آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]

آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

المؤلف:

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]


المحقق: الدكتور علي بو محلم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

يكون ذلك باجتماع هذه كلها. والجسم انما يكون مادة للجسم الآخر ، إما بأن يوفيه صورته على التمام ، وإما بأن يكسوه (جزءا) من صورته وينقص من عزته. والذي يكون (له) آلة تخدم جسما آخر فانما يكون آلة بأحد هذين أيضا : وذلك إما بصورته على التمام ، وإما بأن يكسوه قليلا من عزة صورته مقدار ما لا يخرجه ذلك من ماهيته ، مثل من يكسر من رعاع العبيد ويقمعهم حتى يذلّوا فيخدموا (١).

_________________

١) يستوفي الشيء مادته من غيره بفضل قوة داخلية فيه أو قوة خارجية.

٨١

الباب العشرون

القول في أجزاء النفس الانسانية وقواها

فإذا حدث الانسان ، فأول ما يحدث فيه القوة التي بها يتغذى ، وهي القوة الغاذية؛ ثم من بعد ذلك القوة التي بها يحس الملموس ، مثل الحرارة والبرودة ، وسائرها التي بها يحس الطعوم ، والتي بها يحس الروائح ، والتي بها يحس الأصوات ، والتي بها يحس الألوان والمبصرات كلها مثل الشعاعات. ويحدث مع الحواس بها نزوع إلى ما يحسه ، فيشتاقه أو يكرهه. ثم يحدث فيه بعد ذلك قوة أخرى يحفظ بها ما ارتسم في نفسه من المحسوسات بعد غيبتها عن مشاهدة الحواس لها ، وهذه هي القوة المتخيلة. فهذه تركب المحسوسات بعضها إلى بعض ، وتفصل بعضها عن بعض ، تركيبات وتفصيلات مختلفة ، بعضها كاذبة وبعضها صادقة؛ ويقترن بها نزوع نحو ما يتخيله. ثم من بعد ذلك يحدث فيه القوة الناطقة التي بها يمكن أن يعقل

٨٢

المعقولات ، وبها يميز بين الجميل والقبيح ، وبها يحوز الصناعات والعلوم ، ويقترن بها أيضا نزوع نحو ما يعقله (١).

فالقوة الغاذية ، منها قوة واحدة رئيسة ، ومنها قوى هي رواضع لها وخدم. فالقوة الغاذية الرئيسة هي من سائر أعضاء البدن في الفم؛ والرواضع والخدم متفرقة في سائر الأعضاء؛ وكل قوة من الرواضع والخدم فهي في عضو ما من سائر أعضاء البدن؛ والرئيسة منها هي بالطبع مدبرة لسائر القوى ، وسائر القوى يتشبه بها ويحتذي بأفعالها حذو ما هو بالطبع غرض رئيسها الذي في القلب ، وذلك مثل المعدة والكبد والطحال ، والأعضاء الخادمة هذه ، والأعضاء التي تخدم هذه الخادمة ، والتي تخدم هذه أيضا. فإن الكبد عضو يرؤس ويرأس ، فإنه يرأس بالقلب ويرؤس المرارة والكلية وأشباههما من الأعضاء؛ والمثانة تخدم الكلية ، والكلية تخدم الكبد ، والكبد يخدم القلب؛ وعلى هذا توجد سائر الأعضاء (٢).

والقوة الحاسة ، فيها رئيس وفيها رواضع؛ ورواضعها هي هذه الحواس الخمس المشهورة عند الجميع ، المتفرقة في العينين وفي الأذنين وفي سائرها. وكل واحد من هذه الخمس يدرك حسا ما يخصه. والرئيسة منها هي التي اجتمع فيها جميع ما تدركه الخمس بأسرها ،

_________________

١) قوى النفس خمس تحدث على التوالي وهي الغاذية والحاسة والنزوعية والمتخيلة والناطقة.

٢) القوة الغاذية رئيسها القلب وأعضاؤها الكبد والكلية والمثانة والمرارة والمعدة والطحال.

٨٣

وكأن هذه الخمس هي منذرات تلك ، وكأن هؤلاء أصحاب أخبار ، كل واحد منهم موكل بجنس من الأخبار ، وبأخبار ناحية من نواحي المملكة. والرئيسة كأنها هي الملك الذي عنده تجتمع أخبار نواحي مملكته من أصحاب اخباره. والرئيسة من هذه أيضا هي في القلب (١).

والقوة المتخيلة ليس لها رواضع متفرقة في أعضاء أخر ، بل هي واحدة ، وهي أيضا في القلب ، وهي تحفظ المحسوسات بعد غيبتها عن الحس. وهي بالطبع حاكمة على المحسوسات ومتحكمة عليها ، وذلك أنها تفرد بعضها عن بعض ، وتركب بعضها إلى بعض ، تركيبات مختلفة ، يتفق في بعضها أن تكون موافقة لما حسّ ، وفي بعضها أن تكون مخالفة للمحسوس (٢).

وأما القوة الناطقة ، فلا رواضع ولا خدم لها من نوعها في سائر الأعضاء ، بل انما رئاستها على سائر القوى المتخيلة؛ والرئيسة من كل جنس فيه رئيس ومرءوس. فهي رئيسة القوة المتخيلة ، ورئيسة القوة الحاسة الرئيسة منها ، ورئيسة القوة الغاذية الرئيسة منها (٣).

والقوة النزوعية ، وهي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه؛ فهي رئيسة ، ولها خدم. وهذه القوة هي التي بها تكون الارادة. فان الارادة هي نزوع إلى ما أدرك وعن ما أدرك ، إما بالحس ، وإما

_________________

١) القوة الحاسة رئيسها القلب أيضا وأعضاؤها الحواس الخمس ، تنقل أخبار العالم الخارجي إلى القلب.

٢) القوة المتخيلة مركزها القلب ولا أعضاء لها ، تحفظ صور المحسوسات وتركبها.

٣) القوة الناطقة مركزها القلب ، وهي ترأس الغاذية والمتخيلة والحاسة.

٨٤

بالتخيل ، وإما بالقوة الناطقة ، وحكم فيه أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك. والنزوع قد يكون إلى علم شيء ما ، وقد يكون إلى عمل شيء ما ، إما بالبدن بأسره ، وإما بعضو ما منه. والنزوع انما يكون بالقوة النزوعية الرئيسية (١).

والأعمال بالبدن تكون بقوى تخدم القوة النزوعية. وتلك القوى متفرقة في أعضاء أعدت لأن يكون بها تلك الأفعال ، منها أعصاب ومنها عضل سارية في الأعضاء ، والتي تكون بها الأفعال التي نزوع الحيوان والانسان إليها. وتلك الأعضاء مثل اليدين والرجلين وسائر الأعضاء التي يمكن أن تتحرك بالارادة. فهذه القوى التي في أمثال هذه الأعضاء هي كلها جسمانية وخادمة للقوة النزوعية الرئيسية التي في القلب (٢).

وعلم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة ، وقد يكون بالمتخيلة ، وقد يكون بالاحساس.

فإذا كان النزوع إلى علم شيء شأنه أن يدرك بالقوة الناطقة ، فان الفعل الذي ينال به ما تشوق من ذلك ، يكون بقوة ما أخرى في الناطقة ، وهي القوة الفكرية ، وهي التي تكون بها الفكرة والرؤية والتأمل والاستنباط (٣).

_________________

١) القوة النزوعية هي محبة الأشياء أو كرهها وتدعى الارادة التي هي نزوع إلى الشيء أو عنه.

٢) مركز القوة النزوعية في القلب كسائر القوى النفسانية وأعضاء الحركة في الجسم كالأعصاب والعضلات واليدين والرجلين خدم للنزوعية.

٣) القوة الناطقة تخدم النزوعية.

٨٥

وإذا كان النزوع إلى علم شيء ما يدرك باحساس ، كان الذي ينال به فعلا مركبا من فعل بدني ومن فعل نفساني في مثل الشيء الذي نتشوق رؤيته ، فإنه يكون برفع الأجفان وبأن نحاذي أبصارنا نحو الشيء الذي نتشوق رؤيته. فإن كان الشيء بعيدا مشينا إليه ، وإن كان دونه حاجز أزلنا بأيدينا ذلك الحاجز. فهذه كلها أفعال بدنية ، والاحساس نفسه فعل نفساني وكذلك في سائر الحواس (١).

وإذا تشوق تخيل شيء ما ، نيل ذلك من وجوه : أحدها يفعل بالقوة المتخيلة ، مثل تخيل الشيء الذي يرجى ويتوقع ، أو تخيل شيء مضى ، أو تمني شيء ما تركبه القوة المتخيلة؛ والثاني ما يرد على القوة المتخيلة من احساس شيء ما ، فتخيل إليه من ذلك أمر ما أنه مخوف أو مأمول ، أو ما يرد عليها من فعل القوة الناطقة (٢).

فهذه القوى النفسانية.

_________________

١) القوة الحاسة تخدم النزوعية.

٢) القوة المتخيلة تخدم النزوعية.

٨٦

الباب الحادي والعشرون

القول في كيف تصير هذه القوى والأجزاء نفسا واحدة

فالغاذية الرئيسة شبه المادة للقوة الحاسة الرئيسة ، والحاسة صورة في الغاذية. والحاسة الرئيسة شبه مادة للمتخيلة ، والمتخيلة صورة في الحاسة الرئيسة. والمتخيلة الرئيسة مادة للناطقة الرئيسة ، والناطقة صورة في المتخيلة ، وليست مادة لقوى أخرى ، فهي صورة لكل صورة تقدمتها. وأما النزوعية فإنها تابعة للحاسة الرئيسة والمتخيلة والناطقة ، على جهة ما توجد الحرارة في النار تابعة لما تتجوهر به النار (١).

فالقلب هو العضو الرئيس الذي لا يرأسه من البدن عضو آخر. ويليه الدماغ ، فإنه أيضا عضو ما رئيس ، ورئاسته ليست رئاسة أولية ، لكن رئاسة ثانية ، وذلك لأنه يرأس بالقلب ، ويرأس سائر الأعضاء؛ فإنه يخدم القلب في نفسه ، وتخدمه سائر الأعضاء بحسب ما هو

_________________

١) تراتب قوى النفس : الناطقة فالمتخيلة فالحاسة فالغاذية ، والنزوعية تتبعها.

٨٧

مقصود القلب بالطبع. وذلك مثل صاحب دار الانسان ، فإنه يخدم الانسان في نفسه وتخدمه سائر أهل داره ، بحسب ما هو مقصود الانسان في الأمرين ، كأنه يخلفه ويقوم مقامه وينوب عنه ويتبدل فيما ليس يمكن أن يبدله الرئيس ، وهو المستولي على خدمة القلب في الشريف من أفعاله (١).

من ذلك ، أن القلب ينبوع الحرارة الغريزية ، فمنه تنبثّ في سائر الأعضاء ، ومنه تسترفد ، وذلك بما ينبث فيها عنه من الروح الحيواني الغريزي في العروق الضوارب. ومما يرفدها القلب من الحرارة إنما تبقى الحرارة الغريزية محفوظة على الأعضاء. والدماغ هو الذي يعدل الحرارة التي شأنها أن تنفذ إليها من القلب حتى يكون ما يصل إلى كل عضو من الحرارة معتدلا له. وهذا أول أفعال الدماغ وأول شيء يخدم به وأعمها للأعضاء (٢).

ومن ذلك أن في الأعصاب صنفين : أحدهما آلات لرواضع القوة الحاسة الرئيسة التي في القلب في أن يحس كل واحد منها الحسّ الخاص به ، والآخر آلات الأعضاء التي تخدم القوة النزوعية التي في القلب ، بها يتأتّى لها أن تتحرك الحركة الارادية. والدماغ يخدم القلب في أن يرفد أعصاب الحسّ ما يبقي به قواها التي بها يتأتى للرواضع أن تحسّ محفوظة عليها. والدماغ أيضا يخدم القلب في أن يرفد أعصاب الحركة الارادية ما يبقي به قواها التي بها يتأتى للأعضاء الآلية الحركة الارادية التي تخدم بها القوة النزوعية التي في القلب. فان كثيرا من

_________________

١) تراتب أعضاء الجسم : القلب فالدماغ فالكبد فالطحال فأعضاء التوليد.

٢) القلب ينوع الحرارة الغريزية في الجسم أو الروح الحيوانية والدماغ يعدل تلك الحرارة.

٨٨

هذه الأعصاب مغارزها التي منها يسترفد ما يحفظ به قواها في الدماغ نفسه؛ وكثيرا منها مغارزها في النخاع النافذ ، والنخاع من أعلاه متصل بالدماغ ، فإن الدماغ يرفدها بمشاركة النخاع لها في الارفاد (١).

ومن ذلك أن تخيل القوة المتخيلة إنما يكون متى كانت حرارة القلب على مقدار محدود. وكذلك فكر القوة الناطقة ، إنما يكون متى كانت حرارته على ضرب ما من التقدير ، أي فعل. وكذلك حفظها وتذكّرها للشيء.

فالدماغ أيضا يخدم القلب بأن يجعل حرارته على الاعتدال الذي يجود به تخيله ، وعلى الاعتدال الذي يجود به فكره ورويته ، وعلى الاعتدال الذي يجود به حفظه وتذكره. فبجزء منه يعدل به ما يصلح به التخيل ، وبجزء آخر منه يعدل به ما يصلح به الفكر ، وبجزء ثالث يعدل به ما يصلح الحفظ والذكر. وذلك أن القلب ، لما كان ينبوع الحرارة الغريزية ، لم يمكن أن يجعل الحرارة التي فيه الا قوية مفرطة ليفضل منه ما يفيض إلى سائر الأعضاء ، ولئلا يقصر أو يجود. فلم تكن كذلك في نفسها إلا لغاية بقلبه. فلما كان كذلك وجب أن يعدّل حرارته التي تنفذ إلى الأعضاء ، ولا تكون حرارته في نفسها على الاعتدال الذي تجود به أفعاله التي تخصه. فجعل الدماغ لأجل ذلك بالطبع باردا رطبا ، حتى في الملمس ، بالاضافة إلى سائر الأعضاء ، وجعلت فيه قوة نفسانية تصير بها حرارة القلب على اعتدال محدود محصّل (٢).

_________________

١) الأعصاب المنبثقة عن الدماغ نوعان : حاسة ومحركة.

٢) الدماغ يخدم القلب عند ما يفكر أو يتخيل أو يتذكر ويحفظ وذلك بتعديل حرارته.

٨٩

والأعصاب التي للحس والتي للحركة ، لما كانت أرضية بالطبع ، سريعة القبول للجفاف ، كانت تحتاج إلى أن تبقى رطبة إلى لدانة مواتية للتمدد والتقاصر. و (لما) كانت أعصاب الحس محتاجة مع ذلك إلى الروح الغريزي الذي ليست فيه دخانية أصلا و (لما) كان الروح الغريزي السالك في أجزاء الدماغ هذه حاله ، و (لما) كان القلب مفرط الحرارة ناريها ، لم تجعل مغارزها التي بها تسترفد ما يحفظ قواها في القلب ، لئلا يسرع الجفاف إليها فتتحلل وتبطل قواها وأفعالها ، جعلت مغارزها في الدماغ وفي النخاع لأنهما رطبان جدا ، لتنفذ من كل واحد منهما في الأعصاب رطوبة تبقيها على اللدونة ، وتستبقي بها قواها النفسانية ، فبعض الأعصاب يحتاج فيها إلى أن تكون الرطوبة النافذة فيها مائية لطيفة غير لزجة أصلا ، وبعضها محتاج فيها إلى لزوجة ما. فما كان منها محتاجا إلى مائية لطيفة غير لزجة ، جعلت مغارزها في الدماغ؛ وما كان منها محتاجا فيها مع ذلك إلى أن تكون رطوبتها فيها لزجة ، جعلت مغارزها في النخاع؛ وما كان منها محتاجا فيها إلى أن تكون رطوبتها قليلة ، جعلت مغارزها أسفل الفقار والعصعص (١).

ثم بعد الدماغ الكبد ، وبعده الطحال ، وبعد ذلك أعضاء التوليد ، وكل قوة في عضو كان شأنها أن تفعل فعلا جسمانيا ينفصل به من ذلك العضو جسم ما ويصير إلى آخر ، فإنه يلزم ضرورة ، إما أن يكون ذلك الآخر متصلا بالأول ، مثل اتصال كثير من الأعصاب

_________________

١) الحكمة في جعل مغارز الأعصاب في الدماغ وليس في القلب.

٩٠

بالدماغ وكثير منها بالنخاع ، أو أن يكون له طريق ومسيل متصل لذلك العضو يجري فيه ذلك الجسم ، وكانت تلك القوة خادمة له ، أو رئيسة ، مثل الفم والرئة والكلية والكبد والطحال وغير ذلك. وكلما احتاجت أو كان شأنها أن تفعل فعلا نفسانيا في غيرها ، فإنه يلزم ضرورة أن يكون بينها مسيل جسماني ، مثل فعل الدماغ في القلب.

فأول ما يتكون من الأعضاء القلب ، ثم الدماغ ثم الكبد ثم الطحال ، ثم تتبعها سائر الأعضاء. وأعضاء التوليد متأخرة الفعل من جميعها. ورئاستها في البدن يسيرة ، مثل ما يتبين من فعل الأنثيين وحفظهما الحرارة الذكرية والروح الذكري الشائعين من القلب في الحيوان الذكر الذي له أنثيان.

والقوة التي بها يكون التوليد ، منها رئيسة ومنها خادمة. والرئيسة منها في القلب ، والخادمة في أعضاء التوليد. والقوة التي يكون بها التوليد اثنتان : إحداهما تعد المادة التي يتكون عنها الحيوان الذي له تلك القوة ، والأخرى تعطي صورة ذلك النوع من الحيوان وتحرّك المادة إلى أن تحصل لها تلك الصورة التي لذلك النوع (١). والقوة التي تعدّ المادة هي قوة الأنثى ، والتي تعطي الصورة هي قوة الذكر. فإن الأنثى هي أنثى بالقوة التي تعد بها المادة ، والذكر هو ذكر بالقوة التي تعطي تلك المادة صورة ذلك النوع الذي له تلك القوة. والعضو الذي يخدم القلب في أن يعطي مادة الحيوان هو الرحم ، والذي يخدمه في أن يعطي الصورة إما في الانسان وإما في غيره من

_________________

١) القوة المولدة مركزها القلب وخدمها أعضاء التوليد عند الذكر والأنثى.

٩١

الحيوان العضو الذي يكوّن المني. فان المني إذا ورد على رحم الأنثى فصادف هناك دما قد أعدّه الرحم لقبول صورة الانسان ، أعطى المني ذلك الدم قوة يتحرّك بها إلى أن يحصل من ذلك الدم أعضاء الانسان وصورة كل عضو ، وبالجملة صورة الانسان. فالدم المعدّ في الرحم هو مادة الانسان ، والمني هو المحرّك لتلك المادة إلى أن تحصل فيها الصورة (١).

ومنزلة المني من الدم المعد في الرحم منزلة الأنفحة التي ينعقد عنها اللبن. وكما أن الأنفحة هي الفاعلة للانعقاد في اللبن ، وليس هي جزءا من المنعقد ولا مادة ، كذلك المني ليس هو جزءا من المنعقد في الرحم ، ولا مادة. والجنين يتكون عن المني كما يتكون الرائب من الأنفحة ، ويتكون عن دم الرحم كما يتكون الرائب عن اللبن الحليب ، والابريق عن النحاس.

والذي يكوّن المني في الانسان هي الأوعية التي يوجد فيها المني ، وهي العروق التي تحت جلد العانة ، يرفدها في ذلك بعض الارفاد الأنثيان. وهذه العروق نافذة إلى المجرى الذي في القضيب ليسيل من تلك العروق إلى مجرى القضيب ، ويجري في ذلك المجرى إلى أن ينصب في الرحم ويعطي الدم الذي فيه مبدأ قوة يتغير بها إلى أن تحصل به الأعضاء ، وصورة كل عضو ، وصورة جملة البدن.

والمني آلة الذكر (٢).

_________________

١) المرأة تعطي مادة الجنين وهو دم الرحم والرجل يعطي صورة الجنين أو المني.

٢) يتكون المني في عروق الأنثيين وينصب في رحم الأنثى ويعطي الدم صورة الجنين.

٩٢

والآلات منها مواصلة ، ومنها مفارقة من ذلك ، مثل الطبيب؛ فان اليد آلة للطبيب يعالج بها ، والمبضع آلة له يعالج بها ، والدواء آلة يعالج بها. فالدواء آلة مفارقة ، وانما يواصله الطبيب حين ما يفعله ويصنعه ويعطيه قوة يحرك بها بدن العليل إلى الصحة. فاذا حصلت فيه تلك القوة ألقاها في جوف بدن العليل مثلا ، فتحرك بدنه نحو الصحة. والطبيب الذي ألقاها غائب أو ميت مثلا. وكذلك منزلة المني. والمبضع (آلة) لا تفعل فعلها الا بمواصلة الطبيب المستعمل له ، واليد أشد مواصلة له من المبضع. وأما الدواء فإنه يفعل بالقوة التي فيه من غير أن يكون الطبيب مواصلا له. كذلك المني فإنه آلة للقوة المولدة الذكرية وتفعل مفارقة. وأوعية المني والأنثيان آلة للتوليد مواصلة للبدن. فمنزلة العروق التي تكون آلات المني من القوة الرئيسة التي في القلب منزلة يد الطبيب التي يعمل بها الدواء ويعطيه قوة محركة ويحرك بها بدن العليل إلى الصحة. فان تلك العروق التي يستعملها القلب بالطبع هي آلات في أن يعطي المني القوة التي يحرك بها الدم المعد في الرحم إلى صورة ذلك النوع من الحيوان.

فاذا أخذ الدم عن المني القوة التي يتحرك بها إلى الصورة ، فأول ما يتكون القلب وينتظر بتكوينه تكوين سائر الأعضاء ما يتفق أن يحصل في القلب من القوى. فان حصلت فيه مع القوة الغاذية القوة التي بها تعد المادة ، تكون سائر الأعضاء على أنها أعضاء أنثى. فان حصلت فيه (القوة) التي تعطي الصورة ، تكوّن سائر الأعضاء على أنها أعضاء ذكر. وتحصل من تلك ، الأعضاء المولدة التي للأنثى ، وتحصل من

٩٣

هذه ، الأعضاء المولدة التي للذكر. ثم سائر القوى النفسانية الباقية تحدث في الأنثى على مثال ما هي في الذكر (١).

وهاتان القوتان ، أعني الذكرية والأنثوية ، هما في الانسان مفترقان في شخصين ، وأما في كثير من النبات فانهما مقترنان على التمام في شخص واحد ، مثل كثير من النبات الذي يتكون عن البذر؛ فإن النبات يعطي المادة ، وهي البذر ، ويعطي بها مع ذلك قوة يتحرك بها نحو الصورة. فإن البذر فيه استعداد لقبول الصورة ، وقوة يتحرك بها نحو الصورة. فالذي أعطاه الاستعداد لقبول الصورة هي القوة الأنثوية ، والذي أعطاه مبدأ يتحرك به نحو الصورة هو القوة الذكرية.

وقد يوجد أيضا في الحيوان ما سبيله هذا السبيل. ويوجد أيضا ما القوة الأنثوية فيه تامة ، وتقترن إليها قوة ما ذكرية ناقصة تفعل فعلها إلى مقدار ما ثم تجوز ، فتحتاج إلى معين من خارج ، مثل الذي يبيض بيض الريح ، ومثل كثير من أجناس السمك التي تبيض ثم تودع بيضها ، فيتبعها ذكورتها ، فتلقي عليها رطوبة. فأية بيضة أصابها من تلك الرطوبة شيء كان عنها حيوان ، وما لم يصبها ذلك فسدت.

وأما الانسان فليس كذلك. بل هاتان القوتان متميزتان في شخصين ، ولكل واحد منهما أعضاء تخصه : وهي الأعضاء المعروفة لهما ، وسائر الأعضاء فيهما مشتركة. وكذلك يشتركان في قوى النفس كلها سوى هاتين. وما يشتركان فيه من أعضاء فانه في الذكر أسخن ، وما كان منها فعله الحركة والتحريك ، فانه في الذكر أقوى

_________________

١) متى يكون الجنين ذكرا أو أنثى؟

٩٤

حركة وتحريكا. والعوارض النفسانية ، فما كان منها مائلا إلى القوة ، مثل الغضب والقسوة ، فانها في الأنثى أضعف وفي الذكر أقوى. وما كان من العوارض مائلا إلى الضعف ، مثل الرأفة والرحمة ، فإنه في الأنثى أقوى. على أنه لا يمتنع أن يكون في ذكورة الانسان من توجد العوارض فيه شبيهة بما في الاناث ، وفي الاناث من توجد فيه هذه شبيهة بما هو في الذكور. فبهذه تفترق الاناث والذكور في الانسان (١). وأما في القوة الحاسة وفي المتخيلة وفي الناطقة ، فليسا يختلفان. فيحدث عن الأشياء الخارجة رسوم المحسوسات في القوى الحاسة التي هي رواضع ، ثم تجتمع المحسوسات المختلفة الأجناس ، المدركة بأنواع الحواس الخمسة في القوى الحاسة الرئيسة ، ويحدث عن المحسوسات الحاصلة في هذه القوى رسوم المتخيلات في القوة المتخيلة ، فتبقى هناك محفوظة بعد غيبتها عن مباشرة الحواس لها. فتتحكم فيها ، فيفرد بعضها عن بعض أحيانا ، ويركب بعضها إلى بعض أصنافا من التركيبات كثيرة بلا نهاية ، بعضها كاذبة وبعضها صادقة (٢).

_________________

١) الرجل والمرأة يشتركان في قوى النفس وفي سائر الأعضاء عدا أعضاء التوليد ، ويختلفان في كون الرجل أقوى جسما وأقسى قلبا.

٢) لا فرق بين الرجل والمرأة في الاحساس والتخيل والعقل.

٩٥

الباب الثاني والعشرون

القول في القوة الناطقة؛ وكيف تعقل وما سبب ذلك

ويبقى بعد ذلك أن ترتسم في الناطقة رسوم أصناف المعقولات والمعقولات التي شأنها أن ترتسم في القوة الناطقة ، منها المعقولات التي هي في جواهرها عقول بالفعل ومعقولات بالفعل : وهي الأشياء البريئة من المادة؛ ومنها المعقولات التي ليست بجواهرها معقولة بالفعل ، مثل الحجارة والنبات ، وبالجملة كل ما هو جسم أو في جسم ذي مادة ، والمادة نفسها وكل شيء قوامه بها. فان هذه ليست عقولا بالفعل ولا معقولات بالفعل (١). وأما العقل الانساني الذي يحصل له بالطبع في أول أمره ، فانه هيئة ما في مادة معدة لأن تقبل رسوم المعقولات : فهي بالقوة عقل وعقل هيولاني ، وهي أيضا بالقوة

_________________

١) المعقولات صنفان :

١ ـ معقولات بريئة عن المادة وهي العقول بالفعل.

٢ ـ معقولات ليست بريئة عن المادة وهي الأجسام.

٩٦

معقولة. وسائر الأشياء التي في مادة ، أو هي مادة أو ذوات مادة ، فليست هي عقولا لا بالفعل ولا بالقوة ، ولكنها معقولات بالقوة ويمكن أن تصير معقولات بالفعل. وليس في جواهرها كفاية في أن تصير من تلقاء أنفسها معقولات بالفعل. ولا أيضا في القوة الناطقة ، ولا فيما أعطي الطبع كفاية في أن تصير من تلقاء نفسها عقلا بالفعل ، بل تحتاج أن تصير عقلا بالفعل إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى الفعل وإنما تصير عقلا بالفعل إذا حصلت فيها المعقولات (١).

وتصير المعقولات التي بالقوة معقولات بالفعل إذا حصلت معقولة للعقل بالفعل. وهي تحتاج إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى أن يصيّرها بالفعل. والفاعل الذي ينقلها من القوة إلى الفعل هو ذات ما ، جوهره عقل ما بالفعل ، ومفارق للمادة ٢. فان ذلك العقل يعطي العقل الهيولاني ، الذي هو بالقوة عقل ، شيئا ما بمنزلة الضوء الذي تعطيه الشمس البصر. لأن منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصر. فان البصر هو قوة وهيئة ما في مادة ، وهو من قبل أن يبصر فيه بصر بالقوة ، والألوان من قبل أن تبصر مبصرة مرئية بالقوة. وليس في جوهر القوة الباصرة التي في العين كفاية في أن يصير بصرا بالفعل ، ولا في جوهر الألوان كفاية في أن تصير مرئية مبصرة بالفعل. فان الشمس تعطي البصر ضوءا يضاء به ، وتعطي الألوان ضوءا تضاء بها ، فيصير البصر ، بالضوء الذي استفاده من الشمس ،

_________________

١) العقل الهيولاني هيئة ما في مادة معدة لقبول رسوم المعقولات.

٢) العقل الفعّال جوهر مفارق للمادة يجعل العقل المنفعل عقلا بالفعل ويجعل المعقولات بالقوة معقولات بالفعل.

٩٧

مبصرا بالفعل وبصيرا بالفعل؛ وتصير الألوان ، بذلك الضوء ، مبصرة مرئية بالفعل بعد أن كانت مبصرة مرئية بالقوة. كذلك هذا العقل الذي بالفعل يفيد العقل الهيولاني شيئا ما يرسمه فيه. فمنزلة ذلك الشيء من العقل الهيولاني منزلة الضوء من البصر. وكما أن البصر بالضوء نفسه يبصر الضوء الذي هو سبب ابصاره ، ويبصر الشمس التي هي سبب الضوء به بعينه ، ويبصر الأشياء التي هي بالقوة مبصرة فتصير مبصرة بالفعل ، كذلك العقل الهيولاني فانه بذلك الشيء الذي منزلته منه منزلة الضوء من البصر ، يعقل ذلك الشيء نفسه ، وبه يعقل العقل الهيولاني العقل بالفعل الذي هو سبب ارتسام ذلك الشيء في العقل الهيولاني ، وبه تصير الأشياء التي كانت معقولة بالقوة معقولة بالفعل ، ويصير هو أيضا عقلا بالفعل بعد أن كان عقلا بالقوة. وفعل هذا العقل المفارق في العقل الهيولاني شبيه فعل الشمس في البصر ، فلذلك سمي العقل الفعّال. ومرتبته من الأشياء المفارقة التي ذكرت من دون السبب الأول المرتبة العاشرة. ويسمى العقل الهيولاني العقل المنفعل. وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعّال ذلك الشيء الذي منزلته منها منزلة الضوء من البصر ، حصلت حينئذ عن المحسوسات التي هي محفوظة في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة؛ وتلك هي المعقولات الأولى التي هي مشتركة لجميع الناس ، مثل أن الكل أعظم من الجزء ، وأن المقادير المساوية للشيء الواحد متساوية (١).

_________________

١) العقل الفعّال يمنح القوة الناطقة شيئا منزلته منها منزلة الضوء من البصر. وحينئذ تحصل في القوة الناطقة المعقولات الأولى المشتركة لجميع الناس مثل الكل أعظم من الجزء ... الخ.

٩٨

المعقولات الأول المشتركة ثلاثة أصناف : صنف أوائل للهندسة العلمية ، وصنف أوائل يوقف بها على الجميل والقبيح مما شأنه أن يعمله الانسان ، وصنف أوائل تستعمل في أن يعلم بها أحوال الموجودات التي ليس شأنها أن يفعلها الانسان ومباديها ومراتبها ، مثل السماوات والسبب الأول وسائر المبادي الأخر ، وما شأنها أن يحدث عن تلك المبادي (١).

_________________

١) أنواع المعقولات الأولى.

٩٩

الباب الثالث والعشرون

القول في الفرق بين الارادة والاختيار ، وفي السعادة

فعند ما تحصل هذه المعقولات للانسان يحدث له بالطبع تأمل ، ورويّة وذكر ، وتشوق إلى الاستنباط ، ونزوع إلى بعض ما عقله أولا ، وشوق إليه وإلى بعض ما يستنبطه ، أو كراهته. والنزوع إلى ما أدركه بالجملة هو الارادة. فان كان ذلك (النزوع) عن احساس أو تخيّل ، سمي بالاسم العام وهو الارادة؛ وإن كان ذلك عن رويّة أو عن نطق في الجملة ، سمي الاختيار. وهذا يوجد في الانسان خاصّة. وأما النزوع عن احساس أو تخيل فهو أيضا في سائر الحيوان. وحصول المعقولات الأولى للانسان هو استكماله الأول. وهذه المعقولات إنما جعلت له ليستعملها في أن يصير إلى استكماله الأخير (١).

وذلك هو السعادة. وهي أن تصير نفس الانسان من الكمال في

_________________

١) الارادة هي نزوع إلى ما ندركه بالاحساس والتخيل ، والاختيار هو نزوع إلى ما ندركه بالعقل والروية فقط.

١٠٠