بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٢٢١

٢٢٢

المقدمة :

إنّ من الموضوعات المهمّة التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي ـ بجدة في دورته العاشرة ـ هو التذكية الشرعية وطرقها الحديثة ، الذي سوف نتعرض فيه إلى معنى التذكية وشروطها الشرعية ، لنخلص إلى أنّ الذبح بالمكائن الحديثة هل يطلق عليه ، أو يمكن أن يطلق عليه التذكية الشرعية إذا روعيت فيه شروط التذكية الشرعية ؟

كما أننا سوف نتعرض ثانياً إلى حكم ما جهل إسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ، أو بالأحرى نتعرض إلى حكم ما جهل تحقّق أحد شروط التذكية الشرعية ممّا حلّ أكل لحمه ، ليكون البحث أكثر نفعاً وأعمّ ممّا طرح في موضوع الذبائح.

كما أنّنا سوف نتعرض لحكم اللحوم المستوردة التي ابتلي بها المسلمون في هذه الأيام وغزت الدول الإسلامية. وطبيعي سوف يقتصر كلامنا على تذكية البهائم والطيور التي تقع عليها الذكاة مع القدرة عليها.

التذكية لغةً :

التذكية هي الذبح ، وذكّيتم أي ذبحتم ، والذبح ـ بالفتح ـ هو قطع الحلقوم من

٢٢٣

باطنٍ عند النصيل ، وهو موضع الذبح من الحلق ، وأصل الذبح هو الشق ، وهو مصدر قولك : ذبحتُ الحيوان فهو ذبيح ومذبوح (١).

التذكية شرعاً :

وأمّا التذكية الشرعية فقد وقع الاختلاف في معناها عند الفقهاء ، فقد ذكر مشهور علماء الإمامية : أنّ التذكية عبارة عن قطع الأعضاء الأربعة التي هي :

المريء : وهو مجرى الطعام.

والحلقوم : وهو الحلق ومجرى النفس.

والودجان : وهما عرقان محيطان بالحلقوم.

هذا ، وذكر صاحب نهاية الكرام ومحكي المهذب الإجماع عليه (٢).

ولكن ذهب الأسكافي إلى أنّ التذكية عبارة عن قطع الحلقوم وخروج الدم ، وقد ذكر في الدروس أنّه يظهر من الخلاف ، ومال إليه الفاضل ، وربما مال إليه في المسالك (٣).

ولعلّ دليل المشهور هو صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج قال : « سألت الإمام أبا إبراهيم ( الإمام الكاظم عليه‌السلام ) ... فقال : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (٤).

فإنّ مفهومها ثبوت البأس إذا لم تفر ( تقطع ) الأوداج.

وأمّا دليل المخالف للمشهور فقد ذكرت صحيحة زيد الشحّام عن الإمام

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ذكى وذبح ، ولسان العرب مادّة ذبح.

(٢) راجع جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ١٠٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢ من الذبائح ، ح ١.

٢٢٤

الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ... إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس » (١).

وبما أنّ النسبة بين صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وصحيحة زيد الشحّام العموم من وجه ، حيث يجتمعان في صورة ما إذا قطع الحلقوم والأوداج الثلاثة ، ويفترقان في صورة قطع الحلقوم بدون الأوداج ، أو قطع الأوداج الثلاثة بدون الحلقوم ، فيقع التعارض بينهما في صورة قطع الحلقوم فقط ، خصوصاً إذا نظرنا إلى أن التذكية حكم شرعي يحتاج إلى التوقيف.

وقد نقل صاحب الجواهر قدس‌سره إمكان أن لا تكون معارضة بين صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وصحيحة زيد الشحّام ، بناءً على ما ذكره المقداد « من أنّ الأوداج الأربعة متصلة بعضها مع بعض ، فإذا قطع الحلقوم أو الودجان فلابدّ أن ينقطع الباقي معه ، ولعلّه كذلك في الذبح المتعارف المسؤول عنه في النصوص ، لا ما إذا قصد الاقتصار على أحدها ... وحينئذ فالانتهاء بالذبح المتعارف إلى منتهى الحلقوم يستلزم قطع الجميع ، لأنّها مع اتصالها به على وجه الإحاطة ونحوها لا يزيد عرضها على عرضه ... » (٢).

ومع تحكيم المعارضة فإذا شككنا في حصول التذكية الشرعية بقطع الحلقوم وجريان الدم فالأصل عدمها ، كما أنّ التقديم يكون ما ذكره المشهور ـ من معنى التذكية الشرعية ـ على ما ذكره غيره كما هو واضح.

وقد وقع الخلاف أيضاً في معنى التذكية الشرعية عند أهل السُنَّة ، فقال بعض : « يعتبر قطع الحلقوم والمريء ، وبهذا قال الشافعي. وعن أحمد رواية اُخرى : أنّه يعتبر مع هذا قطع الودجين ، وبه قال مالك وأبو يوسف ، لما روى أبو هريرة قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد

__________________

(١) المصدر السابق ح ٣.

(٢) جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ١٠٦ ـ ١٠٧.

٢٢٥

ولا تفري الأوداج ، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود. وقال أبو حنيفة : يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين » (١).

ولكن اتّفق علماء السنة على أنّ الأكمل في التذكية هو قطع الأوداج الأربعة (٢).

الشروط الشرعية للتذكية

لقد ذكر الفقهاء شروطاً في الذبح ، وهي :

أولاً : اسلام الذابح :

وهذا شرط ذهب إليه مشهور الإمامية ، ودلّت عليه روايات كثيرة ، منها :

صحيحة سليمان بن خالد قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن ذبيحة الغلام والمرأة هل تؤكل ؟ فقال عليه‌السلام : إذا كانت المرأة مسلمة فذكرت اسم الله على ذبيحتها حلّت ذبيحتها ، وكذلك الغلام إذا قوي على الذبيحة فذكر اسم الله ... » (٣). وبما أنّ الأحكام يشترك فيها الرجل والمرأة فتدل على المطلوب.

أمّا ذبيحة الكافر فإنّ كان وثنيّاً أو ملحداً أو مرتداً أو مغالياً أو ناصبيّاً (٤)

__________________

(١) المغني لابن قدامة : ج ١١ ، ص ٤٤ ـ ٤٥ ، الشرح الكبير : ج ١١ ، ص ٥١.

(٢) المصادر المتقدّمة نفسها.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢٣ من الذبائح ، ح ٧ وغيره.

(٤) حدث لآية الله الشيخ محمد المؤمن « حفظه الله تعالى » حدث في الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في بروناي « دار السلام » حيث قدم بحثه المعنون ببطاقة الائتمان ، وكان يصدره بالسلام على النبي وآله ولعن أعدائهم. فأثارت كلمة « لعن اعداء أهل البيت عليهم‌السلام » بعض الحضّار حيث طبق عنوان الاعداء على نفسه ومن وافقه ، واعتبر هذا من اللعن المبطّن لهم ولبعض الصحابة. ثم طلب الرئيس رفع البحث من

٢٢٦

ونحوهم فذبيحته محرَّمة عند الإمامية « بل في المسالك وغيرها : أنّه مجمع عليه بين المسلمين » (١).

وإنّ كان الكافر كتابيّاً فالأقوال ثلاثة عند الإمامية ، ثالثها التفصيل بالحلّية مع سماع لتسميتهم ، والحرمة مع عدمها.

ولكن المشهور شهرة عظيمة ـ عند الإمامية ـ حرمة ذبيحته ، « بل استقرّ الإجماع في جملةٍ من الأعصار المتأخرة عن زمن الصدوقين على ذلك ، بل والمتقدّمة كما حكاه المرتضى أو الشيخ بعد اعترافهما بأنّهُ من منفردات الإمامية ، بل

__________________

طاولة الاجتماع وهكذا كان.

أقول : للتوضيح ان كلمة : أعداء أهل البيت تختلف عن كلمة : المخالفين لأهل البيت. وأهل السُنَّة ( باستثناء النواصب ) يعتبرون عند الإمامية من المخالفين لا أعداء لأنّ العدوّ وهو الناصبي يُعتبر منكراً لضرورة قرآنية وهي « محبة أهل البيت » فيكون كافراً. بينما المخالف لا يحكم بكفره لانه ليس عدواً لأهل البيت وان كان قد خالف طريقتهم باعتقاد الامامية فالمخالف ليس منكراً لمحبة أهل البيت ، بل قد يفتخرون بمحبتهم ويطلبون الشفاعة منهم استناداً إلى تعاليم القرآن التي أمرت بمحبتهم.

ولكن وللأسف طبق بعضٌ على نفسه العداء لأهل البيت واعتبر نفسه هو الملعون.

وهذا التطبيق الذي حصل لا يرتضيه حضّار المجمع بالتأكيد ، إذ فيه من اللوازم ما لا يقبله المسلم فكان الأنسب لرئيس المجمع ان لا يتخذ قراراً برفع البحث عن طاولة المؤتمر وينسبه إلى المجتمعين ولكن الذي حصل خلاف ذلك وهو نقطة غير مضيئة في تاريخ هذا المجمع. غفر الله للجميع.

ومن الطريف ما حدث في الدورة العاشرة ، للمجمع حيث زفّ الأمين العام للمجمع « الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه » بشرى طبع المجمع كتاب « المدخل المفصّل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب » لرئيس المجمع الدكتور « بكر بن عبد الله أبو زيد ». وحينما تصفحت الجزء الأول منه تذكرت هذه الحادثة السابقة حيث وجدت السبّ واللعن لمن لم يرتأي رأي صاحب الكتاب ومسلكه وهو كثير جداً.

اللهم نسألك العفو والارتفاع عمّا لا يرضي الله سبحانه وتعالى والحمد لله أولاً وآخراً ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ٧٩ ـ ٨٠.

٢٢٧

كاد يكون من ضروريات المذهب في زماننا ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة التي إن لم تكن متواترة بالمعنى المصطلح فمضمونها مقطوع به ... » (١).

نعم ، هناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تجوّز أكل ذبائحهم ، إلاّ أنّ هذه الروايات المجوّزة مطلقاً أو المفصّلة قد بلغت من الاختلاف الشديد ( حتى عدّ صاحب الجواهر اثني عشر وجهاً من هذه الروايات ) ما يوجب القطع بأنّها لم تصدر لبيان الحكم الواقعي (٢).

أقول : إنّ الأدلّة الدالة على إسلام الذابح ، والروايات القائلة بعدم أكل ذبائح أهل الكتاب والناهية عن ذبحهم إن كانت مرشدةً إلى ميتة المذبوح فهي تعارض الروايات المجوّزة لأكل ذبائح أهل الكتاب ، وحينئذ نأخذ بروايات التحريم ، للترجيح. ومع تحكّم المعارضة فإنّ الشك في حلية الذبيحة يؤدي إلى جريان أصل عدم التذكية الشرعية ، خصوصاً إذا علمنا أنّ التذكية حكم شرعي يحتاج إلى التوقيف (٣).

أمّا علماء أهل السنة فقد اتّفقوا على حلّيّة ذبيحة الكتابي ، مستندين إلى قوله تعالى : ( وطعام الذين اُوتوا الكتاب حِلٌّ لكم ) حيث فُسِّر الطعام بالذبائح ، لما رواه البخاري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة من أنّ طعامهم يعني ذبائحهم.

وقد اختلفوا في ذبائح العرب من أهل الكتاب ، وذبائح نصارى بني تغلب ، ومن كان أحد أبويه غير كتابي ممّا لا يحلّ ذبيحته. وقد استدلّوا لحلّيّة ذبائحهم أيضاً بعموم الآية القرآنية (٤). كما قد اختلفوا فيما يذبحه الكتابي لكنيسته وأعياده ،

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) راجع جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ٨١ ـ ٨٥.

(٣) التذكية أمر وجودي سواء كان عبارة عن الأفعال المخصوصة التي اشترطها الشارع أو شيئاً بسيطاً حاصلاً منهما.

(٤) راجع الشرح الكبير : ج ١١ ، ص ٤٦ ـ ٤٧ ، المغني : ج ١١ ، ص ٣٥.

٢٢٨

فحرَّمه بعض لأنّه اُهلّ به لغير الله ، وأحلّه بعض استناداً إلى عموم آية ( وطعام الذين اُوتوا الكتاب حِلٌّ لكم ) (١).

أقول : جاء في لسان العرب : « وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُرّ خاصة ... قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البُرّ خاصة » (٢) وهذا هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية.

ثم إنّ الروايات المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام (٣) تؤكّد أنّ المراد من الطعام في الآية هو البُرّ وسائر الحبوب ، فكأنّ الروايات عن أهل البيت تقول : إنّ الآية نزلت على لغة أهل الحجاز.

فعلى هذا لا يشمل هذا الحلّ لحوم أهل الكتاب.

على أنّ حلية ذبائح أهل الكتاب من دون توفر شروط حلية الذبيحة التي منها التسمية يؤدّي إلى نتيجة قد لا يلتزم بها أحد من المسلمين ، وهي كون أهل الكتاب أحسن حالا من المسلمين عند الله تعالى ، لأنّ المسلم إذا ذبح من دون تسمية عمداً حرمت ذبيحته ، أمّا الكتابي الذي يذبح من دون تسمية تحلّ ذبيحته للمسلمين ، على أنّ التمسّك بحلية كل (٤) طعامهم يلزم أنّ تحلل الخمر والخنزير ، فهل يمكن الالتزام بهذه النتائج ؟!

ولهذه النتيجة التي لا يلتزم بها مسلم ذهب الإمامية إلى أنّ حليّة الحبوب أيضاً جهتية ، بمعنى عدم المانع من طعامهم من ناحية كونهم أهل كتاب لا من الجهات الاُخرى.

__________________

(١) المغني : ج ١١ ، ص ٣٧.

(٢) لسان العرب : ج ١٢ ، باب طعم.

(٣) راجع وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢٦ من الذبائح وب ٢٧.

(٤) لأنّ كلمة طعام عامّة تشمل كل طعام لهم.

٢٢٩

ثانياً : التسمية من الذابح :

وهذا الشرط لا خلاف فيه عند الإمامية في حلّ الأكل ، قال تعالى : ( ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه وإنّهُ لفسق )(١). وقد خصّصت الروايات هذا الشرط في صورة التذكّر ، ففي صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام « أنّه سأله عن الرجل يذبح فينسى أن يُسمّ أتؤكل ذبيحته ؟ فقال عليه‌السلام : نعم ، إذا كان لا يتّهم » (٢) بمعنى تصديقه بدعوى النسيان إذا كان مسلماً يرى وجوب التسمية. وعلى هذا فسيكون الجاهل بالتسمية كذلك إذا كان لا يتّهم ، بمعنى تصديقه بدعوى جهله بوجوب التسمية ، وإن كان هناك من يذهب إلى حرمة ذبيحة الجاهل ؛ لعدم النص على حلية ذبيحته ، فيدخل تحت إطلاقات حرمة مالم يذكر اسم الله عليه.

والتسمية عبارة عن ذكر اسم الله تعالى مع التعظيم ، كقوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، أو بسم الله والله أكبر ، ونحوهما ، كما يفهم ذلك العرف من ذكر اسم الله تعالى. أمّا ذكر كلمة الله لوحدها فيشك في تحليلها للأكل فتجري أصالة عدم التذكية.

هذا ، وقد ذكر مشهور علماء أهل السنّة شرطها في حال الذكر أيضاً ، وتسقط بالسهو ، ولكن ذهب الإمام أحمد في أحد قوليه إلى استحبابها ، وبه قال الشافعي (٣).

ثالثاً : أن يستقبل بالذبيحة القبلة :

وقد ذهب إلى اشتراطه الإمامية وبعض من غيرهم كما سيأتي ، ففي حسن

__________________

(١) الأنعام : ١٢١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١٥ من الذبائح ، ح ٣.

(٣) راجع المغني لابن قدامة : ج ١ ، ص ٣٢ ـ ٣٣.

٢٣٠

محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « سألته عن الذبيحة ؟ فقال عليه‌السلام : استقبل بذبيحتك القبلة » (١).

وصحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام وقد سئل عن الذبيحة تذبح لغير القبلة ؟ فقال عليه‌السلام : « لا بأس إذا لم يتعمد » (٢) ، ومفهومها ثبوت البأس مع التعمد للذبح لغير القبلة ، وحينئذ تكون الذبيحة حلالا في صورة النسيان والجهل بجهة القبلة.

ولا ريب أنّ هذا الشرط إنّما يشترط الاستقبال بمقاديم الذبيحة التي منها مذبحها ، ولا يشترط استقبال الذابح معها ، خصوصاً بملاحظة النصّ القائل : « استقبل بذبيحتك القبلة ».

أمّا مشهور علماء أهل السُنّة فقد جعلوا الاستقبال سُنّة ، ولكن قد اشترط الاستقبال ابن حبيب ، فقد جاء في الجواهر الثمينة قوله : « وأمّا الذبح فقال محمد : السُنَّة أن تضجع الذبيحة برفق على الجانب الأيسر مستقبلة القبلة ، ورأسها مشرف ... فإن لم يستقبل القبلة ساهياً أو لعذر اُكلت ، ولو تعمد الترك اُكلت أيضاً على المشهور. وقال ابن حبيب : لا تؤكل » (٣).

رابعاً : أنّ تكون الآلة من حديد :

لقد ذكر الفقهاء من الإمامية عدم صحة التذكية إلاّ بالحديد مع القدرة عليه ، وقد دلّت على ذلك الروايات :

منها : صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت الإمام الباقر عليه‌السلام عن الذبيحة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١٤ من الذبائح ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٤.

(٣) الجواهر الثمينة : ج ١ ، ص ٥٨٩ ، وراجع المغني : ج ١١ ، ص ٤٦ ، الشرح الصغير : ج ٢ ، ص ١٧٢.

٢٣١

بالليطة وبالمروة ؟ فقال عليه‌السلام : لا ذكاة إلاّ بحديد » (١).

ومنها : صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن ذبيحة العود والحجر والقصبة ؟ فقال عليه‌السلام : قال علي عليه‌السلام : لا يصلح إلاّ بالحديدة » (٢).

ومنها : صحيحة زيد الشحّام عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة ... » (٣).

ومن هذه الروايات يفهم أنّ الإمام عليه‌السلام نفى أن يكون الذبح مع القدرة على الحديد بالعود والحجر والقصبة. وهذا واضح ولكن ما المراد من الحديد أو الحديدة ؟

الجواب : لقد ذكرت كتب اللغة للحديد معاني منها :

١ ـ الحادّ ، ومنه قوله تعالى : ( فبصرك اليوم حديد ) أي حاد ( أو نافذ ) وصيغ للمبالغة. فحديد فعيل بمعنى فاعل ( أي حاد ) وحديد صيغ مبالغةً من الحادّ.

٢ ـ القطعة من الحديد وهو الفلز المعروف في مقابل بقية الفلزات ، ومنه « خاتم حديد » ، واسم الصناعة : الحدادة ، والحدّاد معالج الحديد (٤).

وحينئذ فهل المراد من الحديد :

المعنى الأول الاشتقاقي وهو الحادّ ومؤنثه حديدة ، أي القطعة الحادّة القاطعة بحدتها التي شاع استعمالها في السلاح ( آلة الذبح والقتل والقطع ) وهي ما

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١ من الذبائح ، ح ١.

والليطة : بفتح اللام وهي القشر الظاهر من القصبة. والمروة : وهي الحجر الذي يقدح النار. قال في لسان العرب المرو : حجارة بيضٌ برّاقة تكون منها النار ويقدح منها النار ، واحدتها مرو. ( مادة مرا ).

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١ من الذبائح ، ح ٢.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢ من الذبائح ، ح ٣.

(٤) مجمع البحرين ج ٣ ، ولسان العرب ج ٣ مادّة ( حديد ).

٢٣٢

يعدّ ويصنع من المعادن الصُلبة على شكل سكين أو سيف أو مدية أو شفرة في الزمن القديم وعلى شكل آخر في الوقت الحاضر لأجل القتل والجرح ؟

أو المعنى الثاني وهو المعدن الخاص المعروف وهو معنى جامد ومؤنثه حديدة أيضاً ؟

والجواب : لقد ذهب مشهور علماء الإمامية إلى المعنى الثاني ، بل ادّعي عليه الاتفاق والإجماع ، كما سيأتي عن صاحب الجواهر قدس‌سره.

ولكن نقول (١) : إنّ المراد من الحديد هو المعنى الأول وهو الحاد ، وذلك لعدّة قرائن هي :

١ ـ إنّ مقتضى المقابلة بين الحديد وبين العود والحجر والقصبة في الروايات يعني النظر إلى حيثية المحدّدية ، أمّا لو كان النظر إلى حيثية الفلز الخاص لكانت المقابلة بين الحديد وبين بقية الفلزات من الرصاص والنحاس وغيرهما.

٢ ـ إنّ بعض الروايات ذكرت السكين بدلا من الحديدة في سؤال السائل ، ممّا يدلّ على أنّ الحديد في تلك العصور يطلق على الحاد القاطع بصورة واضحة ، وهو المراد من الحديد في بقية الروايات.

ففي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا إبراهيم ( الإمام الكاظم عليه‌السلام ) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهن الإنسان إذا لم يجد سكيناً ؟ فقال عليه‌السلام : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (٢). وكذلك صحيحة زيد الشحّام قال : « سألتُ الإمام الصادق عليه‌السلام عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح

__________________

(١) إنّ هذا الرأي الذي انتهينا إليه ـ وهو أنّ المراد من الحديد الحاد القاطع ـ لم يكن هو الرأي المتبنى عند علماء الإمامية ، ولكن ساقنا إليه الدليل ، وقد تبنّاه آية الله السيد محمود الهاشمي حسب ما جاء في مقالته المنشورة في مجلة فقه أهل البيت : العدد ١ / ص ٢٩ ـ ٧٦.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢ من الذبائح ، ح ١ ، وفي الخبر : « مَنْ وُلِّيَ قاضياً فقد ذبح نفسه بغير سكين » مجمع البحرين : مادّة ذبح.

٢٣٣

بقصبة ؟ فقال عليه‌السلام : اذبح بالحجر والعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة » (١).

وهاتان الروايتان وإن وردتا في مقام عدم القدرة على السكين ( الحديد ) إلاّ أنّهما توضّحان المراد من الحديد الوارد في الروايات الاُخر ، بأنّ المراد منه السكين القاطع ( الحاد ) لا الفلز الخاص ، حيث كان سؤال الراوي في صورة عدم وجود السكّين ، وكان الجواب مبنيّاً على عدم وجود الحديد ، فيفهم أنّ الحديد هو السكّين الذي سأل السائل عن عدم وجوده.

٣ ـ لا يمكن أن يكون المراد من الحديد هو الفلز الخاص المعروف وإن لم يكن محدّداً ، إذ لو كان الفلز المخصوص على شكل عصا فلا يصلح الذكاة به اتفاقاً ، وما ذلك إلاّ لأنّها ليست حديدة بالمعنى الأول ( الحاد ). وبهذا يفهم أنّ الحديد الوارد في الروايات قد اُخذ فيه معنى المحدّدية.

٤ ـ إنّ روايات أهل السنّة في هذا الشرط المنقولة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرد فيها التعبير بالحديد ، بل ورد الذبح بمحدد يقطع أو يخرق ، فقد ذكر علماء السُنّة أنّه يشترط في آلة الذبح شرطان (٢) :

أ ـ أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدّها لا بثقلها.

ب ـ أن لا تكون سنّاً أو ظفراً.

وهذه الروايات تلقي الضوء على المراد من الحديد في رواياتنا ، فتكون قرينة على أن الحديد الوارد في رواياتنا هو الحادّ القاطع لا الفلزّ الخاص.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢ من الذبائح ، ح ٣.

(٢) راجع عقد الجواهر الثمينة : ج ١ ، ص ٥٨٦ ، والمغني لابن قدامة : ج ١١ ، ص ٤٣ ، والشرح الصغير : ج ٢ ، ص ١٥٥.

٢٣٤

٥ ـ قد وردت روايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤكّدة على لزوم تحديد الشفرة ( السكين الحاد ) وإراحة الذبيحة عند الذبح ، ممّا يؤيّد أنّ المراد من الحديد هو الحاد ، سواء كان من جنس الحديد أو بقية الفلزات.

فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّ الله تعالى شأنه كتب عليكم الإحسان في كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » وفي حديث نبوي آخر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أن تحدّ الشفار ، وأن توارى عن البهائم (١).

وقد ذكر في المسالك : من وظائف الذبح تحديد الشفرة وسرعة القطع ناسباً لها إلى النص (٢).

٦ ـ معتبرة الحسين بن علوان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي عليه‌السلام أنّه كان يقول : « لا بأس بذبيحة المروة والعود وأشباههما ، ما خلا السِنّ والعظم » (٣).

إشكال :

هل اُخذت خصوصية الحادّ والفلز المخصوص في آلة الذبح ؟

بمعنى أنّ الروايات التي ذكرت أنّه لا ذكاة إلاّ بحديد أو حديدة قد نظرت إلى كون الآلة من الفلز الخاص المعروف وأن يكون محدداً ، وبهذا لا يجوز الذبح بغير الحاد من الفلز الخاص ، كالسكين من الذهب أو الرصاص أو غيرهما.

__________________

(١) سنن البيهقي : ج ٩ ، ص ٢٨٠.

(٢) جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ١٣٣.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢ من الذبائح ، ح ٥.

أقول : مقتضى الصناعة يدلّ على أن الجمع بين : « لا ذكاة إلاّ بحديد » و « لا بأس بذبيحة المروة والعود واشباههما » هو أن الأفضل أن يكون الذبح بآلة محددة كما سيأتي ذلك.

٢٣٥

الجواب : أنّ بين معنى الحديد بمعنى الحاد ، ومعنى الحديد بمعنى الفلز الخاص تبايناً ، كما أنّهما قد يجتمعان في مصداق واحد وقد يفترقان ، وحينئذ إذا كان المراد من الحديد كلتا الخصوصيتين المتباينتين في المعنى فهو استعمال لمادّة الحديد في كلا المعنيين ، وهو غير جائز كما بيِّن ذلك في الاُصول.

وحينئذ إمّا أنّ يكون المراد من الحديد الحادّ كما هو ظاهر المقابلة بين الحديد والحجر والقصبة ، أو يكون المراد من الحديد الفلز المعروف.

وبما أنّنا قد ذكرنا عدّة قرائن لإرادة الحادّ من الحديد فيتعين ارادته من الحديد.

وبهذا نخلص إلى أنّ آلة الذبح في الحالات الاعتيادية لابدّ أن تكون حادة قاطعة نافذة ، في قبال الحجر والقصب والعصا واشباه ذلك ممّا لم يكن حاداً بطبعه.

الإجماع على لا بدّية الفلزّ الخاص ( الحديد ) :

قد يدّعى الاجماع عند الإمامية على خصوصية الفلزّ الخاص في الذبح ، بالاضافة إلى فتوى الفقهاء بذلك ، وهذا يجعلنا نشك في النتيجة التي توصلنا إليها من عدم الخصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) في الذبح وإمكان الذبح بكلّ فلزٍّ حاد ، سواء كان حديداً أو نحاساً أو غيرهما ، فهل هذا الاجماع حجّة يمنعنا من التمسّك بالنتيجة السابقة ؟

الجواب : لقد نقل صاحب الجواهر قدس‌سره الاجماع فقال : « وأمّا الآلة فلا تصح التذكية ذبحاً أو نحراً إلاّ بالحديد مع القدرة عليه ، وإن كان من المعادن المنطبعة كالنحاس والصفر والرصاص والذهب وغيرهما بلا خلاف فيه بيننا ، كما في الرياض ، بل في المسالك ( عندنا ) مشعراً بدعوى الاجماع عليه كما عن غيره ، بل في كشف اللثام اتفاقاً كما يظهر لأنّه المتعارف في التذكية على وجه يشك في تناول

٢٣٦

الاطلاق لغيره من القدرة عليه ، فيبقى على أصالة العدم » (١).

ولكنّ عبارة الجواهر « النافية للخلاف في الرياض والمثبتة للاتفاق في كشف اللثام ونقله لعبارة المسالك ( عندنا ) المشعرة بدعوى الاجماع » نفسها تدلّ على عدم وجود اجماع ولا ادعاء اجماع عند المتقدّمين ، بل والمتأخرين ، وذلك لأنّ زمان صاحب الرياض وكشف اللثام يعدّ ـ بالاصطلاح ـ من زمن متأخري المتأخرين ، فيكفي في عبارة الجواهر المحيط بآراء القدماء والمتأخرين عدم نقل الاجماع عنهم.

وأمّا فتاوى العلماء المتقدّمين والمتأخرين فهي تابعة لتعبير الروايات ، فالمهم في الأمر هو معنى الروايات القائلة : « لا ذكاة إلاّ بحديد » وقد تقدّم أنّ الظاهر منها ما يكون حاداً في طبعه ، في مقابل الحجر والليطة وامثالهما ممّا لا حادّية له بطبعه.

هل توجد خصوصية للحديد ؟

أقول : ذكر المشهور وجود خصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) في مقابل الحجر والقصبة والصفر والنحاس وأمثالها ، ولابدّ أن يكون الذبح بالحديد إذا وجدت القدرة عليه ، أمّا مع عدم القدرة عليه فيجوز الذبح بالحجارة والمروة والصفر والرصاص إذا فريت الأوداج وسال الدم بصورة متعارفة.

ولكن تقدّم منّا عدم الخصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) ، بل يجوز الذبح بكل فلزٍّ حاد ، سواء كان حديداً أو نحاساً أو غيرهما من الفلزات.

أمّا الآن فنريد أن نقول بعدم وجود الخصوصية للفلز مطلقاً وإنّما العبرة بما يفري الأوداج من الأمور الحادّة ، سواء كانت فلزاً أو لا. والدليل على ذلك : أنّ

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠.

٢٣٧

المستفاد من بعض الروايات ضابطة كلية في الذبح هي قطع الأوداج أو الحلقوم وخروج الدم المتعارف ، والروايات هي :

١ ـ صحيحة زيد الشحّام ، قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح بقصبة ؟ فقال عليه‌السلام : اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة ، إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به » (١).

فجملة : « إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به » بمثابة قاعدة في حليّة الذبح ، ولكن هذه القاعدة واضحة وجلية في الذبح بالسكين والحديد ، ويخشى من الذبح بغيرها من الحجر والعود والقصب عدم تحقّقها ، فحصل السؤال وجاء الجواب.

٢ ـ صحيح عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : « سألت أبا ابراهيم ( الإمام الكاظم عليه‌السلام ) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهنّ الإنسان إذا لم يجد سكيناً ؟ فقال عليه‌السلام : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (٢).

والفهم العرفي من هذه الرواية هو أنّ السائل إنّما سأل عن الذبح بالقصبة إذا لم يجد سكيناً إنّما هو للخشية من عدم تحقّق الذبح الصحيح من قطع الأوداج وخروج الدم المتعارف ، وهذه الخشية تحصل عادة في صورة عدم وجود الشيء الحادّ بطبعه كالسكين ، وقد جاء الجواب من الإمام عليه‌السلام بأنّ اللازم هو قطع الأوداج وخروج الدم المتعارف ، وإن حصل من الليطة والحجر. وبهذا الفهم لا يكون عدم القدرة على الحديد قيداً في الذبح الصحيح كما ذكر المشهور ، بل هو سبب لحصول الشك في التذكية الشرعية بشيء لم يكن بطبعه حادّاً قاطعاً ، فحصل السؤال وجاء الجواب

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢ من الذبائح ، ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢ من الذبائح ، ح ١.

٢٣٨

مقيِّداً جواز التذكية بما هو قاطع للحلقوم وخروج الدم بصورة متعارفة ، وهو القاعدة المتقدّمة لحلّ الحيوان. ولا نرى معارضاً لهذا الفهم من الروايات ، وذلك لأنّ الروايات المعتبرة على قسمين :

القسم الأول : الروايات الناهية عن الذكاة إلاّ بالحديد ، ففي صحيح محمد بن مسلم ، قال : « سألت الإمام الباقر عليه‌السلام عن الذبيحة بالليطة والمروة ؟ فقال : لا ذكاة إلاّ بحديدة » (١).

وهذه الرواية لم تنة عن الذبح بالليطة والمروة ، بل قرّرت أنّ التذكية لابدّ أن تكون بشيء حاد ، وبما أنّ الليطة والمروة على قسمين : منه ما يكون حاداً ومنه غير ذلك فهي قد جوّزت الذبح بالمروة والليطة الحادتين ، فكأنّها قالت : لا ذبح إلاّ بالحاد.

القسم الثاني : الروايات المجوّزة للذبح بالعود والمروة وأشباههما ما عدا السنّ والعظم ، ففي معتبرة الحسين بن علوان عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أبيه ، عن علي عليه‌السلام أنّه كان يقول : « لا بأس بذبيحة المروة والعود واشباههما ما خلا السنّ والعظم » (٢).

وبما أنّ الذبح معناه القطع فيكون المعنى : لا بأس بقطع المروة والعود للأوداج إذا خرج الدم. وهذه الرواية لم تكن في صورة عدم وجدان السكين أو الحديد ، بل هي مطلقة ، ولا حاجة لحمل المطلق على المقيّد لعدم العلم بأنّ الحكم واحد ، إذ يجوز أن يكون الحكم هو جواز التذكية بالحديد والسكين وبالمروة الحادة والليطة

__________________

(١) المصدر السابق : ب ١ من الذبائح ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ب ٢ من الذبائح ، ح ٥.

أقول : إنّ صحيحة زيد الشحّام المتقدّمة قد جوّزت الذبح بالعظم ، ولذا فإنّ أقوال فقهائنا استثنت السنّ والظفر ، كما عليه الرواية المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنّاً أو ظفراً » سنن البيهقي ٩ : ٢٤٦.

٢٣٩

الحادة أيضاً.

وهاتان الطائفتان من الروايات لا تعارض الروايات المتقدّمة التي فهم منها أنّ كل ما قطع الحلقوم أو الأوداج وخرج الدم فلا بأس به.

ويؤيّد هذا الفهم ما أفتى به القاضي في مهذبه حيث قال : « والذباحة لا تجوز إلاّ بالحديد ، فمن خاف من موت الذبيحة ولم يقدر على الحديد جاز أن يذبح بشيء له حدّة ، مثل الزجاجة والحجر الحاد أو القصب ، والحديد أفضل وأولى من جميع ذلك » (١).

ولكن أقول : إنّ هذا الاستظهار وإن كان يتّفق مع الفهم العرفي القائل بأنّ السكين إن وجدت وهي حادة وقاطعة بطبعها فالذبح إنّما يكون بها لتسهيل عملية الذبح وإجادته وإراحة الذبيحة ، وعندما لم توجد السكين فيجوز الذبح بكل آلة قاطعة من الحجر أو الليطة واشباههما ، إذ العرف لا يفهم بأنّ عدم وجود السكين يكون قيداً في صحة التذكية بالحجر الحاد والليطة الحادة. ولكن عندما نرجع إلى الروايات التي يُسأل فيها الإمام عليه‌السلام عن الذبح بالليطة والمروة فيأتي الجواب بصيغة : « لا ذكاة إلاّ بحديدة » أو « لا يصلح إلاّ بالحديدة » أو « اذبح بالحجر والعظم والقصبة إذا لم تصب الحديدة ... » نرى أنّ هذه الروايات كأنّها تقيّد جواز الذبح بالحجر الحاد إذا لم توجد الحديدة كما فهم المشهور.

ولكن أقول : إنّ الروايات التي استفيد منها القاعدة الكلية هي روايات صحيحة أكّدت أن قطع الحلقوم أو الأوداج وخروج الدم كاف في التذكية ، وهذه الروايات تكون قرينة على أن المراد ب‍ « لا ذكاة إلاّ بحديدة » هو لا ذكاة مريحة ومطمأنّ بها إلاّ بحديدة ، وإلاّ فإنّ الذكاة بغير الحديدة قد جوّزتها الروايات المتقدّمة ، وهذا مثل « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ».

__________________

(١) الينابيع الفقهية : ج ٢١ ، ص ٩٨ عن المهذب ، كتاب الصيد والذباحة.

٢٤٠