بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الأول وخلقة نسله ـ الحصر ، وقلنا : إنّ الخليّة التي تؤخذ من الذكر ( غير الخلية الجنسية ) لن تتحوّل إلى مني حين صعقها وتلقيحها ببويضة المرأة ـ كما هو الفرض ـ فسوف لن تنجح طريقة الاستنساخ الآنفة الذكر في الإنسان.

أمّا إذا لم يكن الحصر مراداً من الآية أو افترضنا أنّ الصعق الكهربائي ( أو التلقيح الذي يحدث ) يستخرج من الخلية حيمناً ، أو قلنا : إنّ المراد من الماء المهين هو ماء المرأة ( البويضة ) فتكون عملية الاستنساخ المفروضة غير منافية للآيات القرآنية ، ويحتمل أن تقع في الخارج (١).

__________________

(١) هناك فروض واحتمالات على مصطلح ( الأرأيتيون ) لابدّ من طرحها لنرى إجابة الشارع المقدّس حولها ، منها :

أ ـ لو تمّ الاستنساخ بين امرأة واُخرى وغيّب العنصر الذكري فما هو حكم الشارع في هذه العملية ؟

لو أصبح هذا الأمر ممكناً ـ كما لو كانت الآيات القرآنية التي هي في صدد أصل الخلقة لم تكن للحصر ، وكان المراد من الماء المهين هو بويضة المرأة ـ فلابدّ من معرفة الحكم من الناحية الشرعية.

ب ـ إمكان تنوّع الاستنساخ الواحد ليصبح نصفه من الإنسان ونصفه من الحيوان ، كما لو أخذنا نواة خلية من إنسان وزرعناها في بويضة ( غزال أو فيل أو ذئب أو أسد أو طائر ) منزوعة النواة فما حكم الناتج الذي قد يكون انساناً بسرعة غزال أو قوة فيل أو أنياب ذئب أو أسد أو أجنحة طائر ؟

أقول : إنّ هذين الفرضين إن أمكنا فإنّ الفقه لا يتوقف في حكم ما اُنتج ، حيث إنّ أحكام الله تعالى تابعة لِمَا يصدق عليه هذا الموجود عرفاً من كونه اُنثى أو إنساناً ذكراً في الشكل والمظهر ، وبما أن المولود سيكون نسخة طبق الأصل عن صاحب النواة فإن حكمه واضح وإن كانت له سرعة الغزال أو انياب الفيل ، وإن كنا قد نتوقف في صحة فرض أن يأخذ المولود من صاحب البيضة إذا كانت الصفات الوراثية هي لصاحب النواة.

ح ـ عذراء صنعت نسخة لها ثم اُودعت الزريعة رحمها لتنمو حتى الميلاد فهل هذا الحمل

٣٠١

خلاصة البحث :

بالنسبة إلى الاستتئام : عبارة عن عدّة نقاط :

أولاً : أنّ عمل الأجنة المتعددين من لقيحة واحدة ، أو قل عمل عدّة توائم جائز بشرطين :

أ ـ أن لا يكون في ذلك العمل مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيكسى جلداً خلوياً ليكون منشأً لحياة جنين ، وأن لا يكون خطر على صحتهما.

ب ـ أن لا يكون عمل التوائم بصورة واسعة بحيث يؤدي إلى اختلال النظام لعدم التمييز بينهم.

ثانياً : إذا عملنا أجنة متعددين بإيجاد الجدار الخلوي الاصطناعي للخلايا المقسَّمة بحيث تكون كل خلية هي خلية اُمّ ففي هذه الصورة لا يجوز قتل هذه الأجنة ولو كانت فائضة ؛ لأنّها مبدأ نشوء إنسان ولا يجوز قتل مبدأ نشوء الإنسان. نعم ، إذا حفظنا الخلية المقسمة في التبريد العميق قبل أن نعمل لها جداراً خلوياً ونلئم ما تمزّق من الجدار ، فإنّ قتل هذه الخلية لا بأس به ؛ لأنّ حال هذه الخلية حال المني الذي يجوز اهداره بمثل العزل ، أو قل لأنّه ليس مبدأ نشوء إنسان حتى يحرم قتله.

ثالثاً : يجوز اعطاء الأجنة المبرّدة إلى سيدة اُخرى لوضعها في رحمها ، بل لعلّ هذا العمل مستحب لما فيه من المحافظة على الجنين ورعايته إلى حين الولادة. نعم ، ثبت حرمة أن يفرغ الرجل ماءه في رحم يحرم عليه ، ولكنّ وضع اللقيحة ليست ماءً للرجل ، إذ بعد التقليح لا يطلق على اللقيحة إنّها ماءٌ للرجل.

__________________

شرعي وهي لا زواج لها ، وهل هي بنتها أو توأمها ؟

د ـ لو اُخذت خلية مني بقصد اصدار نسخة وراثية طبق الأصل مع بويضة امرأتي وحفظت في التبريد حتى مات الزوجان ثم وضعت في رحم وصارت ولداً فهل يستحق ارثاً مع بقية الورثة حتى إذا كان الإرث قد قسّم وانتهى ؟

٣٠٢

رابعاً : أنّ الأب هو صاحب المني ، والاُم صاحبة البيضة وإن وضع الجنين في رحم غير صاحبة البيضة ، لأنّ القرآن الكريم يقول : ( إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم ) والولد الحقيقي والولادة الحقيقية هي ما تولد منه الشيء ، ونحن نعلم بأنّ الولد قد تولد من المني والبيضة حقيقية.

خامساً : لا يبعد أن تكون الاُم الحاضن محرَماً على الجنين الذي سيولد ، من باب أولويته من الاُم المرضعة عرفاً ، فيتعدى من المحرمية الرضاعية إلى محرمية الجنين على اُمّه إذا حضنته في رحمها حتى الولادة.

سادساً : أنّ الاستفادة من الجنين الثاني ( الطفل الثاني التوأم ) للطفل الأول إنّما تكون جائزة بشرط أن لا تؤدّي إلى موت الطفل الثاني ولا إلى الاضرار به ، وأمّا إذا أدّت إلى موته أو الاضرار به فهي غير جائزة.

سابعاً : لا حرمة في أن يرى الطفل الثاني الذي يفصل بينه وبين أخيه المشابه له عدّة سنين مستقبله وما يعرض لأخيه من أمراض هي له بالمرصاد.

ثامناً : لا يجوز اذى الطفل الثاني أو الولد الثاني بإعلامه بمصيره الذي سوف ينتهي إليه فيما إذا علمنا بذلك نتيجة ابتلاء الولد الأول به.

أمّا بالنسبة إلى الاستنساخ فخلاصته عدة نقاط أيضاً :

أولاً : أنّ عملية الاستنساخ في البشر بعنوانها الأوّليّ ـ لو نجحت ـ لا بأس بها إن لم تقارن محرّماً آخر ، من قبيل كشف العورة أمام الأجنبي.

ثانياً : أنّ الأب في عملية الاستنساخ هو صاحب الخلية ، والاُم هي صاحبة البيضة ، فبالإضافة إلى أنّ مفهوم الولد هو ما تولّد من الشيء وهذا الولد تولّد منهما يفهم العرف أن صاحب الخلية هو الأب ، إذ لا يفهم العرف أنّ هذا الولد نشأ من غير أب ، كعيسى عليه‌السلام.

ثالثاً : إذا ادّى الاستنساخ البشري إلى اختلال النظام ـ كما لو طبق بصورة

٣٠٣

واسعة ـ فهو أمرٌ محرّم ؛ لأنّ الشارع المقدّس جرت حكمته على حفظ النظام باختلاف الألسنة والألوان.

وبهذا الّذي تقدّم يتبيّن لنا : أنّ العلماء الذين قاموا بالاستنساخ أو الاستتئام لو اداموا عملهم هذا ونجحوا فيه في الإنسان فإنّ عملهم هذا سيكون عبارةً عن اكتشاف سرٍّ من أسرار الخلق التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الجسد ، فلم يكن لأحد الحقّ في القول بأنّهم قد خلقوا قانوناً أو أوجدوا سرّاً في جسد الإنسان أو الحيوان ، بل هم كشفوا هذا السرّ الذي أودعه الله في الجسد فلم يأتوا بشيء جديد غير الاكتشاف.

إذن ليس في هذين العنوانين أيّ تحدٍّ لله ، كما يحبّ البعض أن يسمّيه اهتزاراً بين العِلم والدين.

* * *

٣٠٤

٣٠٥

٣٠٦

ما المقصود بسرِّ المهنة ؟

ويقصد به : السرّ الطبي الذي هو عبارة عن كتمان ما اطّلع عليه الطبيب من أحوال مريضه ، وهذا الكتمان هو عبارة عن اتفاق مكتوم بين الطبيب ومريضه وخلاصته هو عبارة عن المبدأ الذي يقضي على الطبيب أن يكون دائماً هو المدافع عن مصالح مريضه ليمنع عنه الضرر وهذا المبدأ مقيد بقيد ارتكازي عقلائي هو أن لا يكون كتمان السرّ سبباً في نشر مرض أو تولّد ضرر عند الآخرين.

فإن المريض عند مراجعته الطبيب يذكر له أسراره مضطرّاً بسبب المرض الذي ألمّ به وعطله عن عمله اليومي كليّاً أو جزئيّاً ، وهذا السرّ الذي يبوح به المريض إلى طبيبه قد يكون حاجة ملحّة في الاستشارة الطبية ، وقد يتوقّف على نتائجها تشخيص المرض ووصف الدواء الضامن للشفاء وربما المنقذ للحياة ، ولذا وردت الروايات في ذم كتمان سرّ الداء كما عن علي عليه‌السلام « من كتم مكنون دائه عجز طبيبه عن شفائه » (١) « ومن كتم الأطباء مرضه خان بدنه » (٢).

وهذا السرّ الطبي يختلف عن الاسرار الاُخرى التي نطّلع عليها صدفةً عن

__________________

(١) غرر الحكم : ج ٢ ، ص ٦٦٨.

(٢) غرر الحكم : ج ٢ ، ص ٦٦٣.

٣٠٧

اُناس آخرين ، إذ المطلوب ممّن اطلع على سرّ اخيه في غير حالة العلاج الطبي هو نسيانه ، أمّا السرّ الطبي الذي اطّلع عليه الطبيب من مريضه يوجب عليه أن يتمسّك به ولا ينساه وأن يتذكره كلّما راجعه المريض أو أحد اقربائه كولده ـ مثلاً ـ أو اخيه إذا راجعه في سنيّ حياته المقبلة ، إذ قد يكون هذا السرّ هو مفتاح حياة المريض أو اُسرته ، كما هو الحال في الأمراض التي تنتقل بالوراثة إلى الفروع.

وعلى كل حال فنحن نريد أن نعرف الحكم الشرعي في إفشاء هذا السرّ خصوصاً إذا كان المريض لا يرغب أو يمانع اطلاع غير طبيبه على هذا السرّ من ناحية كونه عيباً عرفياً في بدنه أو يوجب الاطلاع عليه هتكه وتعييره في بعض الأحيان.

والجواب : أنّ الشريعة الإسلامية قد اوجبت كتمان كل سرٍّ من اسرار الإنسان المسلم بالعنوان الأولي ، فقد ورد الحث في الشريعة الإسلامية على كتمان سرّ المؤمن ، ووعد الله سبحانه أن يجعل لمن يكتم سرّ أخيه المؤمن الاستظلال بظل العرش يوم القيامة حيث لا ظلّ إلاّ ظلّ الله (١).

وعلى هذا يكون حفظ السرّ الطبي من ناحية حكمه الأولي واجباً ، فلا يجوز البوح به ـ إذا لم ينطبق عليه غير عنوان كشف السرّ ـ من ناحية الأطباء والجراحين ورجال الصحة والقوابل وكل من يتلقى الأسرار الطبية كالطلبة والمساعدين في الكليات والمستشفيات.

ولا حاجة إلى أن نستدل على حرمة كشف السرّ الطبي ـ إذا لم ينطبق عليه غير عنوان كشف السرّ ـ بعد معرفة حرمة أذيّة الإنسان (٢) بإفشاء عيبه وتعييره

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٤ ، ب ١٢ مقدمات النكاح ، ح ٣.

(٢) وقد دلّت الروايات المتواترة على حرمة إيذاء المؤمن وإهانته وسبّه وتعييره حتى في صدور المعصية منه ، راجع وسائل الشيعة : ج ٨ ، أبواب العشرة من الحج. كما دلّت الروايات الكثيرة

٣٠٨

وانتقاصه وهتكه بدون مبرر شرعي ، فإنّ كشف السرّ هو من مصداق أذيّته وسبب تعييره وانتقاصه واشعاره بالذم ، وهو أمر غير جائز شرعاً ، فقد ورد في صحيحة عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه‌السلام انه قال : « قلت للإمام الصادق عليه‌السلام : عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال : نعم ، قلت : سفلتيه ؟ قال : ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه » (١).

والخلاصة : أنّ مقتضى القاعدة هو تحريم كشف سرّ المريض الذي نحن بصدده بالعنوان الأولي حتى إذا رضي صاحب المرض بكشفه وكان عليه فيه مهانة ، لأنّ هذا هو حكم شرعي لا يسقط بالاسقاط ، وعدم جواز إذلال الإنسان لنفسه من الاُمور التي أكّد عليها الشارع المقدّس ، وقد ورد في الحديث : « إذا رضي الإنسان بالذل طائعاً فليس منّا أهل البيت ».

كما لا يجوز لمن ليس له علاقة بمرض المريض من الموظفين والأطباء الآخرين الاطلاع على الأسرار التي يكشفها المريض لطبيبه وتثبت في الملفّ الخاص بالمريض ، لما ذكرناه سابقاً.

متى يستثنى من وجوب كتمان السرّ ؟

إنّ ما تقدم من وجوب كتمان سرّ المريض أو حرمة افشاء سرّه إنّما كان لأجل احترام المؤمن ، وبما أنَّ كشف السرّ فيه أذى للمريض أو هتكاً له أو بياناً لعيبه الذي لا يحب نشره وامثال هذه العناوين ، فهو ينافي وجوب احترام المؤمن فيكون حراماً أولاً وبالذات. أمّا إذا كان كشف سرّ المريض لغرض صحيح ( راجع إلى

__________________

على حرمة كشف عيب المؤمن للآخرين وهو ما يسمى بغيبة المؤمن ، وبما أن كشف سرّه إذا كان عيباً في جسمه فيكون مشمولاً لها ، وقد قال تعالى : ( ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ). الحجرات : ١٢.

(١) وسائل الشيعة : ج ٨ ، ب ١٥٧ من أحكام العشرة ، ح ١.

٣٠٩

المريض نفسه أو الطبيب أو إلى شخص ثالث ) بحيث يكون هذا الغرض الصحيح أعظم مصلحةً من احترام المؤمن فهنا يجب العمل على طبق أقوى المصلحتين أو أهم الأمرين ، وعلى هذا المنهج جميع موارد التزاحم في الواجبات والمحرمات ، سواء كانت من حقوق الله أو حقوق الناس (١).

وبعبارة اُخرى : إذا امتنع الجمع بين أمرين الزاميين في مقام الامتثال مع عدم التكاذب في مقام التشريع فلابدّ من تقديم الأهم عند الشارع. وهنا نذكر بعض الأمثلة كمصاديق لهذه القاعدة :

١ ـ إذا كان كتمان سرّ المريض يؤدّي بالمريض إلى ضرر أكبر من ضرر إفشائه ، كما إذا كان المريض بحاجة إلى كشف مرضه أمام عائلته ( لأجل العناية به بصورة دقيقة ، وكوقاية من استفحال المرض في صورة عدم الاعتناء بالمريض ، وكحجره في صورة اللزوم لمعالجته ) حتى يقضى على ذلك المرض في مهده ولا يكون مهدداً لنفس المريض ، ففي هذه الحالة يكون في كشف السرّ مصلحة أهم من كتمانه ، فيجوز في هذه الحالة الكشف لمصلحة المريض ، ولكن الكشف في هذه الحالة ينبغي أن يقتصر فيه على حدود رفع الضرر على المريض ولا يجوز تجاوزه كما هو واضح.

٢ ـ إذا كان في كتمان سرّ المريض مفسدة كبيرة تؤدي إلى إصابة شريحة كبيرة من المجتمع بذلك المرض المسري كعائلته وأهله وجيرانه بل أهل بلدته ، وبعبارة اُخرى : يكون في إفشاء سرّ المريض مصلحة عامّة تكمن في الوقاية من هذا المرض

__________________

(١) إذا كان هناك حكمان الزاميان ليس في كل منهما دلالة التزامية على نفي الحكم الآخر ولم يمكن امتثالهما معاً ، بل دار الأمر بين أن يمتثل هذا او ذاك ، فيسمى هذا بالتزاحم بين الحكمين ، ومرجحات التزاحم التي ذكرت في الاُصول كلّها ترجع إلى أهمية أحد الحكمين عند الشارع ، فالأهم عند الشارع هو الأرجح في التقديم ويكفي للتقديم احتمال الأهمية أو قوة احتمال الأهمية.

٣١٠

بصورة تحدّ من انتشاره ، ففي هذه الحالة تكون المصلحة العامّة مقدّمةً على المصلحة الخاصة الفردية في عدم كشف سرّه. وايضاً يقيّد هذا الكشف بحدود اطلاع السلطات المكلّفة بوقاية الأمراض والسهر على الصحة العامة.

٣ ـ إذا استشير الطبيب الذي يعرف سرّ المريض في أهلية المريض من الناحية الصحية للزواج ، بأنّه هل لديه أمراض معدية أو جنسية تنتقل إلى الذرية أو الزوجة ؟ ففي هذه الحالة لا يجوز للطبيب أن يخون المستشير ، بل يجب إصداقه الأمر وكشف السرّ إذا كان ترك الكشف موجباً لمفسدة كبيرة أهم من مفسدة كشف السرّ.

٤ ـ إذا استدعي الطبيب من القضاء للإشهاد حول مريض معين ( كما إذا كان افشاء السرّ قد نجم عن حادث جنائي ) فإذا كان في شهادة الطبيب افشاء سرّ المريض فهو جائز بل واجب لوجوب الادلاء بالشهادة شرعاً ، وهو مبرر شرعي للبوح بهذا السرّ ، إذ يكون حاكماً على حرمة كشف السرّ.

٥ ـ إذا كان كشف السرّ لدفع الاتهام المتوجّه إلى الطبيب من المريض أو ذويه يتعلق بتقصيره في مهنته ومعالجته ، فهذا أيضاً كسابقه مبرر شرعي للكشف عن السرّ فيكون حاكماً على حرمة كشف السرّ.

٦ ـ إذاكان إفشاء سرّ المريض يحول دون ارتكاب جريمة ، كما إذا كان المريض مصاباً بمرض عصبي ( عقلي ) يكون في كشفه منعاً لارتكاب جريمة في حق الآخرين.

وهكذا بقية الموارد التي يكون هناك مبرر شرعي الزامي للكشف عن السرّ الذي يقدم على حرمة كشفه ولكن في كل هذه الموارد وامثالها إنّما يتحدّد كشف السرّ امام الآخرين بالقدر الواجب لا أكثر.

الاسرار المتعلقة بالأدوية القاتلة أو الضارّة :

أرى من اللازم عليَّ أن اُبيِّن هذا الموضوع وحكمه الشرعي وإن لم يذكر عادة تحت عنوان السرّ الطبي ، ولكن ارى من اللازم أن نقسّم السرّ الطبي إلى قسمين :

٣١١

١ ـ السرّ المتعلّق بالمريض وما يكشفه لطبيبه ، وهذا تقدّم الكلام عنه.

٢ ـ السرّ المتعلّق بالأدوية القاتلة أو السامّة أو الضارة.

وهذا الأمر الثاني واجب كما يجب كتم اسرار المريض ، فيجب على الطبيب أن لا يكشف عن الأدوية القاتلة أو السامّة أو الضارة لمن يسي استعمالها مطلقاً.

والسرّ في هذا الوجوب هو : أنّ الطبَّ الذي أوجب الله سبحانه وتعالى على العباد تعلّمه وجوباً كفائياً ، وقد يكون عينياً في بعض الحالات إنّما هو لأجل خدمة الإنسانية ولتخفيف آلامها ، فإذا عرفنا أن التعريف ببعض الأدوية القاتلة أو الضارة يؤدّي إلى إسائة استعمالها فيكون الطب حينئذ وبالا على الإنسانية وضرراً كبيراً قد يؤدّي إلى قتل النفوس واشاعة المرض ، لذا لا ترضى الشريعة بكشف اسرار الدواء لمن يسيء استعماله حتى لا يكون الطبيب الذي اُريد له أن يكون عامل رخاء في المجتمع مساعداً لزيادة آلام البشر بإعطاء هذا السرّ لمن يسيء استعماله. وقد ورد عن الإمام علي عليه‌السلام قوله : « ثلاثة لا يُستحى من الكتم عليها : المال لنفي التهمة ، والجوهر لنفاسته ، الدواء للاحتياط من العدو » (١) والمراد بالعدو هنا من يسيء استعمال الدواء.

ما هي العقوبات التي تقع على من كشف سرّ مريضه في حالة المنع ؟

قد يقال : إنّ العقوبة في هذه الصورة منوطة بنظر الحاكم الشرعي في تعزير وتأديب الطبيب ، وقد يكون التأديب بالتأنيب أو عدم مزاولة مهنته لمدّة معينة ، أو الحبس أو الضرب كبقية المحرمات التي تصدر من الفرد المخالف للشرع. وقد تكون الطلب بتعويض عما اُلحق بالمريض وسمعته من جرّاء الاباحة بسرّ مرضه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي : ج ٢ ، ص ٢٨٩.

٣١٢

٣١٣

٣١٤

مسؤولية الطبيب

إنّ الله سبحانه قد أمر المريض بمراجعة الطبيب عند حدوث علامات المرض فيه ، إذ الطبيب هو الذي يستطيع أن يقدّم للمريض المعونة بتخفيف آلامه أو انقاذ حياته ، لهذا فإن الطبيب يتحمل اعظم مسؤولية في هذا المجال ، سواءً على صعيد تقديم الدواء والعلاج أو على صعيد المعونة النفسية للمريض ببعث الأمل واعادة الثقة في النفس ، لهذا نرى أن مسؤوليات الطبيب بالنسبة لنفسه وبالنسبة لمن يفترض أن يعالجه هي كثيرة ومتنوعة من ناحية التشريع الإسلامي ، ونحن نجمل هنا ما أمكن منها :

١ ـ المبادرة إلى علاج المريض :

فلا يجوز له التعلّل بعدم الأجر أو قلته ، إذ يؤدّي هذا إلى فسح المجال للمرض بالفتك بصاحبه إذا ضعفت قدرات المريض ومناعاته. وهذا الوجوب يختص بحالة الطوارئ التي لا مجال لتأخير العلاج إلى وقت لاحق ، أمّا إذا كان العلاج قابلاً لتأخيره إلى وقت لاحق فمن حقّ الطبيب أن يؤخره لسبب أو لآخر.

٣١٥

٢ ـ عدم التمييز بين الغني والفقير :

إنّ الواجب الشرعي الكفائي أو العيني يوجب على الطبيب العمل على تخفيف آلام البشر أو انقاذهم من الموت ، وهذا أمر لا يفرق فيه بين الغني والفقير ، وقد عرفنا أنّ الإسلام يفضّل بين البشر بالعمل الصالح والتقوى ، إلاّ أن هذه الأفضلية لا تكون موجبة للتمييز في الحقوق والواجبات ، بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس فضلا عن الوضع الاجتماعي ( الغنى والفقر ). وقد ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام قوله : « من لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني لقي الله عزّوجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان » (١).

٣ ـ إقدام الطبيب على ما تخصّص به ( ما يعرف به ) :

ومن الواضح أن الطبيب لا يجوز له أن يتصدّى لمعالجة أمراض لا يعرف عنها شيئاً ، إذ يكون في هذه الحالة كالجاهل الذي يقدم على المعالجة ، وحينئذ يجوز للإمام ( الحاكم الشرعي المتصدّي لقيادة الاُمة المتمثّل بوزارة الصحة مثلاً ) محاسبته.

٤ ـ بذل الجهد :

وممّا يجب على الطبيب بذل الجهد في معالجة المريض ، من حذاقته وامانته وتقواه ونصحه للمريض وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خصال يجتلب بها المكسب ، وهو : أن يكون حاذقاً بعمله ، مؤدّياً للأمانة فيه ، مستميلاً لمن استعمله » (٢).

وقد قيل : إنّ معنى الطب هو الحذق بالأشياء وإن كان في غير علاج المريض ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٨ ، ب ٣٦ من أحكام العشرة من الحجّ ، ح ١.

(٢) البحار : ج ٧٨ ، ص ٢٣٦.

٣١٦

ورجل طبيب أي حاذق ، سمي بذلك لحذقه (١).

وقد ورد عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : « من تطبب فليتَّقِ الله ولينصح وليجتهد » (٢).

وبهذه المسؤولية يكون الطبيب أداةَ خير للإنسان كما أراده الإسلام ، فيندفع للقيام بواجباته الشرعية والإنسانية على النحو الأكمل.

٥ ـ الرفق بالمريض ورفع معنوياته :

وقد ورد في بعض النصوص التعبير عن الطبيب « بالرفيق » فعن الإمام علي عليه‌السلام : أنّه قال : « كن كالطبيب الرفيق الذي يدع الدواء بحيث ينفع » (٣).

وفي رواية عن الإمام الرضا عليه‌السلام أنّه قال : « سمعت موسى بن جعفر عليه‌السلام وقد اشتكى فجاء المترفقون بالأدوية ، يعني الأطباء » (٤).

وفي بعض النصوص : « أنّ الله عزّوجلّ الطبيب ولكنّك رجل رفيق ». وفي نصٍّ آخر : « أنت الرفيق والله الطبيب » (٥).

ومن الواضح أن المريض بما أنّه لم يتمكّن من التغلب على مرضه فهو ضعيف بسبب شعوره بالألم والمتاعب ، فإذا انهارت نفسه تبعها الانهيار الجسدي لا محالة ، ولذا فقد اهتمت الشريعة برفع معنويات المريض وربط أمله بالله وتسهيل أمر مرضه وفتح الأمل أمام مريضه ، وبهذا يكون العلاج الجسدي أمراً ثانوياً.

__________________

(١) الطب النبوي لابن القيم : ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) البحار : ج ٦٢ ، ص ٦٥.

(٣) البحار : ج ٢ ، ص ٥٣.

(٤) الفصول المهمّة : ص ٤١٥.

(٥) كنز العمال : ج ١٠ ، ص ١ و ٨.

٣١٧

٦ ـ غض البصر عن المحارم :

فقد عرفنا من الشريعة أنَّها اوجبت غض البصر عن المحارم إلاّ في صورة الضرورة إلى ذلك فيقتصر عليها ، وإذا تمكّن للطبيب علاج مريضه بدون نظر ، بل يكتفي بما يسمعه من كلام مريضه فيقتصر عليه ، وإذا حكمت الضرورة للنظر المحارم فلا يجوز اللمس ، وإذا اضطر إلى اللمس القليل فلا يجوز له اللمس الكثير.

٧ ـ العلاج بغير دواء ، أو بالدواء القليل :

إنّ الروايات الكثيرة التي تؤكّد على عدم تناول الدواء ما احتمل البدن الداء أو مع عدم الحاجة إلى الدواء (١) هي كافية في الاستدلال على هذا الأمر. وقد ورد عن الإمام الكاظم عليه‌السلام قوله : « ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم فإنّه بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره » (٢). وقد ورد في بعض النصوص : « ليس فيما أصلح البدن اسراف ، إنّما الاسراف فيما أتلف المال وأضرّ البدن » (٣) ( ٤).

والخلاصة : أنّ المسؤولية التي تجب على الطبيب هي عبارة عن مزاولة عمله بصورة جيدة ، ومخالفة هذه المسؤولية يكون عند تحقّق شرطين :

أحدهما : وجود الأذى والضرر بالمريض.

وثانيهما : وجود صلة بين الضرر الحاصل والخطأ الذي وقع فيه الطبيب ، ولم يكن له حقّ للوقوع بهذا الخطأ.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢ ، ب ٤ من الاحتضار ، أحاديث الباب.

(٢) البحار : ج ٨١ ، ص ٢٠٧.

(٣) الكافي : ج ٦ ، ص ٤٩٩ ، الوسائل : ج ١ ، ص ٣٩٧ و ٣٩٨ وغيرهما.

(٤) لخّصنا بحث « مسؤولية الطبيب » مع تصرفات فيه من كتاب الآداب الطبية في الإسلام ، للسيد جعفر مرتضى العاملي من ص ١١٠ ـ ١٢٢.

٣١٨

مداواة غير المسلم للمسلم ( استطباب غير المسلم )

إنّ الاستطباب كعمل فرديٍّ يقوم به الإنسان قد يُحتاج فيه إلى مراجعة غير المسلم من يهود أو نصارى أو ملحدين ، فهل هناك منع من هذا الاستطباب شرعاً ؟

الجواب : لا يمنع الإسلام من مداواة غير المسلم للمسلم ، بل وردت الروايات التي تجعل هذا الأمر جائزاً.

فقد ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يداويه النصراني واليهودي ويتّخذ له الأدوية ؟ فقال ٧ : لا بأس بذلك إنّما الشفاء بيد الله » (١).

وعن عبد الرحمان بن الحجاج قال : « قلت للإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : إنّي احتجت إلى طبيب نصرانيٍّ ( اُسلّم عليه وادعو له ) قال : نعم ، إنّه لا ينفعه دعاؤك » (٢).

وواضح في هذه الرواية مفروغية جواز التطبيب عند النصراني ، إنّما كان السؤال عن السلام عليه والدعاء له ، وقد أقرّ الإمام عليه‌السلام التطبيب ، وذكر أن الدعاء لا ينفعه.

وقد حدثت ممارسات عملية لمداواة المسلمين من قبل غيرهم في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما نقل ذلك التاريخ.

على أنّه يكفينا عدم وجود الردع من قبل الشارع المقدّس لهذا التطبيب ، فعند الشك نحكّم البراءة والجواز. وعلى هذا فيكون الإسلام قد اهتم بالكفاءات في العلوم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، ب ١٣٦ من الأطعمة المباحة ، ح ٧.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٨ ، ب ٥٣ من احكام العشرة ، ح ١.

٣١٩

ولكن لا ننسى أن هذا الجواز ـ الذي هو عبارة عن عدم الاقتضاء للمنع ـ قد يؤدّي في حالات معينة إلى التأثير في عقيدة المسلم أو سلوكه ، أو يوجب مودّة للكافرين ، وقد أمر الله تعالى بمودّة المؤمنين دون الكافرين ، قال تعالى : ( لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه اُولئك حزبُ الله ألا إنّ حِزبَ الله هم الملفحون ) (١).

فإذا حصلت هذه الحالة ـ وهي مودّة الكافرين من هذه المعالجة ـ فيقدم المنع على الجواز ؛ لأنّ المنع اقتضائي والجواز لا اقتضائي.

نعم ، إذا اضطر الإنسان إلى المعالجة عند غير المسلم وكان مع هذه المعالجة مودّة لهم ، فنحكّم قانون التزاحم هنا فنقدم أهم الأمرين.

هل يمكن أن تقوم نقابة الأطبّاء أو شركة التأمين بدور العاقلة ؟

ممّا لا إشكال فيه أنّ الذي أقدم على جناية خطئيّة محضة عليه الدية والكفارة ، كما ذكرت ذلك الآية القرآنية ( ومَنْ قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة أو دية مسلّمة إلى أهله ... ) (٢).

ولكن جاءت الروايات الكثيرة والصحيحة تذكر لنا حكماً تكليفياً محضاً ، مفاده : أن العاقلة يجب عليها في هذه الصورة تحمّل الدية.

نقول : إنّ هذا التكليف في دفع الدية على العاقلة هو نوع تكليف شرعي

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) النساء : ٩٢.

٣٢٠