آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]

آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

المؤلف:

محمد بن محمد الفارابي [ أبي نصر الفارابي ]


المحقق: الدكتور علي بو محلم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة ، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام ، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد ، وأن تبقى على تلك الحال دائما أبدا. إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعّال (١). وإنما تبلغ ذلك بأفعال ما ارادية ، بعضها أفعال فكرية ، وبعضها أفعال بدنية ، وليست بأي أفعال اتفقت ، بل بأفعال ما محدودة مقدرة تحصل عن هيئات ما وملكات ما مقدّرة محدودة. وذلك أن من الأفعال الارادية ما يعوق عن السعادة. والسعادة هي الخير المطلوب لذاته ، وليست تطلب أصلا ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر ، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الانسان أعظم منها (٢). والأفعال الارادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة. والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل. وهذه خيرات هي لا لأجل ذواتها بل انما هي خيرات لأجل السعادة. والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور ، وهي الأفعال القبيحة. والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس (٣).

فالقوة الغاذية التي في الانسان انما جعلت لتخدم البدن ، وجعلت الحاسة والمتخيلة لتخدما البدن ولتخدما القوة الناطقة. وخدمة هذه الثلاثة للبدن راجعة إلى خدمة القوة الناطقة ، إذ كان قوام الناطقة أولا بالبدن.

_________________

١) السعادة هي حصول المعقولات للانسان.

٢) السعادة هي الخير المطلوب لذاته.

٣) بالأعمال الفاضلة نبلغ السعادة.

١٠١

والناطقة ، منها عملية ومنها نظرية. والعملية جعلت لتخدم النظرية ، والنظرية لا لتخدم شيئا آخر ، بل ليوصل بها إلى السعادة.

وهذه كلها مقرونة بالقوة النزوعية. والنزوعية تخدم المتخيلة وتخدم الناطقة. والقوى الخادمة المدركة ليس يمكنها أن توفي الخدمة والعمل إلا بالقوة النزوعية. فان الاحساس والتخيل والروية ليست كافية في أن تفعل دون أن يقترن إلى ذلك تشوق إلى ما أحس أو تخيل أو روّى فيه وعلم ، لأن الارادة هي أن تنزع بالقوة النزوعية إلى ما أدركت.

فإذا علمت بالقوة النظرية السعادة ونضبت غاية وتشوقت بالنزوعية واستنبطت بالقوة المرويّة ما ينبغي أن تعمل حتى تنال بمعاونة المتخيلة والحواس على ذلك ، ثم فعلت بآلات القوة النزوعية تلك الأفعال ، كانت أفعال الانسان كلها خيرات وجميلة. فإذا لم تعلم السعادة ، أو علمت ولم تنصب غاية بتشوّق ، بل نصبت الغاية شيئا آخر سواها وتشوّقت بالنزوعية واستنبطت بالقوة المروية ما ينبغي أن تعمل حتى تنال الحواس والمتخيلة ، ثم فعلت تلك الأفعال بآلات القوة النزوعية ، كانت أفعال ذلك الانسان كلها غير جميلة (١).

_________________

١) تتحقق السعادة إذا أدركت بالعقل وتشوقت بالنزوعية وفعل ما ينبغي أن يفعل بآلات النزوعية.

١٠٢

الباب الرابع والعشرون

القول في سبب المنامات

والقوة المتخيلة متوسطة بين الحاسة وبين الناطقة؛ وعند ما تكون رواضع الحاسة كلها تحس بالفعل وتفعل أفعالها ، تكون القوة المتخيلة منفعلة عنها ، مشغولة بما تورده الحواس عليها من المحسوسات وترسمه فيها. وتكون هي أيضا مشغولة بخدمة القوة الناطقة ، وبارفاد القوة النزوعية.

فإذا صارت الحاسة والنزوعية والناطقة على كمالاتها الأول ، بأن لا تفعل أفعالها ، مثل ما يعرض عند حال النوم ، انفردت القوة المتخيلة بنفسها ، فارغة عما تجدّده الحواس عليها دائما من رسوم المحسوسات ، وتخلت عن خدمة القوة الناطقة والنزوعية ، فتعود إلى ما تجده عندها من رسوم المحسوسات محفوظة باقية ، فتفعل فيها بأن تركّب بعضها إلى بعض ، وتفصل بعضها عن بعض. ولها ، مع حفظها رسوم المحسوسات وتركيب بعضها إلى بعض ، فعل ثالث :

١٠٣

وهو المحاكاة (١). فإنها خاصة من بين سائر قوى النفس ، لها قدرة على محاكاة الأشياء المحسوسة التي تبقى محفوظة فيها. فأحيانا تحاكي المحسوسات بالحواس الخمس ، بتركيب المحسوسات المحفوظة عندها المحاكية لتلك ، وأحيانا تحاكي المعقولات ، وأحيانا تحاكي القوة الغاذية. وأحيانا تحاكي القوة النزوعية ، وتحاكي أيضا ما يصادف البدن عليه من المزاج. فانها ، متى صادفت مزاج البدن رطبا ، حاكت الرطوبة بتركيب المحسوسات التي تحاكي الرطوبة ، مثل المياه والسباحة فيها. ومتى كان مزاج البدن يابسا ، حاكت يبوسة البدن بالمحسوسات التي شأنها أن تحاكي بها اليبوسة. وكذلك تحاكي حرارة البدن وبرودته ، إذا اتفق في وقت من الأوقات أن كان مزاجه في وقت ما حارا أو باردا. وقد يمكن ، إن كانت هذه القوة هيئة وصورة في البدن ، أن يكون البدن ، إذا كان على مزاج ما ، أن يفعل (البدن) فيها ذلك المزاج. غير أنها لما كانت نفسانية ، كان قبولها لما يفعل فيها البدن من المزاج على حسب ما في طبيعتها أن تقبله ، لا على حسب ما في طبيعة الأجسام أن تقبل المزاجات. فان الجسم الرطب ، متى فعل رطوبة في جسم ما ، قبل الجسم المنفعل الرطوبة ، فصار رطبا مثل الأول. وهذه القوة ، متى فعل فيها رطوبة أو أدنيت اليها رطوبة ، لم تصر رطبة ، بل تقبل تلك الرطوبة بما تحاكيها من المحسوسات. كما أن القوة الناطقة ، متى قبلت الرطوبة ، فإنها انما تقبل ماهية الرطوبة بأن تعقلها ، ليست

_________________

١) للمتخيلة ثلاثة أفعال : حفظ رسوم المحسوسات وتركيب بعضها إلى بعض والمحاكاة.

١٠٤

الرطوبة نفسها؛ كذلك هذه القوة ، متى فعل فيها شيء ، قبلت ذلك عن الفاعل على حسب ما في جوهرها واستعدادها أن تقبل ذلك (١).

فأي شيء ما فعل فيها ، فإنها ان كان في جوهرها أن تقبل ذلك الشيء ، وكان مع ذلك في جوهرها أن تقبله كما ألقي إليها ، قبلت ذلك بوجهين : أحدهما بأن تقبله كما هو وكما ألقي إليها ، والثاني بأن تحاكي ذلك الشيء بالمحسوسات التي شأنها أن تحاكي ذلك الشيء. وان كان في جوهرها أن لا تقبل الشيء كما هو ، قبلت ذلك بأن تحاكي ذلك الشيء بالمحسوسات التي تصادفها عندها مما شأنها أن تحاكي ذلك الشيء. ولأنها ليس لها أن تقبل المعقولات معقولات ، فان القوة الناطقة ، متى أعطتها المعقولات التي حصلت لديها ، لم تقبلها كما هي في القوة الناطقة ، لكن تحاكيها بما تحاكيها من المحسوسات. ومتى أعطاها البدن المزاج الذي يتفق أن يكون له في وقت ما ، قبلت ذلك المزاج بالمحسوسات التي تتفق عندها مما شأنها أن تحاكي ذلك المزاج (٢). ومتى أعطيت شيئا شأنه أن يحس ، قبلت ذلك أحيانا كما أعطيت ، وأحيانا بأن تحاكي ذلك المحسوس بمحسوسات اخر تحاكيه (٣).

وإذا صادفت (المخيلة) القوة النزوعية مستعدة استعدادا قريبا لكيفية (ما أو هيئة) ، مثل غضب أو شهوة أو لانفعال ما بالجملة ، حاكت القوة النزوعية بتركيب الأفعال التي شأنها أن تكون عن تلك الملكة التي

_________________

١) تحاكي المتخيلة مزاج البدن بالمحسوسات المناسبة لذلك المزاج.

٢) المتخيلة لا تقبل الأشياء كما هي بل تحاكيها بالمحسوسات التي لديها.

٣) تحاكي المتخيلة المحسوسات الخارجية بالمحسوسات التي لديها.

١٠٥

توجد في القوة النزوعية معدة ، في ذلك الوقت ، لقبولها. ففي مثل هذا ، ربما أنهضت القوى الرواضع الأعضاء الخادمة لأن تفعل في الحقيقة الأفعال التي شأنها أن تكون بتلك الأعضاء عند ما تكون في القوة النزوعية تلك الأفعال. فتكون القوة المتخيلة بهذا الفعل ، أحيانا ، تشبه الهازل ، وأحيانا تشبه الميت. ثم ليس بهذا فقط ، ولكن إذا كان مزاج البدن مزاجا شأنه أن يتبع ذلك المزاج انفعال ما في القوة النزوعية ، حاكت ذلك المزاج بأفعال القوة النزوعية الكائنة عن ذلك الانفعال ، وذلك من قبل أن يحصل ذلك الانفعال. فتنهض الأعضاء التي فيها القوة الخادمة للقوة النزوعية ، نحو تلك الأفعال بالحقيقة. من ذلك ، أن مزاج البدن إذا صار مزاجا شأنه أن يتبع ذلك المزاج في القوة النزوعية شهوة النكاح ، حاكت (المتخيلة) ذلك المزاج بأفعال النكاح؛ فتنهض أعضاء هذا الفعل للاستعداد نحو فعل النكاح ، لا عن شهوة حاصلة في ذلك الوقت ، لكن لمحاكاة القوة المتخيلة للشهوة بافعال تلك الشهوة. وكذلك في سائر الانفعالات ، وكذلك ربما قام الانسان من نومه فضرب آخر ، أو قام ففرّ من غير أن يكون هناك وارد من خارج. فيقوم ما تحاكيه القوة المتخيلة من ذلك الشيء مقام ذلك الشيء لو حصل في الحقيقة (١).

وتحاكي أيضا القوة الناطقة بأن تحاكي ما حصل فيها من المعقولات بالأشياء التي شأنها أن تحاكي بها المعقولات. فتحاكي المعقولات التي

_________________

١) المتخيلة تحاكي ما في القوة النزوعية من انفعالات وشهوات بأفعال حقيقية جسدية كالنكاح والضرب والصراخ ... الخ.

١٠٦

في نهاية الكمال ، مثل السبب الأول والأشياء المفارقة للمادة والسماوات ، بأفضل المحسوسات وأكملها ، مثل الأشياء الحسنة المنظر. (وتحاكي) المعقولات الناقصة بأخسّ المحسوسات وأنقصها ، مثل الأشياء القبيحة المنظر. وكذلك تحاكي تلك (القوة) سائر المحسوسات اللذيذة المنظر (١).

والعقل الفعّال ، لما كان هو السبب في أن تصير به المعقولات التي هي بالقوة معقولات بالفعل ، وأن يصير ما هو عقل بالقوة عقلا بالفعل ، وكان ما سبيله أن يصير عقلا بالفعل هي القوة الناطقة ، وكانت الناطقة ضربين : ضربا نظريا وضربا عمليا ، وكانت العملية هي التي شأنها أن تفعل الجزئيات الحاضرة والمستقبلة ، والنظرية هي التي شأنها أن تعقل المعقولات التي شأنها أن تعلم ، وكانت القوة المتخيلة مواصلة لضربي القوة الناطقة ، فان الذي تنال القوة الناطقة عن العقل الفعّال ـ وهو الشيء الذي منزلته الضياء من البصر ـ قد يفيض منه على القوة المتخيلة. فيكون للعقل الفعّال في القوة المتخيلة فعل ما ، تعطيه أحيانا المعقولات التي شأنها أن تحصل في الناطقة النظرية ، وأحيانا الجزئيات المحسوسات التي شأنها أن تحصل في الناطقة العملية ، فتقبل (القوة المتخيلة) المعقولات بما يحاكيها من المحسوسات التي تركبها هي. وتقبل الجزئيات أحيانا بأن تتخيلها كما هي ، وأحيانا بأن تحاكيها بمحسوسات أخر ، وهذه هي التي شأن الناطقة العملية أن

_________________

١) تحاكي المتخيلة المعقولات التي حصلت في القوة الناطقة مثل الله والسماوات بأحسن المحسوسات وأكملها وأجملها.

١٠٧

تعملها بالروية. فمنها حاضرة ، ومنها كائنة في المستقبل. إلا أن ما يحصل للقوة المتخيلة من هذه كلها ، بلا توسط روية. فلذلك يحصل في هذه الأشياء بعد أن يستنبط بالرويّة. فيكون ما يعطيه العقل الفعّال للقوة المتخيلة من الجزئيات ، بالمنامات والرؤيات الصادقة؛ وبما يعطيها من المعقولات التي تقبلها بأن يأخذ محاكاتها مكانها بالكهانات على الأشياء الإلهية. وهذه كلها قد تكون في النوم ، وقد تكون في اليقظة إلا أن التي تكون في اليقظة قليلة وفي الأقل من الناس ، فأما التي في النوم فأكثرها الجزئيات ، وأما المعقولات فقليلة (١).

_________________

١) تستطيع المخيلة أيضا أن تتصل بالعقل الفعّال إذا قويت ، وتتلقى منه الجزئيات والمعقولات ويحصل لها ذلك بلا روية ، في حين يحصل للناطقة بالروية.

١٠٨

الباب الخامس والعشرون

القول في الوحي ورؤية الملك

وذلك : أن القوة المتخيلة إذا كانت في انسان ما قوية كاملة جدا ، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها ، ولا اخدمتها للقوة الناطقة ، بل كان فيها ، مع اشتغالها بهذين ، فضل كثير تفعل به أيضا أفعالها التي تخصّها ، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منهما في وقت النوم ، و (لما كان) كثير من هذه التي يعطيها العقل الفعّال ، فتتخيلها القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية ، فان تلك المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسة (١).

فإذا حصلت رسومها في الحاسة المشتركة ، انفعلت عن تلك الرسوم القوة الباصرة ، فارتسمت فيها تلك ، فيحصل عما في القوة

_________________

١) إذا قويت المتخيلة عند امرئ تحللت أثناء اليقظة من سلطان الحواس والناطقة واتصلت بالعقل الفعّال وحاكت ما يعطيه إياها برسوم المحسوسات المرئية.

١٠٩

الباصرة منها رسوم تلك في الهواء المضيء المواصل للبصر المنجاز بشعاع البصر. فإذا حصلت تلك الرسوم في الهواء عاد ما في الهواء ، فيرتسم من رأس في القوة الباصرة التي في العين ، وينعكس ذلك إلى الحاس المشترك والى القوة المتخيلة. ولأن هذه كلها متّصلة بعضها ببعض ، فيصير ، ما أعطاه العقل الفعّال من ذلك ، مرئيا لهذا الانسان.

فإذا اتفق أن كانت التي حاكت بها القوة المتخيلة أشياء محسوسات في نهاية الجمال والكمال ، قال الذي يرى ذلك أن للّه عظمة جليلة عجيبة ، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات أصلا. ولا يمتنع أن يكون الانسان ، إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال ، فيقبل ، في يقظته ، عن العقل الفعّال ، الجزئيات الحاضرة والمستقبلة ، أو محاكياتها من المحسوسات ، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ، ويراها. فيكون له ، بما قبله من المعقولات ، نبوة بالأشياء الالهية. فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة ، وأكمل المراتب التي يبلغها الانسان بقوته المتخيلة (١).

ودون هذا : من يرى جميع هذه ، بعضها في يقظته ، وبعضها في نومه؛ ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها لا يراها ببصره. ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط. وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يعبرون بها أقاويل محاكية ورموزا وألغازا وابدالات وتشبيهات.

_________________

١) اذا كان ما يعطيه العقل الفعّال للمتخيلة معقولات شريفة وكانت تمثيلاتها في المتخيلة في نهاية الجمال والكمال قال الذي يراها إن له نبوة بالأشياء الإلهية.

١١٠

ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتا كثيرا : فمنهم من يقبل الجزئيات ويراها في اليقظة فقط ولا يقبل المعقولات؛ ومنهم من يقبل المعقولات ويراها في اليقظة ، ولا يقبل الجزئيات؛ ومنهم من يقبل بعضها ويراها دون بعض؛ ومنهم من يرى شيئا في يقظته ولا يقبل بعض هذه في نومه؛ ومنهم من لا يقبل شيئا في يقظته ، بل إنما يقبل ما يقبل في نومه فقط ، فيقبل في نومه الجزئيات ولا يقبل المعقولات ، ومنهم من يقبل شيئا من هذه وشيئا من هذه؛ ومنهم من يقبل شيئا من الجزئيات فقط؛ وعلى هذا يوجد الأكثر. والناس أيضا يتفاضلون في هذا (١).

وكل هذه معاونة للقوة الناطقة. وقد تعرض عوارض يتغيّر بها مزاج الانسان ، فيصير بذلك معدا لأن يقبل عن العقل الفعّال بعض هذه في وقت اليقظة أحيانا ، وفي النوم أحيانا. فبعضهم يبقى ذلك فيهم زمانا ، وبعضهم إلى وقت ما ثم يزول. وقد تعرض أيضا للانسان عوارض ، فيفسد بها مزاجه وتفسد تخاييله؛ فيرى أشياء مما تركبه القوة المتخيلة على تلك الوجوه مما ليس لها وجود ، ولا هي محاكاة لموجود. وهؤلاء الممرورون والمجانين وأشباههم (٢).

_________________

١) تفاوت الناس في قبول ما يفيض على مخيلتهم من العقل الفعّال.

٢) قد تفسد المتخيلة فتركب أشياء ليس لها وجود وليست محاكاة لموجود كما هو حال المجانين والممرورين.

١١١

الباب السادس والعشرون

القول في احتياج الانسان إلى الاجتماع والتعاون

وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج ، في قوامه ، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته ، إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده ، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه. وكل واحد من كل واحد بهذه الحال. فلذلك لا يمكن أن يكون الانسان ينال الكمال ، الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية ، الا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين ، يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه؛ فيجتمع ، مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد ، جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال. ولهذا كثرت أشخاص الانسان ، فحصلوا في المعمورة من الأرض ، فحدثت منها الاجتماعات الانسانية (١).

فمنها الكاملة ، ومنها غير الكاملة. والكاملة ثلاث : عظمى ووسطى وصغرى.

_________________

١) حاجة الناس إلى بعضهم البعض أساس الاجتماع.

١١٢

فالعظمى ، اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة؛ والوسطى ، اجتماع أمة في جزء من المعمورة؛ والصغرى ، اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة (١).

وغير الكاملة : اجتماع أهل القرية ، واجتماع أهل المحلة ، ثم اجتماع في سكّة ، ثم اجتماع في منزل. وأصغرها المنزل. والمحلة والقرية هما جميعا لأهل المدينة؛ الا أن القرية للمدينة على أنها خادمة للمدينة؛ والمحلة للمدينة على أنها جزؤها. والسكة جزء المحلة؛ والمنزل جزء السكة؛ والمدينة جزء مسكن أمة والأمة جزء جملة أهل المعمورة (٢).

فالخير الأفضل والكمال الأقصى انما ينال أولا بالمدينة ، لا باجتماع الذي هو أنقص منها. ولما كان شأن الخير في الحقيقة أن يكون ينال بالاختيار والارادة ، وكذلك الشرور انما تكون بالارادة والاختيار ، أمكن أن تجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور؛ فلذلك كل مدينة يمكن أن ينال بها السعادة. فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة ، هي المدينة الفاضلة. والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل. والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة. وكذلك المعمورة الفاضلة ، انما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة (٣).

_________________

١) أنواع الاجتماعات الكاملة ثلاثة : المعمورة والأمة والمدينة.

٢) أنواع الاجتماعات غير الكاملة : القرية والمحلة والسكة والمنزل.

٣) المدينة أصغر اجتماع يوفر السعادة ، والمدينة الفاضلة هي التي يتعاون أهلها على نيل السعادة وكذلك الأمة والمعمورة.

١١٣

والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح ، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان ، وعلى حفظها عليه. وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى ، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب ، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس ، وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله ، ابتغاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس ، وأعضاء أخر فيها قوى تفعل أفعالها على حسب أغراض هذه التي ليس بينها وبين الرئيس واسطة ـ فهذه في الرتبة الثانية ـ وأعضاء أخر تفعل الأفعال على حسب غرض هؤلاء الذين في هذه المرتبة الثانية ، ثم هكذا إلى أن تنتهي إلى أعضاء تخدم ولا ترؤس أصلا. وكذلك المدينة ، أجزاؤها مختلفة الفطرة ، متفاضلة الهيئات. وفيها انسان هو رئيس ، وأخر يقرب مراتبها من الرئيس. وفي كل واحد منها هيئة وملكة يفعل بها فعلا يقتضي به ما هو مقصود ذلك الرئيس. وهؤلاء هم أولو المراتب الأول. ودون هؤلاء قوم يفعلون الأفعال على حسب أغراض هؤلاء ، وهؤلاء هم في الرتبة الثانية. ودون هؤلاء أيضا من يفعل الأفعال على حسب أغراض هؤلاء. ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى أخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم ، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون ولا يخدمون ، ويكونون في أدنى المراتب ، ويكونون هم الأسفلين (١).

غير أن أعضاء البدن طبيعية ، والهيئات التي لها قوى طبيعية

_________________

١) المدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح ، فتتركب مثله من أجزاء مختلفة الفطرة متفاضلة الهيئات فيها رئيس وطبقات متراتبة.

١١٤

وأجزاء المدينة ، وان كانوا طبيعيين ، فإن الهيئات والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية ، بل ارادية. على أن أجزاء المدينة مفطورون بالطبع بفطر متفاضلة يصلح بها انسان لانسان ، لشيء دون شيء. غير أنهم ليسوا أجزاء المدينة بالفطر التي لهم وحدها ، بل بالملكات الارادية التي تحصل لها ، وهي الصناعات وما شاكلها. والقوى التي هي أعضاء البدن بالطبع ، فان نظائرها في أجزاء المدينة ملكات وهيئات ارادية (١).

_________________

١) الفرق بين البدن والمدينة أن أعضاء البدن طبيعية وأجزاء المدينة وإن كانوا طبيعيين يعملون بالملكات الارادية أو الصناعات.

١١٥

الباب السابع والعشرون

القول في العضو الرئيس

وكما أن العضو الرئيس في البدن هو بالطبع أكمل أعضائه وأتمها في نفسه وفيما يخصه ، وله من كل ما يشارك فيه عضو آخر أفضله؛ ودونه أيضا أعضاء أخرى رئيسة لما دونها ، ورئاستها دون رئاسة الأول ، وهي تحت رئاسة الأول ترأس وترأس؛ كذلك رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصّه ، وله من كل ما شارك فيه غيره أفضله. ودونه قوم مرءوسون منه ويرؤسون آخرين (١).

وكما أن القلب يتكوّن أولا ، ثم يكون هو السبب في أن يكون سائر أعضاء البدن ، والسبب في أن تحصل لها قواها وأن تترتب مراتبها ، فإذا اختلّ منها عضو كان هو المرفد بما يزيل عنه ذلك الاختلال ، كذلك رئيس هذه المدينة ينبغي أن يكون هو أولا ، ثم يكون هو السبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها ، والسبب في أن تحصل الملكات الارادية

_________________

١) رئيس المدينة أكمل أجزائها كما أن القلب أكمل أعضاء البدن.

١١٦

التي لأجزائها في أن تترتب مراتبها؛ وإن اختل منها جزء كان هو المرفد له بما يزيل عنه اختلاله (١).

وكما أن الأعضاء التي تقرب من العضو الرئيس تقوم من الأفعال الطبيعية التي هي على حسب غرض الرئيس الأول بالطبع بما هو أشرف ، وما هو دونها من الأعضاء يقوم بالأفعال بما هو دون ذلك في الشرف ، إلى أن ينتهي إلى الأعضاء التي يقوم بها من الأفعال أخسها؛ كذلك الأجزاء التي تقرب في الرئاسة من رئيس المدينة تقوم من الأفعال الارادية بما هو أشرف ومن دونهم بما هو دون ذلك في الشرف ، إلى أن ينتهي إلى الأجزاء التي تقوم من الأفعال بأخسها (٢).

وخسة الأفعال ربما كانت بخسة موضوعاتها ، فإن كانت تلك الأفعال عظيمة الغناء ، مثل فعل المثانة وفعل الأمعاء السفلى في البدن؛ وربما كانت لقلّة غنائها؛ وربما كانت لأجل أنها كانت سهلة جدا؛ كذلك (الحال) في المدينة. وكذلك كل جملة كانت أجزاؤها مؤتلفة منتظمة مرتبطة بالطبع ، فان لها رئيسا حاله من سائر الأجزاء هذه الحال.

وتلك أيضا حال الموجودات. فان السبب الأول نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها. فإن البريئة من المادة تقرب من الأول ، ودونها الأجسام السماوية ، ودون السماوية

_________________

١) رئيس المدينة يكون أولا ثم يكون سبب تكوين المدينة وترتيب مراتبها وازالة اختلالها كالقلب في البدن.

٢) الطبقة التي تقرب من رئيس المدينة أشرف من الطبقة التي تليها وهذه الأخيرة أشرف من التي تقوم بأفعال أقل شرفا ... الخ.

١١٧

الأجسام الهيولانية. وكل هذه تحتذي حذو السبب الأول وتؤمه وتقتفيه؛ ويفعل ذلك كل موجود بحسب قوته. الا أنها انما تقتفي الغرض بمراتب ، وذلك أن الأخس يقتفي غرض ما هو فوقه قليلا ، وذلك يقتفي غرض ما هو فوقه ، وأيضا كذلك للثالث غرض ما هو فوقه ، إلى أن تنتهي إلى التي ليس بينها وبين الأول واسطة أصلا. فعلى هذا الترتيب تكون الموجودات كلها تقتفي غرض السبب الأول. فالتي أعطيت كلّ ما به وجودها من أول الأمر ، فقد احتذى بها من أول أمرها حذو الأول ومقصده ، فعادت وصارت في المراتب العالية. وأما التي لم تعط من أول الأمر كل ما به وجودها ، فقد أعطيت قوة تتحرك بها نحو ذلك الذي تتوقع نيله ، وتقتفي في ذلك ما هو غرض الأول. وكذلك ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة : فإن أجزاءها كلها ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب (١).

ورئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي انسان اتفق ، لأن الرئاسة انما تكون بشيئين : أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدا لها ، والثاني بالهيئة والملكة الارادية. والرئاسة تحصل لمن فطر بالطبع معدا لها. فليس كل صناعة يمكن أن يرأس بها ، بل أكثر الصنائع صنائع يخدم بها في المدينة ، وأكثر الفطر هي فطر الخدمة. وفي الصنائع صنائع يرأس بها ويخدم بها صنائع أخر ، وفيها صنائع يخدم بها فقط

_________________

١) ترتيب المدينة يشبه ترتيب العالم ، ورئيسها يشبه الله وأجزاؤها يجب أن تحذو حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب.

١١٨

ولا يرأس بها أصلا. فكذلك ليس يمكن أن تكون صناعة رئاسة المدينة الفاضلة أية صناعة ما اتفقت ، ولا أية ملكة ما اتفقت (١).

وكما أن الرئيس الأول في جنس لا يمكن أن يرأسه شيء من ذلك الجنس ، مثل رئيس الأعضاء ، فإنه هو الذي لا يمكن أن يكون عضو آخر رئيسا عليه؛ وكذلك في كل رئيس في الجملة. كذلك الرئيس الأول للمدينة الفاضلة ينبغي أن تكون صناعته صناعة لا يمكن أن يخدم بها أصلا ، ولا يمكن فيها أن ترأسها صناعة أخرى أصلا. بل تكون صناعته صناعة نحو غرضها تؤم الصناعات كلها ، وايّاه يقصد بجميع أفعال المدينة الفاضلة. ويكون ذلك الانسان انسانا لا يكون يرأسه انسان أصلا؛ وانما يكون ذلك الانسان انسانا قد استكمل ، فصار عقلا ومعقولا بالفعل. وقد استكملت قوته المتخيلة بالطبع غاية الكمال على ذلك الوجه الذي قلنا ، وتكون هذه القوة منه معدّة بالطبع لتقبل ، إما في وقت اليقظة أو في وقت النوم ، عن العقل الفعّال الجزئيات ، إما بأنفسها وإما بما يحاكيها ، ثم المعقولات بما يحاكيها. وأن يكون عقله المنفعل قد استكمل بالمعقولات كلها ، حتى لا يكون ينفي عليه منها شيء ، وصار عقلا بالفعل (٢).

فأي انسان استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلها ، وصار عقلا بالفعل ومعقولا بالفعل ، وصار المعقول منه هو الذي يعقل ، حصل له حينئذ عقل ما بالفعل رتبته فوق العقل المنفعل ، أتم وأشدّ مفارقة

_________________

١) رئاسة المدينة تقتضي ملكة فطرية وملكة ارادية.

٢) رئيس المدينة انسان استكمل عقله ومخيلته.

١١٩

للمادة ، ومقاربة من العقل الفعّال ، ويسمّى العقل المستفاد ، ويصير متوسطا بين العقل المنفعل وبين العقل الفعّال ، ولا يكون بينه وبين العقل الفعّال شيء آخر. فيكون العقل المنفعل كالمادة والموضوع للعقل المستفاد ، والعقل المستفاد كالمادة والموضوع للعقل الفعّال. والقوة الناطقة ، التي هي هيئة طبيعية ، تكون مادة موضوعة للعقل الفعّال الذي هو بالفعل عقل (١).

وأول الرتبة التي بها الانسان انسان هو أن تحصل الهيئة الطبيعية القابلة المعدّة لأن يصير عقلا بالفعل. وهذه هي المشتركة للجميع؛ فبينها وبين العقل الفعّال رتبتان (هما) : أن يحصل العقل المنفعل بالفعل ، وأن يحصل العقل المستفاد. وبين هذا الانسان الذي بلغ هذا المبلغ من أول رتبة الانسانية وبين العقل الفعّال رتبتان. واذا جعل العقل المنفعل الكامل والهيئة الطبيعية كشيء واحد ، على مثال ما يكون المؤتلف من المادة والصورة شيئا واحدا ، وإذا أخذ هذا الانسان صورة انسانية ، هو العقل المنفعل الحاصل بالفعل ، كان بينه وبين العقل الفعّال رتبة واحدة فقط. وإذا جعلت الهيئة الطبيعية مادة العقل المنفعل [الذي صار عقلا بالفعل] ، والمنفعل مادة المستفاد ، والمستفاد مادة العقل الفعّال ، وأخذت جملة ذلك كشيء واحد ، كان هذا الانسان هو الانسان الذي حلّ فيه العقل الفعّال (٢).

_________________

١) يستكمل عقل الانسان عند ما يصبح عقلا مستفادا. والعقل المستفاد هو العقل بالفعل وقد حصل على جميع المعقولات.

٢) مراتب العقل ثلاث هي :

العقل المستفاد ـ العقل بالفعل ـ العقل المنفعل أو الهيولاني.

١٢٠