الأسرار الفاطميّة

الشيخ محمد فاضل المسعودي

الأسرار الفاطميّة

المؤلف:

الشيخ محمد فاضل المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الزائر في الروضة المقدسة ـ لحضرة فاطمة المعصومة عليه السلام للطبعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6401-17-1
الصفحات: ٥٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

سيمر بنا ذلك في شرح هذا الحديث ، وكذلك هناك عدة اشارات في الروايات إلى مسألة اسم الله الأعظم وكيف ان الإمام علي عليه‌السلام الذي هو كفؤ الزهراء عليها‌السلام كان يحمل اسم الله الاعظم الذي اذا دعي به أجاب وهذا ما وجدناه في قضية رده الشمس التي غابت في أرض بابل حيث سأله أحد أصحابه يا أمير المؤمنين كيف رددت هذه الشمس ، فقال له سئلت الله تعالى باسمه الاعظم ان يردها عليها فردها ، وكما ورد في سورة الواقعة ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (١). وعلى هذا الأساس فان كل ما أعطاه الله تبارك وتعالى وخص به أهل البيت عليهم‌السلام فهو ثابت للزهراء عليها‌السلام ، فعليه تكون الصديقة الطاهرة حامل لاسم الله الاعظم الذي خصه الله تبارك وتعالى بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ، فيكون وعلى ما احتمله بل أرجحه على بقية الاحتمالات الاخرى ان السر المستودع في فاطمة هو اسم الله الاعظم ، والذي يدل عليه على ما استفيده من الدعاء الذي بدأنا به البحث « اللهم اني أسألك بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها ... » حيث يظهر من هذا الدعاء أولا التوسل بحق فاطمة ... وكذلك التوسل إلى الله تعالىٰ بالسر المستودع ، والتوسل لا يكون إلى الله تعالى إلا بالذي يكون له شأن عند الله عز وجل ، ونبتغي إليه الوسيلة ، فعليه نحتمل أن يكون السر هو اسم الله الاعظم المستودع عند فاطمة عليها‌السلام ، وأبناؤها وخصوصا هناك شواهد تدلل على ان هذا الاسم لا يخرجونه أهل البيت عليهم‌السلام الىٰ أحد وكما ورد في الحديث المروي في شأن عمر بن حنظلة حيث قال لأبي جعفر عليه‌السلام : « إني أظنَّ أنَّ لي عندك منزلة ، قال : أجل ، قال : قلت فإنّ لي إليك حاجة قال وما هي ؟ قال : قلت تعلمني الاسم الأعظم قال وتطيقه قلت نعم قال : فادخل البيت قال : فدخل البيت فوضع أبو جعفر عليه‌السلام يده على الأرض فأظلم البيت فارعدت فرايص عمر فقال : ما تقول اعلمك فقال لا قال : فرفع يده فرجع البيت كما كان » (٢).

ويوجد أيضاً شاهد آخر يدل على كون فاطمة عليها‌السلام تمتلك الاسم الاعظم وذلك عندما قادوا علياً عليه‌السلام في يوم سقيفة بني ساعدة للبيعة فخرجت نفسي لها الفداء تجر أذيالها

__________________

(١) راجع بصائر الدرجات : ٥ / ٢٣٧.

(٢) بصائر الدرجات : ٤ / ٢٣٠.

٦١

خلف ابن عمها وهي تقول خلو ابن عمي أو لأكشفن رأسي للدعاء ، حيث يقول سلمان « فخرجت فاطمة عليها‌السلام فقالت : يا أبابكر أتريد أن ترملني من زوجي ـ والله ـ لئن لم تكف عنه لأنشرن شعري ولأشقن جيبي ، ولآتين قبر أبي ، ولأصيحن الىٰ ربي : فأخذت بيد الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وخرجت تريد قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال علي عليه‌السلام لسلمان : أدرك ابنة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإني أرىٰ جنبتي المدينة تكفيان ، والله ان نشرت شعرها ، وشقت جيبها ، وأتت قبر أبيها ، وصاحت الىٰ ربها لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها ( وبمن فيها ) ، فادركها سلمان رضي‌الله‌عنه فقال ، يا بنت محمد ، أن الله بعث أباك رحمة فارجعي فقالت : يا سلمان ، يريدون قتل علي ، ما على عليَّ صبر ، فدعني حتى آتي أبي فأنشر شعري ، وأشق جيبي ، وأصيح إلى ربي ، فقال سلمان اني أخاف ان تخسف بالمدينة ، وعلي عليه‌السلام بعثني إليك ويأمرك ان ترجعي الىٰ بيتك وتنصرفي. فقالت : إذا أرجع وأصبر ، وأسمع له وأطيع » (١).

ويظهر من هذه الرواية ان الصديقة الزهراء عليها‌السلام لو أنها دعت الله تعالى لاستجاب الله دعائها ، فان الإمام علي عليه‌السلام عندما قال : ( فاني أرى جنبتي المدينة تكفيان ) يعني إشارة إلى أنّها كانت عندها الولاية التكوينية وكما سنقف مع هذا البحث انشاء الله تعالى ، وعلى كل حال فان الصديقة كانت تحمل الاسم الاعظم ، ولا ضير في ذلك فهي أم أبيها وأم الأئمة الاطهار الذين يحملون الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وهناك اشارة لطيفة في كون فاطمة الزهراء عليها‌السلام لها اسم مشتق من أسماء الله الحسنى حيث وَرَدَ ذلك في حديث الاشتقاق « هذه فاطمة وأنا فاطر السموات والأرض ، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي ، وفاطم أوليائي عما يعيرهم ويشينهم ، فشققت لها اسماً من اسمي ».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أن الله شق لك يا فاطمة اسماً من اسمائه وهو الفاطر وأنت فاطمة » وعليه فان فاطمة وديعة المصطفىٰ ، فاطمة الانسية ، الحوراء مطلع الانوار العلوية ومشكاة الولاية وأم الأئمة وعيبة العلم ووعاء المعرفة. واختتم هذا البحث في

__________________

(١) تفسير العياشي : ٢ / ٦٦ ح ٧٦ ، البرهان : ٢ / ٩٣ ح ٤ ، الاختصاص : ١٨١.

٦٢

أمرٍ قد استفدته واستنتجته من خلال بعض الروايات الواردة في كتب الحديث كأمثال الكافي والبصائر وغيرهما ، حيث يظهر من خلال الروايات أن أمر آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر جسيم مقنع بالميثاق لا يستطاع فهمه وادراكه وذكره وهذا الأمر هو ( كما عبرت عنه الرواية ب‍ « أمرنا » سر في سر وسر مستتر في سر ولا يفيده إلا سر وسر على سرّ وسرّ مقنع بسر وهو الحق وحق الحق وهو الظاهر وباطن الظاهر وباطن الباطن وهو السر وسر السر وكذلك ورد في الحديث الشريف انه لو قد قام قائمنا لتكلم بهذا الأمر وصدقه القرآن ، وكذلك وجدت ان هذا الأمر ـ وكما ورد في الرواية ـ هو الذي جعل الملائكة مقربين وغيرُ مقربين والأنبياء مرسلين وغير مرسلين والمؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين ، وعليه يكون الأمر هو السر، فما هو السر ؟؟؟...

( إنما أمره إذا أراد شيء ان يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ).

٦٣
٦٤

٦٥
٦٦

السيد محمد جمال الهاشمي

أي خطبٍ يبكي عليهِ خطابي

ومصابُ قدْ شابَ شهديْ بصابِ (١)

آهِ (٢) يومُ الزهراء أيٌّ فؤادٍ

علويًّ عليك غيرُ مذابِ

لكَ في الدهرِ رنّةٌ رددتْها

بخشوعٍ أجيالُهُ واكتئاب

فهي نارٌ تذكي القرونَ ونورٌ

رفَّ لألأؤُهُ علىٰ الأحقاب

وهيَّ للمجدِ فيه للسا

لكِ تبدوْ الصعابُ غيرَ صعاب

غابَ نورُ النبيّ وانقطعَ الوحيُ

وخارتْ عزائمُ الآراب

وارتمىٰ موكبُ الحياةِ وجاشتْ

نزعاتُ النفاقِ في الاحزاب

فانطوىٰ النورُ في ظلامٍ كثيفٍ

نشرتْهُ جرائمُ الانقلاب

وانمحىٰ الحقُّ والصراحةُ لمّا

سادَ عهدُ الضلالِ والإرتياب

موقفٌ أربكَ العصورَ فأخفتْ

رأيها في القلوبِ والأهداب

غضبةُ الحقِّ ثورةٌ تجرفُ الباطلَ

في موجِ عزمها الوثّاب

عجبٌ أمرُها وأعجب منهُ

أنها تنتمي لذات نقاب (٣)

واذا اللبوة الجريحة ثارت

لهث الموت بين ظفر وناب

شمرت للجهاد سيدة الاسلام

عن ذيل عزمها الصخّاب

وأتتْ ساحةَ الجهادِ بايمانٍ

يردُّ السيوفَ وهي نوابي (٤)

حاكمتْ عهدَها المدمىٰ بقلبٍ

واغرٍ من شجونها لّهابِ

لم تدْع للمهاجرينَ وللانصارِ

رأياً إلاّ انمحىٰ كالضباب

__________________

(١) الشهد : العسل والصاب : شجر مر.

(٢) آه : اسم فعل للتوجع بمعنى المضارع أي اتوجع من هذا الأمر.

(٣) سادة القوم.

(٤) نوابي : غير قاطعة.

٦٧

واستعانتْ بالحقِّ درعٌ

من أمانٍ وصارمٌ منْ صوابِ

رجمتهمْ بالمخزياتِ فآبوا

وهم يحملونَ سوءَ المآب

حججٌ كالنجومِ ينثُرها الحقُّ

ويرمي الشهابَ إثرَ الشهاب

فهي إما عقلٌ وإما حديثٌ

جاءَ عن نصِ سنةٍ أو كتاب

فتهاوتْ احلامُهمْ كصروحٍ

شادها الوهمُ عالياً في السراب

آهِ لولا ضَعْفُ النفوسِ لما

استرجعَ ركبُ الهدى علىٰ الأعقاب

ولما عادتِ الامارةُ للقومِ

وحازوا امامةَ المحراب

واستقرتْ هوجُ العواصفِ لما

قابلتها سياسةُ الارهاب

لا خطابُ من عاذلٍ لا جوابٌ

عن سؤالٍ لا هجمةٌ من عتاب

ومنذ انهارتْ الرجالُ وعادوا

بتلولٍ من خزيهم وروابي

واختفى النصُّ بالولايةِ لما

أظهرَ الكيد فكرةَ الانتخاب

أوقدَ الغدرُ في السقيفةِ ناراً

عُلقتْ في مواكبِ الأحقاب

وتلاشىٰ الغديرُ إلاّ بقايا

تترامىٰ بها بطونُ الشِعاب

وتوالتْ مناظرٌ مؤلماتٌ

مثلتها عداوةُ الأصحاب

من هجومِ الأرجاسِ بالنارِ كيْ

تحرقَ بيتَ الاكارمِ الاطياب

وانكسارِ الضلعِ المقدس بالضغطِ

وسقطِ الجنينِ عندَ الباب

وانتزاعِ الوصيّ سحباً من الدارِ

بتيارِ ثورةِ الأعصاب

واغتصابِ الحقُ الصريحِ جهاراً

باختلافِ الأعذارِ للإغتصابِ

٦٨

البحث الثالث

فاطمة عليها‌السلام حجة الله الكبرى

عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام أنه قال

« نَحْنُ حُجج الله على خلقه ، وجدّتنا فاطمة عليها‌السلام حُجّة الله علينا » (١)

يعتبر هذا الحديث من الاحاديث المهمة التي وردت عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، لذا ونحن نقف نستلهم الدروس العقائدية من سلالة بيت النبوة ومعدن الرسالة لابد لنا ان نتأمل في هذا الحديث ونرى مدى مصداقيته في عالم الواقع والثبوت ، وبعبارة اخرى هل لهذا الحديث وجه للاستدلال به في المحاورات العقائدية التي تخص حياة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ام لا ؟ وهل هناك وجه من الصحة بحيث تكون الصديقة الطاهرة عليها‌السلام الحجة على الأئمة أم يتجاوز الأمر الىٰ أبعد من ذلك ؟ وما هي الثمرة لهذا الحديث إذا ثبت له الواقعية والمصداقية ومدى تأثيره على الجانب العقائدي للفرد المؤمن ؟ كل هذه الأسئلة نحتاج الوقوف عليها والتأمل فيها واستجلاء حقائقها وادراك مغازي هذا الحديث العقائدي. وهذا ما سيتبين لنا من خلال البحث الذي سنقسمه الىٰ ثلاث امور اساسية وهي :

الأمر الأوّل : معنى الحجة ؟

الأمر الثاني : شرعية الحجة.

الأمر الثالث : كيف كانت فاطمة عليها‌السلام حجة الله على الأئمة ؟

__________________

(١) تفسير أطيب البيان : ١٣ / ٢٢٦.

٦٩

الأمر الأوّل

معنى الحجة ؟

وردت عدة تعاريف للحجة وماهيتها ولها عدة معاني لابد لنا من الوقوف عليها وعلى المعنى الذي يهمنا في المقام والذي من شأنه ان يبين معنى الحديث الشريف بحيث لا يبقى فيه أي اجمال وفي كل الجهات المبحوث عنها في المقام وجرت عادة أهل العلوم عندما يأتون إلى موضوع ما ويريدوا أن يعرفوه بأي تعريف كان فانهم يعرفونه بالتعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي العلمي ونحن بمقتضى هذا الأمر نحذوا حذوهم في تعاريف الحجة.

١ ـ الحجة لغة : كل شيء يصلح ان يحتج به على الغير وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه والظفر على الغير على نحوين : « أحدهما » إما باسكاته وقطع عذره وابطاله. « والآخر » واما بأن يلجئه على عذر صاحب الحجة فتكون الحجة معذرة لدى الغير والحجة هي الدليل والبرهان. وقال الازهري : انما سميت حجة لانها تُحَج أي تقصد لأن القصد لها واليها وكذلك معنى المحجة أي محجة الطريق وهي المقصد والمسلك (١).

٢ ـ واما الحجة في الاصطلاح العلمي فلها معنيان أو اصطلاحان :

* ما عند المناطقة : ومعناها « كل ما يتألف من قضايا تنتج مطلوباً » أي مجموع القضايا المترابطة التي يتوصل بتأليفها وترابطهما إلى العلم بالمجهول سواء كان في مقام الخصومة مع أحد أم لم يكن ، وبحثنا من جهة هذا التعريف المنطقي سوف يكون بربط مجموعة من القضايا وتأليفها لكي تصل إلى العلم بالمجهول وهو كيف أصبحت فاطمة حجة على الأئمة بل على الأنبياء فضلاً عن الخلق كما سيتبين من خلال البحث.

* وهنالك معنىٰ للحجة لدى الاصوليين وهو « كل شيء يثبت متعلقه ولا يبلغ درجة

__________________

(١) لسان العرب مادة حجة.

٧٠

القطع » أي لا يكون سبباً للقطع بمتعلقه ، وإلاّ فمع القطع يكون القطع هو الحجة ولكن هو حجة بمعناها اللغوي أو قل بتعبير آخر « الحجة » : « كل شيء يكشف عن شيء آخر ويحكي عنه على وجه يكون مثبتاً له » (١). ونعني بكونه مثبتاً له : ان اثباته يكون بحسب الجعل من الشارع لا بحسب ذاته فيكون معنى اثباته له حينئذ انه يثبت الحكم الفعلي في حق المكلف بعنوان انه هو الواقع ، وانما يصح ذلك ويكون مثبتاً له فبضميمة الدليل على اعتبار ذلك الشيء الكاشف الحاكي وعلى انه حجة من قبل الشارع.

كما تنقسم الحجة في المنطق إلى قياس وتمثيل واستقراء ، والحجة ما يصح الاحتجاج به وما يحتج به المولى على العبد في مقام المنجزية ويحتج به العبد على المولى في مقام المعذرية ، ثم الحجة تنقسم بالتقسيم الاولي إلى عقلية وشرعية ، والاولى هي التي يصح التعويل عليها بصورة عامة في كل سؤال عن السبب ، والثانية هي التي يصح التعويل عليها بصورة عامة في كل سؤال عن السبب ، والثانية هي التي يصح الاحتجاج بها في الامور الشرعية ، أي ما يصح التعويل عليها في الفتاوى للفقيه ، فهي بصورة خاصة وبين الحجتين نسبة العموم المطلق ، فكل شرعية عقلية ولا عكس فان الحاكم بصحة الحجة هو العقل وكل واحد من القسمين ينقسم إلى حجة الزامية وإلى حجة ارشادية والاولى بمعنى ما يجب عند العقل التعويل عليه والالزام بما تقتضيه نفس الحجة والثانية ما يجوز التعويل عليه والارشاد ويكون من خواصها.

فالحجج الالزامية العقلية كالبراهين الدالة على المبدأ والمعاد والنبوة الخ والحجج الإرشادية العقلية كاخبار العالم ورأي المتخصص وقول الخبير وتصير الزامية عند الرجوع اليها والتعويل عليها والحجج الالزامية الشرعية كالانبياء واوصيائهم المعصومين فانهم حجج الله ويجب الاخذ باقوالهم وافعالهم وتقريرهم والذي يعبر عنها القول والفعل والتقرير بالسنة (٢) ، وفيما نحن فيه من معرفة معنى الحجة يفيدنا في المقام الحجة لغة ومنطقا لكونهما يوصلان بالقطع بأمر بحيث يصلح ان يحتج به على الغير سواء في الدنيا أو الآخرة ، وعلى ضوء الاستدلالات العقلية البرهانية. وعلى

__________________

(١) اُصول المظفر : ٢ / ١٨.

(٢) هذا التقسيم استفدناه من درس استاذنا اية الله السيد عادل العلوي حفظه الله ( خارج الفقه ) ـ الاجتهاد والتقليد.

٧١

ضوء التعاريف المتقدمة يكون قد لاح لنا مفهوم آخر غير الحجة وهو المحجة ، والحجة تبين لك معناها من التعاريف المتقدمة ، أما المحجة فهي المسلك والطريق الذي يتوصل به إلى الغير والمحجة هي الطريق السليم الذي لا إعوجاج فيه ، فلقد ورد في هذا المعنى عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام انه قال وسمع كثيراً يردد هذا القول :

علمُ الحجة واضح لمريده

وأرى القلوب عن المحجة في عمىٰ

وقد عجبت لهالك ونجاته

موجودة ولقد عجبت لمن نجىٰ

الأمر الثاني

شرعية الحجة

هناك عدة احتجاجات وردت في القرآن الكريم قد اثبتها الله تبارك وتعالىٰ لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولانبياءه المرسلين من الاولين والاخرين لكي يحتجوا بها على الناس المشككين أو الناكرين للرسالة أو النبوة أو النبي ومعاجزه وكراماته ، ولقد بين الله تعالىٰ في كتابه الشريف بعض الايات التي نستفيد من خلالها ان الله تعالى يحتج يوم القيامة بالانبياء على الناس وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ... إلى قوله تعالى ... رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) (١). ومن جهة اخرى ورد في القرآن الكريم بعض الاحتجاجات بين الكافرين في ما بينهم في النار حيث جاء قوله تعالى ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ ) (٢).

وكذلك نجد قوله تعالى ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى

__________________

(١) النساء : آية ١٦٣ ـ ١٦٥.

(٢) غافر : آية ٤٧.

٧٢

الْكَاذِبِينَ ) (١). جاء ليؤكد حقيقة النصارىٰ وطلبهم من الرسول الاحتجاج حول مسألة عيسىٰ ابن مريم وكيف واجههم الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقضية المباهلة التي خسروا فيها والقي ما في أيديهم من الحجة التي كانوا يحتجون بها على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكثيرةٌ هي الاحتجاجات الموجودة في القرآن الكريم والتي جاءت بعضها لكي تثبت اعجاز القرآن الكريم واخرىٰ لتبين احتجاجات ابراهيم مع قومه واخرىٰ تثبت احتجاجات الرسول مع قومه وهكذا لئلا يكون للناس على الرسول المرسل الحجة البالغة ، ولذا نجد أمير المؤمنين علي عليه‌السلام يقول في معرض بيان ان العباد لابد لهم ان يتعظوا وينتفعوا بحجج الله تعالىٰ فانه لا ينفع أي شيء يوم القيامة إلا الإيمان المقرون بالولاية والعمل الصالح.

« انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله واقبلوا نصيحة الله فان الله قد أعذر إليكم بالجلية وأخذ عليكم الحجة وبين لكم محابّه من الاعمال ومكاره منها لتبتغوا هذه وتجتنبوا هذه ».

ويعني هذا ان العباد لابد لهم من الانتفاع من العلم المقرون بالعمل الصالح وإلاّ العلم وحده ليس فيه فائدة ولابد للعباد أن يستفيدوا من المواعظ ليتعظوا بها في مقام العمل ، ومع ذلك نجد في كثير من الروايات الشريفة مسألة الاحتجاج البالغ من الله تعالىٰ حيث سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالىٰ ( فَلِلَّهِ الحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) فأجاب عليه‌السلام : « قال إذا كان يوم القيامه قال الله تعالىٰ للعبد أكنت عالماً ؟ فان قال نعم. قال : أفلا عملت بما علمت وان قلت كنت جاهلاً قال له : أفلا تعلمت ؟ فتلك الحجة البالغة لله تعالى ». وهنا ينقدح سؤال مهم قد يرد في ذهن الكثير من المؤمنين وهو هل كل الناس يحتج عليهم الله تعالىٰ يوم القيامة على ضوء هذا الحديث الشريف ؟ والجواب على ذلك أنه ليس كل الناس يحتج عليهم الله تبارك وتعالىٰ يوم القيامة بل هناك عنق من الناس لا يسئلون ولا يحاسبون ومنهم المجنون الفاقد عقله ، أما الأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف الشرعي وماتوا فانهم يلحقون بآبائهم وعلى ما ورد في قوله تعالىٰ

__________________

(١) آل عمران : آية ٦١.

٧٣

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ). حيث قال العلامة المجلسي حول هذه الآية المباركة :

« اعلم انه لا خلاف بين أصحابنا في أن الأطفال المؤمنين يدخلون الجنة وذهب المتكلمون منا الىٰ أن أطفال الكفار لا يدخلون النار فهم إما يدخلون الجنة أو يسكنون الاعراف وذهب أكثر المحدثين منا الىٰ ما دلت عليه بعض الأخبار الصحيحة من تكليفهم في القيامة بدخول النار المؤججة لهم ؟ فيكون من يستجيب يدخل الجنة ومن لا يستجيب يدخل النار ».

وعلى ضوء الإحتجاجات الواردة في الكتب المعتبرة روي ان هناك احتجاج لطيف بين أمير المؤمنين وأحد اليهود حيث قال للامام علي عليه‌السلام ، ما صبرتم بعد نبيكم إلا خمس وعشرين سنة حتى قتل بعضكم بعضاً.

فقال له عليه‌السلام : بلى ولكن ما جفَّ ـ جفَّت ـ أقدامكم من البحر حتى قلتم : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. وهناك الكثير من الاحتجاجات المهمة التي وردت في القرآن الكريم وفي الكتب المعتبرة كل ذلك لما للحجة من امر مهم في اثبات المدعى على الخصم الناكر مثلا او السالب للحق ، والثمرة في ذلك كله من القرآن الكريم ومن الكتب الصحيحة لكي يستنير البشر بنور الحجة الربانية وليستفيدوا منها ويتعظوا بالمواعظ الربانية هذا معنى الحجة وماهية الاحتجاجات والتاكيد عليها من قبل الله تعالى.

وعلى هذا الأساس تكون شرعية الحجّة ثابتة على ضوء القرآن الكريم والسنة والعقل ولا نريد الدخول كثيراً في هذا الأمر بل اشرنا في بعض موارده فلقد جعل الله تعالى للحجة شرعية ذاتية تلزم الغير على ضوء مقتضاها العمل بها حيث جاء قوله تعالى ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) أي جعلنا لهم بالجعل التكويني ان يكونوا ائمة يقصدون في كل شيء والإمام المعصوم هو الذي يحتج به على الغير فهو حجة على الناس جميعا وإلاّ كيف يكون امام يقصد ويحتج به ومن هذا المنطلق تكون فاطمة الزهراء عليها‌السلام حجة على الأئمة عليهم‌السلام كحجة الزامية شرعية فيجب من جهة الله تعالى الأخذ باقوالها وافعالها والله تبارك وتعالى هو الذي جعل لها الحجية على الخلق بما فيهن الأئمة عليهم‌السلام وهذا القول بصورة اجمالية اما كيف كانت حجة بالمعنى التفصيلي فهذا

٧٤

ما يحتاج بيان مقدمات وامور توصلنا إلى هذه النتيجة وهذا ما سنبحثه في الأمر الثالث انشاء الله.

الأمر الثالث

كيف كانت فاطمة عليها‌السلام حجة على الأئمة ؟

وهذا يتوقف على بيان أمرين :

الأوّل : إن من أهم المسائل الأساسية في العقيدة الاسلامية والتي تؤخذ حيزا كبيراً ، على المستوى الدراسي سواء النظري أو الفكري هي مسألة ضرورة بعثة الأنبياء ، وهذه المسألة العقائدية المهمة تأخذ ضروريتها من عدة عوامل تكون الحجر الأساسي لهذه الضرورة ، فالإنسان لم يخلق عبثاً ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) بل خلق الإنسان لهدف وهو السير في طريق تكامله من خلال ممارسة الأفعال الاختيارية القادر عليها وكل ذلك لاجل التوصل إلى كماله النهائي هذا الكمال الذي لا يتوصل إليه إلاّ باختياره وانتخابه. على ان الاختيار الصحيح والواعي بكل ما يمتلكه الإنسان من شعور وقدرة على ادائه يحتاج أيضاً إلى المعرفة الصحيحة للاعمال الحسنة والاعمال القبيحة والطرق الصالحة وغير الصالحة ، وانما تمكن الإنسان من اختيار طريق تكامله بكل حرية ووعي فيما لو كان يعرف الهدف وطريق الوصول إليه ، وكان عارفاً بكل العقبات والعراقيل والانحرافات والمزالق. اذن فمقتضى الحكمة الالهية ان توفر للبشر الوسائل والمستلزمات الضرورية للحصول على مثل هذه المعارف والمدركات وإلاّ فيكون حاله مثل الشخص الذي يدعوا ضيفاً إلى داره ثم لا يدله على موضعه ولا على الطريق المؤدي إليه ومن البديهي ان مثل هذا العمل مخالف للحكمة. علىٰ ان المعارف والمدركات البشرية العادية والمتعارفة والتي يحصل عليها الإنسان نتيجة التعارف بين الحس والعقل وان كان لها الدور الفاعل في توفير ما يحتاج إليه في حياته ولكنها لا تكفي في التعرف علىٰ طريق الكمال والسعادة

٧٥

الحقيقية في جميع المجالات الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والدنيوية والاخروية ، واذا لم يوجد طريق آخر لسد النقائص والفجوات فلن يتحقق الهدف الإلهي من خلق الإنسان ، وبملاحظة هذه الامور المهمة من هدف خلق الإنسان ومعرفته لطريق الخير والشر ومحدودية مداركه الحسية والعقلية ، نتوصل الىٰ نتيجة مفادها : ان الحكمة الالهية تقتضي وضع طريق آخر للبشر ـ غير الحس والعقل ـ من أجل التعرف على مسار الكمال في كل المجالات حتى يستطيع البشر من الاستفادة منه مباشرة أو بواسطة فرد آخر أو أفراد آخرين وهذا الطريق هو إرسال الأنبياء والمرسلين عبر طريق الوحي الذي يستفيد منه البشر ويتعلموا منه كل ما يحتاجون إليه من أجل الوصول إلى السعادة والكمال النهائي. وعلى هذا الاساس شاءت قدرة الباري عز وجل ومن جهة اللطف الرباني ومن جهة اللاعبثية في خلق البشر أن يرسل الأنبياء والمرسلين الى البشر لهدايتهم وتوضيح معالم طريق التكامل لهم وعلىٰ ما تتحمله قدرتهم في التكليف الرباني كل ذلك لئلا يقول الناس يوم القيامة لولا أرسلت الينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزىٰ.

ولكن قبل إرسال الأنبياء لابد من طريق لاختيارهم من البشر عامة ، وهذا الاختيار أو ما يعبر عنه بالاصطفاء أو الاستخلاص لا يكون إلا عن حكمة اقتضت ذلك فان الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضي الحكمة لوجود ذلك الشيء ، فالاصطفاء والاختيار من قبل الله تعالىٰ تارة يكون للانبياء ، واخرى للأوصياء وللاولياء والصلحاء والعلماء وهكذا اما كيفية الاصطفاء والاختيار ، فذلك ما يكون عن طريق الاختبار والامتحان الذي يتعرض له الأنبياء لاصطفائهم للنبوة وتحمل مشاقها ، فالامتحان والاختبار يخرج الطاقات الكامنة في النفس البشرية ، ونضرب مثال على ذلك من الحياة العرفية للبشر ، فانت عندما تريد أن تختار أو ترسل من ينوب عنك في قضية معينة فانه يقيناً لا تختار ولا ترسل إلا من كانت له القابلية والاستعداد على تحمل ما تؤديه إليه وله الاستعداد وايضاً على تمثيلك في تلك القضية ولا ترسل أياً كان فان المردود يكون عليك سلبياً إذا كان الشخص المختار سلبي في تصرفاته وايجابياً اذا كان المختار ايجابياً في تصرفاته وأفعاله ما يؤديه عنك ، اما كيفية هذا الاختيار في الشخص الذي سوف

٧٦

يمتلك فهذا ما سيكون عن طريق التجربة والامتحان والاختبار خلال مسيرة حياتك مع ذلك الشخص الذي سينوبك في المهام والذي تريد ان تؤهله للقيام بأعمالك مثلا أو التبليغ لك فأنت ترىٰ من خلال معاشرة ذلك الشخص مدىٰ التزامه بتعليماتك وبعد النجاح في هذه الامور تستخلصه لنفسك وتختاره وكيلا عنك ينوب عنك في هذه الامور المهمة ، كذلك الحال مع الله تعالى باعتباره سيد العقلاء بل هو خالق العقل والعقلاء فهو عند ما يريد ارسال رسول أو نبي لابد له من الامتحان قبل الاصطفاء والاختيار وهذا ما نجده من خلال استقراء آيات القرآن الكريم حيث يوجد عدة شواهد علىٰ هذه المسألة كما في قضية نبي الله ابراهيم عندما اختاره الله أولا نبياً وبعد ذلك خليلاً وبعد ذلك اماماً فانه لم ينال الإمامة إلا بعد التعرض للامتحانات والاختبارات من قبل الله تعالى وفي ذلك يقول الله تعالى في قصة ابراهيم ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... ) حيث كلف الله سبحانه وتعالىٰ نبيه ابراهيم عليه‌السلام بتكاليف شتىٰ فكانت النتيجة ان ابراهيم أتم هذه التكاليف وامتثلها واطاع الله تعالىٰ ومن هذه التكاليف قضية ذبحه لولده اسماعيل ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) وقد وصف الله تعالىٰ ابراهيم عليه‌السلام بالوفاء حيث قال تعالىٰ ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ ). والخلاصة على ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام انه قال « إن الله ابتلى ابراهيم بذبح ولده اسماعيل فعزم علىٰ ذلك ... اما معنىٰ قوله فاتمهن ـ فهو يعني الاستجابة والطاعة لأوامر الله تعالى ولذا استحق الإمامة التي هي منزلة عظيمة ، جزاءً لاخلاصه ونجاحه في الامتحانات التي تعرض لها.

وهكذا الحال مع جميع الأنبياء حيث اختبرهم الله تعالى قبل اصطفائهم وكان الباري عز وجل عالماً بالانبياء أنهم أوفياء له وملتزمين لأوامره وشروطه لذلك اصطفاهم.

الثاني : إنّ الله تعالىٰ عندما اصطفىٰ واستخلص الأنبياء كان ذلك بعد أن شرط عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا لله تعالى ذلك وعلم الله تعالىٰ منهم الوفاء بذلك. اما السؤال الذي يطرح في ما نحن فيه هو لماذا طلب وشرط الله تعالىٰ من الأنبياء الزهد في حب الدنيا ؟ والجواب على ذلك : انه من الملازمات العقلية لحب الدنيا هو إعمال السيئات والذنوب وذلك للارتباط الوثيق بين

٧٧

حب الدنيا والذنوب فكلما ازداد حب الإنسان للدنيا إزدادت ذنوبه وكما ورد في الحديث الشريف ان « حب الدنيا رأس كل خطيئة » فاذا لم يكن حب الدنيا له وجود في حياة الإنسان فسوف تكون النتيجة مفادها : ان الإنسان سوف يبتعد عن الذنوب بقدر ابتعاده عن حب الدنيا ، وما نحن فيه فان إعمال الشرط من الله تعالىٰ علىٰ الأنبياء بالزهد في حب الدنيا سوف تكون من نتائجه ان يتركوا الدنيا والتعلق بها كذلك لا يعملون الذنوب والمعاصي وبالنتيجة النهائية سيكونون معصومين بالعصمة الذاتية التي تكون ملازمة لهم من جهة لطف الله تبارك وتعالىٰ اضافة الى الضرورة الربانية اقتضت ذلك ايضاً. اما لماذا إشترط الزهد في حب الدنيا وما حاجة العصمة للانبياء ، فهذا ما يكون الاحتياج إليه بصورة ضرورية ومؤكد ولإحتياج الأنبياء العصمة في مقام التبليغ للرسالة السماوية بل مطلق العصمة لهم ، ولئلا يكون للناس الحجة البالغة على الله تعالى ، والعصمة لا تأتي مع حب الدنيا. اما الدليل على هذا الكلام فناهيك عن القرآن الكريم والروايات الواردة في المقام التي تدل على المطلب بل هناك الدليل العقلي على ذلك ، اما الدليل الذي نقوم بالاستدلال به فهذا ما أثبته دعاء الندبة الشريف حيث ورد فيه. « اللهم لك الحمد علىٰ ما جرىٰ به قضاؤك في أولياؤك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك إذ أخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقربتهم وقدمت لهم الذكر العلي والثناء الجلي واهبطت عليهم ملائكتك وكرمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذريعة اليك والوسيلة الى رضوانك ... الخ ».

اذن بعد الإمتحان والاختبار والمشارطة من الله تعالىٰ بترك حب الدنيا والزهد فيها وبعد العلم من الله بهم بانهم أوفياء كانت النتيجة النهائية لهذا الامتحان والإختبار وهي :

١ ـ الاستخلاص والاصطفاء.

٢ ـ القبول من الله تعالىٰ لهم.

٣ ـ الذكر العلي والثناء الجلي للأنبياء « أي قدم اليهم ذلك ».

٧٨

٤ ـ انزال الوحي عليهم.

٥ ـ كانوا الحجج علىٰ الخلق من قبل الله تعالىٰ.

اما لماذا الاستخلاص والاصطفاء وتقديم هذه الامور للانبياء عليهم‌السلام ؟ فنقول :

ان هذا كله لكي يكون :

* إقامة للدين « إقامة لدينك » أي تقديم واقامة النظام والاكمل للبشرية.

* ولئلا يزول الحق عن مقره ويغلب الباطن علىٰ أهله.

* ولئلا يقول أحد لولا أرسلت الينا رسولا منذراً واقمت لنا علماً هادياً فنتبع آياتك من قبل ان نذل ونخزى.

هكذا كان الامتحان والاختبار بالنسبة للانبياء بحيث زهدوا في حب الدنيا فكانوا من المقربين لدى الله تعالىٰ.

أما ما علاقة هذه الامور بكون فاطمة حجة علىٰ الأئمة ؟

فنقول : نحن عندما نزور الأئمة عليهم‌السلام بالزيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي عليه‌السلام باعتبار انها جامعة لكل الفضائل والدرجات والمقامات للأئمة عليهم‌السلام لا تزور بها فاطمة عليها‌السلام ؟ لماذا ؟ لانها لها زيارة مخصوصة وهي زيارتها يوم الاحد من كل أسبوع حيث تقول هذه الزيارة « السلام عليك يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل ان يخلقك وكنت لما إمتحنك صابرة ».

اذ نفهم من هذه الزيارة المخصوصة امتحان الزهراء عليها‌السلام قبل خلقها ، لاظهار مقامها حيث امتحنها فكان لها المقام السامي فأصبحت الصابرة ، والمعروف ان الامتحان يُمتحن به الإنسان ليعرف مدى استعداداته وقابلياته « عند الامتحان يكرم المرء أو يهان » وكذلك عرف الامتحان ليكون لزيادة منزلة ولاسباب أخرى ، وهذا ما جرىٰ مع فاطمة الزهراء عليها‌السلام حيث امتحنها الله تعالىٰ لكي تكون حاملة لشيء إقتضت إرادة السماء وذلك نتيجة لنجاحها في الامتحان حيث اسحقت لقب الصابرة ، اما ماهية هذا الامتحان وعلىٰ أي موضوع جرىٰ امتحان الزهراء عليها‌السلام من قبل الله تعالىٰ فهذا ما نتركه الىٰ بحث آخر انشاء الله.

ولكن المهم فيما نحن فيه هو ان الله تعالى وجدها صابرة وهذا من المقامات العالية

٧٩

فنحن نعلم ، ان من ألقابها الصابرة ، والصبر مقام سامي ، اما معرفة علو شأن هذا المقام فهذا نراه من خلال القرآن الكريم ، حيث أثبت الله تعالىٰ الثواب لكثير من الفضائل الموجودة في القرآن أما الصبر والصابر فان اجرهم غير محدود وهذا ما نجده في قوله تعالىٰ ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يعني أنه لا يوجد أجر محدود للصابر وللصبر بل أجره مفتوح وهذا يؤدي الىٰ ان الصبر يكون في اعلىٰ مقامات الفضائل الاخلاقية ، ومن هنا كان الصبر أم الاخلاق بل هو أفضلها واحسنها في كل شيء فما من شيء إلاّ ومقرون الصبر معه فالصلاة مقرون بالصبر عليها والطاعة كذلك والإيمان لابد من الصبر عليه لاثباته على النفس الانسانية ولذلك جعل الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد كما ورد في الحديث الشريف ذلك ، فاذا كان الصبر هكذا مقامه فانه سوف يكون الاساس لكثير من الاخلاق ، فلذا كان الزهد فرع من الاصل والام الذي هو الصبر وليس العكس صحيح فالزاهد لا يكون زاهداً حتى يصبر ويُصبر نفسه علىٰ ترك الدنيا وزخرفها واموالها وكل شيء يؤدي به الىٰ الزهد ، ومن هنا كان بيت القصيد وهو ان الزهراء حجة على الأنبياء من جهة صبرها في عالم الغيب والشهادة وصبرها في الدنيا على ما جرىٰ عليها من المحن والظلم ، وكذلك كانت الحجة علىٰ الأنبياء كما شهدت الكثير من الروايات الشريفة ، وكما سيأتي بعد قليل رواية مهمة تثبت هذه الفضيلة للزهراء ، وهذا أيضاً ما أثبتته الشواهد فنحن نجد ان الكثير من الأنبياء كانوا يدعون الله تعالىٰ أن يطوّل عمرهم وهذا بخلاف فاطمة الزهراء عليها‌السلام حيث كانت مستبشرة عندما أخبرها النبي الأعظم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انها أول أهله لحوقاً به وهذا ما ذكره العلامة الاردبيلي رحمه‌الله في فضيلتها من جهة كونها تحب الموت ولا تكرهه حيث قال العلامة الاردبيلي ما نصه :

ان الطباع البشرية مجبولة علىٰ كراهة الموت مطبوعة علىٰ النفور منه ، محبة للحياة ، مايلة اليها ، حتىٰ الأنبياء عليهم‌السلام علىٰ شرف مقاديرهم وعظم أخطارهم ومكانتهم من الله تعالى ومنازلهم من محال قدسه وعلمهم بما تؤول إليه أحوالهم وتنتهي إليه أمورهم أحبوا الحياة ومالوا إليها وكرهوا الموت ونفروا منه. وقصة آدم عليه‌السلام مع طول عمره وامتداد أيام حياته معلومة.

٨٠