل غذائه الخاص.

وأمّا إذا اقترن علاج التجميل بأمر محرم ـ كنظر الرجل إلى المرأة المحرمة أو مسها أو كان القصد من العلاج هو غش الآخرين المحرم كمن يعمل هذه العلاجات في جاريته ليبيعها بثمن اكبر حيث يظهرها بمظهر الكمال مع عدم وجود الكمال فيها ، أو كانت تعمله المرأة الحرّة لأجل أن توقع الخاطِب في خطبتها ـ فهو أمر محرّم لحرمة النظر واللمس ، ولانطباق عنوان الغشّ المحرّم على هذه الأفعال ، وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليس منّا من غشّنا ».

٣٧٠

ما ورد من النصوص الشرعية التي يظن أنّها تمنع من العلاج التجميلي :

نقول : إنّ ما ورد من الروايات في منع بعض مصاديق العلاج التجميلي مثل :

١ ـ لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الواشمة والمستوشمة ، والواشرة والمستوشرة ».

٢ ـ لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « المتفلّجات للحسن ، والمغيرات خلق الله ».

٣ ـ لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « النامصة والمنتمصة ».

٤ ـ لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الواصلة والمستوصلة » (١).

تحمل كلّها على اقتران هذه العلاجات بأمر محرّم مثل الغش المحرم أو ما شابه ذلك.

ودليلنا على ذلك : أنّ اللعن الوارد في الروايات ظاهر في الحرمة وليس صريحاً فيها ، حيث إنّ اللعن لغةً من الإبعاد المطلق ، وحينئذ إذا دلّت الأدلّة على جواز أو استحباب تزيين المرأة لزوجها ، أو لأجل الذهاب إلى حفل نسائي مثلاً ، فيكون هذا قرينة على صرف الحرمة الظاهرة في الأحاديث إلى صورة الغش أو اقتران هذه الأعمال ببعض المحرّمات ، أو نقول بكراهة التزيين في غير الموارد التي دلّ الجواز على استحبابها.

والذي دعانا إلى هذا الكلام ولم نقل : « إنّ التزيين إذا كان جائزاً بصورة مطلقة وقد ورد التحريم في بعض أفراده ، فنخصّص الجواز بغير مورد التحريم » هو تذييل اللعن الوارد في المتفلّجات بقوله « المغيِّرات خلق الله » ونحن نعلم لما تقدّم : أنّ المراد من خلق الله في هذه الرواية هو دين الله ، كما جاء في آية النساء ( ولأضلنهم ولاُمنّيهم ولآمرنهم فليبتّكنّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله ومن

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٩ ممّا يكتسب به ، ح ٧ وغيره.

٣٧١

يتّخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً ) (١). وقال تعالى : ( فأقم وجهَك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (٢).

إذن المراد بتغيير خلق الله هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ، وذلك بتحليل الحرام الذي حرمه الشارع المقدّس ، وبما أن الحرام هو الغش وليس التزيين نفهم من الروايات المتقدّمة أن المراد بالمحرم هو الغش ، والمراد باللعن هو خصوص حصول المحرم من هذه الأعمال ، أمّا التزيين الذي يحصل من هذه الأعمال فهو ليس فيه تغيير لدين الله ، حيث يكون جائزاً بأدلّته الكثيرة ، فلا يكون مشمولاً للروايات اللاعنة ، كما أن الروايات اللاعنة لا تشمل التزيين.

ولو أصر إنسان على أن المراد من آية ( ولآمرنّهم فليغيّرن خلق الله ) هو حرمة تغيير ما خلق الله من اشياء ، فلازم ذلك أن نحرّم حلق الرأس والشعر من الجسم ، ونحرم فتح الجسور والطرقات وبناء الأسواق وشق الأنهار وما إلى ذلك ، ويلزمنا أن نفتي بحرمة تعديل الشارب ولبس الثياب ؛ لأنّه تغيير لخلق الله سبحانه ، وهذا ما لا يقول به أحد.

أضف إلى ذلك الروايات الواردة في تحسين الوجه وصبغ الشيب بالحنّاء والسواد ، والحثّ عليه ، وقد ورد « لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها » ففي رواية سعد الأسكاف قال : « سئل أبو جعفر ( الإمام الباقر عليه‌السلام ) عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن يصلن شعورهن ؟ قال : لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها ، قال : فقلت بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن الواصلة والمستوصلة ، فقال : ليس هنالك ، إنّما لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الواصلة التي تزني

__________________

(١) النساء : ١١٩.

(٢) الروم : ٣٠.

٣٧٢

في شبابها ، فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال ، فتلك الواصلة والموصولة » (١).

ثم إنّ هذه الروايات الواردة في اللعن للواشمة والنامصة والواصلة والمفلّجة بين مرسل ومسند لم تثبت حجيته لضعف السند ، وحينئذ نبقى على أصالة الإباحة عند الشك في الحرمة ، وهي التي اقتضتها القاعدة الأوليّة.

أحكام الترقيع :

قد يكون من العلاج التجميلي ترقيع جسم الإنسان الحي بجسم إنسان آخر حيٍّ أو ميّت ، وقد يكون العلاج بقطع جزء من جسم وإلحاقه بمكان آخر ، كما يكون بقطع جزء من جسم الحيوان ليرقع به جسم الإنسان ، وهذا الحيوان قد يكون نجس ، وقد يكون طاهر العين.

١ ـ الترقيع من جسم إنسان حيٍّ لجسم إنسانٍ آخر :

نقول : إنّ كان الجزء المقلوع من الأعضاء الرئيسية للبدن كالعين والكلية واليد والرجل أو ليس كذلك بل من قبيل قطعة جلد أو لحم فإنّ كل هذا هو أمر جائز إذا كان برضاً من صاحب الجسم المقلوع منه ، وأما الضرر المتوجّه إلى الجسم المقلوع منه فهو إنّما يكون حراماً في غير صورة الإضرار بالنفس ، أو في غير هذه الصورة التي فيها نفع لإنسان آخر قد يكون بمستوى انقاذ حياته في بعض الصور ، فيكون حديث « لا ضرر ولا ضرار » منصرفاً لغير هذه الصورة التي فيها ايثار للغير على نفسه.

كما أنّ العضو إذا كان مريضاً وقرّر الأطباء قلعه فيجوز ذلك بلا كلام ، ولا يشمله حديث لا ضرر فكذلك ما نحن فيه إذا كان القلع قد نضر فيه إلى إنقاذ حياة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٩ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٣.

٣٧٣

إنسان مسلم أو مساعدته في تدبير اُموره الحياتية مثلاً. ونفس الحكم فيما إذا قُلِعَ جزءٌ من جسمه ليوضع في مكان آخر لنفس الدليل المتقدّم.

وأمّا ما قيل من عدم الجواز لاستلزام أن يكون بجسم المرقع قطعة من الميتة إذا كانت ظاهرة فهي تمنع من صحة الوضوء أو الغسل فهو أمر ضعيف ، لأنّ قطعة الميتة إذا لصقت بجسم الإنسان المرقع فيه فهي تحسب جزءاً من جسمه ، ولا ينطبق عليها عنوان الميتة بعد ذلك.

٢ ـ الترقيع من جسم إنسانٍ ميّتٍ لجسم إنسانٍ حي :

وهذا ينقسم إلى قسمين ، إذ أنّ الأموات مرّةً من المسلمين ومرّةً من غيرهم ، فأمّا الميت المسلم فلا يجوز أخذ قطعة من بدنه لإلحاقها ببدن الحي ، وذلك لأنّ الله سبحانه قد جعل للميت حرمة ، وجعل الاعتداء عليه حراماً وله دية ، وهذا الحكم باق حتى إذا انتفع فرد من هذا الاعتداء بالقلع أو القطع.

ولكن قد يقال : إنّ حكم حرمة الميت احترامية ، فإذا حصل من أخذ جزء من جسمه إنقاذ إنسان مسلم على وشك الموت فهل تنصرف أدلّة حرمة الميت عن هذه الحالة ؟

الجواب : ليس من البعيد اختصاص أدلّة حرمة جرح الميت وقطع رأسه وتشريحه بصورة المثلة والتهتك واشباهها ، فمع وجود نفع كبير جداً كإنقاذ نفس مسلمة من الهلاك بأخذ جزء من جسم الميت لا يكون ذلك حراماً ، استناداً التزاحم الملاكي الذي تقدّم ذكره ، وحتى لو كان هذا هو أمر حرام إلاّ أنّه إذا توقّف إنقاذ مسلم على ذلك فيتزاحم الواجب والحرام ، وطبعاً يتقدّم حفظ حياة المسلم على حرمة هتك الميت. ولكن ينبغي أن نلتزم بالدية على القاطع ؛ لعدم المنافاة بين جواز القطع والقلع ووجوب الدية.

وفي هذه الصورة أيضاً تكون العين أو ما شابهها بعد ذلك جزءاً من جسم

٣٧٤

الحي.

ثم إنّ الميت يتمكّن أيضاً من أن يوصي بأخذ عينه بعد موته لإلحاقها ببدن الغير ، وفي هذه الصورة لا تثبت الدية على القاطع (١) ، ودليل ذلك هو : أنّ الميّت له حقّ في أن يسقط حقّه في احترامه حيّاً وميّتاً بشرط أن لا يصل إلى ذلّه ومهانته ، وعلى هذا يجوز له أن يوصي بهذه الوصايا التي ترجع عليه بالنفع والثواب.

ونفس الكلام نقوله فيما إذا كان الميت كافراً أو مشكوك الإسلام ، ولكن هنا لا توجد دية على قاطع الجزء منه ، لعدم الاحترام للكافر الميت.

٣ ـ الترقيع بعضو من أعضاء بدن الحيوان :

سواء كان نجس العين أو طاهراً فإنّه جائز ، وتترتب عليه أحكام بدن الحي بعد ذلك لصيرورته جزءاً من بدن الحي. وجواز هذا العمل ينبع من عدم الاحترام للحيوان ، سواء كان نجس العين أو طاهرها ، فإذا ترتبت منفعة على الترقيع به فهو جائز.

العلاج بالرقى ( العلاج الروحي )

إنّ من المعلوم وجود أمراض نفسية يبتلى بها بعض الأفراد ، وهي بحاجة علاج نفسي ، لذا يمكننا أن نقسم الأمراض قسمين :

١ ـ مرض جسمي يبتلى به العضو نتيجة لعوارض خارجية ، كالميكروب ، أو التعرض للبرد وما شابه.

٢ ـ مرض نفسي تبتلى به النفس الإنسانية ، وقد يؤثر هذا المرض النفسي

__________________

(١) ذهب إلى ذلك الإمام الخوئي رحمه‌الله ، منهاج الصالحين : ج ١ ، ص ٤٢٦ « أحكام الترقيع ».

٣٧٥

على بعض اعضاء الإنسان فتمرض تبعاً للمرض النفسي الذي حلّ بها ، فهل يجوز في هذين القسمين العلاج بالرقى والتمائم ، أو بما يسمى بالعلاج الروحي والنفسي ؟

الجواب :

١ ـ إذا كانت الوقاية أو العلاج من الأمراض النفسية ومن الأرواح « الجن » أو من العين « الحسد » من طريق السحر والاُمور المحرمة الاُخرى فهي غير جائزة ؛ لما تقدّم من حرمة التداوي بالاُمور المحرمة إلاّ في صورة توقف العلاج عليها لنجاة نفس الإنسان من الهلاك والالآم الجسيمة.

٢ ـ إذا كانت الوقاية أو العلاج من الأرواح الشريرة « كالجن » والعين « الحسد » أو من شر المؤذين ، أو كانت الاستعانة منها بقوى إلـهية تفوق القوى الطبيعية بتدخل غيبي من الخالق المسيطر عن طريق الدعاء وقراءة القرآن فهو عمل صحيح ولا بأس به.

وتوضيح ذلك : أنّ الحسد والسحر أمران واقعيان موجودان في الخارج ، وقد صرّحت الآيات القرآنية بهما كما في سورة الفلق : ( قل أعوذ بربّ الفلق من شرّ ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شرّ حاسد إذا حسد ). وقد دلّت هذه السورة القرآنية على استحباب أن يتعوّذ الإنسان برب الفلق ، وهو الله سبحانه من شر الخلق ومن شر الحسّاد ومن شرّ السحر ( النفاثات في العقد ) ، وقد ورد عندنا أن العين حقّ « تُدخِل الرجلَ القبرَ والجمل القِدَر ».

كما أنّ الشياطين والجنّ موجودات واقعية ، ويجوز أن يتعوّذ الإنسان برب الناس من الشيطان الذي يوسوس في صدره ، وقد يكون هذا الشيطان من الجن كما يمكن أن يكون من الناس ، وقد صرّحت سورة الناس بذلك : ( قل أعوذ بربّ الناس ملكِ الناس إلـهِ الناس من شرّ الوسواسِ الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس من الجِنّة والناس ).

٣٧٦

ثمّ إنّ الجن على قسمين : الصالحون وغير الصالحين ، قال تعالى في سورة الجن : ( وإنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك كنّا طرائق قِدَدا ) (١).

فإذا كان الإنسان يتعوذ ـ من الشيطان ومن الجن المفسدين ومن العين الحاسدة ومن السحر ـ بالله تعالى وبالدعاء له ، وبقراءة القرآن كان ذلك أمراً جائزاً لا بأس به ، بل قد دلّت آيات الفلق والناس على استحبابه على الأقل ، وقد وردت الروايات على أن ذكر الله سبحانه وخصوصاً البسملة يدفع الشيطان عن الإنسان ويبعده.

ولماذا ننظر إلى الأمراض المادية التي تنشأ من التخمة والميكروب ولا ننظر الى الأمراض التي يصاب بها العقل والقلب في المبدأ والمعاد ، وما يتفرّع عليهما من اُصول ومعارف ، وهؤلاء المرضى هم الكافرون والمنافقون ، وبعض من آمن بالله وبرسوله وشك في معاده ورجوعه إلى الحساب ، قال تعالى : ( لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ) (٢) وقال تعالى : ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) (٣) فالمرض الذي ذكره القرآن هو نوع من الشك والريب الذي يوجب اضطراب النفس الباطنية والميل إلى الباطل واتباع الهوى.

ولهذا نقول : إنّ في قراءة القرآن والأدعية التي وردت عن المعصومين عليهم‌السلام تُزال أنواع الشكوك والشبهات المعترضة للحقائق والمعارف الحقيقية ، ففي القرآن من المواعظ الكافية الشافية والقصص والعبر والأمثال والوعد والوعيد والانذار والتبشير وما تنتهي إليه نتائج العلوم الصحيحة والأحكام الحقّة ما يدفع أمراض

__________________

(١) الجن : ١١.

(٢) الأحزاب : ٦٠.

(٣) المدّثّر : ٣١.

٣٧٧

القلوب ، وقد صرّح القرآن بنفسه عن ذلك فقال : ( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً ) (١). وقال أيضاً : ( قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء ) (٢). وقد ورد في دعاء كميل الذي علمه إيّاه أمير المؤمنين عليه‌السلام « يا من اسمه دواء وذكره شفاء ».

بل إنّ الإنسان قد يتوسّل بالله سبحانه لأن يتدخل بيده الغيبية لشفائه من المرض الجسماني ، وقد أكّد هذا الأمر البروفسور « الكسيس كارل » الحائز على جائزة نوبل في كتابه « الدعاء » الذي ترجمه الدكتور محمد كامل سليمان ، فقال : « إنّ نتائج الشفاء عن طريق الدعاء يستثير اهتمام الناس على مرّ العصور. وحتى يومنا الحاضر وفي الاوساط التي ما زالت تمارس الدعاء وتقوم بالصلاة ، ما زالوا يتحدّثون بإسهاب عن الأشخاص الذين تم شفاؤهم عن طريق التضرعات للباري عزّوجلّ أو لأوليائه الصالحين.

أمّا بالنسبة للأمراض القابلة للشفاء تلقائياً أو بمساعدة الأدوية والعقاقير العادية فإنّه من الصعب أن نعرف العامل الحقيقي الكامن وراء الشفاء.

إنّ المكتب الطبي التابع ل‍ « لورد » أدّى خدمة كبيرة للعلم عندما برهن على أن حقيقة شفاء كثير من الأمراض المستعصية كان بفضل الدعاء وحده ... وهكذا فإنّ للدعوة قوةً سريعةً في الشفاء حتى يمكن تشبيهها بسرعة الانفجار.

هذا وأنّ كثيراً من المرضى تمّ لهم بفضل العاطفة الصادقة وعن طريق الدعاء تمّ لهم الشفاء من أمراض خطيرة مستعصية ، كمرض القِراض الجلديّ في الوجه ، وكالسرطان ، وتعفّن الطحال ، والقرحة ، والتدرّن الرئويّ أو السلّ العظمي ، أو السلّ في الحجاب الحاجز.

__________________

(١) الأسراء : ٨٢.

(٢) فصلت : ٤٤.

٣٧٨

إنّ ظاهرة الشفاء هذه كانت تحدث تقريباً دائماً بنفس الأسلوب يعاني المريض ألماً شديداً ، ثمّ يعقبه شعور بإمكان الشفاء ، وهكذا خلال بضع ثوان أو بضع ساعات على الأكثر تختفي علامات المرض ، والجروح التشريحية تلتئم لتتمّ معجزة الشفاء بعد ذلك بسرعة هائلة ، تختصر مراحل العلاج العادية بشكل مذهل ، ومن الجدير التنويه به هنا أن هذه السرعة المتناهية في مسيرة الشفاء لم يلاحظها أي أحد من الجرّاحين النطاسيين أو أخصائيي وظائف الأعضاء المشهورين خلال ما أجروا من عمليات لمرضاهم حتى أيامنا الحاضرة.

هذا ، ولكي تتم ظاهرة الشفاء بسبب الدعاء ـ كما سبق وأشرنا ـ ليس ضرورياً أن يكون الداعي هو المريض نفسه ، فإنّ هناك أطفالا صغاراً لا يستطيعون الكلام تمّت لهم معجزة الشفاء بالدعاء ، كما أنّ هناك أشخاصاً غير مؤمنين شُفُو من أمراضهم بسبب دعاء غيرهم لهم بالقرب منهم ، هذا وأنّ الدعاء للآخرين يكون دائماً أكثر نتيجةً من الشخص لنفسه (١).

إنّ نتيجة الشفاء بالدعاء وسرعة الاستجابة إنّما يتوقّفان على كثافة الدعاء أو مدى الصدق والإخلاص فيه ...

تلك هي آثار الدعاء في الشفاء التي يوجد عندي معرفة يقينية بها لانّني عايشتها عن كثب ... ولكن ينبغي أن لا يعزب عن بالنا حقيقة أنّ كلّ من يسعى لشيء لا جرم أن يصل إليه ، كما أن كل من طرق الباب يُفتح لاستقباله » (٢).

فالنتيجة : أنّ قراءة القرآن والأدعية الواردة عن المعصومين سلام الله عليهم ،

__________________

(١) ورد في الأخبار استحباب أن يدعو الإنسان لغيره في يوم عرفة ، فإنّ له أربعين ملكاً يؤمِّنون على دعائه ...

(٢) الدعاء ، تأليف البرفسور « الكسيس كارل » الحائز على جائزة نوبل ، ترجمة الدكتور محمد كامل سليمان ، ص ٦٣ ـ ٦٨.

٣٧٩

وقراءتها والدعاء بها للغير تفيد في دفع الأمراض النفسية والجسمية ، كما أن التوسّل إلى الله تعالى لدفع الشر والحسد والشياطين والجن غير الصالحين يفيد في دفع المرض الذي ينشأ عن هذه الاُمور.

وحينئذ نقول : إنّ حمل الآيات القرآنية والأدعية على شكل تعويذات للتخلص من كثير من الأمراض أمر مفيد أيضاً ، كما وردت في ذلك الآثار الشرعية من قبل جميع المسلمين ، فممّا ورد في ذلك :

١ ـ صحيحة داود بن فرقد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن التعويذ يعلق على الحائض ؟ قال عليه‌السلام : لا بأس : وقال : تقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدها » (١).

٢ ـ صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن التعويذ يعلق على الحائض ؟ فقال : نعم إذا كان في جلد أو قصبة حديد » (٢).

٣ ـ وعن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : « أنّ جبريل عليه‌السلام نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والنبي مصدَع فقال : يا محمد ، عوّذ صداعَك بهذه العوذة يخفّف الله عنك ، وقال : يا محمد ، من عوّذ بهذه العوذة سبع مرات على أي وجع يصيبه شفاه الله بإذنه ، تمسح بيدك على الموضع وتقول : بسم الله ربنا الذي في السماء ، تقدس ذكر ربنا الذي في السماء والأرض ، أمره نافذ ماض ، كما أنَّ أمره في السماء ، اجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا يارب الطيبين الطاهرين ، انزل شفاء من شفائك ورحمةً من رحمتك على فلان بن فلانة وتسمي اسمه » (٣).

٤ ـ عن الإمام الباقر عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : « قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رقى

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢ ، ب ٣٧ من أبواب الحيض ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٣.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٢ ، ب ١٤ من الاحتضار ، ح ٥.

٣٨٠