بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وتوجد صورة ثالثة ، وهي : بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئةً بالسعر السوقي ، ثم يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقداً (١).

وقد قال بحرمة بيع العينة كل من مالك وأحمد ، لأنّها حيلة لربا النسيئة ، وقد احُتجَّ لهؤلاء بحديث عائشة « حينما أخبرتها اُمّ محبّة بأنّها كانت لها جارية ، فباعتها لزيد بن أرقم بثمانمائة درهم الى عطائه ، وأنّه أراد بيعها ، فابتاعتها منه بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما شريت وبئسما اشتريت ، فأبلغي زيد أنّه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أن يتوب. فقالت لها : أرأيت إن لم آخذ منه إلاّ رأسمالي ؟ فقالت : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف » (٢).

ومن هنا يتّضح أن المانع من صحة البيع عند العامّة هو الربا المستور تحت البيع ، بتقريب أن المشتري قد حصل على مائة دينار ـ مثلاً ـ نقداً بمائة وعشرين ديناراً مؤجلة الى سنة ، وهذا إنّما يكون في صورة اشتراط البيع الثاني في البيع الأول صراحةً أو ضمناً ، كأن يكون البيع الثاني مبنيّاً على البيع الأول.

أمّا عند الإمامية فقد وردت النصوص ببطلان هذه المعاملة ، منها صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ( الإمام الكاظم ) قال : « سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحلّ ؟ قال : إذا لم يشترطاً ورضيا فلا بأس » (٣). ومعنى ذلك أنّه إذا اشترط ذلك فالبيع الأول غير صحيح ، كما هو الظاهر من كلمة « البأس » في المعاملات.

وذهب قسم من علماء الإمامية إلى أنّ البطلان هنا للنصّ الخاصّ ، ولكن

__________________

(١) راجع كتاب نظرية الربا المحرم ، ابراهيم زكي الدين بدوي : ص ٢٠٣.

(٢) نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية : ص ٢٠٣ ، عن القرطبي : ج ٣ ، ص ٣٥٩ وما بعدها.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٢ ، ب ٥ من أحكام العقد ، ح ٦.

١٤١

ليس من البعيد ـ إن قبلنا الفكرة القائلة : إنّ وراء الالفاظ لُبّاً قد قصده المتعاقدان ، والاعتبار باللب ـ أن يكون البيعان روحهما هو القرض الربوي ، وقد توصّلا إليه بهذا الثوب من المعاملة ، إذ القرض هو تمليك مع الضمان ، وهو حاصل من المعاملتين فلا يجوز فيه الزيادة ، لأنّ أدلّة حرمة ربا القرض تشمله.

هذا كلّه راجع الى بيع العينة بالمعنى المتقدّم الذي حرّمته الروايات من الطرفين ، ولكن أي ارتباط بينه وبين ما نحن فيه ؟

نقول : لا يوجد أي ارتباط ، وذلك لأنّ بيع العينة ـ كما تقدّم ـ هو إرجاع سلعة الرجل الى نفسه ، وحصوله على نقد على أن يُرجع أكثر منه ، حيث ذكروا في تسمية عقد العينة ما حاصله (١) :

١ ـ إنّ المشتري يأخذ بدل سلعته عيناً ( أي عقداً حاضراً ).

٢ ـ إنّ البائع يعود إليه عين ماله بعد أن باعه.

أمّا ما نحن فيه فليس كذلك ، لأنّ البنك يشتري السلعة من جهة معينة ثم يبيعها الى جهة ثالثة ، فليس عندنا عقدين بين اثنين ، وإنّما عندنا عقدان بين ثلاثة أطراف ، وهذا ليس له ارتباط بالقرض ولا بالربا.

نعم ، يوجد شيء مشترك بين المسألتين وهو : الزام البائع والمشتري بالبيع الثاني مرابحةً الذي يقع بين البنك والآمر بالشراء ، كما أن في بيع العينة يوجد الزام ببيع العين ـ التي وقعت في البيع الأول ـ إلى البائع ، لكنّ هذا الشيء المشترك لم يجعل المسألتين من باب واحد فانتبهوا أيّها المسلمون ، فلو أنّني بعت سيارتي الى شخص بشرط بيعها الى اخي إذا اراد المشتري بيعها فهنا يكون المشتري ملزماً ببيعها الى أخي فيما إذا أراد البيع ، إلاّ أنّ هذا الإلزام لم يجعل هذه المسألة من باب بيع العينة.

__________________

(١) نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية ، إبراهيم زكي الدين بدوي : ص ٢٠٣.

١٤٢

ثانياً : إنّ ما نحن فيه يختلف عن بيع ما لا يملك ، ومن يقول : إنّ ما نحن فيه داخل تحت النهي الوارد عن بيع ما ليس عندك فهو قول خاطئ ، وتوضيح ذلك :

إنّ مفروض المسألة هو أنّ عقد البيع بين البنك والعميل يقع بعد شراء البنك للسلعة ووضعها بين يدي العميل ، وإنّما الذي تقدم من البنك والعميل هو الوعد ( الالتزام ) بالبيع في وقته بعد حصول البنك على السلعة المطلوبة ، بينما النهي ورد عمّن باع ولم يملك ، وهنا لم يوجد بيع من دون ملك ، وإنّما وجد التزام بالبيع في وقته ، كما إذا التزمتُ ببيع داري الى صديقي عند إرادة بيعها ، وهذا لا يسمّى ببيع الدار إلى الصديق.

ومن العجيب عدم تفرقة البعض بين أن يقول شخص لآخر : « بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا » والسلعة ليست عنده ، وبين أن يقول شخص لآخر : اشترِ سلعة كذا وأنا ملتزم بشرائها منك بمبلغ كذا (١) ، إذ أنّ في الصورة الاُولى قد وجد حكم وضعي ، وهو النقل والانتقال ، إلاّ أنّ الشارع لم يوافق على صحة هذا الحكم ، أمّا في الصورة الثانية فلم يوجد البيع ، وإنّما وجد التزام من قبل المشتري بالشراء بكذا ، وهذا موضوع لحكم تكليفيٍّ يتوجّه إلى المشتري ، فإن لم يشترِ فهو قد خالف الحكم التكليفي الذي التزمه على نفسه ، أمّا نفس الحكم الوضعي ـ وهو النقل والانتقال ـ فلم يحصل حتى يقال : إنّ الشارع قد نهى عنه.

إذن الالتزام بالشراء من البنك هو موضوع حكم تكليفيٍّ بوجوب الشراء ، فإن حصل البنك على السلعة وعرضها على المشتري فاشتراه فهو بيع لسلعة يملكها البنك ، وإن لم يشترها المشتري فقد فعل حراماً ، ولكنّه لم يشتر بعد.

ثمّ إنّ حديث « لا تبع ما ليس عندك » قد ذكر الفقهاء : أنّ المراد منه النهي عن بيع العبد الآبق أو الجمل الشارد وأمثالهما الذي لا يتمكّن المشتري فيه من

__________________

(١) المرابحة للآمر بالشراء ، ملازم الصدّيق محمد الأمين الضرير : ص ٢.

١٤٣

تسلّم المبيع ولا البائع من تسليمه ، فيحدث الغرر في البيع ؛ لأنّ البيع إنّما حصل على أن يكون التسليم حالا ، بينما البائع غير قادر على التسليم حالا ، ولا يعلم متى يتمكّن من التسليم ، لأنّ العبد غير معروف زمن رجوعه إن كانت عنده نيّة إلى الرجوع ، كما لم يعلم أيرجع الجمل الشارد الى صاحبه أم لا ؟ فيحصل الغرر من هذه المعاملة ، وليس المراد منه النهي عن « بيع الصفة في الذمّة » ، ولذا قد اُجيز بيع السلم إلى الأجل ، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال ، ولكن جوّزه الفقهاء بالاتفاق ، كما أنّه ليس المراد من « لا تبع ما ليس عندك » هو النهي عن « بيع غير الموجود التابع للموجود » مثل بيع الثمار بعد بدوِّ صلاحها ، إذ أن هذا جائز بالاتفاق أيضاً كما يجوز بيع المقاثي والمباطخ.

ثالثاً : وأمّا حديث النهي عن « بيعتين في بيعة » فقد وردت عدّة روايات تنهى عن بيعتين في بيعة ، أو عن شرطين في بيع ، أو صفقتين في صفقة ، ولكنّ الكلام في معنى هذه الروايات وشمولها لما نحن فيه.

وقد فسّر الشافعي البيعتين في بيعة على نحوين :

١ ـ أن يقول بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا.

٢ ـ أن يقول : بعتك هذا العبد ـ مثلاً ـ بألف على أن تبيعني أو فلان يبيعني الدار بكذا ، أو يقول : أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا ، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري (١).

أمّا التفسير الأول فهو الصحيح ، لأنّ البيع يكون باطلاً ؛ لتردّد الثمن عند العقد ، بل لم يحصل قصد الى أحدهما بالخصوص.

وأمّا التفسير الثاني للشافعي فهو لا يبطل المعاملة ، لأنّه من قبيل الالتزام في الالتزام ، فيشمله قوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » الذي تقدم ذكره.

__________________

(١) نهاية المحتاج الى شرح المنهاج ، للرملي : ج ٣ ، ص ٤٣٣ وما بعدها ، وفتح القدير : ج ٥ ، ص ٢١٨.

١٤٤

ويوجد معنى آخر للبيعتين في بيعة ، وهو : أن يسلفه ديناراً في قفيز حنطة الى شهر ، فلمّا حلّ الأجل وطالبه بالحنطة قال : بعني القفيز الذي لك عليّ الى شهرين بقفيزين ، فصار ذلك بيعتين في بيعة ، لأنّ البيع الثاني قد دخل على الأوّل فيردّ إليه أوكسهما ، وهو الأول (١).

وهذا المعنى الأخير للأحاديث بهذا المثال المذكور آنفاً يوجب حرمة البيع الثاني ؛ لوجود الربا ، لأنّ المشتري قد باع قفيزاً واحداً بقفيزين من الحنطة فهو ربا ، إلاّ أنّ المثال إذا غيّرناه وأراد المشتري أن يبيع قفيزه من الحنطة بدراهم فهو بيع جائز رغم أنه بيع ما لم يقبض ، إلاّ أنّ النهي الوارد عن بيع ما لم يقبض مخصوص ببيعه على غير بائعه ، أمّا بيعه على بائعه فلا بأس به ، وقد وردت النصوص بصحة ذلك ، منها : صحيحة يعقوب بن شعيب ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل باع طعاماً بدراهم ، فلمّا بلغ ذلك الأجل تقاضاه ، فقال : ليس عندي دراهم ، خذ مني طعاماً ، قال عليه‌السلام : لا بأس إنّما له دراهمه يأخذ بها ما شاء » (٢) وغيرها من الروايات.

نعم ، يحتمل أن يكون المعنى الذي ذكر أخيراً للبيعتين في بيعة ، عبارة عن بيع ما لم يقبض على شخص ثالث ( غير البائع ) ، كما إذا اشتريت كمية من الحنطة ولم أقبضها بعد ، وأردتُ بيعها الى ثالث فهنا توجد أدلّة تمنع من بيعها قبل القبض بزيادة أو نقيصة ، وهذا الحكم صحيح ، وقد يبنى على النظرية القائلة بأنّ الكسب من دون عمل غير صحيح.

وعلى كل حال ـ سواء اُريد بالبيعتين في بيعة ما ذكره الشافعي أو ما ذكر أخيراً من النهي عن البيع قبل القبض ـ فهل ما نحن فيه داخل تحت معنى الحديث ؟

__________________

(١) نظرية الربا المحرم ، لإبراهيم بدوي : ص ٢١٤ هامش ٣.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ١٩ من أبواب السلف ، ح ١٠ ، وهي مروية عن عبيد بن زرارة أيضاً.

١٤٥

نقول : لا يوجد أي ارتباط بين ما نحن فيه وبين الحديث ، وذلك :

أ ـ إنّ مفروض مسألتنا هو : يشتري البنك أولاً ويقبضها.

ب ـ وبعد ذلك يعرضها على المشتري ويبيعها له مرابحة.

فلا يوجد بيع قبل القبض ، كما لا يوجد بيع ( نقداً بكذا أو نسيئة بكذا الذي يبطل العقد نتيجة عدم معلومية الثمن ). نعم ، الذي وقع قبل القبض هو الالزام بالبيع عند التملك والقبض ، وهذا لا بأس به ؛ لعدم وجود نهي فيه ، وإنّما النهي عن البيع قبل القبض.

رابعاً : أما المخاطرة : التي تحدث عن الالزام كما يقول الشافعي : « إنّك إن اشتريته بكذا اُربحك فيه كذا » (١). فلا ندري ماذا يريد الشافعي من قوله هذا ، فهل يريد بيع العينة بالمعنى المتقدّم كما ورد أن بيع العينة يسمى ببيع المخاطرة ، فقد تقدّم أنّه يختلف عمّا نحن فيه فلا نعيد (٢) ، أو يريد أن الالزام بالبيع الثاني فيه مخاطرة على المشتري أو البائع ؟

نقول : الصحيح أن عدم الالزام هو الذي فيه مخاطرة على البائع أو المشتري. وتوضيح ذلك : أنّ البنك إذا اشترى السلعة ولم تكن مرغوبة إلاّ للمشتري ثم امتنع المشتري من شرائها نتيجة عدم الزامه شرعاً فهذا فيه مخاطرة وضرر على البنك ، كما أن البنك إذا اشترى السلعة وقد انتظرها المشتري مدّة طويلة ، ولم يوظف أمواله في أي عمل بانتظار تلك السلعة المعينة ولكن البنك لسبب عدم الزامه يبيعها لمن أمره بالشراء ، أو لبذل سعر أكثر ممّا بذله الآمر بالشراء باعها البنك لغير الآمر المنتظر الموعود ببيعها له ، فهنا توجد مخاطرة وضرر على المشتري ، إذن جاءت

__________________

(١) الاُم ، الشافعي : ج ٣ ، ص ٣٣.

(٢) نقول : لا يمكن للشافعي أن يريد بالمخاطرة هو بيع العينة بالمعنى المتقدّم ، لأنّه قال بجواز بيع العينة كما نقل عنه ، راجع نظرية الربا المحرم : ص ٢٠٣.

١٤٦

المخاطرة من عدم الالزام ، لا أنّها جاءت من الالزام.

وأمّا إذا اراد الشافعي ورود النصوص بحرمة هذا ، وقد علّله بالمخاطرة فهذا سوف يأتي.

خامساً : أمّا ما ذكر من أن مسألتنا داخلة تحت النهي الوارد « عن سلف وزيادة » كما قال الباجي : « لأنّه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين الى أجل يتضمّن ذلك أنّه أسلفه عشرة في عشرين الى أجل » (١) فهو بعيد عمّا نحن فيه ، لأنّ البنك إنّما يشتري السلعة لنفسه ( كما هو مفروض الصورة الاُولى التي نحن بصددها ) بينما السلف والزيادة المنهيّ عنه ـ كما يقول الباجي ـ هو عبارة عن شراء السلعة للآمر بعشرة ، ثم يبيع المشتري العشرة بعشرين إلى أجل فهو رباً لا كلام لنا في حرمته.

إذن إذا كان شراء البنك السلعة لنفسه وبماله ، ثم بعد ذلك يبيع السلعة إلى الآمر نسيئةً مرابحة فهو ممّا لا إشكال فيه ، وكثير من البيوع التي تحصل في الخارج تكون على هذا النسق من البيع مرابحة مع أن البائع قد اشتراها لنفسه بثمن أقل.

نعم ، هنا إلزام في البيع الثاني على البنك أن يبيع السلعة على المتعهد بالشراء ، كما يوجد الزام على المشتري أن يشتري السلعة التي اشتراها البنك بأمر الآمر ، وهذا الالزام حصل بتعهد الطرفين أو بحلفهما أو بنذرهما أو بشرط في عقد لازم فهل هذا الالزام يبطل البيع الثاني ؟

الجواب : قلنا فيما تقدّم إن القاعدة الأوليّة تقول بصحة العقد الثاني كما قالت بصحة العقد الذي أوجده البنك في شراء السلعة بأمر الآمر ، إذن لا إشكال في صحة هذا العقد الذي يحدث من قبل البنك الآمر بالشراء حتى مع الالزام للطرفين

__________________

(١) المنتقى : ج ٥ ، ص ٣٨ و ٣٩.

١٤٧

بالبيع للآمر وبالشراء من البنك.

سادساً : وقد ذكر البعض : أنّ الإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر حيلةً تقوم مقام الالزام ، فقد قيل له : « أرأيت رجلاً أمر رجلاً أن يشتري داراً بألف درهم وأخبره أنّه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم ، فأراد المأمور شراء الدار ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها ، فتبقى في يد المأمور ، كيف الحيلة في ذلك ؟ قال : يشتري المأمور الدار على أنّه بالخيار ثلاثة أيام ، ويقبضها ويجيء الآمر ويبدأ فيقول : قد أخذتُ منك هذه الدار بألف ومائة درهم ، فيقول المأمور : وهي لك بذلك ، فيكون ذلك للآمر لازماً ويكون استيجاباً من المأمور للمشتري ، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكّن المأمور من ردّها بشرط الخيار فيدفع عنه الضرر بذلك » (١).

واستفاد هذا القائل من هذه الحيلة أن الالزام في المعاملة غير جائز ، بينما الصحيح هو أن الشيباني ذكر عملاً يدفع به البائع الضرر عن نفسه فيما إذا كان المشتري مختاراً في شرائه وعدمه ، وهذا لا يدل على أن الالزام غير جائز إذا حدث سببه ، وبواسطته يندفع الضرر على البائع ، إذ لو اهتدى الامام الشيباني الى عملية تؤدّي إلى الالزام فلعلّه يقول بصحتها ، إذ الطريق الذي قاله : إنّما كان لأجل دفع الضرر عن البائع في بعض الصور ، والالزام الذي يقوله أيضاً طريقة لدفع الضرر عن البائع ، فاهتداؤه إلى الطريق الأول ليس معناه حرمة الطريق الثاني.

على أنّ الأفضل للدارس أن يذكر دليلا على الحكم الشرعي ، لا أن يأتي بفتوىً لبعض الفقهاء.

سابعاً : قالوا : إنّ ما نحن فيه هو بيع نقد بنقد أكثر منه الى أجل ( بينهما سلعة

__________________

(١) كتاب الحيل رواية السرخسي : ص ٧٩ من بحث المرابحة للآمر بالشراء ، للاُستاذ الصدّيق محمد الأمين الضرير : ص ٥.

١٤٨

محلّلة ) فغايته قرض بفائدة.

ويرد على هذا القول : أن كل بيع نسيئة أو بنقد هو معناه ( بيع نقد بنقد أكثر منه ، نقداً أو نسيئة بينهما سلعة محلّلة ) ، ولكن الله سبحانه أحلّ هذا حيث إنّ البائع حوّل نقده الى عمل مخزون ، وهذا العمل المخزون يستهلك بمرور الزمان ، فتذهب صفته ، والمشتري له الحقّ أن يبيع هذا العمل المخزون بعد قبضه بفائدة وربح ، فيكون ربحه مرتكزاً على عمل ، أمّا القرض بفائدة الذي حرّمه الشارع المقدّس فالمفروض فيه أن النقد الذي دفعته إلى المقترض يرجع بنفسه إليّ بعد الأجل من دون نقيصة في صفاته ، ومن دون استهلاك ، ومعنى هذا عدم جواز الفائدة ككسب يحصل عليه المقرِض ، لأنّه لم يقدم عملاً مباشراً إلى المقترض ولا مخزوناً بحيث يستهلك أو تذهب صفته بالاستعمال ، وحينئذ لا يحقّ له الاكتساب من هذا الطريق.

بالاضافة الى ورود النص بحرمة القرض بفائدة ، وعدم وروده إلى الآن فيما إذا اشترى سلعةً من زيد ، وأراد بيعها إلى عمرو مرابحة نسيئة وكان ملزماً ببيعها بسبب من أسباب الالزام.

ثامناً : الأصل اللفظي للمسألة : إذا تنزلنا عن الأدلّة السابقة الدالة على صحة المرابحة للآمر بالشراء كما في الصورة الاُولى التي عرضناها فغاية ما يقال : إنّنا نشك في صحة هذه المعاملة ، وحينئذ فإنّ إطلاق ( أحل الله البيع ) و ( أوفوا بالعقود ) و ( تجارة عن تراض ) تدل على صحة هذه المعاملة ، لأنّ معاملة البنك للعميل ممّا لا إشكال أنّها بيع عند العرف ، وهي عقد وتجارة فتشملها الآيات الثلاث الدالّة على صحة المعاملة ولزوم الوفاء بها ، وإن كان الالزام موجوداً لإيقاع هذه المعاملة.

نقول : هذا الذي تقدم كان على مقتضى القاعدة ، وعدم صحة ما ذكر من نصوص على البطلان عند فقهاء السنة.

١٤٩

هذا ، ولكنّ الإمامية تلتزم ببطلان هذه المعاملة إذا كانت على نحو الالزام للنصوص الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الدالّة على بطلان هذه المعاملة إذا كانت على نحو الالزام ، وصحتها إذا كان البنك بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكذا إذا كان العميل بالخيار إذا شاء اشترى أو إذا شاء لم يشترِ.

والشيعة الإمامية يلتزمون بالبطلان ، لا لما تقدم ذكره عن فقهاء السنة ، وإنّما للنصوص الخاصة في المنع عن هذه المعاملة ، وقد ذكرت بعض الروايات على لسان الرواة : أن هذا قسم من أفراد بيع العينة ، ولكن الحجّة التي نستند إليها هي نهي الأئمة عن هكذا بيع ، سواء سمّـاه الأفراد السائلون للأئمّة بيع عينة ، أم لا.

والروايات كثيرة ، منها :

١ ـ صحيحة معاوية بن عمار قال : قلت للصادق عليه‌السلام : « يجيئني الرجل فيطلب منّي بيع الحرير وليس عنده منه شيء ، فيقاولني عليه ، واُقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ، ثمّ أذهب فاشتري له الحرير فأدعوه إليه ، فقال : أرأيت إن وجد بيعاً هو أحبّ إليه ممّا عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك ؟ أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه ؟ قلت : نعم ، قال : فلا بأس » (١).

وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن الالزام في هذه المعاملة الثانية يوجد فيها البأس وهو معنى البطلان ، وأمّا إذا كانت المعاملة الثانية خاليةً من الالزام للمشتري وللبائع فلا بأس بها.

٢ ـ صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج قال : « سألت الصادق عليه‌السلام عن العينة فقلتُ : يأتيني الرجل فيقول : اشترِ المتاع واربح فيه كذا وكذا ، فاُراوضه على الشيء من الربح فنتراضى به ، ثم أنطلق فاشتري المتاع من أجله ، لولا مكانه

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ، ب ٨ من أحكام العقود ، ح ٧.

١٥٠

لم أرده ، ثم آتيه به فأبيعه ؟ فقال : ما أرى بهذا بأساً لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إيّاه كان من مالك ، وهذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعد ما تأتيه ، وإن شاء ردّه ، فلستُ أرى به بأساً » (١).

٣ ـ صحيحة منصور بن حازم قال : « قلت للصادق عليه‌السلام : الرجل يريد أن يتعيّن من الرجل عينة ، فيقول له الرجل : أنا أبصرُ بحاجتي منك فأعطني حتّى اشتري ، فيأخذ الدراهم فيشتري حاجته ثمّ يجيء بها إلى الرجل الذي له المال فيدفعه اليه ، فقال : أليس إن شاء يشتري وان شاء ترك ، وإن شاء البائع باعه وإن شاء لم يبع ؟! قلت : نعم ، قال : لا بأس » (٢).

٤ ـ وعن منصور بن حازم أيضاً قال : « سألت الصادق عليه‌السلام عن رجل طلب من رجل ثوباً بعينة قال : ليس عندي ، هذه دراهم فخذها فاشترِ بها ، فأخذها فاشترى بها ثوباً كما يريد ، ثم جاء به أيشتريه منه؟ فقال : أليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم ؟ قلت بلى ، قال : إن شاء اشترى ، وإن شاء لم يشترِ ؟ قلت : نعم ، قال : لا بأس » (٣).

٥ ـ صحيحة اسماعيل بن عبد الخالق قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن العينة ، وقلت : إنّ عامّة تجارنا اليوم يعطون العينة ، فأقصّ عليك كيف نعمل ؟ قال : هات ، قلت : يأتينا المساوم يريد المال فيساومنا وليس عندنا متاع ، فيقول : اُربحك ده يازده ، وأقول أنا : ده دوازده ، فلا نزال نتراوض حتى نتراوض على أمر فإذا فرغنا قال : قلت : أيّ متاع أحبّ إليك أن أشتري لك ؟ فيقول : الحرير لأنّه لا يجد شيئاً أقل وضيعةً منه ، فأذهب وقد قاولته من غير

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ب ٨ من أحكام العقود ، ح ٩.

(٢) المصدر السابق : ح ١١.

(٣) المصدر السابق : ح ١٢.

١٥١

مبايعة ، فقال : أليس إن شئت لم تعطه ، وإن شاء لم يأخذ منك ؟ قلتُ : بلى ، قال : فأذهب فاشتري له ذلك الحرير ، واُماكِس بقدر جهدي ، ثم أجيء به الى بيتي فاُبايعه ، فربما ازددتُ عليه القليل على المقاولة ، وربما أعطيته على ما قاولته ، وربما تعاسرنا فلم يكن شيء ، فإذا اشترى مني ... فقال : أليس إنّه لو شاء لم يفعل ولو شئت أنت لم تزد ؟ فقلتُ : بلى لو أنّه هلك فمن مالي قال : لا بأس بهذا إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس به » (١).

٦ ـ وعن خالد بن الحجاج قال : « قلت للإمام الصادق عليه‌السلام : الرجل يجيء فيقول : اشترِ هذا الثوب واُربحك كذا وكذا ، قال : أليس إن شاء ترك ، وإن شاء أخذ ؟! قلت : بلى ، قال : لا بأس به » (٢).

وهذه الروايات كلها تفيدنا قاعدة عامّة هي : « لا يجوز مواجبة البيع قبل أن تستوجبه » أي لا يجوز أن نلزم أحداً بالبيع قبل أن نوجب البيع لنا ، وقد ذُكرت هذه القاعدة في رواية ، هي صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ومَنْ وجب له البيع قَبل أن يلزم صاحبه فليبع بعدما شاء » (٣).

ولا بأس بالتنبيه الى وجود روايات تصحّح هذه العملية من دون تفصيل بين صورة وجود الالزام وعدمه ولكن بواسطة هذه الروايات المتقدّمة نقيّدها بصورة عدم وجود الالزام. فمن تلك الروايات المطلقة :

١ ـ عن ابن سنان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك تساومه ، ثم تشتري له نحو الذي طلب ، ثم توجبه على

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٨ من أحكام العقود ، ح ١٤.

(٢) المصدر السابق : ح ٤.

(٣) المصدر السابق : ب ٣ ، ح ٢.

١٥٢

نفسك ، ثم تبيعه منه بعدُ » (١).

٢ ـ وروى عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال : « سألت الصادق عليه‌السلام عن الرجل يأتيني يطلب منّي بيعاً وليس عندي ما يريد أن اُبايعه به إلى السنة أيصلح لي أن أعده حتى أشتري متاعاً فأبيعه منه ؟ قال : نعم » (٢).

٣ ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل أتاه رجل فقال : ابتع لي مقاعاً لعلّي أشتريه منك بنقد أو نسيئة ، فابتاعه الرجل من أجله ، قال : ليس به بأس ، إنّما يشتريه منه بعد ما يملكه » (٣).

الخلاصة : هذه الروايات الكثيرة تجعلنا نرفع اليد عن القاعدة الأوليّة ، ونقول ببطلان المعاملة إذا كان هناك إلزام من أحد الطرفين للآخر بالنسبة للبيع الثاني الذي يحصل بعد تملّك الأول للسلعة.

وهذه النتيجة المستفادة من الروايات تشمل تعهّد البنك والعميل كلّ منهما للآخر ، وتشمل أيضاً الالزام الذي يأتي من قبل الشرط في ضمن العقد إذا كان الشرط قد أملاه أحدهما على الآخر ، لأنّ هذا الشرط الذي قد نهي عنه في هذه المعاملة يكون شرطاً قد حرّمه الله تعالى ، وكلّ شرط قد حرّمه الله تعالى لا يجوز اشتراطه في المعاملة ، كما قالت الرواية المتقدّمة : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب الله عزّوجلّ فلا يجوز ».

نعم ، الروايات لا تنظر الى ما إذا أوجب أحد الطرفين العقد الثاني على نفسه بواسطة « حلفٍ أو نذرٍ أو تعهّدٍ لله تعالى » إذا حصلت شروط انعقاد هذه العقود ، ولم تكن حيلة من قبل الطرف الآخر لإلزام الحالف أو الناذر أو

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٨ من أحكام العقود ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٥.

(٣) المصدر السابق : ح ٨.

١٥٣

المتعهد لله تعالى ، بمعنى أن الروايات غير ناظرة إلى الإلزام الذي يأتي من قبل السماء ، وإنّما هي ناظرة إلى الإلزام الذي يأتي من قبل الآخر قبل أن يملك الطرف الآخر السلعة.

الصورة الثانية (١) للمرابحة للآمر بالشراء :

كما إذا قال العميل للبنك : « اشترِ لي سلعةً كذا بعشرة دراهم نقداً وأنا اشتريها منك بإثني عشر درهماً الى أجل ».

وهذه المعاملة باطلة ؛ لوجود نص صحيح على بطلانها ، وهو صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام ( الإمام الباقر عليه‌السلام ) قال : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أمره نفر ليبتاع لهم بعيراً بنقد ، ويزيدونه فوق ذلك نظرة ، فابتاع لهم بعيراً ومعه بعضهم ، فمنعه أن يأخذ منهم فوق ورقه نظرة » (٢).

ومعنى الحديث واضح ، إذ أنّ المشتري كان مأموراً ووكيلا عن جماعة ، فاشترى لهم وعندما يدفع الثمن ، فإنّه يدفع الثمن أيضاً بوكالته عنهم ، وعلى هذا يكون البعير ملكاً للجماعة بذلك النقد ، فإذا دفع الجماعة أكثر من النقد نظرةً فمعناه أنّهم دفعوا للمشتري ( الوكيل ) ثمناً على انتظاره « على قبض ما دفع » وهو الربا.

الصورة الثالثة :

كما إذا قال العميل للبنك : « اشترِ لي سلعةً كذا باثني عشر الى أجل ، وأنا اشتريها منك بعشرة نقداً ».

__________________

(١) وقد تقدّمت الصورة الاُولى في ص ١٣٥.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٣ من أحكام العقود ، ح ١.

١٥٤

وهذه المعاملة حرام أيضاً وإن لم يوجد فيها نص بالخصوص ، لأنّ البنك كان وكيلاً عن العميل في شراء السلعة ، وحينئذ يكون المدين في الحقيقة هو العميل ، ولكنّ العميل دفع عشرةً نقداً إلى البنك في سبيل أن يدفع البنك اثني عشر مؤجلة ، وهذه العملية معناها أن البنك أخذ عشرة من العميل نقداً ورضي أن يسدّد عنه اثنى عشر بعد مدّة ، وهذه هي الزيادة في مقابل الأجل وهي ربا حرام (١).

ونستطيع أن نقول : إنّ الروايات المتقدّمة شاملة للصورة الثانية والثالثة ، إذ أنّ قول العميل للبنك : اشترِ لي هذه السلعة ، بمعنى اشترِ لأجلي هذه السلعة ثم بعها لي بكذا وكذا ، وحينئذ لا يكون أي فرق بين الصورة الاُولى والثانية والثالثة في الروح وإن كان هناك فرق في اُمور اُخر لا تضرّ بالحكم.

الصورة الرابعة :

كما إذا قال العميل للبنك ـ نتيجة قدرات البنك على جلب السلعة من خارج البلاد ـ : « اشترِ لي هذه السلعة بكذا وكذا درهم ، وأنا اُقدم لك أجرأ على عملك كذا نقداً » ففي هذه الصورة يكون البنك أجيراً للعميل ، ويكون الشراء للعميل ، والبنك أجيراً عنه ووكيلا ، وبهذا يستحق البنك الاُجرة التي حدّدها العميل ، سواء كانت نقداً أو نسيئة ، وهذه معاملة صحيحة لا إشكال فيها.

الخلاصة :

انتهينا الى بطلان الصورة الاُولى والثانية والثالثة إذا كان البيع الثاني على نحو الإلزام الصادر من الطرف الآخر.

أمّا إذا كان البيع الثاني من غير إلزام على العميل وعلى البنك فهو معاملة

__________________

(١) كتاب الربا فقهياً واقتصادياً ، للمؤلف.

١٥٥

صحيحة ، وكذا يصحّ البيع الثاني مع الإلزام إذا كان الإلزام سببه حلفاً أو نذراً أو تعهّداً لله تعالى ، من دون أن يكون حيلةً لإلزامه من قبل صاحبه.

أمّا الصورة الرابعة فهي صحيحة ؛ لأنّ البنك أجير في إجراء المعاملة ويأخذ على عمله أجراً ، ولكن لا بأس بالتنبيه الى أنّ السلعة إذا تلفت من دون تفريط في الصورة الرابعة فهي تكون قد تلفت على المشتري الموكَّل ، لأنّ الوكيل أمين لا يضمن من دون تعدٍّ أو تفريط.

هذا ما انتهى إليه البحث ، والحمد لله أولاً وآخراً.

١٥٦

١٥٧

١٥٨

إنّ البنوك الإسلامية التي تعمل في نطاق بعض الدول الإسلامية ـ وقد جذبت بعض أموال المسلمين وأدخلتها عملية الاستثمار المفيد للبلد ولصاحب المال والعامل ـ لا زالت بطيئة السير في اتجاهها الهادف للوصول إلى سوق إسلامية لها أدواتها الشرعية التي تخدم جميع الاطراف المشاركة في العمل والاستثمار ، كما تخدم المجتمع الذي يعيش في ظلها ، فأدواتها الشرعية قليلة ، والربح الذي يحصل عليه من يرتبط بهذه البنوك غير مغر وغير مضمون لأصحاب الأموال ، بخلاف البنوك الربوية التي يكون ربحها مضموناً بالاضافة الى إغرائها صاحب المال ، لذا نجد ـ كما قالوا ـ أنّ الاستثمارات العربية الخليجية في الغرب والبنوك الربوية تقدّر بأكثر من سبعمئة مليار دولار ، وهو رقم ضخم إذا قيس بالأموال الاستثمارية في البنوك الإسلامية ، وما ذاك إلاّ لأنّ البنوك الإسلامية لم توفر الأدوات المشروعة الفعّالة بحيث تكوّن لها ما يسمى بسوق « البورصة » التي يدخلها رأس المال الإسلامي ليكون في خدمة الأهداف التنموية ، التي منها تحقّق التوازن في المجتمع الإسلامي.

لذا سوف نبحث في هذا النطاق ، مبينين بعض الأدوات التي يمكن للبنك أن يستخدمها في أعماله الاستثمارية ، مستندين الى نصوص الشريعة الإسلامية ، كما سننبه الى بعض ما اُقرّ في مجمع الفقه الإسلامي وضرورة إعادة النظر فيه ، لوجود الرُخَص التي تبرِّر لنا أن نتبعها أو يتبعها البنك الإسلامي للوصول الى

١٥٩

هدفه المنشود.

وبصورة مجملة فان النظام الإسلامي قد جعل كلاًّ من العمل ، وأدوات الإنتاج ، ورأس المال النقدي ، والأرض ؛ موارد للكسب ولتنمية الثروة ، ولكن لكلّ واحد من هذه الاُمور الأربعة شرطه الخاص في دخوله عملية الاستثمار الشرعية ، فقد جعل العمل حينما يمارس على مادّة غير مملوكة بصورة مسبقة لشخص آخر سبباً في تملّك العامل كل الثروة التي حصل عليها ، ولا تشترك معه في هذه الثروة العناصر الماديّة التي استعملها في عمله ، وهي ملك لغيره ، حيث أن العناصر المادّية هي قوى تخدم الإنسان المنتج ، فقد جُعِلَ لها الاُجرة فقط ، وجعل العمل حينما يمارس على مادّة مملوكة لفرد آخر سبباً في استحقاق الاُجرة أو نسبة من الربح ، وطبعاً تختلف الاُجرة عن النسبة من الربح ، حيث تكون الأجرة محدّدة نوعاً وكمّاً فهي مضمونة بقطع النظر عن نتائج العمل المربحة أو غيرها.

أمّا النسبة من الربح فهي عبارة عن ربط العامل بنتيجة العملية التي يمارسها ، وبهذا يفقد عنصر الضمان على هذه النسبة من الربح حيث لا تكون العملية مربحة ، كما أنّه قد يحصل على نسبة من الربح تفوق الأجر المحدّد بكثير.

وأمّا ادوات الانتاج فهي التي تستعمل خلال عملية الانتاج ، وبواسطتها يستحق صاحبها الأجر فقط.

وأمّا رأس المال التجاري ( النقدي ) الذي منع من ضمانه مع تقاضي الأجر عليه بحيث لا يرتبط بنتائج العملية الاستثمارية ، يتمكن أن يدخل العملية الاستثمارية بنسبة من الربح ويتحمّل الخسارة إن وجدت كما في عقد المضاربة. كما أن صاحب السلع يتمكّن من أن يدخل العملية التجارية بسلعه هذه فيحصل على نسبة من الربح إن وجدت ويتحمّل الخسارة.

أمّا العامل في هذه العملية فهو يتحمّل خسارة عمله إن وجدت. كما أن عقد المزارعة أو المساقاة يمكن إدراجه في السلع التي تدخل عملية المضاربة ولكن إذا

١٦٠