آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]

آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

المؤلف:

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]


المحقق: الدكتور علي بو محلم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

وإذا حصل ذلك في كلا جزئي قوته الناطقة ، وهما النظرية والعملية ، ثم في قوته المتخيلة ، كان هذا الانسان هو الذي يوحى إليه. فيكون اللّه ، عز وجل ، يوحي إليه بتوسّط العقل الفعّال ، فيكون ما يفيض من اللّه ، تبارك وتعالى ، إلى العقل الفعّال يفيضه العقل الفعّال إلى عقله المنفعل بتوسّط العقل المستفاد ، ثم إلى قوته المتخيلة. فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيما فيلسوفا ومتعقلا على التمام (١) وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيا منذرا بما سيكون ومخبرا بما هو الآن (عن) الجزئيات ، بوجود يعقل فيه الإلهي. وهذا الانسان هو في أكمل مراتب الانسانية وفي أعلى درجات السعادة. وتكون نفسه كاملة متّحدة بالعقل الفعّال على الوجه الذي قلنا. وهذا الانسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة. فهذا أول شرائط الرئيس. ثم أن يكون له مع ذلك قدرة بلسانه على جودة التخيل بالقول لكل ما يعلمه ، وقدرة على جودة الارشاد إلى السعادة ، وإلى الأعمال التي بها تبلغ السعادة ، وأن يكون له مع ذلك جودة ثبات ببدنه لمباشرة أعمال الجزئيات (٢).

_________________

١) إذا صار العقل المنفعل عقلا بالفعل وصار العقل بالفعل عقلا مستفادا واتصل العقل المستفاد بالعقل الفعّال أصبح هذا الانسان فيلسوفا.

٢) وأما النبي فيتصل بالعقل الفعّال أيضا ولكن بواسطة المخيلة.

١٢١

الباب الثامن والعشرون

القول في خصال رئيس المدينة الفاضلة

خصال الرئيس الأول

فهذا هو الرئيس الذي لا يرأسه انسان آخر أصلا. وهو الامام ، وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة ، وهو رئيس الأمة الفاضلة ، ورئيس المعمورة من الأرض كلها. ولا يمكن أن تصير هذه الحال الا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر عليها (١) :

ـ أحدها أن يكون تامّ الأعضاء ، قواها مؤاتية أعضاءها على الأعمال التي شأنها أن تكون بها؛ ومتى هم بعضو ما من أعضائه عملا يكون به فأتى عليه بسهولة (٢).

ـ ثم أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له ، فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل ، وعلى حسب الأمر في نفسه (٣).

_________________

١) خصال الرئيس الأول الفطرية اثنتا عشرة.

٢) تمام الأعضاء.

٣) جودة الفهم.

١٢٢

ـ ثم أن يكون جيّد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه ، وفي الجملة لا يكاد ينساه (١).

ـ ثم أن يكون جيّد الفطنة ، ذكيا ، إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة التي دلّ عليها الدليل (٢).

ـ ثم أن يكون حسن العبارة ، يؤاتيه لسانه على ابانة كل ما يضمره ابانة تامة (٣).

ـ ثم أن يكون محبا للتعليم والاستفادة ، منقادا له ، سهل القبول ، لا يؤلمه تعب التعليم ، ولا يؤذيه الكدّ الذي ينال منه (٤).

ـ ثم أن يكون غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح ، متجنبا بالطبع للعب ، مبغضا للذات الكائنة عن هذه (٥).

ـ ثم أن يكون محبا للصدق وأهله ، مبغضا للكذب وأهله (٦).

ـ ثم أن يكون كبير النفس ، محبا للكرامة : تكبر نفسه بالطبع عن كل ما يشين من الأمور ، وتسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها (٧).

ـ ثم أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هيّنة عنده (٨).

_________________

١) جودة الحفظ.

٢) الذكاء أو الفطنة.

٣) البلاغة.

٤) حب العلم.

٥) العفة.

٦) الصدق.

٧) الإباء.

٨) الكرم.

١٢٣

ـ ثم أن يكون بالطبع محبا للعدل وأهله ، ومبغضا للجور والظلم وأهلهما ، يعطي النصف من أهله ومن غيره ويحثّ عليه ، ويؤتي من حل به الجور مؤاتيا لكل ما يراه حسنا وجميلا ، ثم أن يكون عدلا غير صعب القياد ، ولا جموحا ولا لجوجا إذا دعي إلى العدل ، بل صعب القياد إذا دعي إلى الجور وإلى القبيح (١).

ـ ثم أن يكون قويّ العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل ، جسورا عليه ، مقداما غير خائف ، ولا ضعيف النفس (٢).

خصال الرئيس الثاني

ـ واجتماع هذه كلها في انسان واحد عسر؛ فلذلك لا يوجد من فطر على هذه الفطرة إلا الواحد بعد الواحد ، والأقل من الناس. فان وجد مثل هذا في المدينة الفاضلة ثم حصلت فيه ، بعد أن يكبر ، تلك الشرائط الستّ المذكورة قبل أو الخمس منها دون الانداد من جهة المتخيّلة كان هو الرئيس. وان اتفق أن لا يوجد مثله في وقت من الأوقات ، أخذت الشرائع والسنن التي شرعها هذا الرئيس وأمثاله ، ان كانوا توالوا في المدينة ، فأثبتت. ويكون الرئيس الثاني الذي يخلف الأول من اجتمعت فيه من مولده وصباه تلك الشرائط ، ويكون بعد كبره ، فيه ست شرائط (٣).

_________________

١) العدالة.

٢) الشجاعة.

٣) خصال الرئيس الثاني ست :

١٢٤

ـ أحدها أن يكون حكيما (١).

ـ والثاني أن يكون عالما حافظا للشرائع والسنن والسير التي دبرها الأولون للمدينة ، محتذيا بأفعاله كلها حذو تلك بتمامها (٢).

ـ والثالث أن يكون له جودة استنباط فيما لا يحفظ عن السلف فيه شريعة ، ويكون فيما يستنبطه من ذلك محتذيا حذو الأئمة الأولين (٣).

ـ والرابع أن يكون له جودة رويّة وقوة استنباط لما سبيله أن يعرف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث التي تحدث مما ليس سبيلها أن يسير فيه الأوّلون ، ويكون متحريا بما يستنبطه من ذلك صلاح حال المدينة (٤).

ـ والخامس أن يكون له جودة ارشاد بالقول إلى شرائع الأولين ، وإلى التي استنبط بعدهم مما احتذى فيه حذوهم (٥).

ـ والسادس أن يكون له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب ، وذلك أن يكون معه الصناعة الحربية الخادمة والرئيسة (٦).

ـ فإذا لم يوجد انسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط ولكن وجد اثنان ، أحدهما حكيم ، والثاني فيه الشرائط الباقية ، كانا هما

_________________

١) الحكمة.

٢) حفظ الشرائع السابقة.

٣) جودة استنباط شرائع جديدة محتذيا حذو أسلافه.

٤) جودة روية في استنباط شرائع لا يحذو فيها حذو أسلافه.

٥) جودة ارشاد الناس إلى شرائعه.

٦) قدرة على الحرب.

١٢٥

رئيسين في هذه المدينة. فإذا تفرّقت هذه في جماعة ، وكانت الحكمة في واحد والثاني في واحد والثالث في واحد والرابع في واحد والخامس في واحد والسادس في واحد ، وكانوا متلائمين ، كانوا هم الرؤساء الأفاضل. فمتى اتفق في وقت ما أن لم تكن الحكمة جزء الرئاسة وكانت فيها سائر الشرائط ، بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك ، وكان الرئيس القائم بأمر هذه المدينة ليس بملك. وكانت المدينة تعرض للهلاك. فإن لم يتفق أن يوجد حكيم تضاف الحكمة إليه ، لم تلبث المدينة بعد مدة أن تهلك (١).

_________________

١) إذا لم تجتمع هذه الخصال الست في واحد وتفرقت في اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة كانوا هم الرؤساء الأفاضل.

١٢٦

الباب التاسع والعشرون

القول في مضادات المدينة الفاضلة

والمدينة الفاضلة تضادها المدينة الجاهلة ، والمدينة الفاسقة ، والمدينة المتبدلة ، والمدينة الضالة. ويضادها أيضا من أفراد الناس نوائب المدن.

المدينة الجاهلة

والمدينة الجاهلة (١) هي التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم. ان ارشدوا إليها فلم يفهموها ولم يعتقدوها ، وإنما عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي مظنونة في الظاهر أنها خيرات من التي تظنّ أنها هي الغايات في الحياة ، هي سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات ، وأن يكون مخلّى هواه وأن يكون مكرّما ومعظّما. فكل واحد من هذه سعادة عند أهل الجاهلة. والسعادة العظمى الكاملة هي

_________________

١) المدينة الجاهلة هي التي لم تعرف السعادة.

١٢٧

اجتماع هذه كلها. وأضدادها هي الشقاء ، وهي آفات الأبدان والفقر وأن لا يتمتّع باللذات ، وأن لا يكون مخلّى هواه وأن لا يكون مكرّما.

وهي تنقسم إلى جماعة مدن ، منها (١) :

أ ـ المدينة الضرورية ، وهي التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح ، والتعاون على استفادتها.

ب ـ والمدينة البدّالة هي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة ، ولا ينتفعوا باليسار في شيء آخر ، لكن على أن اليسار هو الغاية في الحياة.

ج ـ ومدينة الخسّة والسقوط ، وهي التي قصد أهلها التمتّع باللذّة من المأكول والمشروب والمنكوح ، وبالجملة اللذة من المحسوس والتخيّل وايثار الهزل واللعب بكل وجه ومن كل نحو.

د ـ ومدينة الكرامة ، وهي التي قصد أهلها على أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأمم ، ممجدين معظمين بالقول والفعل ، ذوي فخامة وبهاء ، إما عند غيرهم وإما بعضهم عند بعض ، كل انسان على مقدار محبته لذلك ، أو مقدار ما أمكنه بلوغه منه.

ه‍ ـ ومدينة التغلب ، وهي التي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم ، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم ، ويكون كدّهم اللذّة التي تنالهم من الغلبة فقط.

_________________

١) أنواع المدينة الجاهلة ستة هي الضرورية والبدالة والخسيسة والكرامية والتغالبية والجماعية.

١٢٨

و ـ والمدينة الجماعية ، هي التي قصد أهلها أن يكونوا أحرارا ، يعمل كل واحد منهم ما شاء ، لا يمنع هواه في شيء أصلا.

وملوك الجاهلة على عهد مدنها ، أن يكون كل واحد منهم انما يدبّر المدينة التي هو مسلّط عليها ليحصل هواه وميله. وهمم الجاهلة التي يمكن أن تجعل غايات هي تلك التي أحصيناها آنفا.

المدينة الفاسقة

ـ وأما المدينة الفاسقة ، وهي التي آراؤها الآراء الفاضلة ، وهي التي تعلم السعادة واللّه عز وجل والثواني والعقل الفعّال ، وكل شيء سبيله أن يعلمه أهل المدينة الفاضلة ويعتقدونها ، ولكن تكون أفعال أهلها أفعال أهل المدن الجاهلة (١).

المدينة المبدلة

ـ والمدينة المبدّلة ، فهي التي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها ، غير أنها تبدّلت فدخلت فيها آراء غير تلك ، واستحالت أفعالها إلى غير تلك (٢).

المدينة الضالة

ـ والمدينة الضالة ، هي التي تظن بعد حياتها هذه السعادة ، ولكن غيّرت هذه ، وتعتقد في اللّه عز وجل وفي الثواني وفي العقل

_________________

١) المدينة الفاسقة آراؤها آراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها أفعال أهل المدينة الجاهلة.

٢) المدينة المبدلة بدلت بعض آرائها وأفعالها الفاضلة.

١٢٩

الفعّال آراء فاسدة لا يصلح عليها (حتى) ولا ان أخذت على أنها تمثيلات وتخيلات لها ، ويكون رئيسها الأول ممن أوهم أنه يوحى إليه من غير أن يكون كذلك ، ويكون قد استعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور (١).

وملوك هذه المدن مضادّة لملوك المدن الفاضلة ، ورئاستهم مضادّة للرئاسات الفاضلة ، وكذلك سائر من فيها. وملوك المدن الفاضلة الذين يتوالون في الأزمنة المختلفة واحدا بعد آخر فكلهم كنفس واحدة ، وكأنهم ملك واحد يبقى الزمان كلّه. وكذلك ان اتفق منهم جماعة في وقت واحد ، إما في مدينة واحدة ، وإما في مدن كثيرة ، فان جماعتهم كملك واحد ، ونفوسهم كنفس واحدة ، وكذلك أهل كل رتبة منها ، متى توالوا في الأزمان المختلفة ، فكلهم كنفس واحدة تبقى الزمان كله. وكذلك إن كان في وقت واحد جماعة من أهل رتبة واحدة ، وكانوا في مدينة واحدة أو مدن كثيرة ، فان نفوسهم كنفس واحدة ، كانت تلك الرتبة رتبة رئاسة أو رتبة خدمة (٢).

وأهل المدينة الفاضلة لهم أشياء مشتركة يعلمونها ويفعلونها ، وأشياء أخر من علم وعمل يخص كل رتبة وكل واحد منهم. انما يصير (كل واحد) في حدّ السعادة بهذين ، أعني بالمشترك الذي له ولغيره معا ، وبالذي يخصّ أهل المرتبة التي هو منها. فإذا فعل ذلك كل واحد منهم ، أكسبته أفعاله تلك هيئة نفسانية جيدة فاضلة؛ وكلما

_________________

١) المدينة الضالة تعتقد اعتقادات فاسدة في الله والثواني والسعادة.

٢) ملوك المدن الفاضلة متشابهون وكذلك نظمها ومراتبها.

١٣٠

دوام عليها أكثر ، صارت هيئته تلك أقوى وأفضل ، وتزايدت قوّتها وفضيلتها. كما أن المداومة على الأفعال الجيّدة من أفعال الكتابة تكسب الانسان جودة صناعة الكتابة ، وكلما داوم على تلك الأفعال أكثر صارت الصناعة التي بها تكون تلك الأفعال أقوى وأفضل ، وتزيد قوتها وفضيلتها بتكرير أفعالها ، ويكون الالتذاذ التابع لتلك الهيئة النفسانية أكثر ، واغتباط الانسان عليها نفسه أكثر ، ومحبّته لها أزيد. وتلك حال الأفعال التي ينال بها السعادة : فانها كلما زيدت منها وتكررت وواظب الانسان عليها ، صيّرت النفس التي شأنها أن تسعد أقوى وأفضل وأكمل إلى أن تصير من حد الكمال إلى أن تستغني عن المادة ، فتحصل متبرئة منها ، فلا تتلف بتلف المادة ، ولا اذا بقيت احتاجت إلى مادة (١).

فإذا حصلت مفارقة للمادة ، غير متجسمة ، ارتفعت عنها الأعراض التي تعرض للأجسام من جهة ما هي أجسام ، فلا يمكن فيها أن يقال إنها تتحرك ولا إنها تسكن. وينبغي حينئذ أن يقال عليها الأقاويل التي تليق بما ليس بجسم. وكلما وقع في نفس الانسان من شيء يوصف به الجسم بما هو جسم ، فينبغي أن يسلب عن الأنفس المفارقة. و (أن) يفهم حالها هذه وتصورها عسير غير معتاد. وكذلك يرتفع عنها كل ما كان يلحقها ويعرض لها بمقارنتها للأجسام. ولما كانت هذه الأنفس التي فارقت ، أنفسا كانت في هيوليات مختلفة ، وكان تبين أن الهيئات النفسانية تتبع مزاجات الأبدان ، بعضها أكثر

_________________

١) هناك أشياء مشتركة بين أهل المدينة الفاضلة وأشياء خاصة بكل رتبة فيها.

١٣١

وبعضها أقل ، وتكون كل هيئة نفسانية على نحو ما يوجبه مزاج البدن الذي كانت فيه ، فهيئتها لزم فيها ضرورة أن تكون متغايرة لأجل التغير الذي فيها كان. ولما كان تغاير الأبدان إلى غير نهاية محدودة ، كانت تغايرات الأنفس أيضا إلى غير نهاية محدودة (١).

_________________

١) بمداومة أهل المدينة الفاضلة على الأعمال الفاضلة تصفو نفوسهم وتبلغ السعادة.

١٣٢

الباب الثلاثون

القول في اتصال النفوس بعضها ببعض

وإذا مضت طائفة فبطلت أبدانها ، وخلصت أنفسها وسعدت؛ فخلفهم ناس آخرون في مرتبتهم بعدهم ، قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم. فإذا مضت هذه أيضا وخلصت صاروا أيضا في السعادة إلى مراتب أولئك الماضين ، واتصل كل واحد بشبيهه في النوع والكمية والكيفية. ولأنها كانت ليست بأجسام صار اجتماعها ، ولو بلغ ما بلغ ، غير مضيّق بعضها على بعض مكانها ، إذ كانت ليست في أمكنة أصلا ، فتلاقيها واتصال بعضها ببعض ليس على النحو الذي توجد عليه الأجسام (١).

وكلما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة ، واتصل بعضها ببعض ، وذلك على جهة اتصال معقول بمعقول ، كان التذاذ كل واحد منها أزيد شديدا. وكلما لحق بهم من بعدهم ، زاد التذاذ من لحق الآن

_________________

١) في المدينة الفاضلة يقوم الأبناء مقام الآباء ويفعلون أفعالهم ويمضون قدما في سبيل السعادة.

١٣٣

بمصادفة الماضين ، وزادت لذّات الماضين باتصال اللاحقين بهم ، لأن كل واحدة تعقل ذاتها وتعقل مثل ذاتها مرارا كثيرة ، فتزداد كيفية ما يعقل؛ ويكون تزايد ما تلاقى هنك شبيها بتزايد قوة صناعة الكتابة بمداومة الكاتب على أفعال الكتابة. ويقوم تلا حق بعض ببعض في تزايد كل واحد ، مقام ترادف أفعال الكاتب التي بها تتزايد كتابته قوة وفضيلة. ولأن المتلاحقين (هم) إلى غير نهاية ، يكون تزايد قوى كل واحد ولذّاته على غابر الزمان إلى غير نهاية (١).

وتلك حال كل طائفة مضت.

_________________

١) إن نفوس الأجيال في المدينة الفاضلة تتواصل وتتصادف أو تتلاقى فتزداد سعادتها.

١٣٤

الباب الحادي والثلاثون

القول في الصناعات والسعادات

والسعادات تتفاضل بثلاثة أنحاء : بالنوع ، والكمية ، والكيفية. وذلك شبيه بتفاضل الصنائع هاهنا.

فتفاضل الصنائع بالنوع هو أن تكون صناعات مختلفة بالنوع ، وتكون إحداها أفضل من الأخرى ، مثل الحياكة وصناعة البزّ وصناعة العطر وصناعة الكناسة ، ومثل صناعة الرقص وصناعة الفقه ، ومثل الحكمة والخطابة. فبهذه الأنحاء تتفاضل الصنائع التي أنواعها مختلفة (١).

وأهل الصنائع التي من نوع واحد بالكمية أن يكون كاتبان مثلا ، علم أحدهما من أجزاء صناعة الكتابة أكثر ، وآخر احتوى من أجزائها على أشياء أقل ، مثل أن هذه الصناعة تلتئم باجتماع علم شيء من اللغة وشيء من الخطابة وشيء من جودة الخط وشيء من الحساب ،

_________________

١) الصنائع تتفاضل بالنوع.

١٣٥

فيكون بعضهم قد احتوى من هذه على جودة الخطّ مثلا وعلى شيء من الخطابة؛ وآخر احتوى على اللغة وعلى شيء من الخطابة وعلى جودة الخط؛ وآخر على الأربعة كلها (١).

والتفاضل في الكيفية هو أن يكون اثنان احتويا من أجزاء الكتابة على أشياء بأعيانها ، ويكون أحدهما أقوى فيما احتوى عليه وأكثر دراية. فهذا هو التفاضل في الكيفية (٢).

والسعادات تتفاضل بهذه الأنحاء أيضا.

وأما أهل سائر المدن ، فان أفعالهم ، لما كانت رديئة ، أكسبتهم هيئات نفسانية رديئة ، كما أن أفعال الكتابة متى كانت رديئة على غير ما شأن الكتابة أن تكون عليها ، تكسب الانسان كتابة أسوأ رديئة ناقصة. وكلما ازدادت من تلك الأفعال ازدادت صناعته نقصا. وكذلك الأفعال الرديئة من أفعال سائر المدن تكسب أنفسهم هيئات رديئة ناقصة ، وكلما واظب واحد منهم على تلك الأفعال ازدادت هيئته النفسانية نقصا ، فتصير أنفسهم مرضى. فلذلك ربما التذّوا بالهيئات التي يستفيدونها بتلك الأفعال ، كما أن مرضى الأبدان ، مثل كثير من المحمومين ، لفساد مزاجهم ، يستلذّون الأشياء التي ليس شأنها أن يلتذّ بها من الطعوم ، ويتأذّون بالأشياء التي شأنها أن تكون لذيذة ، ولا يحسون بطعوم الأشياء الحلوة التي من شأنها أن تكون لذيذة. كذلك مرضى الأنفس ، بفساد تخيّلهم الذي اكتسبوه بالارادة والعادة ،

_________________

١) الصنائع تتفاضل بالكمية.

٢) الصنائع تتفاضل بالكيفية.

١٣٦

يستلذون الهيئات الرديئة والأفعال الرديئة ، ويتأذون بالأشياء الجميلة الفاضلة أو لا يتخيّلونها أصلا. وكما أن في المرضى من لا يشعر بعلّته ، وفيهم من يظن مع ذلك أنه صحيح ، ويقوى ظنّه بذلك حتى لا يصغي إلى قول طبيب أصلا؛ كذلك من كان من مرضى الأنفس لا يشعر بمرضه ويظنّ مع ذلك أنه فاضل صحيح النفس ، فانه لا يصغي أصلا إلى قول مرشد ولا معلّم ولا مقوّم (١).

_________________

١) المواظبة على الأعمال الرديئة تجعل نفوس أصحابها رديئة وناقصة وفاسدة.

١٣٧

الباب الثاني والثلاثون

القول في أهل هذه المدن

اما أهل المدن الجاهلة ، فان أنفسهم تبقى غير مستكملة ، ومحتاجة في قيامها إلى المادة ضرورة ، إذ لم يرتسم فيها رسم حقيقة بشيء من المعقولات الأول أصلا. فإذا بطلت المادة التي بها كان قوامها ، بطلت القوى التي كان شأنها أن يكون بها قوام ما بطل ، وبقيت القوى التي شأنها أن يكون بها قوام ما بقي. فان بطل هذا أيضا وانحلّ إلى شيء آخر ، صار الذي بقي صورة ما لذلك الشيء الذي اليه انحلت المادة الباقية. فكلما يتّفق بعد ذلك أن ينحلّ ذاك أيضا إلى شيء ، صار الذي يبقى صورة ما لذلك الشيء الذي إليه انحلّ ، إلى أن ينحلّ إلى الاسطقسات ، فيصير الباقي الأخير صورة الاسطقسات (١).

ثم من بعد ذلك يكون الأمر فيه على ما يتّفق أن يتكوّن عن تلك

_________________

١) نفوس أهل المدن الجاهلة تنحل وتتخذ صورة الاسطقسات الأربع.

١٣٨

الأجزاء من الاسطقسات التي إليها انحلت هذه. فان اتفق أن تختلط تلك الأجزاء اختلاطا يكون عنه انسان ، عاد فصار هيئة في انسان؛ وان اتفق أن تختلط اختلاطا يكون عنه نوع آخر من الحيوان أو غير الحيوان ، عاد صورة لذلك الشيء. وهؤلاء هم الهالكون والصائرون إلى العدم ، على مثال ما يكون عليه البهائم والسباع والأفاعي (١).

وأما أهل المدينة الفاسقة ، فان الهيئات النفسانية التي اكتسبوها من الآراء الفاضلة ، فهي تخلص أنفسهم من المادة ، والهيئات النفسانية الرديئة التي اكتسبوها من الأفعال الرذيلة ، فتقترن إلى الهيئات الأولى ، فتكدر الأولى وتضادها؛ فيلحق النفس من مضاده هذه لتلك أذى عظيم ، وتضاد تلك الهيئات هذه ، فيلحق هذه من تلك أيضا أذى عظيم. فيجتمع من هذين أذيان عظيمان للنفس. وان هذه الهيئات المستفادة من أفعال الجاهلة هي بالحقيقة يتبعها أذى عظيم في الجزء الناطق من النفس. وانما صار الجزء الناطق لا يشعر بأذى هذه لتشاغله بما تورد عليه الحواسّ. فإذا انفرد دون الحواس ، شعر بما يتبع هذه الهيئات من الأذى ، ويخلصها من المادة ، ويفرّدها عن الحواس وعن جميع الأشياء الواردة عليها من خارج (٢).

كما أن الانسان المغتم ، متى أورد الحواس عليه ما يشغله ، لم يتأذ بما يغمه ولم يشعر به ، حتى إذا انفرد دون الحواس ، عاد الأذى

_________________

١) أهل المدن الجاهلة يهلكون ويصيرون إلى العدم مثل البهائم والأفاعي.

٢) نفوس أهل المدن الفاسقة تتألم من الأفعال الرديئة ، ولكنها تتخلص من المادة بفضل الآراء الفاضلة التي اكتسبتها.

١٣٩

عليه؛ وكذلك المريض الذي يتألم متى تشاغل بأشياء ، إما أن يقل أذاه بألم المرض ، وإما أن لم يشعر بالأذى. فإذا انفرد دون الأشياء التي تشغله ، يشعر بالأذى أو عاد إليه الأذى؛ كذلك الجزء الناطق ، ما دام متشاغلا بما تورده الحواسّ عليه ، لم يشعر بأذى ما يقترن به من الهيئات الرديئة ، حتى اذا انفرد انفرادا تاما دون الحواس شعر بالأذى ، وظهر له أذى هذه الهيئات ، فبقي الدهر كله في أذى عظيم. فان ألحق به من هو في مرتبته من أهل تلك المدينة ، ازداد أذى كل واحد منهم بصاحبه؛ لأن المتلاحقين بلا نهاية تكون زيادات أذاهم في غابر الزمان بلا نهاية. فهذا هو الشقاء المضادّ للسعادة (١).

وأما أهل المدن الضالة ، فإن الذي أضلّهم وعدل بهم عن السعادة لأجل شيء من أغراض أهل الجاهلة وقد عرف السعادة ، فهو من أهل المدن الفاسقة؛ فذلك هو وحده دون أهل المدينة شقي. فأما أهل المدينة أنفسهم فانهم يهلكون وينحلون ، على مثال ما يصير إليه حال أهل الجاهلة (٢).

وأما أهل المدن المبدّلة ، فان الذي بدّل عليهم الأمر وعدل بهم ، إن كان من أهل المدن الفاسقة شقي هو وحده ، فأما الآخرون فانهم

_________________

١) نفوس أهل المدن الفاسقة تبقى ولا تفنى ولكنها تعيش متألمة معذبة وهذا هو الشقاء.

٢) مصير أهل المدن الضالة الهلاك والانحلال مثل أهل الجاهلة ، أما رئيسهم الذي أضلهم فمصيره الشقاء كأهل الفاسقة.

١٤٠