بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

يبقى : لماذا اُطلق في ورقة المجمع : أنّ التوريد من العقود المركبة ؟

أقول : لعلّ المراد أنَّ هذا العقد ينحل إلى عقود من نوع واحد بموجب النجوم التي اُعدَّت لاستلام قسم من الثمن والمثمن ، فإن كانت الاقسام اربعة فهو عبارة عن اربع عقود كل عقد يتمثّل في قسم من الثمن والمثمن ، فلهذا يسمى عقداً مركباً.

أقول : إنّ المعقود عليه في عقود التوريد هو مبيع واحد بثمن واحد ، وان اختلف موعد تسليم بعض الثمن وبعض المثمن فهو اشبه شيء بعقد الاستصناع الذي يتفق فيه العاقدان على تأجيل المبيع والثمن الى آجال معلومة.

تنبيهان :

الأول : هناك مجموعة عقود ترتبط بعقد التوريد فيما إذا أصدرته جهة عامة كالحكومة ، مثل : اعداد المعلومات في عقد التوريد ، وبيع دفتر الشروط ، وخطاب الضمان الابتدائي والانتهائي فيما إذا اُعدّت مناقصة لتوريد سلعة معينة ، وضمان البنك في مقابل أجر ، والشرط الجزائي. كل هذه العقود نتكلم عنها في عقد المناقصة على المقاولات ، كما سيأتي.

الثاني : أنّ عقد التوريد للسلع في الآجال المعلومة لا يدخل في بيع ما ليس عندك ، لأنّ الصحيح أنّ النهي عن بيع ما ليس عندك مخصص في صورة بيع المال الخارجي المملوك للغير بدون إذن الغير للبائع ، وذلك :

١ ـ لأنّ جمهور الفقهاء على جواز بيع السلم ، وهو يصح في صورة عدم ملك المال خارجاً حين العقد ، بل يكتفون أن يغلب على الظن أن تكون السلعة عامّة الوجود حين التسليم.

٢ ـ كما أنَّ جمهور الفقهاء قالوا بصحة بيع الفضولي إذا أجاز المالك وكان البيع له ، فيخصّص الحديث فيما قلناه.

١٠١

٦ ـ المناقصات ( مثال للعقود المجتمعة )

والمراد بها بيع المناقصات ، وقد تقدّم الكلام عن المناقصة إذا كانت بيع توريد ، الذي افترض أنّه يختلف عن السلم ، فيبقى الكلام عن المناقصة فيما يأتي :

١ ـ إذا كانت المناقصة من الاشغال العامّة ـ المقاولات ـ فهنا لا إشكال في تأخير الأجر ، لأنَّ الأجر في عقد الاجارة يمكن تأجيله كما يمكن تعجيله ، وأمّا البدل المتمثّل في المنفعة فإنَّ طبيعة حال الاشغال العامّة أن لا تستوفى دفعة معجلة أو مؤجلة ، بل تستوفى بالتدريج.

٢ ـ إذا كانت المناقصة عبارة عن بيع سلع جاهزة فلا إشكال فيها من ناحية تقديم الثمن أو تأخيره ، إذ في الصورة الاُولى يكون البيع نقداً ، وفي الصورة الثانية يكون البيع نسيئة.

٣ ـ وإذا كانت المناقصة عقد استصناع بحيث يتأخر فيه الثمن والمثمن فتأتي مشكلة (١) بيع الدين بالدين والنهي الوارد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه.

ولكن الجواب الذي تقدّم في بيع التوريد يأتي هنا بلا اختلاف.

٤ ـ وأمّا إذا كانت المناقصة لأجل الاستثمار ـ كما في مناقصة لعقد المضاربة أو المزارعة أو المساقاة ـ فطبيعة هذه العقود لا يشترط فيها تقديم كل المال المموِّل للمشروع ؛ لأن مشروع المضاربة والمزارعة إذا كان البذر من صاحب المال والأرض ، والمساقاة يكون فيه كل الحاصل للمموِّل تبعاً لقانون الثبات في الملكية ، وللعامل نسبة من الربح أو الحاصل يتنازل عنها صاحبها إليه حسب الاتفاق

__________________

(١) ولكنّ هذه المشكلة لا تأتي على مذهب الأحناف ، حيث أجازوا في عقد الاستصناع تأجيل الثمن إلى أجل معلوم.

١٠٢

بينهما. إذن لا مشكلة هنا أيضاً.

وكما قلنا سابقاً : إنّ عقد التوريد للسلع لا يدخل في بيع ما ليس عندك ، نقول : إنّ عقد المناقصة في الاستصناع كذلك لنفس البيان السابق.

يبقى أنّ عقد المناقصة يحتوي على مجموعة عقود ، هي :

١ ـ بيع وثائق المناقصة ، وهو يحتوي على عقدين :

الأول : عقد بين الداعي إلى المناقصة والأخصائيين الذين يتصدون لتهيئة المعلومات الكاملة لعرضها على المشتركين في المناقصة ، كتهيئة الخرائط أو صفة السلعة أو شروط الاجارة أو الاستصناع وما يرتبط بهذه الاُمور.

الثاني : عقد بين الداعي إلى المناقصة والمدعوّين إليها في بيع ما يسمى بدفتر الشروط.

٢ ـ تقديم المتناقصين خطاب الضمان الذي هو عبارة عن كون البنك كفيلا وضامناً بقبول دفع مبلغ معين لدى المستفيد من ذلك الخطاب نيابةً عن طالب الضمان عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قِبَل المستفيد ، بمعنى أداء البنك شرط المشترط في حالة عدم قيام المشترط عليه بأداء الشرط ، مثل ضمان الاعيان المغصوبة التي لا تكون الذمة مشغولة بها ما دامت العين موجودة (١).

ويتحقّق تلف الشرط على المشترط بامتناع المشروط عليه عن أداء الشرط الذي هو تلف للفعل على مستحقه ، وبذلك يتحوّل التعهد بأداء الشرط إلى إشغال ذمّة البنك بقيمة ذلك الفعل ( أداء الشرط ) لأنّه من اللوازم العقلائية لدخول ذلك الشرط في العهدة.

وخطاب الضمان هذا ينقسم إلى قسمين :

أ ـ خطاب ضمان ابتدائي.

__________________

(١) راجع البنك اللاربوي في الإسلام : ص ١٢٨.

١٠٣

ب ـ خطاب ضمان انتهائي.

فالابتدائي : هو تعهد بنكي لضمان قيمة دفع مبلغ من العقود من قيمة العملية يطلبه مَنْ يتنافس على العملية إلى المستفيد الذي يدعو إلى المناقصة ، ويستحق المستفيد الدفع له عند عدم قيام الطالب باتخاذ ما يلزم من رسوّ العملية عليه.

والنهائي : هو تعهد بنكي أيضاً لضمان دفع مبلغ من النقود يعادل نسبة من قيمة العملية التي استقرت على عهدة العميل يطلبه مَنْ رست عليه العملية ونُفِّذ معه العقد لصالح المستفيد ، ولا يكون دفع المبلغ واجباً على البنك إلاّ عند تخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد النهائي للعملية التي عقدت بين من طالب الضمان من البنك والمستفيد من خطاب الضمان.

والخطاب الأولي لفائدة التأكد من جديّة عرض الخدمات من كل الاشخاص المشتركين وإلزام المناقص بإبرام العقد إذا رَست عليه المناقصة.

والخطاب النهائي لفائدة إلزام المتعاقد بتنفيذ العقد وللتحفظ على عدم التورط في خسائر أو مضاعفات فيما إذا تخلف عن الوفاء بالتزاماته.

٣ ـ عمولة يأخذها البنك على اصدار خطاب الضمان.

٤ ـ ضمان الطالب من البنك ما يخسره البنك نتيجة لتعهده ، فيحق للبنك أن يطالب مطالبه بإصدار خطاب الضمان بقيمة ما دفعه إلى المستفيد.

٥ ـ قد يوضع الشرط الجزائي في عقد المناقصات عند عدم التسليم للبضاعة والعمل في موعده المقرر الذي فيه ضرر على المستفيد.

وهذا قد يكون في عقد التوريد ، أو في عقد الاستصناع ، أو في عقد الاجارة ( المقاولة للعمل فقط ).

٦ ـ إبرام العقد الأصلي مع مَنْ رستْ عليه المناقصة ( توريد ، أو بيع ، أو استصناع ، أو مقاولة ، أو استثمار ).

١٠٤

وأمّا حكم هذه العقود المجتمعة :

فاننا قد قدّمنا بحثنا عن المناقصات (١) في الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في ( أبو ظبي ) وذكرنا توجيهات مفصلة لحكم هذه العقود المجتمعة ، لذا سوف نقتصر هنا في ذكر حكم هذه العقود بصورة مختصرة ، ومن أراد التوسع فليرجع إلى بحثنا في المناقصات الذي عرض ونوقش في الدورة السابقة.

فنقول : إن العقود المجتمعة التي تكون بين الداعي إلى المناقصة والمناقصين هي :

١ ـ بيع دفتر الشروط على المشتركين في المناقصة ، وهو أمر جائز ؛ لأنّه بيع وعقد فيه منفعة للمشترِك في المناقصة فيشمله : ( احلّ الله البيع ) و ( أوفوا بالعقود ).

٢ ـ خطاب الضمان الابتدائي : وهو عقد صحيح ، لأنّ المقاول ـ مثلاً ـ قد التزم وتعهد بدفع مبلغ من المال عند عدم القيام بالاجراءات اللازمة عند رسوّ العملية عليه ، فهو متعهد وملزم بذلك ، لما قلناه من أن هذا عقد برأسه ، حيث رتب عليه الطرف الآخر الأثر فيشمله أوفوا بالعقود الذي معناه : ( أوفوا بالعهود ) ، وقد وثق هذا الالتزام والشرط من قبل البنك بطلب من أحد طرفي العقد. ونتيجة ذلك هو الزام البنك بتعهده نتيجة طلب المقاول لصالح المستفيد إذا لم يقم المقاول بالاجراءات اللازمة عند رسوّ العملية عليه.

٣ ـ خطاب الضمان النهائي : فهو صحيح ؛ لأن أقل ما يقال عنه أنّه شرط وقع في عقد اجارة أو توريد أو استصناع أو استثمار ، وقد وثق هذا الشرط من قبل البنك بطلب من أحد طرفي العقد.

على أنّه يمكن أن يكون عقد برأسه ، لأنَّ أحد طرفي العقد التزم وتعهد

__________________

(١) وقد تقدم ذلك منّا في الجزء الأول من الكتاب.

١٠٥

بإعطاء نسبة من قيمة العملية في حالة التخلف وقَبِل الآخر ورتب عليه اثراً ، فيشمله ( أوفوا بالعقود ).

كما يمكن تخريجه على أنَّه ضمان عرفي لوفاء المقاول بالشرط ، مثل ضمان البنك للكمبيالة.

٤ ـ الشرط الجزائي (١) : فهو صحيح أيضاً إذا لم يحصل منه محذور الربا ، لأنَّه شرط في ضمن عقد ، ولكن في خصوص عقد التوريد وبيع السلَم والاستصناع. يؤول إلى الربا الجاهلي ، لأنّ المثمن يكون نسيئة في هذه العقود ، فالزيادة لتأخيره كزيادة الثمن لتأخيره ، فهو رباً جاهليّ محرّم ، فيكون الشرط الجزائي في هذه الصورة مخالفاً للكتاب والسنّة.

أمّا الشرط الجزائي في الاجارات ـ المقاولات ـ فهو صحيح إذا كان محدداً معيناً ، لما قلناه من أنّه شرط في ضمن عقد يجب الوفاء به لقاعدة « المؤمنون عند شروطهم » ولم يلزم منه محذور الربا ، بالاضافة إلى ما ورد في مشهور الفقه الإمامي في مسألة ما لو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معيّن بأجرة معينه ، واشترط عليه وصوله في وقت معين ، فإن قصّر عنه نقَّص عن اُجرته شيئاً معيناً جاز وفاقاً للاكثر نقلاً وتحصيلاً ، بل المشهور كذلك للأصل ، وقاعدة « المؤمنون عند شروطهم » والصحيح أو الموثق أو الخبر المنجبر بما عرفت عن محمد الحلبي قال : « كنت قاعداً عند قاض من القضاة وعنده أبو جعفر ( الإمام الباقر عليه‌السلام ) جالس ، فأتاه رجلان فقال أحدهما : إنّي تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن ، واشترطتُ عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا لأنَّها سوق

__________________

(١) إن ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه نهى عن شرطين في بيع لا يشمل ما نحن فيه ، لاننا ذكرنا بأنَّ المراد منه في روايات الامامية هو « اشتراط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا » ، راجع وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٢ من أحكام العقود ، ح ٢.

١٠٦

أتخوّف أن يفوتني ، فإن احتبستُ عن ذلك حططتُ من الكرى لكلّ يوم احتبسته كذا وكذا ، وإنه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوماً؟ فقال القاضي : هذا شرط فاسد ، وفِّهِ كراه.

فلما قام الرجل أقبل إليّ أبو جعفر ( الإمام الباقر عليه‌السلام ) فقال : شرط هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه » (١).

٥ ـ وأمّا إبرام العقد الأصلي فهو لا يخلو من أن يكون عقد توريد أو بيع أو سلم أو استصناع أو استثمار ، وكل هذه البيوع صحيحة ـ بما فيها التوريد كما تقدّم من أنه عقد يشمله ( أوفوا بالعقود ) ـ إذا توفرت فيها أركانها ولم يوجد ما يبطلها كما هو المفروض.

تبقى هناك عقود وقعت بين الداعي إلى المناقصة وغير المناقص ، أو وقعت بين المناقص وغير الداعي إلى المناقصة.

أمّا العقد الواقع بين الداعي إلى المناقصة والخبراء الذين أعدوا دفتر الشروط وهيّأوا المعلومات اللازمة الكاملة عن المشروع فهو عقد جائز ؛ لأنّه إمّا عقد إجارة ، أو جعالة على من يُهيّ هذه المعلومات.

وأمّا العقود الواقعة بين المناقص والبنك فهي :

١ ـ العمولة التي يأخذها البنك على اصدار خطاب الضمان ، فقد قلنا : إنّه عمل غير جائز ، لأنّ نفس عملية الضمان ( كالفاظ معينة ) ليست ممّا تقابل بالمال ،

__________________

(١) جواهر الكلام ٢٧ : ٢٣٠ ومصدر الرواية في وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ١٣ من الاجارة ، ح ٢.

وأمّا تعبير صاحب الجواهر ( والصحيح أو الموثّق أو الخبر ) فهو باعتبار أنّ للرواية ثلاثة أسناد : الأول سند الشيخ الكليني وفيه أحمد وهو مجهول ، فالرواية ضعيفة عبّر عنها بالخبر. والثاني سند الشيخ الطوسي وهو سند صحيح. والثالث سند الشيخ الصدوق وهو صحيح أيضاً.

أقول : لا وجه للتعبير بالموثّق إلاّ أن يكون محمد بن أحمد موثّقاً عند البعض باعتبار أنّه من مشايخ الكليني.

١٠٧

وإنما الذي يقابل بالمال هو نفس خسارة البنك عند عدم قيام المقاول بالتزاماته. وهذه مضمونة كما سيأتي.

٢ ـ ضمان الطالب من البنك ( اصدار خطاب الضمان ) ما يخسره البنك نتيجة تعهده فهو أمر جائز بلا اشكال ، لأنّ ضمان البنك الابتدائي والنهائي لم يكن مجاناً ، بل بطلب من أحد طرفي العقد ، فإذا خسر ما ضمنه البنك فيرجع على الطالب للضمان ـ وهو المقاول ـ ليأخذ منه ما خسره بطلبه.

ما المقصود من صفقتين في صفقة ( أو بيعتين في بيعة ) ؟

ذكروا ورود النهي عن بيعتين في بيعة في أحاديث صحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكروا اتفاق الفقهاء على القول بموجبها ، فمنعوا أن يبيع الشخص بيعتين في بيعة (١). ولكنّهم اختلفوا في تفسير هذه الجملة ـ بمعنى اختلافهم في الصورة التي يطلق عليها هذا الإسم والمنع ـ على صور عديدة أهمّها :

الصورة الاُولى : ذهب بعض من علماء الإسلام إلى أن الاسم والمنع ينطبق على تضمن العقد الواحد بيعتين على أن تتم واحدة منهما ، كأن يقول البائع : بعتك هذه السلعة بمائة نقداً وبمائة وعشرين إلى شهرين ، فيقول المشتري : قبلتُ ، من دون أن يعيّن بأي الثمنين قد اشترى ، ويفترقان على أنّ البيع لزم المشتري بأحد الثمنين. أو المراد منه النهي عن ايجاب البيع في سلعة بثمنين مختلفين إلى أجلين ، وعليه يكون الحديث متعلقاً بصيغة العقد حيث لم ينعقد العقد ، لعدم تحديد ثمن معين وأجل معين عند العقد ، ومن شروط صحة الصيغة أن يصدر القبول على وفق الايجاب ، بينما الايجاب هنا ليس باتاً وإنّما هو متردد بين بيعتين ( صفقتين ) (٢).

__________________

(١) بداية المجتهد : ج ٢ ، ص ١٥٣.

(٢) د. رفيق يونس المصري ، مناقصات العقود الادارية : ص ٤٣. عن المغني : ج ٦ ، ص ٨٧ ، واعلام

١٠٨

نعم ، لو قال المشتري : قبلت في هذا السعر نقداً ، أو قبلت هذا السعر إلى هذا الأجل كان قبوله ايجاباً جديداً ، فإذا قبل البائع لزم البيع على هذه الصورة المعينة الباتَّة. وأمّا الصيغة الاُولى من البائع فهي باطلة (١).

الصورة الثانية : في صورة اجتماع عقدين في عقد على أمرين مختلفين ، كعقد الزواج مع البيع أو القرض ، أو كإجارة الدار شهراً وبيع الثوب بكذا. وقد اختلف علماء أهل السنة في انطباق بيعتين في بيعة على هذه الصورة ، فقد ذهب إلى بطلان هذه الصورة للعقد كل من الحنفية والشافعية والمالكية غير أشهب ، والحنابلة ، إلاّ أنّهم يجيزون اجتماع عقد البيع مع عقد الاجارة ـ أي اجتماعهما في عقد واحد ـ لتوافق أحكام البيع مع الاجارة غالباً ، ويرى أشهب ـ من علماء المالكية ـ جواز هذه الصورة للعقد (٢).

الصورة الثالثة : عقد البيع مع عقد الاجارة : فقد اجازه كل من المالكية والشافعية والحنابلة ، ويوزع المسمى على قيمتهما من حيث الاُجرة والمبيع.

ولكن ذهب إلى البطلان بعضٌ بحجّة أن هذه الصورة قد تقتضي فسخ أحد

__________________

الموقعين : ج ٣ ، ص ٤٠١ ، والبيان والتحصيل : ج ٨ ، ص ٤٣٨ ، والمدونة : ج ٣ ، ص ٣٨٩ ، والموسوعة الفقهية الكويتية : ج ١ ، ص ٢٥٦. وقد ذكر بعضٌ أنّ علة المنع في الصورة الاُولى هو جهل الثمن فهو من بيوع الغرر التي نهي عنها. وذكر بعض أن علّة المنع هو سدّ الذريعة الموجبة للربا. راجع بحث العقود المستجدّه د. نزيه كمال حماد : ص ٢.

(١) د. رفيق يونس المصري ، مناقصات العقود الادارية ص٤٣ ( بتصرف ).

وقد احتمل الصحة صاحب الجواهر قدس‌سره في صورة بقاء ايجاب البائع كما هو وكان القبول على النقد أو النسيئة. جواهر الكلام ٢٣ : ١٠٧. أمّا نحن فنقول بالصحة من باب أن القبول صادر إيجاباً والايجاب قبولاً.

(٢) راجع بحث الايجار المنتهي بالتمليك ، د. حسن علي الشاذلي ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الخامسة ، عدد ٥ ، ج ٤ عن الشرح الكبير للدسوقي : ج ٤ ، ص ٥ ، والشرح الصغير : ج ٢ ، ص ٢٣٥ وغيرهما.

١٠٩

العقدين ، فيحتاج إلى التوزيع ويلزم الجهل عند العقد بما يخصّ كلا منهما من العوض ، وهذا هو محذور الصحة.

وقد اُجيب بأنَّ هذا ليس محذوراً للصحة ، ويتّضح في صورة ما إذا بعنا أشياء معينة صفقة واحدة وتبيّن أنَّ بعضها مستحق للغير ، فيبطل البيع بالنسبة إليها ويصح في الباقي (١) فيحتاج إلى التوزيع بسبب بطلان أحدهما.

الإمامية :

وقد تعرض الامامية لروايات (٢) النهي عن بيعتين في بيعة ، أو صفقتين في صفقة ، والقدر المتيقن منها هو ما لو باع بثمن حالٍّ وبأزيد منه إلى أجل بأن قال : بعتك هذا نقداً بدرهم وبدرهمين إلى شهرين. وقد اختلفوا في بطلان أو صحة هذه المعاملة ( فيما إذا قبل المشتري على صفة الترديد ) على قولين :

القول الأول : بطلان المعاملة ، وذلك للغرر والجهالة. فيكون النهي الوارد في هذه الصورة ارشاداً إلى عدم تمامية المعاملة من جهة الغرر والجهالة. وذهب إلى هذا القول بعض القدماء وأكثر المتأخرين.

ولكن يمكن أن يناقش هذا القول بعدم وجود الغرر وعدم الجهالة بعد تعيين الثمن ، وأنّ الزيادة وقعت في مقابلة التأخير على جهة الشرطية فتفسد ، ولهذا تختلف هذه الصورة عن الاجارة ، حيث قال بصحة الاجارة غير واحد في صورة

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) راجع الروايات في وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٢ من أحكام العقود ، ح ٣ و ٤ و ٥ ، والرواية الثالثة موثّقة لأن محمد بن يحيى الخزّار ثقة وقد وثق مصدق بن صدقة ، ولسان الرواية هو : عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث رجلاً إلى أهل مكّة وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع.

١١٠

ما لو قال : إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غداً فَلَكَ نصف درهم ، وإن خطته روميّاً فَلَكَ درهم ، وإن خطته فارسياً فَلَكَ نصف درهم ، مع أنَّ الاجارة والبيع مشتركان في اعتبار عدم الغرر والجهالة.

ولكن الحقّ : أنّه لا جهالة في صفة الثمن ، أمّا الجهالة فهي متحقّقة في أصل الثمنية ، بمعنى أن المشتري وكذا البائع بعد القبول على الترديد لم يعلما ما صار ثمناً في مقابل المبيع أصل الثمنية ، بمعنى أن المشتري وكذا البائع بعد القبول على الترديد لم يعلما ما صار ثمناً في مقابل المبيع.

ودعوى تعيينه باختيار المشتري فيما بعد ينافي سببية العقد المقتضية لترتب الأثر عليه بالفراغ منه.

وحينئذ لا فرق بين البيع والاجارة وغيرهما من عقود المعاوضات ( كالسَلَم ) (١). ولكن الذي يقف في وجه قبول هذا القول أمران :

الأول : أنّ النهي الوارد في هذه الصورة والاهتمام من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك يمنع من حمله على الارشاد (٢) ، إذ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « بعث رجلاً إلى أهل مكّة وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع » فهذا الاهتمام يدل على أن النهي لتحريم العمل لا لأجل الارشاد إلى وجود غرر أو جهالة.

الثاني : وجود رواية صحيحة تقول بصحة هذا البيع إذا قبله المشتري على صفة الترديد ، ويكون للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الاجلين ، والرواية هي صحيحة

__________________

(١) أي كما لا يصح أن يقال : بعته نقداً بدرهم وبدرهمين إلى شهر ، فكذا لا يصح أن يقال : إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غداً فلك نصف درهم ، وكذا لا يصح أن يقال : إن سلّمت المبيع السلمي بعد ثلاثة اشهر فلك الف وبعد ستة أشهر فلك ثمانمائة فقبل الآخر من دون أن يكون القبول على أحد الصورتين ، كل ذلك الغرر والجهالة في الثمن أو الاُجرة ، فان المتبايعين لم يعلما على أي ثمن أو اُجرة وقع البيع أو الاجارة وذلك مبطل للعقد.

(٢) وأيضاً يمنع من حمله على الكراهة ، حيث ذهب بعض إلى ذلك نتيجة وجود صحيحة محمد بن قيس الدالة على صحة البيع بثمن أقل للأجل الأبعد.

١١١

محمد بن قيس البجلي ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من باع سلعة فقال : إنّ ثمنها كذا وكذا يداً بيد وثمنها كذا وكذا نظرة فخذها بأي ثمن شئت واجعل صفقتها واحدة ، فليس له إلاّ أقلهما وإن كانت نظرة ... » (١). وكذا رواية السكوني بهذا المضمون (٢).

فالخلاصة : أنّنا إذا قلنا بالبطلان في هذه الصورة نتيجة الغرر والجهالة تكون هذه الصحيحة معارضة للروايات المرشدة إلى بطلان المعاملة (٣).

القول الثاني : حرمة المعاملة لوجود الربا من دون بطلان ، إذ هذه المعاملة ترجع إلى بيع السلعة بنقد حالٍّ بشرط انه إذا أراد المشتري تأخير الثمن فيزيد فيه ، وهذا ربا محرم قد نهى عنه رسول الله ؛ لأنّه ربا مبطّن بصورة البيع. وحينئذ إن حصلت هذه المعاملة الربوية المبطّنة فالذي يبطل هو الشرط دون العقد ؛ لأنّ النهي متوجّه للشرط وقبوله ، لا للعقد.

وعلى هذا القول لا معارضة بين الروايات الناهية وبين الروايات التي تصحح المعاملة بأقل الثمنين إلى أبعد الاجلين. وقد ذهب إلى هذا القول جمع من القدماء وبعض المتأخرين.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٢ من أبواب أحكام العقود ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٢.

(٣) هذا ، وقد ذهب الإمام الخوئي قدس‌سره إلى أن المعاملة هذه باطلة من ناحية التعليق في العقد الذي قام الإجماع على بطلانه في العقود ، وحينئذ تكون الروايات المجوزة لهذا البيع مخالفة لقاعدة تبعيّة العقود للقصود فتخصصها كما تخصص الإجماع بغير هذه الصورة ؛ لوجود الدليل على صحة المعاملة مع مخالفتها للقواعد وللاجماع ، وحينئذ تحمل الروايات الناهية على الكراهة. راجع مصباح الفقاهة : ج ٧ ، ص ٥٥٨ ـ ٥٦٣ ، ولكن الإمام الخوئي في ص ٢٩٩ و ص ٣٠٠ في الكتاب نفسه ذكر : أن التعليق المضرّ في العقود هو أن يكون على أمر استقبالي غير حاضر ، أمّا إذا كان أصل الالتزام مربوطاً بشيء آخر بمعنى أنّه لا يبيع مع عدم هذا الالتزام من المشتري فلا يضر التعليق هنا ؛ لكونه واقعاً على أمر حاصل وهو الالتزام ، كما في قولنا : بعتُ السيارة بشرط أن تبيعها إلى زيد.

١١٢

فقد ذكر صاحب الجواهر عن المختلف أو الدروس فقال : « والاقرب الصحة ولزوم الأقل ... فالزيادة ربا ؛ ولأجلها ورد النهي ، وهو غير مانع من صحة البيع » (١).

وهذا القول هو الذي احتمله الفاضل في المختلف ، إذ قال : « ويمكن أن يقال انه رضي بالأقل فليس له الأكثر في البعيد وإلاّ لزم الربا ، إذ تبقى الزيادة في مقابلة تأخير الثمن لا غير ... » (٢).

وعلى هذا القول يمكن أن يختلف الحكم في البيع عن الاجارة ، بأن تكون هذه الصورة في البيع محرمة لوجود الربا ، وغير محرمة في الاجارة لعدم وجود الربا ، ولكنّها صحيحة في الصورتين إذا تمكّنا من إزالة اشكال الجهالة في أصل الثمنية والاُجرة. بقولنا : إنّها لا تضر لأن العلم بأحد البيعين معلوم بعد العقد مباشرة ، أو نقول : بأنّ هذه الجهالة وان كانت موجودة لكنّها لا تضر بصحة العقد لأنّها لا تجرّ إلى التنازع ، فتكون الجهالة والضرر المبطل للبيع أو الاجارة هو في خصوص ما إذا كانت الجهالة بطبعها تؤدي إلى التنازع.

على أننا لو اخترنا القول الأول القائل ببطلان المعاملة فيما إذا قال : بعته نقداً بكذا وبنسيئة بأكثر منه للجهالة والغرر فيمكننا أن نقول بصحة الاجارة فيما إذا قال : إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم ، وذلك لإمكان أن يكون الدرهم ونصف الدرهم على الخياطة اليوم أو غداً جعالة لا اجارة ، والجعل لا يعتبر فيه المعلومية ، أو نقول بالفرق بين الاجارة والبيع بأنّ العمل الذي يستحقّ به الاُجرة لا يمكن وقوعه إلاّ على أحد الصفقتين فتتعيّن الأجرة المسماة عوضاً له ، فلا يقتضي التنازع ، بخلاف البيع الذي يمكن أن يقبل المشتري في نيّته

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٢٣ ، ص ١٠٤.

(٢) المصدر السابق.

١١٣

النقد ويتلكّأ في توفير المبلغ حتى يمضي الأجل فيقع التنازع بينهما في الثمن. وعلى هذا فلا يصح ما قيل : « إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم » (١).

فعن أحمد روايتان : أحداهما : لا يصح ، وله أجر المثل. نقلها أبو الحارث عن أحمد ، وهذا مذهب مالك والثوري والشافعي واسحاق وأبي ثور ، لأنّه عقد واحد اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير فلم يصح كما لو قال : بعتك نقداً بدرهم أو بدرهمين نسيئة (٢).

إذا قبل المشتري أحد الثمنين :

أمّا إذا قبل المشتري أحد الثمنين كما لو قال : قبلته نسيئة أو قبلته نقداً فهذه الصورة خارجة عن محلّ النزاع والروايات ، ويكون البيع صحيحاً إذا رضي البائع بعد ذلك ، إذ يكون القبول بنقد ـ مثلاً ـ إيجاباً ، والقبول من البائع قبولا للايجاب ، أمّا الايجاب الأولي من البائع فهو استدعاء للبيع. وقد اجاز هذه الصورة ـ بالاضافة إلى الامامية ـ جماعة من أهل السنة أيضاً (٣).

__________________

(١) لا بأس بالتنبيه إلى أن هذا الفرض ( جعل اُجرتين على تقديرين ) يختلف عن الشرط الجزائي في الاجارة ، وهو ما إذا قال : آجرتك على أن توصلني إلى السوق يوم كذا وكذا بكذا وكذا درهماً ، فإن أوصلتني بعد ذلك بيوم فيسقط من الاُجرة درهم ، فإن أوصلتني بعد يومين فيسقط من الاُجرة درهمان ، فإنّ هذا شرط صحيح ما لم يحط بجميع الكراء ، حيث إن عقد الاجارة كان باتاً على أجر معين وزمن معين ، فإن أخلَّ بالشرط ووصل بعد ذلك بيوم فيسقط من الاُجرة شيء ، وهذا شرط نتيجة يكون صحيحاً من دون خلل في الاُجرة ، وقد ورد بهذا الشرط الجزائي نصّ موثّق عن الإمام الباقر عليه‌السلام في الاجارة.

(٢) راجع بحث مناقصات العقود الادارية ، د. رفيق المصري ص ٤٤ ، عن المغني : ص ٦ ، ص ٨٧ ، واعلام الموقعين : ج ٣ ، ص ٤٠١ ، والمدونة : ج ٣ ، ص ٣٨٩ ، والموسوعة الفقهية الكويتية : ج ١ ، ص ٢٥٦.

(٣) المصدر السابق.

١١٤

أقول : النتيجة التي انتهينا إليها : أنّ روايات نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صفقتين في صفقة لا علاقة لها بالعقود المركبة التي تكلمنا عنها سابقاً.

أثر المواعدة ( التفاهم ) السابقة على العقود المجتمعة :

إنّ العقود المجتمعة يسبقها عادةً اتفاق عام حول إيجادها ، وهو ما يسمى ب‍ ( إطار التعامل ). فالمناقصة في المقاولات أو البيوع سواء كانت لسلع جاهزة أو لتوريد سلع (١) يسبقها تفاهم واتفاق بين الأطراف حول إيجادها ، فهل يكون هذا الاتفاق العام ملزماً للاطراف ؟

أقول : إنّ المواعدة والتفاهم العام بين الأطراف قد يكون شرطاً ابتدائياً ، وقد يكون وعداً أكيداً رَتَّب الطرفُ الآخر عليه أثراً ، وحينئذ لابد من الكلام حول الوعد الأكيد وحول الشرط الابتدائي.

فنقول : الوعد (٢) : إذا رجعنا إلى معنى المواعدة التي تكون بين اثنين المشتقة

__________________

(١) وكذا الأمر في « المرابحة للآمر بالشراء » كأن يقول شخص للبنك : اشترِ لي هذه السلعة وأنا اُربحك كذا ، وأقدم البنك على الشراء بقصد بيعها لمن أمره.

(٢) الكلام في الشرط كالكلام في الوعد بلا أي اختلاف من حيث دلالة الشرط الذي هو معنى حدثي على الالتزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير ويحصل منه الزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير ، فان المراد من الشرط هنا هو المعنى الحدثي الذي يشتق منه ، لا المعنى الذي هو « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » أو المعنى الأدبي الذي يقع بعد أداة الشرط ، أو المعنى الاصطلاحي للشرط في مقابل المقتضي والمانع. فإنَّ هذه المعاني الثلاثة ليست مرادةً عرفاً من الشرط الذي يقع في إطار العقود.

ولا بأس بالتنبيه : إلى أن المراد من الوعد والشرط في كلامنا هذا : هو في خصوص ما يكون قد دخل الآخر ( الموعود أو المشروط له ) في عمل نتيجة الشرط أو الوعد بحيث صار هناك التزام من الطرفين فحصل معنى العقد بناءً على تقوّم العقد بالربط بين التزامين ، وحينئذ فيشمله قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود ) والصحيحة الواردة عند الفريقين : « المسلمون عند شروطهم » وقد طبق الإمام عليه‌السلام هذا

١١٥

من الوعد الصادر من واحد لرأينا أنّ الوعد في اللغة جاء بمعنى العهد كما جاء بمعنى الخبر ، فقد ذكر في مجمع البحرين من معاني العهد : الوعد والخبر قوله : أتخذتم عند الله عهداً (١) أي خبراً ووعداً بما تزعمون. وجاء في المنجد : واعد مواعدة : وعد كل منهما الآخر ... عاهده على أن يوافيه في موضع أو وقت معين.

وقال في لسان العرب : إنّ الوعد هو العهد ، فقد قال تعالى : ( ما أخلفنا موعدك بملكنا ) (٢) ، فقال مجاهد : الموعد : العهد ، وكذلك قوله تعالى : ( وأخلفتم موعدي ) قال : عهدي.

ثم إنّ من الواضح أنّ العهد لغةً : هو الالتزام ، فقد استعمل العهد مع مشتقاته في القرآن الكريم في أكثر من مائة وخمسين موضعاً ، وفي كل هذه المواضع دلّ على إلزامية العهد. وممّا ذكرته كتب اللغة عن معنى العهد هو « ما التزمه المكلف من الأعمال مع الله تعالى ومع غيره » فقد ذكر في مجمع البحرين قوله : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) قيل : يدخل فيه النذر وكلما التزم المكلف من الأعمال مع الله تعالى ومع غيره ... والضمان ، ومنه قوله تعالى : ( وأوفوا بعهدي اُوفِ بعهدكم ) (٣) أي ( أوفوا بما ضمنتم أوفِ بما ضمنت لكم من الجنة ) ومثله ( وأوفوا بالعهد إن العهد

__________________

القانون الوارد في الصحيحة على موارد متعددة ، فمن ذلك ما رواه سليمان بن خالد عن الإمام الصادق عليه‌السلامقال : « سألته عن رجل كان له أبٌ مملوك وكانت لأبيه امرأة مكاتبة قد أدّت بعض ما عليها ، فقال لها ابن العبد : هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتى تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك ؟ قالت : نعم ، فاعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك.

قال الإمام عليه‌السلام : لا يكون لها الخيار « المسلمون عند شروطهم » ، وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١١ من كتاب المكاتبة ، ح ١.

(١) البقرة : ٨٠.

(٢) طه : ٨٧.

(٣) البقرة : ٤٠.

١١٦

كان مسؤولاً ) (١)

وقد ذكر الخليل الفراهيدي في العين انَّ العهد : الموثِق ، وجمعه عهود.

كما ذكر في لسان العرب : « عهد : قال تعالى : ( وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولاً ) ... قال غير الزجاج : العهد كل ما عوهد الله عليه وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد ... وفي حديث الدعاء : « وانا على عهدك ووعدك ما استطعت » ، أي أنا مقيم على ما عاهدتُك عليه من الإيمان بك والاقرار بوحدانيتك لا أزول عنه. واستثنى بقوله : « ما استطعت » موضعَ القدر السابق في أمره. أي إن كان قد جرى القضاء أن أنقض العهد يوماً ما فإني اُخلدُ عند ذلك إلى التنصل والاعتذار لعدم الاستطاعة في دفع ما قضيته عليَّ. أو قيل : معناه إني متمسك بما عهدته إليَّ من أمرك ونهيك ... والعهد : الموثق ».

والخلاصة : أنّ الوعد اللغوي الذي هو يأتي بمعنيين : الأول هو العهد ، والثاني خبر عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل.

فإذا كان بمعنى العهد فهل يلزم الوفاء به شرعاً ؟

الجواب : اتفق الفقهاء على أنَّ خلف الوعد منهي عنه ، ولكن اختلفوا في إلزاميته على نحو الوجوب بحيث يقاضى مَنْ لم يلتزم به أمام القضاء على أقوال أربعة :

١ ـ ذهب الجمهور من كل الطوائف إلى عدم لزومه وان كان المكلّف مأموراً بالوفاء به ديانة لأنّه تفضل واحسان ، ويقول الله تعالى : ( ما على المحسنين من سبيل ) (٢).

٢ ـ الإلزام إذا دخل الموعود بسبب هذه العِدَة في شيء ، وهذا قول مالك

__________________

(١) الإسراء : ٣٤.

(٢) التوبة : ٩١.

١١٧

وابن القاسم وقول سحنون ( وهذا هو المشهور عند المالكية ).

٣ ـ الإلزام ، إذا كان الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود فيه فعلا. وهذا قول لمالك وأصبغ من علماء المالكية.

٤ ـ الإلزام مطلقاً ، وإلى هذا ذهب ابن شبرمة فيما حُكي عنه (١).

والصحيح هو التفصيل بين أن يكون الوعد على مستوى العهد فيجب الوفاء به ، وبين أن يكون على مستوى الإخبار فلا يجب الوفاء به ، وتشخيص إرادة هذا دون ذاك أو العكس يتم من خلال القرائن.

وحينئذ نقول : إنّ الوعد الذي يسبق العقد أو العقود المجتمعة ـ ويكون في الاطار العام للتعامل ويبنى عليه العقد بمعنى دخول الموعود بسبب العدة في العقد ـ ويكون بمعنى العهد والالتزام ـ الذي يجب أن يفي به المكلف (٢) ـ للقرائن التي اكتنفت هذا الوعد بالخصوص ، وعلى هذا فتعتبر المواعدة السابقة ( التفاهم ) على العقود المجتمعة مرتبطة بالعقود ، وجزءاً منها من حيث حكمها التكليفي والآثار المترتبة عليها.

وإليك بعض الأدلّة على وجوب الوفاء بالوعد إذا كان على مستوى العهد :

__________________

(١) راجع المحلى لابن حزم : ج ٨ ، ص ٣٧٧.

(٢) نودّ أن نذكر هنا : أنّ مشهور الطائفة الإمامية على أنّ الوعد والعهد الذي بمعنى الالتزام إذا لم يكن في متن العقد فلا يجب الوفاء به ، فقد ذكر الشيخ الأنصاري في الشرط الثامن من صحة الشرط أن يكون في متن العقد : « فلو تواطيا عليه قبله لم يكف ذلك في التزام المشروط به على المشهور ، بل لم يعلم فيه خلاف عدا ما يتوهّم من ظاهر الخلاف والمختلف ... ». راجع مكاسب الشيخ الأنصاري : ج ٢ ، ص ٢٨٢.

ونحن كلامنا في الشرط الابتدائي والوعد الذي يكون بين اثنين قد رتّب الآخر عليه أثراً وعملا ، هذا وقد وجدت أنّ آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدس‌سره يذهب إلى ما ذهبنا إليه ويعدّه من متفرداته ، فيقول : « فلو قال رجل لآخر : بع هذا الشيء من فلان وإن لم يعطك الثمن أنا أدفعه لك ، فلو لم يعطه الثمن فان كان الوعد بنحو الإلزام والتعهد وجب أن يدفع له ، وإلاّ فلا ، وهذا من متفرداتنا ، أمّا ظاهر المشهور فعدم الوجوب مطلقاً ، فليتدبر » راجع تحرير المجلّة : ج ١ ، ص ٥٤.

١١٨

أ ـ الكتاب الكريم :

١ ـ قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) (١) ، فقد وصفت الآية انَّ القول بما لا يفعله الإنسان ممقوت عند الله ، وهذا على قسمين :

الأول : يقول ما لا يفعل ، ولا يصدق عليه أنّه خدع وغش وخان.

الثاني : يقول ما لا يفعل ، ويصدق عليه أنّه خدع وغش وخان.

ولكن الأول خرج عن الحرمة بدليل عدم حرمة مخالفة الإخبار عن إنشاء معروف في المستقبل.

والثاني ممقوت بحدِّ الحرمة لصدق عنوان الخداع والغش والخيانة المحرمة.

والأول يصدق على الوعد الذي لا يدخل فيه الموعود بسبب العدة في عقد.

والثاني يصدق على الوعد الذي يدخل فيه الموعود بسبب العدّة في عقد بحيث يكون عدم الوفاء بالوعد خيانة وغشاً وضرراً على الموعود ، فيكون عدم الوفاء بالوعد محرّماً ، كما يلزم الواعد رفع الضرر الذي حصل نتيجة وعده وخيانته وخداعه (٢).

٢ ـ قال تعالى على لسان موسى عليه‌السلام : ( أم أردتم أن يحلّ عليكم غضب من ربكم

__________________

(١) الصف : ٢ ـ ٣.

(٢) أقول : من المحتمل أن تكون الآية الشريفة ناظرة الى معنى آخر غير مسألة الوفاء بالوعد وهو المعنى الذي يشير إليه شاعر حيث يقول :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

بأن يكون الناهي عن الخلق عازماً على فعل ما ينهى عنه ، ولكنّ عموم الآية يجعلها تشمل كل ما التزم به الإنسان أمام الله والآخرين ولا يعمل به ، سواء كان عازماً من الأول على عدم العمل أو طرأ له ذلك.

١١٩

فاخلفتم موعدي ) (١) فقد بين النبي موسى عليه‌السلام أنّ في مخالفة موعده غضب الله ، ونحن نعلم أن الغضب لا يكون إلاّ على أمر محرم ، وهذه قرينة على أنّ المراد من موعده العهد والالتزام الذي قدم له ، بحيث تكون مخالفته موجبة للعقوبة الرادعة.

٣ ـ قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) (٢) وقد فسِّرت العقود بالعهود.

٤ ـ قال تعالى : ( وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولاً ) (٣).

فالمعاهدات التي كان يعملها المسلمون مع أعدائهم من المشركين قد أمر القرآن الكريم بالالتزام بها بما تقدّم ، وقد استثناها القرآن الكريم من البراءة من المشركين ، فقال تعالى : ( براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ... إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إن الله يحب المتقين * ... كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحب المتقين ) (٤).

فالمشرك الذي عوهد من قِبل المسلمين ولم ينقض عهده ولم يظاهر على المسلمين ـ بمعنى أنّه استقام على عهده ـ يجب الوفاء له بالعهد ، وحينئذ تكون البراءة من المشركين الذين لم يكن بينهم وبين المسلمين عهد ، أو كان عهد ولم يستقيموا عليه بأن ظاهروا على المسلمين أو نقضوا من العهد الذي تعهدوه ، فيكون من حقّ المسلمين أن ينقضوا عهدهم وينبذوه إليهم ، لذا قال تعالى : ( وإمّا تخافنّ من

__________________

(١) طه : ٨٦.

(٢) المائدة : ١.

(٣) الاسراء : ٣٤.

(٤) براءة : ٤ ـ ٧.

١٢٠