آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]

آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

المؤلف:

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]


المحقق: الدكتور علي بو محلم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

يهلكون وينحلون أيضا مثل أهل الجاهلة. وكذلك كل من عدل عن السعادة بسهو وغلط (١).

وأما المضطرون والمقهورون ، من أهل المدينة الفاضلة ، على أفعال الجاهلية ، فإن المقهور على فعل شيء ، لما كان يتأذّى بما يفعله من ذلك ، صارت مواظبته على ما قسر عليه لا تكسبه هيئة نفسانية مضادة للهيئات الفاضلة ، فتكدر عليه تلك الحال حتى تصير منزلته منزلة أهل المدن الفاسقة ، فلذلك لا تضرّه الأفعال التي أكره عليها ، وانما ينال الفاضل ذلك متى كان المتسلط عليه أحد أهل المدن المضادة للمدينة الفاضلة ، واضطر إلى أن يسكن في مساكن المضادّين (٢).

_________________

١) مصير أهل المبدلة الهلاك ومصير قادتهم الشقاء.

٢) لا ضير على من أكره من أهل المدينة الفاضلة على فعل رديء.

١٤١

الباب الثالث والثلاثون

القول في الأشياء المشتركة لأهل المدينة الفاضلة

فأما الأشياء المشتركة التي ينبغي أن يعلمها جميع أهل المدينة الفاضلة فهي أشياء ، أولها معرفة السبب الأول وجميع ما يوصف به ، ثم الأشياء المفارقة للمادة وما يوصف به كل واحد منها بما يخصّه من الصفات والمرتبة إلى أن تنتهي من المفارقة إلى العقل الفعّال ، وفعل كل واحد منها؛ ثم الجواهر السماوية وما يوصف به كل واحد منها؛ ثم الأجسام الطبيعية التي تحتها ، كيف تتكون وتفسد ، وأن ما يجري فيها يجري على إحكام واتقان وعناية وعدل وحكمة ، وأنه لا اهمال فيها ولا نقص ولا جور ولا بوجه من الوجوه؛ ثم كون الانسان ، وكيف تحدث قوى النفس ، وكيف يفيض عليها العقل الفعّال الضوء حتى تحصل المعقولات الأول ، والارادة والاختيار؛ ثم الرئيس الأول وكيف يكون الوحي؛ ثم الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفوه إذا لم يكن هو في وقت من الأوقات؛ ثم المدينة الفاضلة وأهلها والسعادة التي تصير إليها

١٤٢

أنفسهم ، والمدن المضادة لها وما تؤول إليه أنفسهم بعد الموت : اما بعضهم إلى الشقاء واما بعضهم إلى العدم ، ثم الأمم الفاضلة والأمم المضادة لها (١).

وهذه الأشياء تعرف بأحد وجهين : إما أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة ، وإما أن ترتسم فيها بالمناسبة والتمثيل ، وذلك أن يحصل في نفوسهم مثالاتها التي تحاكيها. فحكماء المدينة الفاضلة هم الذين يعرفون هذه ببراهين وببصائر أنفسهم. ومن يلي الحكماء يعرفون هذه على ما هي عليه موجودة ببصائر الحكماء اتباعا لهم وتصديقا لهم وثقة بهم. والباقون منهم يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها ، لأنهم لا هيئة في أذهانهم لتفهمها على ما هي موجودة إما بالطبع وإما بالعادة وكلتاهما معرفتان. الا أن التي للحكيم أفضل لا محالة؛ والذين يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها ، بعضهم يعرفونها بمثالات قريبة منها ، وبعضهم بمثالات أبعد قليلا ، وبعضهم بمثالات أبعد من تلك ، وبعضهم بمثالات بعيدة جدا. وتحاكى هذه الأشياء لكل أمة ولأهل كل مدينة بالمثالات التي عندهم الأعرف فالأعرف ، وربما اختلف عند الأمم اما أكثره واما بعضه ، فتحاكي هذه لكل أمة بغير الأمور التي تحاكي بها الأمة الأخرى. فلذلك يمكن أن يكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف

_________________

١) المعارف التي ينبغي أن يحصلها أهل المدينة الفاضلة ليسعدوا هي فلسفة الفارابي التي تضمنها هذا الكتاب ابتداء من معرفة الله وصفاته وانتهاء بالأمم الفاضلة والأمم المضادة لها ، مرورا بالثواني والعقل الفعّال وكون الأجسام الطبيعية وفسادها وكون الانسان وقواه ورئيس المدينة الفاضلة وأهلها والمدن المضادة ومصير نفوسهم بعد الموت.

١٤٣

ملتهم ، فهم كلهم يؤمّون سعادة واحدة بعينها ومقاصد واحدة بأعيانها (١).

وهذه الأشياء المشتركة ، إذا كانت معلومة ببراهينها ، لم يمكن أن يكون فيها موضع عناد بقول أصلا ، لا على جهة المغالطة ولا عند من يسوء فهمه لها. فحينئذ يكون للمعاند ، لا (حقيقة) الأمر في نفسه ، ولكن ما فهمه هو من الباطل في الأمر. فاما إذا كانت معلومة بمثالاتها التي تحاكيها ، فان مثالاتها قد تكون فيها مواضع للعناد ، وبعضها يكون فيه مواضع العناد أقل ، وبعضها يكون فيها مواضع العناد أكثر ، وبعضها يكون فيه مواضع العناد أظهر ، وبعضها يكون فيه أخفى (٢).

ولا يمتنع أن يكون في الذين عرفوا تلك الأشياء بالمثالات المحاكية ، من يقف على مواضع العناد في تلك المثالات ويتوقف عنده ، وهؤلاء أصناف (٣) : صنف مسترشدون ، فما تزيّف عند أحد من هؤلاء شيء ما رفع إلى مثال آخر أقرب إلى الحق ، لا يكون فيه ذلك العناد ، فان قنع به ترك ، وان تزيّف عنده ذلك أيضا رفع إلى مرتبة أخرى ، فان قنع به ترك. وكلما تزيّف عنده مثال في مرتبة ما رفع فوقها ، فان تزيّفت عنده المثالات كلّها وكانت فيه نية للوقوف على الحق عرف

_________________

١) يعرف أهل المدينة الفاضلة هذه المعلومات بطريقتين رئيستين هما البرهان والمحاكاة. وطريقة الحكماء البرهانية أفضل من طريقة العامة التمثيلية.

٢) لا عناد في البرهان أما التمثيل فعرضة للمعاندة.

٣) أصناف المعاندين.

١٤٤

الحق ، وجعل في مرتبة المقلّدين للحكماء؛ فان لم يقنع بذلك وتشوّق إلى الحكمة ، وكان في نيته ذلك ، علمها (١).

وصنف آخرون بهم أغراض ما جاهلة ، من كرامة ويسار أو لذّة في المال وغير ذلك ، ويرى شرائع المدينة الفاضلة تمنع منها ، فيعمد إلى آراء المدينة الفاضلة فيقصد تزييفها كلها ، سواء كانت مثالات للحق ، أو كان الذي يلقى إليه منها الحق نفسه. أما المثالات فتزييفها بوجهين : أحدهما بما فيه من مواضع العناد ، والثاني بمغالطة وتمويه. واما الحق نفسه فبمغالطة وتمويه؛ كل ذلك لئلا يكون شيء يمنع غرضه الجاهلي والقبيح. وهؤلاء ليس ينبغي أن يجعلوا أجزاء المدينة الفاضلة (٢).

وصنف آخر تتزيّف عندهم المثالات كلها لما فيها من مواضع العناد ، ولأنهم مع ذلك سيئو الإفهام ، يغلطون أيضا عن مواضع الحق من المثالات ، فيتزيّف منها عندهم ما ليس فيها موضع للعناد أصلا. فإذا رفعوا إلى طبقة الحق حتى يعرفوها ، أضلّهم سوء افهامهم عنه ، حتى يتخيلوا الحق على غير ما هو به ، فيظنّون أيضا أن الذي تصوروه هو الذي ادّعى الحق أنه هو الحق؛ فإذا تزيّف ذلك عندهم ، ظنوا أن الذي تزيّف هو الحق الذي يدعى أنه الحق لا الذي فهموه هم؛ فيقع لهم لأجل ذلك أنه لا حق أصلا ، وأن الذي يظنّ به أنه أرشد إلى الحق

_________________

١) المسترشد المقلد للحكماء.

٢) القاصد إلى تزييف الحقيقة من أهل المدن الجاهلة.

١٤٥

مغرور. وأن الذي يقال فيه إنه مرشد إلى الحق ، مخادع مموّه ، طالب ، بما يقول من ذلك ، رئاسة أو غيرها (١).

وقوم من هؤلاء يخرجهم ذلك إلى أن يتحيّروا؛ وآخرون من هؤلاء يلوح لهم مثل ما يلوح الشيء من بعيد ، أو مثل ما يتخيله الانسان في النوم أن الحق موجود ويباين من ادراكه لأسباب يرى أنها لا تتأتّى له ، فيقصد إلى تزييف ما أدركه ، ولا يحسبه حينئذ حقا ، ثم يعلم أو يظن أنه أدرك الحق (٢).

_________________

١) السيّئ الفهم الذي لا يستطيع ادراك الحق أصلا.

٢) الشاك الذي يقول إنه لا سبيل إلى ادراك الحق.

١٤٦

الباب الرابع والثلاثون

القول في آراء أهل المدن الجاهلة والضالة

والمدن الجاهلة والضالة انما تحدث متى كانت الملّة مبنيّة على بعض الآراء القديمة الفاسدة.

منها ، أن قوما قالوا : إنّا نرى الموجودات التي نشاهدها متضادّة ، وكل واحد منها يلتمس إبطال الآخر؛ ونرى كل واحد منها ، إذا حصل موجودا ، أعطي مع وجوده شيئا يحفظ به وجوده من البطلان ، وشيئا يدفع به عن ذاته فعل ضدّه ، ويجوّز به ذاته عن ضدّه؛ وشيئا يبطل به ضدّه ويفعل منه جسما شبيها به في النوع؛ وشيئا يقتدر به على أن يستخدم سائر الأشياء فيما هو نافع في أفضل وجوده وفي دوام وجوده (١).

وفي كثير منها جعل له ما يقهر به كل ما يمتنع عليه ، وجعل كل ضدّ من كل ضدّ ومن كل ما سواه بهذه الحال ، حتى تخيّل لنا أن كل

_________________

١) لا اجتماع ، لأن الموجودات متضادة.

١٤٧

واحد منها هو الذي قصد ، أو أن يجاز له وحده أفضل الوجود دون غيره. فلذلك جعل له كل ما يبطل به كل ما كان ضارا له وغير نافع له ، وجعل له ما يستخدم به ما ينفعه في وجوده الأفضل. فإنا نرى كثيرا من الحيوان يثب على كثير من باقيها ، فيلتمس إفسادها ، وإبطالها ، من غير أن ينتفع بشيء من ذلك نفعا يظهر ، كأنه قد طبع على أن لا يكون موجود في العالم غيره ، أو أن وجود كل ما سواه ضارّ له ، على أن يجعل وجود غيره ضارّا له ، وان لم يكن منه شيء آخر على أنه موجود فقط. ثم إن كل واحد منهما ، إن لم يرم ذلك ، التمس أن يستعبد غيره فيما ينفعه ، وجعل كل نوع من كل نوع بهذه الحال ، وفي كثير منها جعل كل شخص من كل شخص في نوعه بهذه الحال. ثم خليت هذه الموجودات أن تتغالب وتتهارج. فالأقهر منها لما سواه يكون أتمّ وجودا. والغالب أبدا إما أن يبطل بعضه بعضا ، لأنه في طباعه أن وجود ذلك الشيء نقص ومضرّة في وجوده هو ، وإما أن يستخدم بعضا ويستعبده ، لأنه يرى في ذلك الشيء أن وجوده لأجله هو (١).

ويرى أشياء تجري على غير نظام ، ويرى مراتب الموجودات غير محفوظة ، ويرى أمورا تلحق كل واحد على غير استئهال منه لما يلحقه من وجوده لا وجود (لنفسها). قالوا : وهذا وشبهه هو الذي يظهر في الموجودات التي نشاهدها ونعرفها. فقال قوم بعد ذلك إن هذه الحال طبيعة الموجودات ، وهذه فطرتها ، والتي تفعلها الأجسام

_________________

١) الموجودات تتغالب على الوجود وينتصر الأتم وجودا.

١٤٨

الطبيعية بطبائعها هي التي ينبغي أن تفعلها الحيوانات المختارة باختياراتها واراداتها ، والمرويّة برويتها. ولذلك رأوا أن المدن ينبغي أن تكون متغالبة متهارجة ، لا مراتب فيها ولا نظام ، ولا استئهال يختص به أحد لكرامة أو لشيء آخر؛ وأن يكون كل انسان متوحّدا بكل خير هو له ان يلتمس ان يغالب غيره في كل خير هو لغيره (١)، وان الانسان الأقهر لكل ما يناويه هو الأسعد (٢).

ثم تحدث من هذه آراء كثيرة في المدن من آراء الجاهلية : فقوم رأوا ذلك أنه لا تحاب ولا ارتباط ، لا بالطبع ولا بالارادة ، وأنه ينبغي أن يبغض كل انسان كل انسان ، وأن ينافر كلّ واحد كلّ واحد ، ولا يرتبط اثنان إلا عند الضرورة ، ولا يأتلفان إلا عند الحاجة ، ثم يكون (بعد) اجتماعهما على ما يجتمعان عليه بأن يكون أحدهما القاهر والآخر مقهورا ، وان اضطرّا لأجل شيء وارد من خارج أن يجتمعا ويأتلفا ، فينبغي أن يكون ذلك ريث الحاجة ، وما دام الوارد من خارج يضطرّهما إلى ذلك؛ فإذا زال فينبغي أن يتنافرا ويفترقا. وهذا هو الداء السبعيّ من آراء الانسانية (٣).

وآخرون ، لما رأوا أن المتوحد لا يمكنه أن يقوم بكل ما به إليه حاجة دون أن يكون له موازرون ومعاونون ، يقوم له كل واحد بشيء مما يحتاج إليه ، رأوا الاجتماع.

_________________

١) لا نظام ولا مراتب في الموجودات.

٢) الأقوى هو الأسعد.

٣) لا ارتباط ولا تحاب بين البشر لا بالطبع ولا بالإرادة وإن شريعة الغاب هي السائدة بين الناس.

١٤٩

فقوم رأوا أن ذلك ينبغي أن يكون بالقهر ، بأن يكون الذي يحتاج إلى موازين يقهر قوما ، فيستعبدهم ، ثم يقهر بهم آخرين فيستعبدهم أيضا. وأنه لا ينبغي أن يكون موازره مساويا له ، بل مقهورا؛ مثل أن يكون أقواهم بدنا وسلاحا يقهر واحدا ، حتى صار ذلك مقهورا له قهر به واحدا آخر أو نفرا ، ثم يقهر بأولئك آخرين ، حتى يجمع له موازرين على الترتيب. فإذا اجتمعوا له صيّرهم آلات يستعملهم فيما فيه هواه (١).

وآخرون رأوا هاهنا ارتباطا وتحابا وائتلافا ، واختلفوا في التي بها يكون الارتباط : فقوم رأوا أن الاشتراك في الولادة من والد واحد هو الارتباط به ، وبه يكون الاجتماع والائتلاف والتحابّ والتوازر على أن يغلبوا غيرهم ، وعلى الامتناع من أن يغلبهم غيرهم. فان التباين والتنافر بتباين الآباء ، والاشتراك في الوالد الأخصّ والأقرب يوجب ارتباطا أشدّ ، وفيما هو أعمّ يوجب ارتباطا أضعف؛ إلى أن يبلغ من العموم والبعد إلى حيث ينقطع الارتباط أصلا ويكون تنافرا؛ إلا عند الضرورة الواردة من خارج ، مثل شرّ يدهمهم ، ولا يقومون بدفعه إلا باجتماع جماعات كثيرة. وقوم رأوا أن الارتباط هو بالاشتراك في التناسل ، وذلك بأن ينسل ذكورة أولاد هذه الطائفة من اناث أولاد أولئك ، وذكورة أولاد أولئك من اناث أولاد هؤلاء ، وذلك التصاهر. وقوم رأوا أن الارتباط هو باشتراك في الرئيس الأول الذي جمعهم أولا ودبّرهم حتى غلبوا به ، ونالوا خيرا ما من خيرات الجاهلية (٢).

_________________

١) الاجتماع يقوم على القهر.

٢) الاجتماع يقوم على القرابة.

١٥٠

وقوم رأوا أن الارتباط هو بالايمان والتحالف والتعاهد على ما يعطيه كل انسان من نفسه ، ولا ينافر الباقين ولا يخاذلهم ، وتكون أيديهم واحدة في أن يغلبوا غيرهم ، وأن يدفعوا عن أنفسهم غلبة غيرهم لهم (١).

وآخرون رأوا أن الارتباط هو بتشابه الخلق والشيم الطبيعية ، والاشتراك في اللغة واللسان؛ وأن التباين يباين هذه. وهذا هو لكل أمّة. فينبغي أن يكونوا فيما بينهم متحابين ومنافرين لمن سواهم؛ فإن الأمم إنما تتباين بهذه الثلاث (٢).

وآخرون رأوا أن الارتباط هو بالاشتراك في المنزل ، ثم الاشتراك في المساكن ، وان أخصّهم هو بالاشتراك في المنزل ، ثم الاشتراك في السكة ، ثم الاشتراك في المحلّة. فلذلك يتواسون بالجار ، فإن الجار هو المشارك في السكة وفي المحلة؛ ثم الاشتراك في المدينة ، ثم الاشتراك في الصقع الذي فيه المدينة (٣).

وهاهنا أيضا أشياء يظن أنه ينبغي أن يكون لها ارتباط جزئي بين جماعة يسيرة وبين نفر وبين اثنين ، منها طول التلاقي ، ومنها الاشتراك في طعام يؤكل ، وشراب يشرب ، ومنها الاشتراك في الصنائع ، ومنها الاشتراك في شرّ يدهمهم ، وخاصة متى كان نوع الشرّ واحدا وتلاقوا ، فإن بعضهم يكون سلوة بعض. ومنها الاشتراك في لذّة ما ، ومنها الاشتراك في الأمكنة التي لا يؤمن فيها أن يحتاج كل واحد إلى الآخر ، مثل الترافق في السفر

_________________

١) الاجتماع يقوم على التعاهد.

٢) الاجتماع يقوم على تشابه الخلق والشيم واللغة.

٣) الاجتماع يقوم على الاشتراك في الوطن.

١٥١

الباب الخامس والثلاثون

القول في العدل

[أو في علاقات المدن والأمم]

قالوا : فإذا تميّزت الطوائف بعضها عن بعض بأحد هذه الارتباطات ، إما قبيلة عن قبيلة ، أو مدينة عن مدينة ، أو أحلاف عن أحلاف ، أو أمة عن أمة ، كانوا مثل تميّز كل واحد عن كل واحد؛ فإنه لا فرق بين أن يتميّز كل واحد عن كل واحد أو يتميّز طائفة عن طائفة؛ فينبغي بعد ذلك أن يتغالبوا ويتهارجوا. والأشياء التي يكون عليها التغالب هي السلامة والكرامة واليسار واللذّات وكل ما يوصل به إلى هذه. وينبغي أن يروم كل طائفة أن تسلب جميع ما للأخرى من ذلك ، وتجعل ذلك لنفسها ، ويكون كل واحد من كل واحد بهذه الحال. فالقاهرة منها للأخرى على هذه هي الفائزة ، وهي المغبوطة ، وهي السعيدة. وهذه الأشياء هي التي في الطبع ، إما في طبع كل انسان أو في طبع كل طائفة ، وهي تابعة لما عليه طبائع الموجودات الطبيعية. فما في الطبع هو العدل. فالعدل إذا التغالب. والعدل هو

١٥٢

أن يقهر ما اتفق منها. والمقهور إما أن يقهر على سلامة بدنه ، أو هلك وتلف ، وانفرد القاهر بالوجود؛ أو قهر على كرامته وبقي ذليلا ومستعبدا ، تستعبده الطائفة القاهرة ويفعل ما هو الأنفع للقاهر في أن ينال به الخير الذي عليه غالب ويستديم به. فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضا من العدل. وأن يفعل المقهور ما هو الأنفع للقاهر هو أيضا عدل. فهذه كلها هو العدل الطبيعي ، وهي الفضيلة. وهذه الأفعال هي الأفعال الفاضلة فإذا حصلت الخيرات للطائفة القاهرة فينبغي أن يعطى من هو أعظم غناء في الغلبة على تلك الخيرات من تلك الخيرات أكثر ، والأقل غناء فيها أقلّ. وان كانت الخيرات التي غلبوا عليها كرامة ، أعطي الأعظم غناء فيه كرامة أكبر ، وان كانت أموالا أعطي أكثر. وكذلك في سائرها. فهذا هو أيضا عدل عندهم طبيعي (١).

قالوا : وأما سائر ما يسمّى عدلا ، مثل ما في البيع والشراء ، ومثل ردّ الودائع ، ومثل أن لا يغضب ولا يجور ، وأشباه ذلك ، فان مستعمله انما يستعمله أولا لأجل الخوف والضعف وعند الضرورة الواردة من خارج.

وذلك أن يكون كل واحد منهما كأنهما نفسان أو طائفتان مساوية (إحداهما) في قوتها للأخرى ، وكانا يتداولان القهر. فيطول ذلك بينهما؛ فيذوق كل واحد الأمرين ، ويصير إلى حال لا يحتملها ، فحينئذ يجتمعان ويتناصفان ، ويترك كل واحد منهما للآخر مما كانا يتغالبان عليه قسطا ما؛ فتبقى سماته ، ويشرط كل واحد منهما على

_________________

١) علاقات الأمم تقوم على التغالب والقهر.

١٥٣

صاحبه أن لا يروم نزع ما في يديه إلا بشرائط ، فيصطلحان عليها. فيحدث من ذلك الشرائط الموضوعة في البيع والشراء ، ويقارب الكرامات ثم المواساة وغير ذلك مما جانسها. وإنما يكون ذلك عند ضعف كل من كل ، وعند خوف كل من كل. فما دام كل واحد من كل واحد في هذه الحال فينبغي أن يتشاركا. ومتى قوي أحدهما على الآخر فينبغي أن ينقض الشريطة ويروم القهر (١).

أو يكون الاثنان ورد عليهما من خارج شيء على أنه لا سبيل إلى دفعه إلا بالمشاركة وترك التغالب ، فيتشاركان ريث ذلك؛ أو يكون لكل واحد منهما همة في شيء يريد أن يغلب عليه ، فيرى أنه لا يصل إليه إلاّ بمعاونة الآخر له وبمشاركة له. فيتركان التغالب بينهما ريث ذلك ، ثم يتعاندان. فإذا وقع التكافؤ من الفرق بهذه الأسباب وتمادى الزمان على ذلك ، ونشأ على ذلك من لم يدر كيف كان أول ذلك ، حسب أن العدل هو هذا الموجود الآن ، ولا يدري أنه خوف وضعف. فيكون مغرورا بما يستعمل من ذاك. فالذي يستعمل هذه الأشياء ، إما ضعيف أو خائف أن يناله من غيره مثل الذي يجد في نفسه من الشوق إلى فعله ، وإما مغرور (٢).

_________________

١) العلاقات بين الأمم تقوم على المسالمة عند تساوي القوى خوفا.

٢) العلاقات بين الأمم تقوم على التحالف ضد عدو مشترك.

١٥٤

الباب السادس والثلاثون

القول في الخشوع

وأما الخشوع فهو أن يقال إن إلها يدبر العالم ، وإن الروحانيين مدبرون مشرفون على جميع الأفعال ، واستعمال تعظيم الإله والصلوات والتسابيح والتقاديس ، وان الانسان إذا فعل هذه وترك كثيرا من الخيرات المتشوقة في هذه الحياة ، وواظب على ذلك ، عوّض عن ذلك وكوفي بخيرات عظيمة يصل إليها بعد موته. وان هو لم يتمسك بشيء من هذه ، وأخذ الخيرات في حياته ، عوقب عليها بعد موته بشرور عظيمة ينالها في الآخرة (١).

فإن هذه كلها أبواب من الحيل والمكايدة على قوم ولقوم؛ فإنها حيل ومكايد لمن يعجز عن المغالبة على هذه الخيرات بالمصالحة والمجاهدة؛ ومكايد يكايد بها من لا قدرة له على المجاهدة والصلابة ببدنه وصلاحه وخبث رويته ومعاونته بتخويفهم وقمعهم لأن يتركوا

_________________

١) الورع والعبادة والزهد في خيرات الدنيا حيل يلجأ إليها من يعجز عن المغالبة.

١٥٥

هذه الخيرات كلها أو بعضها ليفوز بها آخرون ، ممن يعجز عن المجاهدة بأخذها وبالغلبة عليها.

فإن المتمسّك بهذه يظنّ به أنه غير حريص عليها ، ويظن به الخير؛ فيركن إليه ولا يحذر ولا يتقى ولا يتهم ، بل يخفى مقصده وتوصف سيرته أنها الإلهية؛ فيكون زيّه وصورته وصورة من لا يريد هذه الخيرات لنفسه؛ فيكون ذلك سببا لأن يكرم ويعظم ويوسل لسائر الخيرات ، وتنقاد النفوس له ، فتحبّه فلا تنكر ارتكاب هواه في كل شيء ، بل يحسن عند الجميع قبيح ما يعمله ، ويصير بذلك إلى غلبة الجميع على الكرامات والرئاسات والأموال واللذّات ونيل الحريّة ، فتلك الأشياء انما جعلت لهذه.

وكما أن صيد الوحوش ، منه ما هو مغالبة ومجاهدة ، ومنه ما هو مخاتلة ومكايدة ، كذلك الغلبة على هذه الخيرات أن تكون بمغالبته ، أو تكون بمخاتلته. ويطارد بأن يتوهّم الانسان في الظاهر أن مقصده شيء آخر غير الذي هو بالحقيقة مقصده ، ولا يحذر ولا يتّقي ولا ينازع ، فيناله بسهولة.

فالمتمسك بهذه الأشياء والمواظب عليها ، متى كان إنما يفعل ذلك ليبلغ الشيء الذي جعل هذه لأجله ، وهو المواتاة بها في الظاهر ليفوز باحدى تلك الخيرات أو بجميعها ، كان عند الناس مغبوطا. فيزداد بيقين وحكمة وعلم ومعرفة ، جليلا عندهم ، معظما ممدوحا؛ ومتى كان يفعل ذلك لذاته لا لينال به هذه الخيرات ، كان عند الناس مخدوعا ، مغرورا ، شقيا ، أحمق ، عديم العقل ، جاهلا بحظ

١٥٦

نفسه ، مهينا ، لا قدر له ، مذموما. غير أن كثيرا من الناس يظهرون مديحته لسخرية به؛ وبعضهم يقويه لنفسه في أن لا يزاحم في شيء من الخيرات ، بل يتركها ليتوفر عليه وعلى غيره؛ وبعضهم يمدحون طريقته ومذهبه خوفا أن يسلبهم ما عندهم على طريقته. وقوم آخرون يمدحونه ويغبطونه لأنهم أيضا مغرورون مثل غروره (١).

فهذه وما أشبهها هي آراء الجاهلة التي وقعت في نفوس كثير من الناس عن الأشياء التي تشاهد في الموجودات. وإذا حصلت لهم الخيرات التي غلبوا عليها ، فينبغي أن تحفظ وتستدام وتمدّ وتزيّد ، فانها إن لم يفعل بها ذلك نفدت.

فقوم منهم رأوا أن يكونوا أبدا بأسرهم يطلبون مغالبة آخرين أبدا. وكلما غلبوا طائفة ساروا إلى أخرى. وآخرون يرون أن يمتدّوا ذلك من أنفسهم ومن غيرهم ، فيحفظونها ويدبرونها ، اما من أنفسهم فبالغاية الارادية ، مثل البيع والشراء والتعاوض وغير ذلك ، واما من غيرهم فبالغلبة ، وآخرون رأوا تزييدها في غيرهم بالوجهين جميعا (٢).

وآخرون رأوا ذلك بأن جعلوا أنفسهم قسمين : قسما يريدون تلك ويمدّونها من أنفسهم بمعاملات ، وقسما يغالبون عليهم ، فيحصلون طائفتين ، كل واحدة منفردة بشيء : احداهما بالمغالبة والأخرى

_________________

١) الحصول على الخيرات يكون بوسيلتين :

١ ـ المغالبة

٢ ـ المخاتلة أو المعاملة

٢) بعضهم اعتمد المغالبة وبعضهم اعتمد المعاملة.

١٥٧

بالمعاملة الارادية. وقوم منهم رأوا أن الطائفة المعاملة منها هي إناثهم ، والمغالبة هي ذكورهم. وإذا ضعف بعضهم عن المغالبة جعل في المعاملة. فان لم يصلح لا لذا ولا لذاك جعل فضلا. وآخرون رأوا أن تكون الطائفة المعاملة قوما آخرين غير ما يغلبونهم ويستعبدونهم ، فيكونوا هم المتولّين لضرورتهم ولحفظ الخيرات التي يغلبون عليها وامدادها وتزييدها (١).

وآخرون قالوا إن التغالب في الموجودات إنما هي بين الأنواع المختلفة ، واما الداخلة تحت نوع واحد فان النوع هو رابطها الذي لأجله ينبغي أن يتسالم. فالإنسانية للناس هي الرباط؛ فينبغي أن يتسالموا بالانسانية ، ثم يغالبون غيرهم فيما ينتفعون به من سائرها ويتركون ما لا ينتفعون به. فما كان مما لا ينتفع به ضارا غلب على وجوده ، وما لم يكن ضارا تركوه. وقالوا : فإذا كان كذلك فإن الخيرات التي سبيلها أن يكتسبها بعضهم عن بعض ، فينبغي أن تكون بالمعاملات الارادية ، والتي سبيلها أن تكتسب وتستفاد من سائر الأنواع الأخر ، فينبغي أن تكون بالغلبة إذ كانت الأخرى لا نطق لها فتعمل المعاملات الارادية. وقالوا : فهذا هو الطبيعي للانسان. فأما الانسان المغالب فليس بما هو مغالب طبيعيا. ولذلك إذا كان لا بد من أن يكون هاهنا أمة أو طائفة خارجة عن الطبيعي للانسان ، تروم مغالبة سائر الطوائف على الخيرات التي بها ، اضطرت الأمة والطائفة الطبيعية إلى قوم منهم ينفردون بمدافعة أمثال أولئك ان وردوا عليهم يطلبون مغالبتهم ، وبمغالبتهم على

_________________

١) وبعضهم اعتمد المغالبة والمعاملة معا.

١٥٨

حق هؤلاء ان كانوا أولئك غلبوا عليه ، فتصير كل طائفة فيها قوتان : قوة تغالب بها وتدافع ، وقوة تعامل بها. وهذه التي بها تدافع ليست لها على أنها تفعل ذلك بارادتها ، لكن يضطرها إلى ذلك بما يرد عليها من خارج. وهؤلاء على ضد ما عليه أولئك ، فان أولئك يرون أن المسالمة لا بوارد من خارج ، وهؤلاء يرون أن المغالبة لا بوارد من خارج. فيحدث من ذلك هذا الرأي الذي للمدن المسالمة (١).

_________________

١) رأي يقول إن التغالب يكون بين الأنواع المختلفة للموجودات : بين الحيوان والانسان مثلا أما الناس فيربطهم رباط الانسانية ولذا ينبغي أن يتسالموا.

١٥٩

الباب السابع والثلاثون

القول في المدن الجاهلة

المدن الجاهلة ، منها الضرورية ، ومنها المبدّلة ، ومنها الساقطة ، ومنها الكرامية ، ومنها الجماعية ، وتلك الأخرى ، سوى الجماعية ، إنما همّة أهلها جنس واحد من الغايات. وأما الجماعية فذات همم كثيرة : قد اجتمع فيها همم جميع المدن. فالغلبة والمدافعة التي تضطر إليها المدن المسالمة ، إما أن تكون في جماعتهم ، وإما أن تكون في طائفة بعينيها ، حتى يكون أهل المدينة طائفتين : طائفة فيها القوة على المغالبة والمدافعة ، وطائفة ليس فيها ذلك. فبهذه الأشياء يستديمون الخيرات التي هي لهم. وهذه الطائفة ، من أهل الجاهلة ، هي سليمة النفوس ، وتلك الأولى رديئة النفوس لأنها ترى المغالبة هي الخير ، وذلك بوجهين : مجاهدة ومخاتلة. فمن قدر منهم على المجاهدة فعل ذلك ، وان لم يقدر فبالدغل والغش والمراياة والتمويه والمغالطة (١).

_________________

١) السعادة تقوم بالمغالبة أو بالمخاتلة.

١٦٠