آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]

آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

المؤلف:

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]


المحقق: الدكتور علي بو محلم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

جواهرنا منه ، كان تصورنا له أتم وأيقن وأصدق. وذلك أنا كلما كنا أقرب إلى مفارقة المادة كان تصورنا له أتم ، وإنما نصير أقرب إليه بأن نصير عقلا بالفعل. وإذا فارقنا المادة على التمام يصير المعقول منه في أذهاننا أكمل ما يكون (١).

_________________

١) تلبسنا بالمادة يبعدنا عن الله ، ونقترب منه إذا صار عقلنا عقلا بالفعل أو إذا فارقنا المادة تماما.

٤١

الباب السادس

القول في عظمته وجلاله ومجده تعالى

وكذلك عظمته وجلاله ومجده. وإن العظمة والجلالة والمجد في الشيء إنما يكون بحسب كماله ، إما في جوهره ، وإما في عرض من خواصه (١). وأكثر ما يقال ذلك فينا ، إنما هو لكمال ما لنا في عرض من أعراضنا ، مثل اليسار والعلم ، وفي شيء من أعراض البدن. والأول ، لما كان كماله باينا لكل كمال ، كانت عظمته وجلاله ومجده باينا لكل ذي عظمة ومجد ، وكانت عظمته ومجده الغايات فيما له من جوهره لا في شيء آخر خارج عن جوهره وذاته؛ ويكون ذا عظمة في ذاته وذا مجد في ذاته؛ أجلّه غيره أو لم يجله ، عظمه غيره أو لم يعظمه ، مجده غيره أو لم يمجده (٢).

والجمال والبهاء والزينة في كل موجود هو أن يوجد وجوده

_________________

١) العظمة والجلالة والمجد ترجع إلى الكمال.

٢) الفرق بين كمال الله وكمال الانسان : كمال الله في ذاته أو جوهره وكمال الإنسان في أعراض الجسم والنفس ومن الخارج.

٤٢

الأفضل ، ويحصل له كماله الأخير. وإذ كان الأول وجوده أفضل الوجود ، فجماله فائق لجمال كل ذي الجمال ، وكذلك زينته وبهاؤه. ثم هذه كلها له في جوهره وذاته؛ وذلك في نفسه وبما يعقله من ذاته. وأما نحن ، فإن جمالنا وزينتنا وبهاءنا هي لنا بأعراضنا ، لا بذاتنا؛ وللأشياء الخارجة عنا ، لا في جوهرنا. والجمال فيه والكمال ليسا هما فيه سوى ذات واحدة ، وكذلك سائرها (١).

واللذة والسرور والغبطة ، إنما ينتج ويحصل أكثر بأن يدرك الأجمل والأبهى والأزين بالادراك الأتقن والأتم (٢). فإذا كان هو الأجمل في النهاية والأبهى والأزين ، فادراكه لذاته الادراك الأتقن في الغاية ، وعلمه بجوهره العلم الأفضل على الاطلاق ، واللذة التي يلتذ بها الأول لذة لا نفهم نحن كنهها ولا ندري مقدار عظمها الا بالقياس والاضافة إلى ما نجده من اللذة ، عند ما نكون قد أدركنا ما هو عندنا أكمل وأبهى ادراكا ، وأتقن وأتم ، إما باحساس أو تخيل أو بعلم عقلي. فإنّا عند هذه الحال يحصل لنا من اللذة ما نظن أنه فائق لكل لذة في العظم ، ونكون نحن عند أنفسنا مغبوطين بما نلنا من ذلك غاية الغبطة ، وإن كانت تلك الحال منا يسيرة البقاء سريعة الدثور. فقياس علمه هو وادراكه الأفضل من ذاته والأجمل والأبهى إلى علمنا نحن ، وإدراكنا الأجمل والأبهى عندنا ، هو قياس سروره ولذته واغتباطه بنفسه إلى ما ينالنا من اللذة والسرور والاغتباط بأنفسنا (٣). وإذن كأن

_________________

١) الجمال هو الوجود الأفضل والكمال. الله فائق الجمال وجماله في ذاته.

٢) اللذة هي إدراك الجمال والكمال.

٣) الله يدرك جماله وكماله فتحصل له لذة لا متناهية.

٤٣

لا نسبة لادراكنا نحن إلى ادراكه ، ولا لمعلومنا إلى معلومه ، ولا للأجمل عندنا إلى الأجمل من ذاته؛ وان كانت له نسبة فهي نسبة ما يسيرة. فإذن لا نسبة لالتذاذنا وسرورنا واغتباطنا لأنفسنا إلى ما للأول من ذلك. وان كانت له نسبة فهي نسبة يسيرة جدا. فإنه كيف يكون نسبة لما هو جزء يسير إلى ما مقداره غير متناه في الزمان ، ولما هو أنقص جدا إلى ما هو في غاية الكمال (١)؟

وان كان ما يلتذ بذاته ويسر به أكثر ويغتبط به اغتباطا أعظم ، فهو يحب ذاته ويعشقها ويعجب بها أكثر ، فإنه بيّن أن الأول يعشق ذاته ويحبها ويعجب بها اعجابا بنسبته (٢). ونسبته إلى عشقنا لما نلتذ به من فضيلة ذاتنا كنسبة فضيلة ذاته هو ، وكمال ذاته ، إلى فضيلتنا نحن وكمالنا الذي نعجب به من أنفسنا ، والمحب منه هو المحبوب بعينه ، والمعجب منه هو المعجب منه ، والعاشق منه هو المعشوق. وذلك على خلاف ما يوجد فينا ، فان المعشوق منا هو الفضيلة والجمال ، وليس العاشق منا هو الجمال والفضيلة. لكن للعاشق قوة أخرى ، فتلك ليست للمعشوق؛ فليس العاشق منا هو المعشوق بعينه. فأما هو فان العاشق منه هو بعينه المعشوق ، والمحب هو المحبوب ، فهو المحبوب الأول والمعشوق الأول ، أحبه غيره أو لم يحبه ، وعشقه غيره أو لم يعشقه (٣).

_________________

١) لا نسبة بين لذتنا ولذة الله.

٢) الله يحب ذاته فهو المحب والمحبوب.

٣) اما الانسان فالمحب هو الذات والمحبوب هو الفضيلة والجمال.

٤٤

الباب السابع

القول في كيفية صدور جميع الموجودات عنه

والأول هو الذي عنه وجد. ومتى وجد للأول الوجود الذي هو له ، لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودها لا بارادة الانسان واختياره ، على ما هي عليه من الوجود الذي بعضه مشاهد بالحس وبعضه معلوم بالبرهان (١). ووجود ما يوجد عنه انما هو على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر ، وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده هو (٢). فعلى هذه الجهة لا يكون وجود ما يوجد عنه سببا له بوجه من الوجوه ، ولا على أنه غاية لوجود الأول ، كما يكون وجود الابن ـ من جهة ما هو ابن ـ غاية لوجود الأبوين ، من جهة ما هما أبوان. يعني أن الوجود الذي يوجد عنه (لا) يفيده كمالا ما ، كما

_________________

١) وجود الموجودات لازم ضرورة عن وجود الله.

٢) ويتم ذلك بالفيض.

٤٥

يكون لنا ذلك عن جلّ الأشياء التي تكون منا ، مثل أنا باعطائنا المال لغيرنا نستفيد من غيرنا كرامة أو لذة أو غير ذلك من الخيرات ، حتى تكون تلك فاعلة فيه كمالا ما. فالأول ليس وجوده لأجل غيره ، ولا يوجد بغيره ، حتى يكون الغرض من وجوده أن يوجد سائر الأشياء ، فيكون لوجوده سبب خارج عنه ، فلا يكون أولا ، ولا أيضا باعطائه ما سواه الوجود ينال كمالا لم يكن له قبل ذلك خارجا عما هو عليه من الكمال ، كما ينال من يجود بماله أو شيء آخر ، فيستفيد بما يبذل من ذلك لذة أو كرامة أو رئاسة أو شيئا غير ذلك من الخيرات (١) ؛ فهذه الأشياء كلها محال أن تكون في الأول ، لأنه يسقط أوليته وتقدمه ، ويجعل غيره أقدم منه وسببا لوجوده ، بل وجوده لأجل ذاته؛ ويلحق جوهره ووجوده ويتبعه أن يوجد عنه غيره. فلذلك وجوده الذي به فاض الوجود إلى غيره هو في جوهره ، ووجوده الذي به تجوهره في ذاته ، هو بعينه وجوده الذي به يحصل وجود غيره عنه. وليس ينقسم الى شيئين ، يكون بأحدهما تجوهر ذاته وبالآخر حصول شيء آخر عنه ، كما أن لنا شيئين نتجوهر بأحدهما ، وهو النطق ، ونكتب بالآخر ، وهو صناعة الكتابة ، بل هو ذات واحدة وجوهر واحد ، به يكون تجوهره وبه بعينه يحصل عنه شيء آخر.

ولا أيضا يحتاج في أن يفيض عن وجوده وجود شيء آخر الى شيء غير ذاته يكون فيه ، ولا عرض يكون فيه ، ولا حركة يستفيد بها حالا لم يكن له ، ولا آلة خارجة عن ذاته ، مثل ما تحتاج النار ، في

_________________

١) وجود الموجودات ليس سببا الله أو غاية له.

٤٦

أن يكون عنها وعن الماء بخار ، الى حرارة يتبخر بها الماء ، وكما تحتاج الشمس ، في أن تسخن ما لدينا الى أن تتحرك هي ليحصل لها بالحركة ما لم يكن لها من الحال ، فيحصل عنها وبالحال التي استفادها بالحركة حرارة فيما لدينا ، أو كما يحتاج النجار إلى الفأس وإلى المنشار حتى يحصل عنه في الخشب انفصال وانقطاع وانشقاق. وليس وجوده ، بما يفيض عنه وجود غيره ، أكمل من وجوده الذي هو بجوهره ، ولا وجوده الذي بجوهره أكمل من الذي يفيض عنه وجود غيره ، بل هما جميعا ذات واحدة (١).

ولا يمكن أيضا أن يكون له عائق من أن يفيض عنه وجود غيره ، لا من نفسه ولا من خارج أصلا (٢).

_________________

١) لا يحتاج الله في إيجاده الموجودات إلى آلة أو حركة.

٢) لا يمكن أن يكون ثمة عائق يعيق الله عن الايجاد.

٤٧

الباب الثامن

القول في مراتب الموجودات

الموجودات كثيرة ، وهي مع كثرتها متفاضلة. وجوهره جوهر يفيض منه كل وجود (كيف كان ذلك الوجود) ، كان كاملا أو ناقصا. وجوهره أيضا جوهر ، إذا فاضت منه الموجودات كلها بترتيب مراتبها ، حصل عنه لكل موجود قسطه الذي له من الوجود ومرتبته منه. فيبتدئ من أكملها وجودا ثم يتلوه ما هو أنقص منه قليلا ، ثم لا يزال بعد ذلك يتلو الأنقص إلى أن ينتهي إلى الموجود الذي إن تخطى عنه إلى ما دونه تخطى إلى ما لم يمكن أن يوجد أصلا ، فتنقطع الموجودات من الوجود. وبان جوهره جوهرا تفيض منه الموجودات من غير أن يخص بوجود دون وجوده. فهو جواد ، وجوده هو في جوهره ، ويترتب عنه الموجودات ، ويتحصل لكل موجود قسطه من الوجود بحسب رتبته عنه. فهو عدل ، وعدالته في جوهره ، وليس ذلك لشيء خارج عن جوهره (١)

_________________

١) مبادئ الموجودات كثيرة متفاضلة

٤٨

وجوهره أيضا جوهر ، إذا حصلت الموجودات مرتبة في مراتبها أن يأتلف ويرتبط وينتظم بعضها مع بعض ، ائتلافا وارتباطا وانتظاما تصير بها الأشياء الكثيرة جملة واحدة ، وتحصل كشيء واحد. والتي بها ترتبط هذه وتأتلف هي لبعض الأشياء في جواهرها حتى ان جواهرها التي بها وجودها هي التي بها تأتلف وترتبط. ولبعض الأشياء تكون أحوال فيها تابعة لجوهرها ، مثل المحبة التي بها يرتبط الناس ، فانها حال فيهم ، وليست هي جواهرهم التي بها وجودهم. وهذه أيضا فيها مستفادة عن الأول ، لأن في جوهر الأول أن يحصل عنه بكثير من الموجودات مع جواهرها الأحوال التي بها يرتبط بعضها مع بعض ، ويأتلف وينتظم (١).

_________________

١) تبدأ بالأكمل ١ ـ أو العقل الأول ٢ ـ ثم تأتي الثواني ٣ ـ ثم العقل الفعال ٤ ـ ثم النفس ٥ ـ ثم الصورة ٦ ـ ثم المادة.

والأجسام في العالم ستة هي الجسم السماوي والانسان والحيوان والنبات والمعادن والاسطقسات. وقد فصل ذلك بصورة أوضح في كتاب «السياسة المدنية».

١) الموجودات مرتبة ومنتظمة ومرتبطة.

٤٩

الباب التاسع

القول في الأسماء التي ينبغي أن يسمى بها الأول تعالى مجده

الأسماء التي ينبغي أن يسمى بها الأول ، هي الأسماء التي تدل في الموجودات التي لدينا ، ثم في أفضلها عندنا ، على الكمال وعلى فضيلة الوجود ، من غير أن يدل شيء من تلك الأسماء فيه هو على الكمال والفضيلة التي جرت العادة أن تدل عليها تلك الأسماء في الموجودات التي لدينا وفي أفضلها ، بل على الكمال الذي يخصه هو في جوهره (١). وأيضا فان أنواع الكمالات ، التي جرت العادة أن يدل عليها بتلك الأسماء الكثيرة كثيرة ، وليس ينبغي أن تظن بأن أنواع كمالاته التي يدل عليها بأسمائه الكثيرة أنواع كثيرة ، ينقسم الأول إليها ويتجوهر بجميعها ، بل ينبغي أن يدل بتلك الأسماء الكثيرة على جوهر واحد ووجود واحد غير منقسم أصلا (٢).

_________________

١) أسماء الله يجب أن تدل على كماله هو وليس على كمالاتنا نحن.

٢) ولا ينبغي أن تدل على كمالات كثيرة بل على جوهر واحد.

           

٥٠

والأسماء التي تدل على الكمال والفضيلة في الأشياء التي لدينا ، منها ما يدل على ما هو للشيء في ذاته ، لا من حيث هو مضاف إلى شيء آخر خارج عنه ، مثل الموجود الواحد والحيّ؛ ومنها ما يدل على ما هو للشيء بالاضافة إلى شيء آخر خارج عنه ، مثل العدل والجوّاد. وهذه الأسماء ، أما فيما لدينا ، فإنها تدل على فضيلة وكمال ، تكون اضافته إلى شيء آخر خارج عنه جزءا من ذلك الكمال حتى تكون تلك الاضافة جزءا من جملة ما يدل عليه بتلك الأسماء ، بأن يكون ذلك الاسم ، أو بأن تكون تلك الفضيلة وذلك الكمال قوامه بالاضافة إلى شيء آخر (١). وأمثال هذه الأسماء ، متى نقلت وسمي بها الأول ، قصدنا أن يدل بها على الاضافة التي له إلى غيره بما فاض منه من الوجود ، فينبغي أن لا نجعل الاضافة جزءا من كماله ، ولا أيضا نجعل ذلك الكمال ، المدلول عليه بذلك الاسم ، قوامه بتلك الاضافة ، بل ينبغي أن ندل به على جوهر وكمال تتبعه ضرورة تلك الاضافة. وعلى أن قوام تلك الاضافة بذلك الجوهر ، وعلى أن تلك الاضافة تابعة لما جوهره ذلك الجوهر الذي دلّ عليه بذلك الاسم (٢).

_________________

١) في الأشياء التي لدينا تدل الأسماء إما على ما هو للشيء في ذاته ، وإما على ما هو للشيء بالاضافة إلى غيره.

٢) بالنسبة لله هذه الأسماء تدل على الاضافة التي له إلى العالم. ـ ولكن ليست الاضافة جزءا من كمال الله ولا يقوم كمال الله بتلك الاضافة.

٥١

الباب العاشر

القول في الموجودات الثواني وكيفية صدور الكثير

يفيض من الأول وجود الثاني؛ فهذا الثاني هو أيضا جوهر غير متجسم أصلا ، ولا هو في مادة. فهو يعقل ذاته ويعقل الأول ، وليس ما يعقل من ذاته هو شيء غير ذاته. فما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثالث ، وبما هو متجوهر بذاته التي تخصه يلزم عنه وجود السماء الأولى (١).

والثالث أيضا وجوده لا في مادة ، وهو بجوهره عقل. وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الكواكب الثابتة؛ وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود رابع (٢).

وهذا أيضا لا في مادة ، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما

_________________

١) العقل الثاني جوهر يفيض عن الله أو العقل الأول وعنه يفيض العقل الثالث والسماء الأولى.

٢) يفيض عن العقل الثالث العقل الرابع وكرة الكواكب.

٥٢

يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة زحل ، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود خامس (١).

وهذا الخامس أيضا وجوده لا في مادة ، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المشتري ، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سادس (٢).

وهذا أيضا وجوده لا في مادة ، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المريخ ، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سابع (٣).

وهذا أيضا وجوده لا في مادة ، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة الشمس ، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثامن (٤).

وهو أيضا وجوده لا في مادة ، ويعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الزهرة ، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود تاسع (٥).

وهذا أيضا وجوده لا في مادة ، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة عطارد ، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود عاشر (٦).

_________________

١) يفيض عن العقل الرابع العقل الخامس وكرة زحل.

٢) يفيض عن العقل الخامس العقل السادس وكرة المشتري.

٣) يفيض عن السادس سابع وكرة المريخ.

٤) يفيض عن السابع ثامن وكرة الشمس.

٥) يفيض عن الثامن تاسع وكرة الزهرة.

٦) يفيض عن العقل التاسع عقل عاشر وكرة عطارد.

٥٣

وهذا أيضا وجوده لا في مادة ، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة القمر ، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود حادي عشر (١).

وهذا الحادي عشر هو أيضا وجوده لا في مادة؛ وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. ولكن عنده ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلا. وهي الأشياء المفارقة التي هي في جواهرها عقول ومعقولات. وعند كرة القمر ينتهي وجود الأجسام السماوية ، وهي التي بطبيعتها تتحرك دورا (٢).

_________________

١) يفيض عن العقل العاشر حادي عشر وكرة القمر.

٢) الحادي عشر هو العقل الفعال.

٥٤

الباب الحادي عشر

القول في الموجودات والأجسام التي لدينا

وهذه الموجودات ، التي أحصيناها ، هي التي حصلت لها في كمالاتها الأفضل في جواهرها منذ أول الأمر (١). وعند هذين (فلك القمر والعقل الحادي عشر) ينقطع وجود هذه. والتي بعدهما هي ليس التي في طبيعتها أن توجد في الكمالات الأفضل في جواهرها منذ أول الأمر ، بل إنما شأنها أن يكون لها أولا نقص وجوداتها ، فيبتدئ منه ، فيترقى شيئا فشيئا إلى أن يبلغ كل نوع منها أقصى كماله في جوهره؛ ثم هي في سائر أعراضه (٢) وهذه الحال هي في طباع هذا الجنس من غير أن يكون ذلك دخيلا عليه من شيء آخر غريب عنه (٣). وهذه منها طبيعية ، ومنها ارادية ، ومنها مركبة من الطبيعية والارادية.

_________________

١) الموجودات السماوية موجودة دائما بالفعل لذا كانت كاملة.

٢) أما الموجودات الأرضية فهي تمر من القوة إلى الفعل ولذا تكون ناقصة ثم تسعى نحو الكمال.

٣) هذا السعي أو الترقي نحو الكمال يكون في طباع الموجود ولا يتم بتأثير خارجي.

٥٥

والطبيعية من هذه توطئة للارادية ، ويتقدم بالزمان وجودها قبل الارادية. ولا يمكن وجود الارادية منها دون أن توجد الطبيعية منها قبل ذلك (١). والأجسام الطبيعية من هذه هي الأسطقسات ، مثل النار والهواء والماء والأرض ، وما جانسها من البخار واللهيب وغير ذلك؛ والمعدنية مثل الحجارة وأجناسها ، والنبات والحيوان غير الناطق والحيوان الناطق (٢).

_________________

١) الموجودات الأرضية ثلاثة أنواع طبيعية وارادية ، ومركبة من طبيعية وارادية.

٢) الموجودات الأرضية هي الاسطقسات والمعادن والنبات والحيوان والانسان.

٥٦

الباب الثاني عشر

القول في المادة والصور

وكل واحد من هذه قوامه من شيئين : أحدهما منزلته منزلة خشب السرير ، والآخر منزلته منزلة خلقة السرير. فما منزلته منزلة الخشب هو المادة والهيولى ، وما منزلته خلقته فهو الصورة والهيئة (١). وما جانس هذين من الأشياء ، فالمادة موضوعة ليكون بها قوام الصورة ، والصورة لا يمكن أن يكون لها قوام ووجود بغير المادة. فالمادة وجودها لأجل الصورة ، ولو لم تكن صورة ما موجودة ما كانت المادة. والصورة وجودها لا لتوجد بها المادة ، بل ليحصل الجوهر المتجسم جوهرا بالفعل. فان كل نوع انما يحصل موجودا بالفعل وبأكمل وجوديه إذا حصلت صورته (٢). وما دامت مادته موجودة دون صورته فانه انما هو ذلك النوع بالقوة. فان خشب السرير ما دام

_________________

١) المادة والصورة مبدأ الموجودات.

٢) الشيء بالفعل يحصل من اجتماع المادة والصورة.

٥٧

بلا صورة السرير ، فهو سرير بالقوة ، وإنما يصير سريرا بالفعل إذا حصلت صورته في مادته. وأنقص وجودي الشيء هو بمادته ، وأكمل وجوديه هو بالصورة (١).

وصور هذه الأجسام متضادة ، وكل واحد منها يمكن أن يوجد وأن لا يوجد؛ ومادة كل واحد منها قابلة لصورته ولضدها ، وممكنة أن توجد فيها صورة الشيء وأن لا توجد ، بل يمكن أن تكون موجودة في غير تلك الصورة (٢).

والأسطقسات أربع ، وصورها متضادة. ومادة كل واحدة منها قابلة لصورة ذلك الاسطقس ولضدها. ومادة كل واحدة منها مشتركة للجميع ، وهي مادة لها ولسائر الأجسام الأخر التي تحت الأجسام السماوية ، لأن سائر ما تحت السماوية كائنة عن الاسطقسات ، ومواد الاسطقسات ليست لها مواد؛ فهي المواد الأولى المشتركة لكل ما تحت السماوية. وليس شيء من هذه يعطى صورته من أول الأمر ، بل كل واحد من الأجسام فإنما يعطى أولا مادته التي بها وجوده بالقوة البعيدة فقط ، لا بالفعل ، إذ كانت انما أعطيت مادته الأولى فقط ، ولذلك هي أبدا ساعية إلى ما يتجوهر به من الصورة؛ ثم لا يزال يترقى شيئا بعد شيء إلى أن تحصل له صورته التي بها وجوده بالفعل (٣).

_________________

١) والشيء بالقوة هو المادة بدون صورة.

٢) صور الأجسام متضادة.

٣) أ ـ الاسطقسات أربع هي الماء والهواء والنار والتراب. وهي تشترك في المادة أو الهيولى وتتضاد في الصورة.

ب ـ من الاسطقسات تتكون الكائنات من معادن ونبات وحيوان وانسان.

٥٨

الباب الثالث عشر

القول في المقاسمة بين المراتب والأجسام الهيولانية

والموجودات الإلهية

وترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولا أخسها ، ثم الأفضل فالأفضل ، إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه. فأخسها المادة الأولى المشتركة؛ والأفضل منها الاسطقسات ثم المعدنية ، ثم النبات ، ثم الحيوان غير الناطق ، ثم الحيوان الناطق ، وليس بعد الحيوان الناطق أفضل منه (١).

وأما الموجودات التي سلف ذكرها ، فانها تترتب أولا أفضلها ، ثم الأنقص ، فالأنقص إلى أن تنتهي إلى أنقصها. وأفضلها وأكملها الأول. فأما الأشياء الكائنة عن الأول ، فأفضلها بالجملة هي التي

_________________

١) الموجودات الأرضية تتدرج من الأنقص إلى الأكمل أي من الهيولى إلى الانسان مرورا بالاسطقسات والمعادن والنبات والحيوان.

٥٩

ليست بأجسام ولا هي من أجسام ، ومن بعدها السماوية. وأفضل المفارقة من هذه هو الثاني ، ثم سائرها على الترتيب إلى أن ينتهي إلى الحادي عشر. وأفضل السماوية هي السماء الأولى ، ثم الثانية ، ثم سائرها على الترتيب ، إلى أن ينتهي إلى التاسع وهو كرة القمر. والأشياء المفارقة التي بعد الأول هي عشرة والأجسام السماوية في الجملة تسعة ، فجميعها تسعة عشرة (١).

وكل واحد من العشرة متفرد بوجوده ومرتبته ، ولا يمكن أن يكون وجوده لشيء آخر غيره ، لأن وجوده إن شاركه فيه آخر ، فذلك الآخر إن كان غير هذا ، فباضطرار أن يكون له شيء ما باين به هذا ، فيكون ذلك الشيء ، الذي به باين هذا ، هو وجوده الذي يخصّه ، فيكون الوجود الذي يخصّ ذلك الشيء ليس هو الذي هو به هذا موجود. فإذن ليس وجودهما وجودا واحدا ، بل لكل واحد منهما شيء يخصّه. ولا أيضا يمكن أن يكون له ضد ، لأن ما كان له ضد فله مادة مشتركة بينه وبين ضده ، وليس يمكن أن يكون لواحد من هذه مادة. وأيضا الذي تحت نوع ما ، إنما تكثر أشخاصه لكثرة موضوعات صورة ذلك النوع. فما ليست له مادة فليس يمكن أن يكون في نوعه شيء آخر غيره (٢).

_________________

١) أما الموجودات السماوية فعلى العكس تتدرج من الأكمل إلى الأنقص أي من الله إلى العقل الفعال مرورا بالثواني التسعة (العقول) ومن السماء الأولى إلى القمر (الأجسام).

٢) الثواني ليس لها شريك ولا ضد.

٦٠