آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]

آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

المؤلف:

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]


المحقق: الدكتور علي بو محلم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

وأيضا ، فإن الأضداد إنما تحدث إما من أشياء جواهرها متضادة ، أو من شيء واحد تكون أحواله ونسبه في موضعه متضادة ، مثل البرد والحر ، فإنهما يكونان من الشمس؛ ولكن الشمس تكون على حالين مختلفين من القرب والبعد ، فتحدث بحاليها أحوالا ونسبا متضادة. فالأول لا يمكن أن يكون له ضد ، ولا أحواله متضادة من الثاني ، ولا نسبته من الثاني نسبة متضادة. والثاني لا يمكن فيه تضاد ، وكذلك لا في الثالث ، إلى أن ينتهي إلى العاشر (١).

وكل واحد من العشرة يعقل ذاته ويعقل الأول ، وليس في واحد منها كفاية في أن يكون فاضل الوجود بأن يعقل ذاته ، بل إنما يقتبس الفضيلة الكاملة بأن يعقل مع ذاته ذات السبب الأول ، وبحسب زيادة فضيلة الأول على فضيلة ذاته يكون بما عقل الأول فضل اغتباطه بنفسه أكثر من اغتباطه بها عند عقل ذاته. وكذلك زيادة التذاذه بذاته بما عقل الأول على التذاذه بما عقل من ذاته ، بحسب زيادة كمال الأول على كمال ذاته ، واعجابه بذاته وعشقه لها بما عقل من الأول على اعجابه بذاته وعشقه لها بما عقل من ذاته بحسب زيادة بهاء الأول وجماله على بهاء ذاته وجمالها؛ فيكون المحبوب أولا والمعجب أولا عند نفسه بما هو يعقله من الأول ، وثانيا بما هو يعقله من ذاته. فالأول أيضا بحسب الاضافة إلى هذه العشرة هو المحبوب الأول والمعشوق الأول (٢).

_________________

١) الأضداد تحدث من أشياء جواهرها متضادة ، أو من شيء واحد أحواله متضادة.

٢) كل من العقول الثواني تكون غبطته أو لذته المتولدة من ادراكه. الله أكبر من غبطته أو لذته المتولدة من ادراك ذاته.

٦١

الباب الرابع عشر

القول فيما تشترك الأجسام السماوية فيه

والأجسام السماوية تسع جمل في تسع مراتب؛ كل جملة يشتمل عليها جسم واحد كريّ. فالأول منها يحتوي على جسم واحد فقط ، فيتحرك حركة واحدة دورية سريعة جدا. والثاني جسم واحد يحتوي على أجسام حركتها مشتركة؛ ولها من الحركة اثنتان فقط ، يشترك جميعها في الحركتين جميعا. والثالث ، وما بعده إلى تمام السبعة ، يشتمل كل واحد منها على أجسام كثيرة مختلفة في حركات ما ، يخص كل واحد منها ويشترك في حركات أخر. وجنس هذه الأجسام كلها واحد ويختلف في الأنواع ، ولا يمكن أن يوجد في كل نوع منها إلا واحد بالعدد ، لا يشاركه شيء آخر في ذلك النوع. فإن الشمس لا يشاركها في وجودها شيء آخر من نوعها ، وهي متفردة بوجودها. وكذلك القمر وسائر الكواكب (١).

_________________

١) تشترك الأجسام السماوية في الجنس وتختلف في النوع.

٦٢

وهذه تجانس الموجودات الهيولانية ، وذلك أن لها موضوعات تشبه المواد الموضوعة لحمل الصور (وأشياء هي لها كالصور ، بها تتجوهر) وقوام تلك الأشياء في تلك الموضوعات. إلا أن صورها لا يمكن أن يكون لها أضداد. وموضوع كل واحد منها لا يمكن أن يكون قابلا لغير تلك الصورة ، ولا يمكن أن يكون خلوا منها. ولأن موضوعات صورها لا عدم فيها ، بوجه من الوجوه ، ولا لصورها أعدام تقابلها ، فصارت موضوعاتها لا تعوق صورها أن تعقل وأن تكون عقولا بذواتها (١).

فإذن كل واحد من هذه بصورته عقل بالفعل ، وهو يعقل بها ذات المفارق الذي عنه وجود ذلك الجسم ، ويعقل الأول. وليس جميع ما يعقل من ذاته عقلا ، لأنه يعقل موضوعه؛ وموضوعه ليس بعقل؛ وإذا كان ليس يعقل بموضوعه وإنما يعقل بصورته ففيه معقول ليس يعقل ، فهو يعقل كل ما به تجوهره وتصويره ، يعني أن تجوهره بصورة وموضوع؛ وبهذا يفارق الأول والعشرة المتخلصة من الهيولى ومن كل موضوع. ويشاركه الانسان في المادة (٢).

فهو أيضا مغتبط بذاته ليس بما يعقل من ذاته فقط ، ولكن بما يعقل من الأول ، ثم بما يعقل من ذات المفارق الذي عنه وجوده. ويشارك المفارق في عشقه للأول وباعجابه بنفسه بما استفاد من بهاء

_________________

١) إن الأجسام السماوية تشبه الأجسام الهيولانية في العالم السفلي ، إذ لكل منها صورة ومادة.

٢) صورة الجسم السماوي عقل بالفعل يعقل الأول والثاني المفارق المقابل والجسم السماوي المؤلف من صورة وموضوع.

٦٣

الأول وجماله؛ إلا أنه في كل ذلك دون العشرة بكثير. وله من كل ما تشاركه فيه الهيولانية أشرفها وأفضلها ، وذلك أن له من الأشكال أفضلها وهي الكرية ، ومن الكيفيات المرئيات أفضلها وهو الضياء ، فإن بعض أجزائها فاعلة للضياء ، وهي الكواكب ، وبعض أجزائها مشفة بالفعل ، لأنها مملوءة نورا من أنفسها ومما تستفيده من الكواكب. ولها من الحركات أفضلها ، وهي الحركة الدورية (١).

وتشارك العشرة في أنها أعطيت أفضل ما تتجوهر بها من أول أمرها وكذلك اعظامها وأشكالها والكيفيات المرئية التي تخصها (٢).

_________________

١) الجسم السماوي أفضل من الجسم الهيولاني الأرضي بشكله الكروي وبكيفياته الضوئية وبحركته الدورية.

٢) وبوجوده بالفعل في أول الأمر.

٦٤

الفصل الخامس عشر

القول فيما فيه وإليه تتحرك الأجسام السماوية

ولأي شيء تتحرك

وتفارقها في أنها لم يمكن فيها أن تعطى من أول أمرها الشيء الذي إليه تتحرك. وما إليه تتحرك هو من أيسر عرض يكون في الجسم وأخسه ، وذلك أن كل جسم فهو في أين ما. ونوع الأين الذي هو لهذا الجسم هو أن يكون حول جسم ما. وما نوع أينه هذا النوع ، فليس يمكن أن تنتقل جملته عن جملة هذا النوع. ولكن لهذا النوع أجزاء ، وللجسم الذي فيه أجزاء. وليس جزء من أجزاء هذا الجسم أولى بجزء من أجزاء الحول ـ بل كل جزء من الجسم يلزم أن يكون له كل جزء من أجزاء الحول ـ ولا أيضا أن يكون أولى به في وقت دون وقت ، بل في كل وقت دائما. وكلما حصل جزء من هذا الجسم في جزء ما من الحول احتاج إلى أن يكون له الجزء الذي قدامه قدامه. ولا يمكن أن يجتمع له الجزءان معا في وقت واحد؛ فيحتاج إلى أن يتخلى من الذي هو فيه ، ويصير إلى ما هو قدامه إلى أن يستوفي كل جزء من

٦٥

أجزاء الحول. ولأن الجزء الذي كان فيه ليس هو في وقت أولى به من وقت ، فيجب أن يكون له ذلك دائما. وإذا لم يمكن أن يكون ذلك الجزء له دائما على أن يكون واحدا بالعدد ، وصار واحدا بالنوع ، بأن يوجد له حينا ولا يوجد له حينا. ثم يعود إلى شبيهه في النوع ، ثم يتخلى عنه أيضا مدة ، ثم يعود إلى شبيه له ثالث ، ويتخلى عنه أيضا مدة ، ثم يعود إلى شبيه له رابع؛ وهكذا له أبدا (١).

فظاهر أن (الأجزاء) التي عنها يتحرك ، ويتبدل عليها ، ويعود إليها ، هي في نسبتها إلى الجسم الذي يوجد السماء حوله. ومعنى النسبة أنه يقال هذا لهذا ، وهذا من هذا ، وما شاكل ذلك من قبل أن معنى الأين هو نسبة الجسم إلى سطح الجسم الذي ينطبق عليه. وكل جسم سمائي في كرة ، أي دائرة مجسمة. فإن نسب أجزائه إلى أجزاء سطح ما تحتها من الأجسام تتبدل دائما ، ويعود كل واحد منها في المستقبل من الزمان إلى أشباه النسب التي سلفت (٢).

ونسبة الشيء إلى الشيء هي أخس (عرض) ما يوجد له وأبعد الأعراض عن جوهر الشيء. ولكل واحد من الاكر والدوائر المجسمة التي فيها حركة على حيالها ، فاما أسرع أو أبطأ من حركة الأخرى ، مثل كرة زحل وكرة القمر ، فإن كرة القمر أسرع حركة من كرة زحل (٣).

_________________

١) الأجسام السماوية تفارق الثواني في أنها متحركة والحركة دليل النقص.

٢) الأين هو نسبة الجسم الى سطح الجسم الذي ينطبق عليه.

٣) والنسبة هي أخس أعراض الشيء.

٦٦

الباب السادس عشر

القول في الأحوال التي توجد بها الحركات الدورية

وفي الطبيعة المشتركة لها

وليس هذا التفاضل الذي في حركاتها بحسب اضافتها إلى غيرها ، بل لها في أنفسها وبالذات. والبطيء من هذه بطيء دائما ، والسريع سريع دائما. وأيضا فإن كثيرا من السماوية أوضاعها من الوسط ومما تحتها مختلفة ، ولأجل اختلاف أوضاعها هذه منها ، تلحق كل واحد من هذه خاصة بالعرض ، أن يسرع حول الأرض أحيانا ، ويبطئ أحيانا؛ وهذا سوى سرعة بعضها دائما وابطاء الآخر دائما ، على قياس حركة زحل إلى حركة القمر (١). وانها تلحقها بإضافة بعضها إلى بعض ، بأن تجتمع أحيانا وتفترق أحيانا ، ويكون بعضها من بعض على نسب متضادة. وأيضا فإنها تقرب أحيانا من بعض ما

_________________

١) حركات الأجسام السماوية تختلف في الجوهر : بعضها بطيء أصلا وبعضها سريع أصلا.

٦٧

تحتها ، وتبعد أحيانا عنه ، وتظهر أحيانا وتستر أحيانا. فتلحقها هذه المتضادات لا في جواهرها ، ولا في الأعراض التي تقرب من جواهرها ، بل في نسبها ، وذلك مثل الطلوع والغروب ، فإنهما نسبتان لها إلى ما تحتها ، متضادتان. والجسم السماوي أول الموجودات التي تلحقها أشياء متضادة. وأول الأشياء التي يكون فيها تضادّ هي نسب هذا الجسم إلى ما تحته ، ونسب بعضها إلى بعض. وهذه المتضادات هي أخس المتضادات؛ والتضاد نقص في الوجود. فالجسم السمائي يلحقه النقص في أخس الأشياء التي شأنها أن توجد (١).

وللأجسام السماوية كلها أيضا طبيعة مشتركة ، وهي التي صارت تتحرك كلها بحركة الجسم الأول؛ منها حركة دورية في اليوم والليلة؛ وذلك أن هذه الحركة ليست لما تحت السماء الأولى قسرا ، إذ كان لا يمكن أن يكون في السماء شيء يجري قسرا (٢). وبينها أيضا تباين في جواهرها من غير تضاد ، مثل مباينة زحل للمشتري ، وكل كوكب لكل كوكب ، وكل كرة لكل كرة (٣). ثم يلحقها ، كما قلنا ، تضاد في نسبها ، وان تتبدل تلك النسب ومتضاداتها وتتعاقب عليها ، فتتخلى من نسبة ما وتصير إلى ضدها ، ثم تعود إلى ما كانت تخلت منه بالنوع لا بالعدد ، فيكون لها نسب تتكرر ، ويعود بعضها في مدة

_________________

١) وتختلف أيضا في العرض فتسرع حول الأرض حينا وتبطئ حينا وتقترب من بعضها أو تبتعد وتظهر أحيانا وتستتر أحيانا.

٢) للأجسام السماوية طبيعة مشتركة هي الحركة الدورية.

٣) وهي تتباين في جواهرها من غير تضاد.

٦٨

أطول وبعضها في مدة أقصر؛ وأحوال ونسب تتكرر أصلا. ويلحقها أن يكون لجماعة منها نسب إلى شيء واحد متضادة ، مثل أن يكون بعضها قريبا من شيء ، وبعضها بعيدا من ذلك الشيء بعينه (١).

_________________

١) وهي تتضاد في نسبها.

٦٩

الباب السابع عشر

القول في الأسباب التي عنها تحدث

الصورة الأولى والمادة الأولى

فيلزم عن الطبيعة المشتركة التي لها ، وجود المادة الأولى المشتركة لكل ما تحتها (١)؛ وعن اختلاف جواهرها ، وجود أجسام كثيرة مختلفة الجواهر؛ وعن تضاد نسبها واضافاتها ، وجود الصور المتضادة (٢) ؛ وعن تبدل متضادات النسب عليها وتعاقبها ، تبدل الصور المتضادة على المادة الأولى وتعاقبها؛ وعن حصول نسب متضادة واضافات متعاندة إلى ذات واحدة في وقت واحد من جماعة أجسام فيها اختلاط في الأشياء ذات الصور المتضادة وامتزاجاتها؛ وأن يحدث عن أصناف تلك الامتزاجات المختلفة ، أنواع كثيرة من الأجسام؛

_________________

١) المادة الأولى للأجسام الأرضية تنتج عن الطبيعة المشتركة للأجسام السماوية.

٢) الصور المتضادة للأجسام الأرضية تنتج عن تضاد نسب الأجسام السماوية واضافاتها.

٧٠

ويحدث عن إضافاتها التي تكرر وتعود ، الأشياء التي يتكرر وجودها ويعود بعضها في مدة أقصر وبعضها في مدة أطول؛ وعن ما لا يتكرر من اضافاتها وأحوالها ، بل إنما تحدث في وقت ما من غير أن تكون قد كانت فيما سلف ، ومن غير أن تحدث فيما بعد الأشياء التي تحدث ولا تتكرر أصلا.

٧١

الباب الثامن عشر

القول في مراتب الأجسام الهيولانية في الحدوث

فيحدث أولا الاسطقسات ، ثم ما جانسها وقارنها من الأجسام ، متل البخارات وأصنافها ، مثل الغيوم والرياح وسائر ما يحدث في الجو ، وأيضا مجانساتها حول الأرض وتحتها ، وفي الماء والنار. ويحدث في الاسطقسات ، وفي كل واحد من سائر تلك ، قوى تتحرك بها من تلقاء أنفسها إلى أشياء شأنها أن توجد لها أو بها ، بغير محرك من خارج وقوى يفعل بعضها في بعض ، وقوى يقبل بها بعضها فعل بعض؛ ثم تفعل فيها الأجسام السماوية ، ويفعل بعضها في بعض ، فيحدث من اجتماع الأفعال ، من هذه الجهات ، أصناف من الاختلاطات والامتزاجات كثيرة. والمقادير كثيرة ، مختلفة بغير تضاد ، ومختلفة بالتضاد (١).

_________________

١) الاسطقسات تحدث أولا عن الهيولى بفعل قوى داخلية وقوى سماوية تسبب فيها اختلاطات عدة.

٧٢

فيلزم عنها وجود سائر الأجسام. فتختلط أولا الاسطقسات بعضها مع بعض ، فيحدث من ذلك أجسام كثيرة متضادة ، ثم تختلط هذه المتضادة بعضها مع بعض فقط ، وبعضها مع بعض ومع الاسطقسات ، فيكون ذلك اختلاطا ثانيا بعد الأول؛ فيحدث من ذلك أيضا أجسام كثيرة متضادة الصور. ويحدث في كل واحد من هذه أيضا قوى يفعل بها بعضها في بعض ، وقوى تقبل بها فعل غيره (من الأجسام) فيها ، وقوى تتحرك بها من تلقاء نفسها بغير محرك من خارج. ثم تفعل فيها أيضا الأجسام السماوية ، ويفعل بعضها في بعض ، وتفعل فيها الاسطقسات ، وتفعل هي في الاسطقسات أيضا؛ فيحدث من اجتماع هذه الأفعال بجهات مختلفة اختلاطات أخر كثيرة تبعد بها عن الاسطقسات والمادة الأولى بعدا كثيرا. ولا تزال تختلط اختلاطا بعد اختلاط قبله ، فيكون الاختلاط الثاني أبدا أكثر تركيبا مما قبله؛ إلى أن تحدث أجسام لا يمكن أن تختلط؛ فيحدث من اختلاطها جسم آخر أبعد منها عن الاسطقسات. فيقف الاختلاط (١).

فبعض الأجسام يحدث عن الاختلاط الأول ، وبعضها عن الثاني ، وبعضها عن الثالث ، وبعضها عن الاختلاط الآخر. والمعدنيات تحدث باختلاط أقرب إلى الاسطقسات وأقل تركيبا ويكون بعدها عن الاسطقسات برتب أقل. ويحدث النبات باختلاط أكثر منها تركيبا وأبعد عن الاسطقسات برتب أكثر. والحيوان غير الناطق يحدث

_________________

١) ثم عن اختلاطات الاسطقسات المتكررة تحدث الأجسام.

٧٣

باختلاط أكثر تركيبا من النبات. والانسان وحده هو الذي يحدث عن الاختلاط الأخير (١).

ويحدث في كل واحد من هذه الأنواع قوى يتحرك بها من تلقاء نفسه ، وقوى يفعل بها في غيره ، وقوى يقبل بها فعل غيره فيه. والفاعل منها في غيره فموضوعات فعله ثلاثة بالجملة : منها ما يفعل فيه على الأكثر ، ومنها ما يفعل فيه على الأقل ، ومنها ما يفعل فيه على التساوي. وكذلك القابل لفعل غيره ، قد يكون موضوعا لثلاثة أصناف من الفاعلات : لما هو فاعل فيه على الأكثر ، ولما هو فاعل فيه على الأقل ، ولما هو فاعل فيه على التساوي. وفعل كل واحد في كل واحد اما بأن يرفده ، وإما بأن يضادّه (٢).

ثم الأجسام السماوية تفعل في كل واحد منها مع فعل بعضه في بعض ، بأن ترفد بعضها وتضاد بعضها. وما ترفده فانه ترفده حينا وتضاده حينا ، وما تضاده فانه تضاده حينا وترفده أيضا حينا آخر ، فتقترن أصناف الأفعال السماوية فيها إلى أفعال بعضها في بعض؛ فيحدث من اقترانها امتزاجات واختلاطات أخر كثيرة جدا ، يحدث في كل نوع أشخاص كثيرة مختلفة جدا. فهذه هي أسباب وجود الأشياء الطبيعية التي تحت السماوية (٣).

_________________

١) المعادن تحدث أولا عن اختلاطات الاسطقسات ثم يحدث النبات عن اختلاطات أكثر تركيبا. ثم الحيوان عن اختلاطات أكثر تركيبا. والانسان يحدث عن الاختلاط الأخير.

٢) كل من المعادن والنبات والحيوان والانسان يفعل وينفعل مع غيره.

٣) الأجسام السماوية تفعل في الأجسام الأرضية فينتج عن كل نوع أشخاص كثيرة مختلفة.

٧٤

الباب التاسع عشر

القول في تعاقب الصور على الهيولى

وعلى هذه الجهات يكون وجودها أولا ، فإذا وجدت فسبيلها أن تبقى وتدوم. ولكن لما كان ما هذه حاله من الموجودات قوامه من مادة وصورة ، وكانت الصور متضادة ، وكل مادة فان شأنها أن توجد لها هذه الصورة وضدها ، صار لكل واحد من هذه الأجسام حق واستئهال بصورته ، وحق واستئهال بمادته (١).

فالذي له بحق صورته أن يبقى على الوجود الذي له ، والذي يحق له بحق مادته أن يوجد وجودا آخر مضادا للوجود الذي هو له ، وإذ كان لا يمكن أن يوفى هذين معا في وقت واحد ، لزم ضرورة أن يوفى هذا مرة ، فيوجد ويبقى مدة ما محفوظ الوجود ، ثم يتلف ويوجد ضده ، ثم يبقى ذلك ، وكذلك أبدا. فإنه ليس وجود أحدهما

_________________

١) الأجسام تتركب من صورة ومادة.

٧٥

أولى من وجود الآخر ، ولا بقاء أحدهما أولى من بقاء الآخر ، إذ كان لكل واحد منهما قسم من الوجود والبقاء (١).

وأيضا فإن المادة الواحدة لما كانت مشتركة بين ضدين ، وكان قوام كل واحد من الضدين بها ، ولم تكن تلك المادة أولى بأحد الضدين دون الآخر ، ولم يمكن أن تجعل لكليهما في وقت واحد ، لزم ضرورة أن تعطى تلك المادة أحيانا هذا الضد ، وأحيانا ذلك الضد ، ويعاقب بينهما ، فيصير كل منهما كأنّ له حقا عند الآخر ، ويكون عنده شيء ما لغيره ، وعند غيره شيء هو له؛ فعند كل واحد منهما حق ما ينبغي أن يصير إلى كل واحد من كل واحد؛ فالعدل في هذا أن توجد مادة هذا ، فتعطى ذلك ، أو توجد مادة ذلك ، فتعطى هذا؛ ويعاقب ذلك بينهما. فلأجل الحاجة إلى توفية العدل في هذه الموجودات ، لم يكن أن يبقى الشيء الواحد دائما على أنه واحد بالعدد؛ فجعل بقاؤه الدهر كله على أنه واحد بالنوع. ويحتاج في أن يبقى واحدا بالنوع إلى أن يوجد أشخاص ذلك النوع مدة ما ، ثم تتلف ويقوم مقامها أشخاص أخر من ذلك النوع ، وذلك على هذا المثال دائما (٢).

وهذه منها ما هي اسطقسات ، ومنها ما هي كائنة عن اختلاطها. والتي هي عن اختلاطها ، منها ما هي عن اختلاط أكثر تركيبا ، ومنها ما هي عن اختلاط أقل تركيبا. وأما الاسطقسات فان المضاد المتلف

_________________

١) وسبب تعاقب الصور على المادة هو تضاد الصور وقبول المادة لتلك الأضداد.

٢) الأشخاص تتلف ولكن النوع يبقى.

٧٦

لكل واحد منها هو من خارج فقط ، إذ كان لا ضد له في جملة جسمه (١). وأما الكائن عن اختلاط أقل تركيبا ، فان المضادات التي فيه يسيرة ، وقواها منكسرة ضعيفة؛ فلذلك صار المضاد المتلف له في ذاته ضعيف القوة ، لا يتلفه إلا بمعين من خارج. فصار المضاد المتلف له أيضا من خارج (٢). وما هو كائن عن اختلاط أقل تركيبا ، فان المضادات المتلفة له هي من خارج فقط؛ والتي هي عن اختلاط أكثر تركيبا ، فبكثرة المتضادات التي فيها وتراكيبها ، يكون تضادها فيها في الأشياء المختلفة أظهر ، وقوى المتضادات التي فيها قوية ، ويفعل بعضها مع بعض معا. أيضا فانها لما كانت من أجزاء غير متشابهة ، لم يمنع أن يكون فيها تضاد ، فيكون المضاد المتلف له من خارج جسمه ومن داخله معا (٣).

وما كان من الأجسام يتلفه المضاد له من خارج ، فانه لا يتحلل من تلقاء نفسه دائما ، مثل الحجارة والرمل ، فان هذين وما جانسهما انما يتحللان من الأشياء الخارجة فقط (٤). وأما الأخر ، من النبات والحيوان ، فانهما يتحللان أيضا من أشياء مضادة لهما من داخل. فلذلك إن كان شيء من هذه مزمنا ، تبقى صورته مدة ما ، بأن يخلف بدل ما يتحلل من جسمه دائما وإنما يكون ذلك الشيء يقوم

_________________

١) المضاد المتلف للاسطقسات خارجي.

٢) المضاد المتلف للكائنات الأقل تركيبا خارجي.

٣) المضاد المتلف للكائنات الأكثر تركيبا داخلي وخارجي.

٤) المعادن تتحلل بأشياء خارجية.

٧٧

مقام ما يتحلل ، ولا يمكن أن يخلف شيء بدل ما يتحلل من جسمه ويتصل بذلك الجسم ، إلا فيخلع عن ذلك الجسم صورته التي كانت له ، ويكتسي صورة هذا الجسم بعينه ، وذلك هو أن يتغذى ، حيث جعلت في هذه الأجسام قوة غاذية وكل ما كان معينا لهذه القوة ، حتى صار كل جسم من هذه الأجسام يجتذب إلى نفسه شيئا ما مضادا له ، فينسلخ عنه تلك الضدية ، ويقبله بذاته ، ويكسوه الصورة التي هو ملتحف بها ، إلى أن تخور هذه القوة في طول المدة ، فيتحلل من ذلك الجسم ما لم يمكن القوة الخائرة أن ترد مثله ، فيتلف ذلك الجسم فيه؛ فبهذا الوجه حفظ من محلله الداخل. وأما من متلفه الخارج ، فانه حفظ بالآلات التي جعلت له ، بعضها فيه وبعضها من خارج جسمه (١).

فيحتاج ، في دوام ما يدوم واحدا بالنوع ، إلى أن يقوم مقام ما تلف منه أشخاص أخر تقوم مقام ما تلف منها. ويكون ذلك : إما أن يكون مع الأشخاص الأول أشخاص أحدث وجودا منها ، حتى إذا تلف تلك الأول قامت هذه مقامها ، حتى لا يخلو في كل وقت من الأوقات وجود شخص ما من ذلك النوع ، إما في ذلك المكان أو في مكان آخر ، وإما أن يكون الذي يخلف الأول يحدث بعد زمان ما من تلف الأول حتى يخلو زمان ما من غير أن يوجد فيه شيء من أشخاص ذلك النوع. فجعل في بعضها قوى يكون بها شبيهه في النوع ، ولم تجعل في بعض. وما لم يجعل فيها فان أشباه ما يتلف منه تكونه

_________________

١) النبات والحيوان يتحللان بأشياء متضادة من الداخل.

٧٨

الأجسام السماوية وحدها ، إذ هي مرافدة لاسطقسات له على ذلك؛ وما جعل فيه قوة يكون بها شبيهه في النوع فعلى تلك القوة التي له ـ ويقترن إلى ذلك فعل الأجسام السماوية وسائر الأجسام الأخر ـ إما بأن تفيد ، وإما بأن تضاد مضادة لا تبطل فعل القوة بل تحدث امتزاجا ، إما أن يعتدل به الفعل الكائن بتلك القوة ، وإما أن يزيله عن الاعتدال قليلا أو كثيرا بمقدار ما لا يبطل فعله؛ فيحدث عند ذلك ما يقوم مقام التالف من ذلك النوع. وكل هذه الأشياء إما على الأكثر وإما على الأقل وإما على التساوي. فبهذا الوجه يدوم بقاء هذا الجنس من الموجودات (١).

وكل واحد من هذه الأجسام له حق واستئهال بصورته ، وحق واستئهال بمادته. فالذي له بحق صورته ، أن يبقى على الوجود الذي له ولا يزول؛ والذي له بحق مادته ، هو أن يوجد وجودا آخر مقابلا مضادا للوجود الذي هو له. والعدل أن يوفى كل واحد منهما استئهاله. وإذ لا يمكن توفيته إياه في وقت واحد لزم ضرورة أن يوفى هذا مرة وذلك مرة ، فيوجد ويبقى مدة ما محفوظ الوجود ويتلف ويجد ضده ، وذلك أبدا (٢).

والذي يحفظ وجوده إما قوة في الجسم الذي فيه صورته ، وإما قوة في جسم آخر هي آلة مقارنة له تخدمه في حفظ وجوده ، وإما أن

_________________

١) بقاء النوع يكون بالتوالد أو بالتكون بفعل الأجسام السماوية.

٢) كون الأشياء وفسادها يتم بتعاقب الصور المتضادة على المادة الواحدة.

٧٩

يكون المتولي بحفظه جسم ما آخر يرأس المحفوظ ، وهو الجسم السمائي أو جسم ما غيره ، وإما أن يكون باجتماع هذه كلها (١).

وأيضا فإن هذه الموجودات لما كانت متضادة ، كانت مادة كل ضدين منها مشتركة. فالمادة التي لهذا الجسم هي أيضا بعينها مادة لذلك ، والتي لذلك هي أيضا بعينها لهذا؛ فعند كل واحد منهما شيء هو لغيره ، وعند غيره شيء هو له. فيكون كأن لكل واحد عند كل واحد من هذه الجهة حقا ما ينبغي أن يصير إلى كل واحد من كل واحد. والمادة التي تكون للشيء عند غيره إما مادة سبيلها أن تكتسي صورة ذلك بعينها ، مثل الجسم الذي يغتذي بجسم آخر ، وإما مادة سبيلها أن تكتسي صورة نوعه لا صورته بعينها ، مثل ناس يخلفون ناسا مضوا. والعدل في ذلك أن يجد ما عند هذا من مادة ذلك ، فيعطى ذلك ، وما عند ذلك من مادة هذا ، فيعطى ذلك هذا (٢). والذي به يستوفي الشيء مادته من ضده وينتزع به تلك منه ، إما أن يكون قوة فيه مقترنة بصورته في جسم واحد ، فيكون ذلك الجسم آلة له في هذا غير مفارقة؛ وإما أن يكون في جسم آخر ، فيكون ذلك آلة له مفارقة تخدمه في أن ينتزع مادة من ضده فقط ، وتكون قوة أخرى في ذلك الجسم أو في آخر تكسوه ، إما صورته بعينها وإما صورة نوعه ، وإما أن تكون قوة واحدة تفعل الأمرين جميعا؛ وإما أن تكون التي تستوفي له حقه جسما آخر يرأسه ، إما سمائية أو غيرها ، وإما أن

_________________

١) حفظ الجسم يكون بقوة داخلية أو خارجية.

٢) المادة تتخذ صورة الجسم أو صورة نوعه.

٨٠